الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنناقش هنا الأدلة الواردة في الحجاب، والمسائل المتعلقة بصفته.

أولاً: ما يتعلق بمسائل الإجماع كما تقدم فإن ما يشف وكذلك ما يصف جسد المرأة فإنها محرم عليها، وهذا محل اتفاق عند العلماء، قد روى ابن سعد في كتابه الطبقات من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير لما قدم من العراق جاء إلى أسماء عليها رضوان الله تعالى، وقد أهدى إليها ثياباً مروية، وهذه ثياب رقاق، فلما لبستها قالت: أف خذوها، فكأنه قد وجد في نفسه فقال لـأسماء عليها رضوان الله تعالى: إنها لا تشف فقالت عليها رضوان الله تعالى: إذا كانت لا تشف إنها تصف، يعني: أنها تصف الجسد.

كذلك أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أهدى لـأسامة بن زيد كما جاء في المسند من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن أسامة بن زيد عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له ثياباً قبطية، أحد الثياب التي أهداها إليه دحية الكلبي، قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أين الثياب التي أهديتك؟ فقال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني أهديتها امرأتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليها ومرها أن تضع تحتها ثياباً غلاظاً فإنها تصف )، والمراد بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين لباس أسامة وبين لباس زوجته، فإنه بالنسبة للرجل يغتفر في مسألة لباسه بخلاف المرأة، فإن المرأة يجب عليها أن تلبس الثياب الغلاظ.

كذلك أيضاً بالنسبة للثياب الفضفاضة ما جاء في حديث أم سلمة حينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزرة المؤمن، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ( والنساء؟ قال عليه الصلاة والسلام: يرخينه شبراً، فقالت: يا رسول الله! إذاً ينكشفن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يرخينه ذراعاً ولا يزدن )، والمراد بهذا أن المرأة يتآكد في حقها أن تغطي حتى القدم، وهذا محل اتفاق عند العلماء من جهة المشروعية على خلاف في مسألة الوجوب يأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى.

كذلك من الأمور التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار أن توطن كثير من الناس على نوع من الألبسة ونحو ذلك أن هذا لا يعني تغيراً للنص، ولو كفر الناس كلهم لا يعني أن هذا الكفر هو الحق، ولهذا نجد أن الناس يتواطنون على أمور كثيرة بحسب ميول الناس وانحرافهم في أمر الأخلاق، وكذلك أيضاً في أمر العقائد، وكذلك في أمر الأفعال، لهذا انتشر التعري في كثير من بلدان العالم وكذلك أيضاً التفسخ في بعض بلدان المسلمين، ويظنون أن الناس قد نشأوا على هذا الأمر، ويأتي الكلام عليه.

وكذلك أيضاً ظهرت بعض الأقوال التي تشير إلى أن الحجاب إنما هو خاص بأمهات المؤمنين، وليس لبقية النساء علاقة في ذلك، فهذا من ألفاظ ومعاني الضلال التي تطلق المخالفة لكلام الله جل وعلا، ولهذا الله سبحانه وتعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، أمر الله جل وعلا نساءه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، والعلة في ذلك أن يعرفن فلا يؤذين، وهذا خطاب موجه لسائر النساء كافة، ويأتي الكلام على تأويل هذه الآية بإذن الله تعالى.

من الأمور المهمة أن نفهم حال الناس عند نزول النص، كيف كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، نساؤهم يحتجبن وما كن يلبسن.

أولاً: بالنسبة لخروج المرأة وهذا نوع من الحجاب، خروج المرأة من بيتها لحاجة غير متبرجة ولا مختلطة بالرجال من الأمور الجائزة، إذا كان لحاجة، وهذا قد جاء في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـسودة: يا سودة! إن الله قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن، فالمرأة إذا أرادت أن تذهب إلى بقال، أو تذهب إلى محل أو إلى جارتها، أو تصل رحمها فتذهب فإن هذا من الأمور الجائزة إذا كانت لا تختلط بالرجال إلا عبوراً، فهذا من الأمور الجائزة التي كان عليها العمل.

أما بالنسبة للحجاب والاستتار، النساء في ابتداء الأمر لم يكن يحتجبن عن الرجال حجاب عدم خلطة، وإنما كن يختلطن، ولكنهن يستترن حتى في أمر الجاهلية وسائر قبائل العرب بخلاف الإماء، فإن الإماء لا يتحجبن، يعني: أنهن لا يغطين الوجوب، والدليل على ذلك أن نساء العرب حتى من المشركات كن يتحجبن ما جاء عند ابن سعد وغيره من حديث إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أنه قال: وقع في نصيبي جارية من العرب من بني فزارة، وعليها قشع قد تغطت به فلم أكشفه عنها حتى قدمت المدينة، فلما كشفتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لله أبوك هبها لي فوهبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسارى المسلمين )، وفي هذا إشارة أن بني فزارة ولو كانوا من المشركين أن نساءهم يستترن، فإذا كان أهل الجاهلية على ذلك وهم محاربون، فكيف حال المسلمين من أهل المدينة، فكان هذا الأمر مستقراً لديهم.

