التوازن الاجتماعي
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للدكتور محمد مندور
هذه أيضاً مشكلة كبيرة لا بد لرجال السياسة والاجتماع من مواجهتها في حزم، وليس من شك في أن عدم العناية بها بعد الحروب الكبيرة والثورات القومية الماضية، قد كان دائماً من الأسباب القوية التي مهدت لحروب وثورات لاحقة، ونحن لا نعرف سياسة أحمق من تلك التي تتناول الأمم طبقات وطوائف دون نظر دقيق إلى ما يجب أن يقوم بين تلك الطبقات والطوائف من توازن يكفل سلامة الأمة وضمان وحدتها.
والطبقات الاجتماعية لم تتكون في التاريخ عفواً، بل قامت دائماً على المقاييس العميقة المتغلغلة في عقلية الشعوب. ففي العصور القديمة عندما نرى أفلاطون يقسم جمهوريته إلى ثلاث طبقات: حكماء يرأسون المدينة، وجند يذودون عنها، وعمال يوفرون لها وسائل الحياة المادية، لا نستطيع أن نسلم في يسر بأنه إنما أخذ هذا التقسيم عن قياسه للهيئة الاجتماعية وطبقاتها بالفرد وملكاته.
ولا بد لنا من أن نذهب إلى أبعد مما زعم لنستطيع فهم الأساس الذي أقام عليه هذا التقسيم.
نعم إن الحكماء ينزلون من الأمة منزلة الرأس بملكاته العاقلة، والجند منزلة القلب بقوته الغضبية، والعمال منزلة المعدة بنشاطها المادي؛ ولكن، أليس من البين أن هذا التقسيم تنعكس فيه المقاييس العامة للإغريق في ذلك الحين؟ فالعمال، في هيئة اجتماعية كانت تجمع على أن العمل من اختصاص العبيد، لم يكن مفر من أن ينزلوا المنزلة الثالثة.
والجند، في بلاد استهدفت لجحافل القرس وردت بشجاعتها عدوانهم بعد أن هددها فناء محقق، كان من الطبيعي أن ينزلوا منزلة تسمو على منزلة العمال وتتمتع باحترام المجموع.
وأما رياسة الحكماء للمدينة فذلك حلم رآه أفلاطون، وكان هو أول من تنكر له، إذ لم يلبث أن ترك السياسة بالرغم من وجاهة محتدة وقرب اتصاله بالقادة في ذلك الحين، وهو بعد حلم لا تزال الإنسانية ترتجيه. وهكذا نستطيع أن نستشف عقلية الشعوب من أسس تقسيمها للهيئة الاجتماعية، وهي عقلية دامغة تسيطر حتى على كبار المفكرين أمثال إفلاطون، مما نظن دائماً أنهم فوق بيئاتهم أو نابين عنها. وفي القرون الوسطى نعثر على نفس الحقيقة.
فعندما يحدثنا التاريخ أن الطبقات الاجتماعية قد انتهت خلال تلك القرون الطويلة إلى التبلور في ثلاثة: نبلاء ورجال كنيسة وطبقة ثالثة، لن نجد مشقة في العثور على أساس هذا التقسيم، فقد كانت تلك الأزمان أزمان العهد الإقطاعي حيث يسيطر كل أمير على مقاطعة تتبعه أراضيها، وما تحمل من بشر يعملون بها؛ وهكذا تكونت طائفة النبلاء، نبلاء الدم والوراثة.
والى جانب هذه الطبقة كان من الطبيعي أن تنهض طبقة رجال الدين في عصور سيطرت فيها المسيحية على عقلية الشعب، وساقته إلى ما نعرف من زهد وتصوف، بل وحروب صليبية.
وأما العمال والزراع فقد اطرد حمق البشر على إنزالهم دائماً مؤخر السلم وأخيراً جاءت الثورة الفرنسية الكبرى، وانتفضت الإنسانية متطلعة إلى فجر جديد.
ولقد حطمت تلك الثورة نظام الطبقات الذي تمخضت عنه، كما رأينا، القرون الوسطى؛ ولكن الإنسانية لسوء حظها لم تهتد، برغم ما أراقت تلك الثورة المجيدة من دماء، إلى أساس سليم تقيم عليه تقسيمها الاجتماعي.
وفي استطاعتنا أن نفهم سر المأساة إذا ذكرنا أن تلك الثورة قد قامت بالمدن، وأن عصبها كان طائفة الحضريين الذين يُعرفون بالبرجوازية، أي (سكان المدن)، بل سكان باريس بنوع خاص، فهم منبت تلك الثورة وبؤرتها المقدسة.
وقيام الحضريين بها لم يكن حدثاُ طارئا في التاريخ.
فمنذ قرون كانت المدن العامل الفعال في مناهضة النظم الإقطاعية، وتحطيم سلطة الأمراء، وتمكين الملوك من توحيد الممالك.
ولهذا كان من الطبيعي أن تنشأ في مدينة كباريس تلك الثورة العاتية التي أتت على ذلك النظام البائد. وبنظرنا في المبادئ التي قامت عليها التقسيمات الاجتماعية في العصور القديمة والقرون الوسطى، نستطيع أن نحصي الأسس التي كانت تمكن من الوجاهة الاجتماعية، فهي الحكمة والشجاعة ووراثة الدم والزعامة الروحية.