كذلك أيضاً النصوص الواردة في هذا عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في مسألة حجاب النساء يتفقون عملاً أن المرأة تغطي جسدها، وهذا الجسد يستثنى منه بعض الأشياء التي يأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

ما يتعلق بالمسألة الشائعة وهي مسألة الوجه والكفين، هل هي من عورة المرأة أم لا؟ أولاً: ينبغي أن يعلم أن للمرأة عورتان:

العورة الأولى هي عورة كشف، والعورة الثانية عورة نظر، وأما بالنسبة لعورة الكشف تكون لعورة الصلاة، وهذه النصوص التي قد جاءت النصوص الواردة في ذلك.

في قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، أمر الله جل وعلا أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وتفسير ذلك ينبغي أن يؤخذ بفهم المعاني، الدنو أن الإنسان يدنو ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أنه دنا منه، الدنو يكون من علو، يدنين عليهن أنهن ينزلن شيئاً من علو، وهذا الأمر بالعلو يكون على الرأس، فتضعه المرأة على وجهها، فهو قد دنا من علو، أما بالنسبة للذي يأخذه الإنسان من سفول إلى علو لا يسمى ادناءً.

وأما بالنسبة للجلباب، فإن الجلباب المراد به هو ما يغطي الوجه، دليل ذلك ما رواه البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار، وكذلك الشافعي وغيرهم من حديث ابن جريج عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال في المرأة، قال: تدني عليها جلبابها، قال: ولا تضرب به، قلت: وما تضرب به وجلبابها؟ قال: فأشار إلى جلبابها الذي على خدها، والمراد بذلك أن الجلباب هو الذي تغطي به المرأة وجهها، وأما بالنسبة للجيب فإنه يطلق على النحر وما دونه.

وأما بالنسبة لعمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فإن النساء كن يتغطين عن الرجال، وهذا من عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، في ابتداء الأمر كان أمراً مخير به الناس، ما كان باقياً في أحوال العرب من أمر الجاهلية، من الناس من يجعله متأكداً، ومنهم من لا يجعله متأكداً، فجاء الإسلام فأكد عليه، ولهذا عائشة عليها رضوان الله تعالى تشير إلى أن بعض النساء كن يكشفن وجوههن قبل نزول الحجاب، ومنهن بعض أمهات المؤمنين كما جاء في البخاري من حديث الزهري قال: حدثني علقمة وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن عروة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها لما ذكرت حادثة الإفك قال: وأتاني صفوان بن المعطل، وكان قد عرفني قبل الحجاب فغطيت وجهي، وهذا في الصحيحين وغيرهما من حديث الزهري عن سعيد عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.

وكذلك ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها كانت تأمر النساء أن يغطين وجوههن عامة، ولو كان ذلك في الحج، ويأتي الكلام عليه.

وينبغي أن يشار إلى مسألة متعلقة بمسألة عورة المرأة في الصلاة أن المرأة لا يجوز لها أن تغطي وجهها في الصلاة، وهذه مسألة مسألة مهمة، وثمة إشارة إلى جزئية لطيفة في هذا، إذا قلنا: أن المرأة لا تغطي وجهها في الصلاة إذاً الرجل هل يجوز له أن يغطي وجهه في الصلاة؟ لا يجوز له أن يغطي وجهه في الصلاة، وهذا معلوم عند العلماء، ولماذا يكثر الفقهاء من هذا الأمر؟ أي أن المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين في الصلاة، مع أن الرجل كذلك أيضاً لا يغطي وجهه في الصلاة، ومنهي عن ذلك، والنصوص في ذلك كثيرة عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وجاء في ذلك جملة من النصوص المرفوعة، لماذا؟ لأن الأصل في الرجل الكشف وتغطيته للوجه في الصلاة وغيرها أمر نادر، فالشريعة لا تأتي للرجل، وتقول: لا تغطي وجهك في الصلاة؛ لأنه أصلاً لم يغط وجهه حينما قدم إلى الصلاة، ولهذا جاءت النصوص بالنسبة للمرأة أنها لا تغطي وجهها في الصلاة؛ لأنها كانت معتادة على ذلك، مع الاشتراك في الحكم الواحد بالنسبة للرجل والمرأة في تغطية الوجه في أمر الصلاة ولهذا يكثر العلماء من قولهم: المرأة كلها عورة إلا الوجه والكفين المراد بذلك في مسألة الصلاة، وهذه يذكرونها في مسألة المرأة في كتب الفقهاء لماذا؟ لأن المرأة معتادة على التغطية في يومها وليلتها حال بروزها بخلاف الرجل لا يرد عليه النص؛ لأن الشريعة تتواكب مع الفطرة وأحوال الناس، فما كان يلزم منه التأكيد جاء التأكيد على ذلك مع الاشتراك في مسألة الحكم، وإذا غطت المرأة وجهها في الصلاة لم تبطل الصلاة كذلك أيضاً بالنسبة للرجل.

كذلك أيضاً في قول الله جل وعلا: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، في نهي الله جل وعلا عن إبداء الزينة جاءت الزينة في هذه الآية في موضعين: الموضع الأول في النهي، والموضع الثاني في الاستثناء، إلا ما ظهر منها، أمر الله جل وعلا بعدم إبداء الزينة وفي قوله جل وعلا: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، جاء في ذلك جملة من النصوص في بيان الزينة الظاهرة وغير الظاهرة، جاء في ذلك جملة من النصوص عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلم في ذلك نصاً مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان مقدار الزينة، ويكون ثابتاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هي من أقوال الصحابة، وأقوال الصحابة في ذلك مما يحتج بها؛ لأنها في أبواب التفسير.

جاءت روايات في ذلك، وينبغي أن يتنبه قبل الولوج في النقول في هذا أن يعلم أن بعض كتب التفسير تنقل الزينة ولا يبدين زينتهن عن بعض المفسرين، وبعضهم ينقلها في سياق الزينة الأولى، وبعضهم ينقلها في سياق الزينة المستثناة، هل هي من الزينة التي لا تظهر، أم من الزينة التي تظهر، فيأخذها بعض النقلة من دواوين العلماء فيختارها بحسب المشارب الفقهية فيضعها في أحد الموضعين، ويقع خلط في ذلك كثير.

أولاً: اختلف المفسرون في الزينة التي تظهر إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31]، جاء في ذلك جملة من النصوص منهم من قال: يظهر من ذلك الوجه والكفين، جاء في ذلك عن عبد الله بن عباس وأسانيده عنه ضعيفة، وهذا أعلى ما يشتهر وينقل في هذا الباب عن عبد الله بن عباس، والنص في ذلك عن عبد الله بن عباس على خلافه وبيانه كما يلي.

قد روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث محمد بن حميد الرازي عن يزيد بن هارون عن أبي هارون عن نهشل عن الضحاك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: الزينة هي الوجه والكفين، وجاء في رواية عنه أنه قال: الكحل والخاتم، وهذا إسناده ضعيف محمد بن حميد الرازي وهو شيخ محمد بن جرير الطبري ضعيف وقد ضعفه غير واحد من العلماء، بل قال بعضهم إنه متروك، وكذلك نهشل فإنه ضعيف الحديث جداً، وكذلك أيضاً فإن الضحاك لم يسمع من عبد الله بن مسعود .

الأثر الثاني: ما جاء عند ابن جرير الطبري من حديث مسلم بن كيسان عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: الوجه والكفين، وجاء في رواية: الكحل والخاتم، وهذا إسناده ضعيف، فإن مسلم بن كيسان قد ضعفه غير واحد من العلماء، بل قال النسائي: إنه متروك الحديث.

وقد جاء أيضاً هذا موقوفاً أيضاً على سعيد بن جبير واضطرب فيه مسلم بن كيسان، فتارة يرويه عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، وتارة يرويه عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، جاء عن عبد الله بن عباس ما يخالف ذلك بإسناد صحيح، قد روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم في كتابه التفسير من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث وروايته نسخة عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة وروايته نسخة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، قال: أمر الله جل وعلا نساء المؤمنين إذا خرجن وبرزن إلى الرجال أن يغطين وجوههن، وجاء في رواية عنه ويبدين عيناً، وجاء هذا أيضاً عن عبيدة السلماني كما رواه ابن جرير الطبري أيضاً من حديث ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال: يغطين وجوههن ويبدين عيناً، والمراد بإبداء العين في ذلك أن المرأة تبصر طريقها سواءً كان بعين أو بإثنتين، ولو أبدت الإثنتين من غير إسراف فإن ذلك مما لا حرج فيه من غير إبداء زينة، ويؤكد ذلك ويعضده ما جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى في تأويل هذه الآية عند ابن جرير الطبري من حديث أبي إسحاق ويرويه عن أبي إسحاق شعبة بن الحجاج وهو من أوثق أصحابه عن أبي الأحوص وهو من الفقهاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال في قول الله جل وعلا: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] قال: الوجه والكفين، وجاء في رواية عنه الثياب في الاستثناء إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] يعني: الثياب، أنه يجوز للمرأة أن تبرز بثيابها، ولو كان يتخللها شيء من أمر الزينة الذي لا يظهر منه الفتنة، كأن تلبس المرأة معطفاً أو خماراً ونحو ذلك، ويظهر منه نوعاً مما يفتن بعض الرجال فهذا مما تستتر به المرأة، ولا حرج عليها أن تظهره إذا كان لا يغلب عليه الافتتان، وهذا غالب تأويل المفسرين في ذلك، وقد جاء في ذلك عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في مسألة ضبط الحجاب ويأتي الكلام عليه.

من الأمور المهمة المتعلقة في هذا الباب أن يفهم ما كان عليه عمل الصحابيات عليهن رضوان الله تعالى، الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كان نساؤهم يحتجبن ويتغطين عن الرجال، ويغطين وجوههن، أما ما عدا الوجه فهذا محل إجماع، أما بالنسبة للوجه فإنه عمل الصحابة كافة، ولا أعلم امرأة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنها أنها كاشفة لوجهها إلا بعض النصوص التي ترد وفيها ضعف ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.

قد جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها كانت تأمر النساء ولو كن في الحج أن يغطين وجوههن، قد روى ابن أبي خيثمة في كتابه التاريخ من حديث إسماعيل بن أبي خالد قالت: دخلت أمي وأختي على عائشة يوم التروية قال: فقلن لها: إن امرأة هاهنا لا تغطي وجهها، فقالت عائشة عليها رضوان الله تعالى: فأخذت بخمارها من على صدرها، وغطت به وجهها، وجاء عنها عليها رضوان الله تعالى أنها كانت تأمر النساء بذلك، وكذلك ما جاء من حديث هشام عن فاطمة بنت المنذر قالت: حججنا مع أسماء عليها رضوان الله تعالى وكنا نغطي وجوهنا ونحن محرمات، وهن لسن من أمهات المؤمنين.