وجاءت الثورة فحطمت كل تلك الأسس، وإن لم تمحها محواً تلماً من عقلية الشعوب، حيث لا تزال تعمل إلى اليوم على تفاوت في النسب؛ وننظر فيما أقام هؤلاء الحضريون على أنقاضها من أسس جديدة، فلا نكاد نتبين غير أساس واحد هو المال، وهذا هو سر المأساة التي أشرنا إليها فيما سبق. حلول المال محل غيره من المقاييس ظاهرة واضحة التفسير، فالثورة الفرنسية هي وأشباهها من ثورات القرن التاسع عشر قد قامت كما قلنا في المدن على يد الحضريين، وهؤلاء جمهرتهم العظمى من الصناع والتجار؛ وهم بتقويضهم لطبقتي النبلاء ورجال الكنيسة قد استطاعوا أن يحلوا محلهما في الصدارة الاجتماعية.
وهكذا انتهت الإنسانية إلى التقسيم الكبير المعروف: حضريون (برجوازية) وعمال، وأصبح المال الأساس العام لتوزيع الهيئة الاجتماعية قد يقول قائل إن هذا الأساس الجديد خير من بعض الأسس القديمة، فهو يمكن الهيئة الاجتماعية من مرونة لم تكن تملكها عندما كان النبل مثلاً ظاهرة وراثية لا حيلة للبشر فيها.
وهذا قول كان من الممكن قبوله لو لم يسد في تاريخ الإنسانية خلال القرن التاسع عشر ذلك الاختلال العجيب الذي لم يكن مفر من أن ينجم عن ظهور ظاهرتين كبيرتين في ذلك القرن، ونعني بهما الحركة الصناعية الكبيرة من جهة، والأخذ بمبادئ الاقتصاد الحر من جهة أخرى.
والثورة الفرنسية السابقة على هاتين الظاهرتين لم تعالج طبعاً هذا الاختلال، بل ولا مهدت لعلاجه، ولهذا لحقتها بفرنسا نفسها ثورتان أخريان هما ثورتا سنة 1830، سنة 1848 نمو الصناعة وما تبعه من نمو التجارة أيضاً ساعد على تكوين طبقات عاتية من الرأسماليين؛ وروج علماء الاقتصاد لنظرية: (دع الفرد يعمل، دع التجارة تمر)، وقالوا بترك النشاط الاقتصادي حراً، فمكنوا بذلك أصحاب العمل من دماء العمال وهكذا بعدت الشقة بين طبقتي الأمة مما أثار ما نعرف من حركات ثورية واضطرابات اجتماعية واتخاذ المال أساساً للتقسيم الاجتماعي مصدر لخطر كبير يتهدد الهيئة الاجتماعية في كيانها.
ويزداد هذا الخطر وضوحاً في أثناء الحروب الكبيرة.
ومظهر هذا الخطر هو الانحلال الخلقي.
لمن شاء أن يصدع آذاني بقوله إن من الناس العصاميين القادرين على جمع الثروات الطائلة بمهارتهم وحسن فهمهم لحاجات الناس وملاقاة تلك الحاجات، فذلك ما لن أقبله.
وعندما أنظر حولي فلا أرى إلا صعاليك ليس في عقولهم فكر ولا في قلوبهم ضمير ينثرون المال كل صوب في قحة تنفر منها النفس، لا أستطيع إلا أن أحكم بأنهم لا يملكون من مواهب غير الدجل والنصب والاحتيال ويزيد في تلك الظاهرة خطورة قيام الحروب الكبيرة، كما قلت، فعندئذ ترى النصابين يستغلون مواطنيهم أقبح استغلال، وترى الأوضاع الاجتماعية وقد انقلبت رأساً على عقب حتى يختل توازن الأمة الاجتماعي أعمق اختلال، ويكثر محدثو النعمة، وتلك طائفة تجمع الإنسانية الرشيدة على احتقارها ورد عدوانها والآن، وقد استعرضنا المبادئ، التي وزعت الإنسانية على أساسها طبقاتها الاجتماعية، وانتهينا إلى أن الأساس العام القائم اليوم هو المال، ووضحنا ما في هذا الأساس من أخطار يجب أن نبحث عن الوسيلة التي نتعهد بها ذلك التوازن ونرد إليه ما يجب أن يلازمه من سلامة، وباستطاعتك أن تنقلب أوجه النظر كما تريد، فلن تجد غير وسيلة واحدة هي تدخل الدولة والأخذ بمبادئ الاقتصاد الموجَّهه مبدأ الاقتصاد الموجَّه يقوم على تدخل الدولة في الإنتاج، وذلك عن طريق التشريع وهو ألزم ما يكون في أعقاب الحروب الكبيرة، وأنت عندما تثقل بالضرائب من أثرى بغير وجه مشروع لا تظلمه؛ بل تنتصف للأمة منه، لأنك عند النظر الأخلاقي الصحيح لا تستطيع أن تسميه إلا مختلساً، وأنت عندما تنتصف للعامل من صاحب رأس المال، وللمستهلك من المنتج وللمريض من الصحيح وللجاهل من المتعلم، لا تعتدي على أحد، وإنما ترغم المقصر على أداء واجبه عندما تنعدم قيادة الضمير، ونحن في أمة تصرخ الآلام في صدور أبنائها؛ لقد حان الحين، لكي تحزم الهيئة الاجتماعية أمرها، وتشد من عزم حكامها ليقيموا توازنها الاجتماعي على أساس ترضاه إنسانيتها الجريحة. محمد مندور