وكذلك ما جاء عن حفصة بنت عمر عليها رضوان الله تعالى عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عن هشام قال: سألت أم الهذيل ابنة سيرين عن المرأة الميتة كيف تغسل؟ فقالت: سألت حفصة بنت عمر عليها رضوان الله تعالى، فقالت: نغسلها ونكفنها كما تختمر الحية، يعني: المرأة الحية، وتضع تحتها خماراً على وجهها، والمراد بذلك أن المرأة في حال موتها تكون كحالها في حال الحياة من جهة الاستتار، وهذا من أمور التشبيه وإلحاق المسائل ببعضها على سبيل الاستنباط، كذلك ما جاء في النصوص في هذا عن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في هذا عن عمر بن الخطاب كما رواه ابن أبي شيبة في كتاب المصنف من حديث قتادة عن أنس بن مالك أنه قال: دخل علينا عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وجارية لنا مقنعة، فنهاها عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، فقال: لا تشبهين بالحرائر، ومعنى مقنعة، القناع هو الشيء الذي يضعه الإنسان على رأسه، يتدلى أو لا يتدلى، وقد يقول قائل: أن المراد بالقناع معنى عام، وقد يكون بذلك ما تضع المرأة على رأسها من غير وجهها، يقال: أنه يفسره ما جاء عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث علي بن مسهر عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك أنه قال: دخل علينا عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى فرأى جارية لنا متقنعة، فقال عمر بن الخطاب: ضعي جلبابك على رأسك، ولا تشبهي بالحرائر يعني: أن القناع زاد عن مسألة الرأس، فأمر بأن يوضع على الرأس خاصة، وذلك أن تزيله المرأة الأمة من الإماء بخلاف الحرائر، وذلك ألا تشبه المرأة بالحرائر، وقد جاء هذا عن أنس بن مالك في غير هذا الخبر.

وكذلك قد جاء في هذا عن جماعة من السلف في هذا عن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى أنه كان يأمر النساء ولو كن محرمات كما رواه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه أن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى قال: تسدل المحرمة خمارها على وجهها، وجاء هذا أيضاً عنه من وجوه متعددة، وجاء هذا أيضاً عن أسماء عليها رضوان الله تعالى، وكذلك جاء من وجه آخر عن عائشة وفيه ضعف، كما عند أبي داود من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد أن عائشة عليها رضوان الله تعالى قالت: ( كنا نكشف وجوهنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مر الركبان بنا غطت المرأة منا وجهها )، وإسناده في ذلك ضعيف لحال يزيد بن أبي زياد، وكذلك فإنه ضعيف عند سائر الحفاظ، ويغني في ذلك ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى ما تقدم عند ابن أبي خيثمة في كتابه التاريخ، وكذلك عند ابن سعد قد رواه بلفظ آخر عن عائشة عليها رضوان الله تعالى.

وفي هذا الباب أيضاً ما جاء عن طاوس بن كيسان وهو من فقهاء اليمن، وهو من التابعين من المفسرين ما يرويه عنه ابنه عبد الله عن طاوس بن كيسان أنه قال في المرأة المحرمة قال: تسدل خمارها على وجهها، وكذلك قد كان جماعة من التابعين ينكرون على النساء إن كشفن وجوههن ولو كن في المطاف كما جاء هذا عن عبيد بن عمير كما رواه صالح بن أحمد، ويرويه عن أبيه عن عبد الله عن عبيد بن عمير أنه رأى امرأة كاشفة في الطواف، فقال: يا أمة الله! لا تفتني الرجال، وكذلك أيضاً جاء عن عبد الملك بن حبيب عن أبي حازم وهو من أجلة التابعين، ومن عليتهم أنه نهى امرأة كاشفة لوجهها في الطواف، وإسناده في ذلك عنه صحيح، قد رواه ابنه عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، وكذلك رواه عبد الملك بن حبيب عن أبي حازم أنه نهى عن ذلك.

وكذلك أيضاً فإن النصوص في هذا عن أتباع التابعين في ذلك متضافرة، ويأتي الكلام عليها، أما بالنسبة للأئمة الأربعة في هذا، فليعلم أن بعض الفقهاء نبه على استثناء بعض النصوص من كلام بعض الفقهاء في مسألة الصلاة، وتؤخذ إلى مسألة عورة النظر، ويجعلون الحكم في ذلك مشترك، وقد نبه بعض الفقهاء من الشافعية على هذا الأمر أن الفقهاء لا ينصون على عورة النظر لاستقرارها، وقد نص على هذا الموزعي من الشافعية عليه رحمة الله أن الأئمة الأربعة، والأخص الإمام الشافعي عليه رحمة الله، لا ينص على عورة النظر لاعتبار أن هذا الأمر مستقر، وإنما ينصون على عورة الصلاة، فيأخذون عورة الصلاة ويجعلونها في عورة النظر، وهذا من الأمور التي يخلط فيها بعض الناس.

أولاً بالنسبة للنص عن أبي حنيفة لا أعلم عنه نصاً في ذلك، وإنما جاء عنه أنه يقول بتغطية المرأة المحرمة لوجهها، كما رواه محمد بن الحسن وهو من أصحابه في كتابه الموطأ في روايته للموطأ أنه قال: تسدل المحرمة خمارها على وجهها، قال: وهذا قول أبي حنيفة وعامة فقهائنا، يعني: أنهم على هذا القول، ومن نقل عن أبي حنيفة قولاً بالنص أنه قال بهذه المسألة سواءً بكشف أو بغيره فقد تكلف شيئاً معدوماً، أما بالنسبة للإمام مالك عليه رحمة الله، فقد جاء عنه نص صريح بوجوب تغطية المرأة لوجهها، كما في كتابه المدونة، سأله سائل عن الرجل يطلق امرأته وهي في بيتها البتة يعني: تكون بائنة منه، فقال الإمام مالك: لا تريها وجهه تغطي وجهها عنه، فإذا كان هذا من المرأة لزوجها البتة منه، فكيف لأجنبي بعيد عن ذلك.

أما بالنسبة للإمام الشافعي عليه رحمة الله أيضاً فإن النص في ذلك عنه في كتابه الأم أنه قال، كما في كتاب الحج قال: ويستحب، يعني: للمعتمر وكذلك الحاج أن يبتدئ بالطواف، ابتداءً أول ما يقدم إلا المرأة إن قدمت نهاراً أن تؤخر الطواف إلى الليل حتى لا يراها الرجال، فإذا كان الإمام الشافعي عليه رحمة الله يؤكد على المرأة أن تدع أمراً مستحباً وهو المبادرة بالطواف، حتى لا يراها الرجال لشخصها، فكيف أن تبرز بوجهها وتزاحم الرجال في ذلك، ولا أعلم نصاً عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى في ذلك صريحاً في هذه المسألة، وإنما الإشارات في ذلك تشير إلى تأكيده على هذا الأمر.

ونقل ابن قدامة عليه رحمة الله في كتابه المغني في مسألة تغطية المرأة المحرمة لوجهها، قال: تسدل المرأة المحرمة خمارها على وجهها، قال: وهذا قول عثمان بن عفان، ومالك بن أنس والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً، والمراد بهذا أن المرأة إذا كانت محرمة وغطت وجهها فإنها إذا كانت في غير إحرام من باب أولى، والذي يمنع على المرأة في حال الإحرام هو لبس النقاب، أن تنتقب المحرمة، أما بالنسبة أن تسدل على وجهها خماراً من غير انتقاب فإن هذا من الأمور غير المحظورة على المرأة، وهي من الأمور المتأكدة، ولهذا جاءت النساء كما في حديث أم إسماعيل وأخته حينما دخلت على عائشة في يوم التروية وقالت: إن هنا امرأة تأبى أن تغطي وجهها، يعني: أنها تجهل تظن أن تغطية الوجه هي كحال النقاب، قال: فأخذت عائشة خمارها من على صدرها وغطت به وجهها إشارة إلى أن المحرمة إذا كانت في حال إحرام فإنها تغطي وجهها، فإنها إذا كانت في حال حل من باب أولى.

وكذلك عن الإمام أحمد عليه رحمة الله النص في ذلك عنه صريح، فإنه كان يقول: المرأة عورة كلها ولو ضفرها، وقد جاء عنه النص أنه لا يبدو منها شيء، وقد جاء هذا في روايات متعددة، كما جاء في رواية صالح، وكذلك أيضاً في رواية أبي طالب وغيره عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، هؤلاء الأئمة الأربعة.

وأما بالنسبة للنقول التي ينقلها الأئمة من نسبة الأقوال الفقهية، فهي ينبغي أن يفرق بين أقوال الأئمة، وبين فقهاء المذاهب، فقهاء المذاهب من البلدان سواءً كان من الحنفية أو الشافعية أو المالكية في هذه المسألة جاءت عنهم الأقوال متباينة متعددة في هذا الأمر.

أما بالنسبة للأقوال الفقهية للأئمة من الفقهاء من المذاهب الأربعة من مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي حنيفة فالأقوال متباينة في ذلك، واتفقوا على أنه في زمن الفتنة والمرأة إذا علمت أن الرجل ينظر إليها وإذا نظر إليها افتتن بها وهو ينظر إليها أنه يحرم عليها أن تكشف وجهها، وهذا محل اتفاق عندهم، وإنما الخلاف في بعض الدواوين الفقهية في كشف المرأة لوجهها في حال عدم وجود الافتتان، وأما في حال وجود الافتتان فهذا محل اتفاق عندهم قد حكى الاتفاق على ذلك جماعة كـابن قدامة من الحنابلة، وكذلك ابن رسلان من الشافعية، وابن حجر أيضاً من الشافعية، وغيرهم أيضاً كـأبي بكر العربي من المالكية، وابن عابدين أيضاً في حاشيته وغير هؤلاء يحكون الاتفاق على العلماء ووجوب تغطية المرأة لوجهها في حال الفتنة، وهذا الاتفاق عند ورود الفتنة، والفتنة إما أن تكون عامة أو تكون خاصة، والمراد بالفتنة العامة أن يعم في أزمنة الناس الافتتان ونحو ذلك، وكذلك أيضاً بالنسبة للخصوص إذا برزت امرأة ولو كان في طريقها رجل واحد إذا كان يفتتن هذا الواحد وجب عليها أن تغطي، هذا محل اتفاق عندهم، وإنما الخلاف عندهم في حال عدم الافتتان، ينص جماعة من الفقهاء من المذاهب الأربعة على وجوب تغطية المرأة لوجهها، ومن يحكي أن المذاهب الفقهية أن جمهور المذاهب الفقهية تقول بعدم وجوب تغطية المرأة لوجهها، فهذا من الأقوال الخاطئة التي يروج لها، ومن نسب قولاً لأحد الأئمة الأربعة قولاً في هذه الأقوال فهو مخطئ في هذا، بل هي أقوال لبعض الفقهاء المنتسبين لبعض المدارس الفقهية كبعض الفقهاء من الحنفية، وذهب جماعة من الفقهاء من الحنفية إلى وجوب تغطية الوجه، وهو قول أبي بكر الجصاص كما في كتابه أحكام القرآن، وكذلك قول أبي بكر بن العربي وهو من المالكية، كما في كتاب أيضاً أحكام القرآن، وذهب إلى هذا جماعة من الفقهاء من الشافعية، وهو قول ابن حجر الهيتمي، وكذلك قول ابن حجر العسقلاني، وهو قول ابن رسلان وهو من الشافعية أيضاً، وذهب إلى هذا جماعة وخلق متوافرون من الأئمة من الفقهاء من الحنابلة وهو قول عامتهم، وكثير من المدونات العصرية التي تعتني بهذا التدوين يقع الخلط فيها كما تقدم الإشارة إليه بنقل نصوص العلماء في مسألة الصلاة، وجعلها في عورة النظر، وقد نص على هذا اللبس جماعة من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم عليه رحمة الله، ونص على هذا أيضاً البيضاوي في كتابه التفسير، وكذلك نص عليه الصنعاني عليه رحمة الله في بعض كتبه أن هناك من يخلط بين هاتين المسألتين، بين عورة النظر وبين عورة الصلاة فينقل نصوص العلماء في هذا، كذلك النصوص الواردة في كلام العلماء في مسألة إبداء الزينة، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، وهذه الزينة التي تظهر، وأما التي لا تظهر إلا ما ظهر منها، منهم من يخلط بين هذه وهذه، فيورد النصوص الواردة في هذا، مع ورود خلاف عن بعض السلف في هذه المسألة، ويأتي الكلام في النصوص التي يستدل بها.

تقدم الكلام أني لا أعلم نصاً عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابيات أنها كانت تكشف وجهها على الإطلاق، وإنما النصوص الواردة في ذلك أنهن كن يغطين، أما ما جاء في ذلك من بعض الأحاديث التي يستدل بها من أشهرها وأظهرها ما رواه الإمام أحمد وكذلك أبو داود من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك من حديث عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت عليه أسماء، وعليها ثياب رقيقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصح أن يظهر منها إلا هذا وهذا فأشار إلى وجهه وكفيه )، هذا خبر أنكره الحفاظ أنكره أبو داود وهو معلول بعدة علل:

أولها: أن خالد بن دريك الذي يروي هذا الخبر عن عائشة لم يدركها كما نص على ذلك أبو داود عليه رحمة الله في كتابه السنن، وقد أخرج هذا الخبر أيضاً في المراسيل وجعله مرسلاً من حديث سعيد عن قتادة مرسلاً وهو الصواب، ومعلول أيضاً بتفرد سعيد به وهو في حفظه لين، وهذا الخبر عامة الحفاظ الأوائل على إعلاله، وكذلك ما يستدل به في حديث عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى في حديث الفضل بن عباس لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة، فجاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله! إن لي أباً شيخاً كبيراً لا يستقيم على الراحلة، وجاءت في رواية أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية والنبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، ويردف الفضل عليه رضوان الله تعالى والفضل ينظر إليها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه، قالوا: فيه دلالة على أن هذه المرأة كانت كاشفة لوجهها.

أولاً: هذا الخبر قد جاء عند أبي يعلى مبيناً في سبب مجيء هذا الرجل بهذه الجارية، ولولا أن يأتي ويسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إتيان بهذه الجارية، وذلك أنه قد جاء هذا الخبر بإسناد صحيح من حديث سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أن الرجل جاء بهذه الجارية يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتزوجها، وهذا إسناده صحيح عن عبد الله بن عباس، وهذا التعريض يعني فيه إشارة إلى مسألة متقررة عند العلماء وهو أن الرجل ينظر إلى المرأة التي يرغب بها وإذا عرض الرجل بنتاً له على غيره ليراها ويعلم في نفسه أنه يرغب بنكاحها، فإن هذا من الأمور الجائزة، أما من غير سبب فلا يجوز، والفضل كان شاباً قد قارب الاحتلام، ونظره في ذلك محتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما صرف بصره، والنبي صلى الله عليه وسلم يطلق بصره إشارة إلى أن ما جاء عن عبد الله بن عباس هو المراد أن ذلك كان عارضاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يظهر أنه جهل من ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن الخطبة في ذلك لا يجوز للمحرم، إلا أن هذا الرجل أراد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أن تكون في ذلك خطبة، وهذا من الأمور الجائزة.

وكذلك أيضاً من النصوص التي يستدل بها ما جاء في حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خطب الناس في يوم العيد ذهب إلى النساء، فجاءت امرأة إليه سفعاء الخدين وقالوا: سفعاء الخدين إشارة إلى أن الراوي يرى وجهها فذكر أنها سفعاء الخدين.

أولاً: ينبغي أن يعلم أن الإماء يختلفن عن الحرائر، وأن النصوص المتشابهة يرجع فيها إلى الأمور المحكمة، وهذا الخبر، هذه المرأة التي جاءت هل هي حرة أم أمة؟ لا يستطيع الإنسان أن يحكم في ذلك، فإذا كانت النصوص مستقرة لدينا وثابتة في عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في هذا، وكذلك عمومات الأدلة في هذا من ظاهر كلام الله، وفعل الصحابة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لنا أن نحمل امرأة جاءت لا يدرى هي حرة أم غير حرة، ومعلوم أن للأمة من الترخيص في هذا ما لا يحصل للحرة.

وكذلك أيضاً في قوله سفعاء الخدين إشارة إلى حالها وقد جاءت هذه الزيادة في حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر بن عبد الله، ولم تأت في حديث ابن جريج عن عطاء عن جابر بن عبد الله، وفيها علة في ذلك، كذلك أيضاً فإن قوله سفعاء الخدين إشارة إلى أن هذه المرأة من النساء اللاتي يعملن، والتي يعملن من النساء في الغالب في زمنهم وتخدم ونحو ذلك هي الإماء التي يخرجن ويعلفن البهائم، ويخرجن أيضاً إلى السوق والجواري ونحو ذلك، في الغالب هي أحوال الإماء، كذلك أيضاً فإن القواعد من النساء يرخص لهن أن يكشفن وجوههن والمراد بالقواعد هي التي لا ترجو نكاحاً، يعني: أن الخطاب لا يأتونها ولا يتشوف الرجال لها، وهي كبيرة السن، وهذه المرأة التي قامت هل يستطيع الإنسان أن يحدد هل هي حرة أم أمة، هل هي قواعد من القواعد أم لا؟ لا يستطيع الإنسان أن يحكم في ذلك، لهذا ينبغي ألا يطلق النص في مثل هذا.

كذلك أيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن النظر إلى المرأة كما جاء في حديث جرير بن عبد الله كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نظر الفجأة وقال: لك الأولى وليست لك الثانية، قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نظر الفجأة، والنظر ما نهي إلا وقد كشف الوجه، وبدت العورة، وإلا ما العلة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر؟ هذا تعليل في مقابل النص، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن النميمة، النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النميمة، والنميمة هو نقل الكلام السيء إلى غيره، هل يدل هذا على جواز الغيبة؟ لا يدل على جواز الغيبة، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النميمة، وهي نقل كلام الغير في غيره مع استقرار الغيبة التي يتكلم بها الناس، فالغيبة محرمة، لكن لو وجدت حرم على الإنسان أن ينقلها، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النميمة، وليس للإنسان أن يقول: تكلم في فلان، ولكن لا يصل إليه كلامي، وإذا كان لا يصل إليه كلامي، فإن هذا جائز؛ لأن هذا مخالف لما هو مستقر ومحل اتفاق، ولهذا الشارع قد نهى عن النظر في حال ورود الكشف، وربما أيضاً نظر الإنسان إلى المرأة ولو كانت مستترة مما يفتن به بعض الرجال، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لهذا نقول: إن لازم المحرم لا يعني أن يرد منه إباحة لبعض صور التحريم، والنص في ذلك ظاهر في كلام الله جل وعلا، وكذلك في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك أيضاً من الأمور المهمة التي ينبغي الإشارة إليها أن كثيراً ممن يتكلم على هذه القضايا وخاصة ما يتعلق بقضايا الحجاب يتكلمون عليها والمنزع في ذلك ليس من المنزع الشرعي، ولا الورع، وإنما يحاولون الدعوة إلى السفور، والدعوة إلى التفسخ ونحو ذلك، وعلامة ذلك أن كثيراً من المتحمسين إلى قضايا حجاب المرأة وكشفها يرون التعري للعورات المجمع عليها، ولا يظهر إنكار ولو في موضع واحد، وهذا الاندفاع لا يكون للأمور المحرمة الظاهرة، فإذا كان للأمور المحرمة الظاهرة ينبغي أن يعلم أن أمثال كثير من الدعوات الذين يتكلمون على أمثال هذه القضايا، ويثيرونها في وسائل الإعلام ونحو ذلك، أن الدافع لها في الأغلب ليس وازع الشرع، والورع في ذلك، وإنما هو نوع من المسايرة ونحو ذلك، كذلك أيضاً ينبغي أن يعلم أن كثيراً من البلدان الإسلامية إلى زمن قريب كانت على حجاب وستر، وإنما تساهلوا في ذلك أو تساهلوا وتشبثوا ببعض الأقوال الفقهية ونحو ذلك حتى ظهر التفسخ في هذا، وحتى بعض البلدان من الشام والعراق وفي مصر ونحو ذلك، بل ذكر الجبرتي في تاريخ مصر أنه في عام ألف ومائتين كانت نساء مصر كلهن مستترات لا يرى منهن شيء حتى جاء الاستعمار العسكري إلى مصر قبل قرن من الزمان، ثم واكبه بعض ذلك ما يسمون بدعاة التجديد ونحو ذلك ينشرون بعض الأقوال الفقهية، وجمع بعض الأقوال التي يطلقها العلماء في أحكام الصلاة عورة الصلاة وينشرونها ويضعونها في أحكام النظر، وظهر في ذلك خلط فقهي عضده دعم إعلامي ودعم فكري واستعماري ونحو ذلك، فظهرت أمثال هذه الأقوال واستهان كثير من الناس؛ لأن الإعلام يعضد أمثال ذلك باسم الحضارة والتقدم ونحو ذلك.

كذلك أيضاً في بلدان الشام وكذلك من نظر إلى كتب التاريخ وكتب الرحالة في الشام، وكذلك العراق، وكذلك أيضاً في بلدان مصر، وكذلك أيضاً في بلدان المغرب الأقصى يعلم أن النساء لم يكن على ما كن عليه في الزمن المتأخر، وإنما هو تبدل أحوالهن طرأ بعد ورود الاستعمار، وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن تؤخذ على النحو الذي يقاوم تلك الدعوات، وأن يفصل بين الأقوال التي تطرح على سبيل التفقه، والمدارسة الفقهية، فإن هذا يؤخذ منه الأدلة، ويرد، وكذلك يحاجج ويناظر ونحو ذلك، أما من يريدها يريد أن ينقض العرى، وأعظم دلالة على ذلك أن التفسخ وإظهار الأمور المحرمة التي هي بإجماع الملل حتى الكتابية من اليهود والنصارى في دواوينهم في توراتهم وإنجيلهم أنه يحرم على المرأة فيهم أن تظهر شعرها، وهذه النصوص في كتبهم ناطق، وفضلاً عن الإجماع عند المسلمين كما نص على ذلك ابن المنذر وابن عبد البر، وكذلك ابن قدامة في إظهار شيء من شعر المرأة، وهذا محل اتفاق، والمرأة في وسائل الإعلام، وكذلك في المحافل وفي المجلات والصحف، تظهر ما هو محل اتفاق عند سائر أهل الشرائع فضلاً عن سائر المذاهب الإسلامية من السنية والبدعية، ثم لا نجد حماساً وكذلك إثارة في مقاومة أمثال هذه المنكرات، ثم يبحثون ويدرسون مسائل فقهية، ويردون أدلة في ذلك، وهذا إذا لم يتفق معنا على مسائل الإجماع المتقررة ينبغي ألا تؤخذ أقواله طرحاً فقهياً مسلماً في هذا، وأن يبين الدليل، وكذلك يؤخذ بالعزيمة في أمثال هذا؛ لأن أمثال هذه الدعوات إذا قلت وضعفت في الأمة بالتشبث بالرخص وتسويغها فإن عرى الفضيلة تنسخ شيئاً فشيئاً حتى يظهر ما هو أبعد من هذا من أمور التعري والبعد عن دين الله جل وعلا أصولاً وفروعاً.

كذلك أيضاً: أن نأخذ العبرة من كثير من الدول التي ظهر فيها التفسخ، وكذلك في اختلاط النساء بالرجال، والذين يضعون احتياطات كل التجارب التي ظهرت في بلدان المسلمين هي تجارب من جهة الحقيقة هي لكسر الحواجز الموجودة لدى نساء المسلمين، قبل أيام زارني أحد الإخوة الفضلاء من أحد البلدان الخليجية يقول: قبل عشر سنوات من الآن كانت المرأة إذا نزلت إلى بعض الميادين، وكانت توضع المرأة في بعض المطارات، أو في بعض المراكز التجارية توضع المرأة في زجاجة كاتمة وتوضع فتحة دائرة بحيث الإنسان لا يراها، وإنما يرى يدها تعطي الورق وتأخذ الورق في بعض الجهات الأمنية ونحو ذلك، قال: ثم لم تمض خمس سنوات حتى أزيل اللون، ووضع الشفاف ثم أزيل الزجاج، ثم وضع مقعد للرجل مع المرأة يقول في غضون عشر سنوات فقط، وهذه الضوابط لو التزم بها من حولنا ما شدد العلماء على هذا والله جل وعلا أمر بالاعتبار، في مصر قبل مائة سنة تقريباً أو أقل من ذلك ظهر ما يسمى بعمل المرأة وإظهارها ظهر نص وزاري في ذلك من مجلس الوزراء وقد اطلعت على نسخة منه في كتاب منشور لوثائق الحكومة المصرية وهو مطبوع متداول في مصر في هذا يظهر فيه أمراً أن المرأة تعمل وتبعد عن الرجال ويوضع لافتة أن هذا موضع للمرأة تعمل فيه، وهذا المراد بذلك أن تخرج من بيتها ولو بضوابط، ثم بعد ذلك تزول هذه الضوابط، لو سلمت تلك التجارب وصحت في بلدان المسلمين لتساهل في ذلك العلماء، ولكنهم يشددون حتى في بعض الأمور المباحة لماذا؟ لأنها تفضي إلى ما رأيناه شاهد عيان في ذلك.

لهذا ينبغي للإنسان مع فهمه لنصوص الشريعة أن يفهم واقع الحال، وأن يفهم التاريخ، وأن يفهم أيضاً تحول الأمم، وتحول الشعوب فيما بينها، وألا ينظر إلى المعاني الظاهرة في بعض المصطلحات والتراكيب وهو يجهل تحول الناس؛ لأن الإنسان لا يعيش بفكره وأحكامه الشرعية بحلال وحرام، لا يعيش ليومه وليلته وإنما يعيش لخمس سنوات وعشر وعشرين ومائة وما هو أبعد من ذلك إلى ماذا يؤول هذا الأمر؟ ينظر إليه بضابطه ونحو ذلك، والأمم التي قالت واحترزت في ذلك، ولهذا كثير من العلماء حينما يتكلمون على أمثال هذه الأمور يتكلمون بمعرفة بأحوال الشعوب وأحوال الأمم وما طرأ عليها من تغيير وتبديل.

نكتفي بهذا القدر، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.