الفتنة حقيقتها والموقف منها


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد أكرم هذه الأمة ببيان المحجة، وبيان السبيل ووضوح الطريق، وكلما كانت الأمة أوضح طريقاً كانت عند الله عز وجل أحظى وأقرب، وكلما بعدت من جهة سلوك السبيل فهذا أمارة على عدم وضوح سبيلها، والله جل وعلا قد جعل الناس على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل كرامة هذه الأمة لها أثر على عاقبتها، والمراد بذلك أن وضوح السبيل الذي جعله الله عز وجل في كتابه العظيم، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح أثره في أفعال الأتباع والمنقادين لهديه عليه الصلاة والسلام، ويتضح أثره أيضاً بالعاقبة التي جعلها الله جل وعلا في الجنة لمن انقاد واتبع، ولهذا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم، وذلك ما كان ليكون إلا لأن هذا السبيل أوضح السبل، ولكن ينبغي أن نعلم أن المخاطب إذا وضح له السبيل، واتضحت له الحجة والبينة فإن العقاب عليه إذا خالف أعظم وأشد، وهذا يعلم بالعقل، ويعلم بالنقل، وذلك أن الإنسان إذا خاطب أحداً ووضح له العبارة وأعاد عليه الحجة، وكررها عليه، وهو حاضر الذهن فإن عقابه إذا خالف أعظم من عقاب غيره ممن يتكلم معه بكلام مجمل، أو أتاه عبارة واحدة من غير يقظة وانتباه، وهذا أمر معلوم.

ولهذا ينبغي أن نعلم كما أن الأمة مرحومة بكثرة دخولها في الجنة، فليعلم أن هذه الأمة من خالف أمر الله سبحانه وتعالى فيها، فإنه أسوأ حالاً ممن يخالف أمر الله جل وعلا من الأمم السابقة كبني إسرائيل وغيرهم، ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يلتمس مواضع الحجة في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتضح له السبيل، ويسلم له الطريق، وتحسن له العاقبة، فإذا كان كذلك كان من أهل النجاة والفوز والتمكين في الأرض، وكذلك الثواب العظيم عند الله سبحانه وتعالى.

في هذا المجلس كما في العنوان المذاع هو الفتنة حقيقتها، والموقف منها أو كيفية التعامل معها، هذا الموضوع إذا أردنا أن نتكلم عليه بجميع جوانبه أصولاً وفروعاً، فإننا نحتاج إلى مجالس متعددة، وذلك لأهميته من جهة معناه، وأهميته من جهة أثره على الإنسان فرداً وكذلك أثره على الأمة عموماً، وتباين مقاصد الشرع في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى معنى الفتنة يجعلنا بالأهمية أن نبين هذه المقاصد ولو على سبيل الإجمال حتى يكون الإنسان على بينة.

إن الفتنة إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها غالباً ما يجعلها في أبواب الشر في ظاهرها، ولكن الله جل وعلا قد يبلو الإنسان بالخير، ولهذا قال الله جل وعلا: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً[الأنبياء:35]، أي: إن الله سبحانه وتعالى قد يبتلي الإنسان بشيء من الخير يظنه في ظاهره خيراً، ولكن الله جل وعلا أراد به شراً ابتلاءً وامتحاناً واختباراً، ولهذا الله سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يستعيذ من بلاء الخير ومن بلاء الشر؛ لأن كله فتنة، وأعظم ما يرزق الله جل وعلا عباده في هذه الدنيا من خير هو المال والبنون، وقد سماها الله جل وعلا فتنة أيضاً، سماها في موضع أنها خير ما يؤتى الإنسان في مواضع متعددة من كلام الله وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام قد جعل خير متاع الدنيا هي النساء، وسماها الله جل وعلا والنبي عليه الصلاة والسلام فتنة، فتنة الرجل في أهله وولده وماله.

وهذا يجعلنا نبين أن الفتنة إذا أرادها الله سبحانه وتعالى بعبد مكر له في أمر الشر، أو مكر له في أمر الخير، وأرداه سبحانه وتعالى، ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة بحقائق الشرع ملتمساً رضا الله جل وعلا، أن يكون أيضاً صادقاً مع الله سبحانه وتعالى في التماس الخير، بالتماس المعاني التي يريدها الله سبحانه وتعالى.

معنى الفتنة في لغة العرب

الفتنة في لغة العرب المراد بها الابتلاء والاختبار بجميع أنواعها، وهي الامتحان الذي يهز الإنسان سواءً كان خيراً أو شراً، طرب الإنسان له إن كان من أمور الخير أو ساءه، فأي تغير يطرأ على الإنسان يعقبه شيء من التغير فإن هذا من أنواع الفتنة التي حذر الله عز وجل منها؛ لهذا ينبغي أن نعلم أن الفتنة التي يفهمها العامة ويجعلونها في أبواب الشر، وكذلك الآلام والمصائب وغير ذلك، هذا من المعاني الخاطئة أو هو بتر لمعنى الفتنة التي أرادها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم.

معنى الفتنة في كلام الله وكلام رسوله

الله جل وعلا أطلق أمر الفتنة في كل ما غير حال الإنسان، أو جعله يضطرب وتتغير حاله على أي وجه كان حتى لو كان إلى الأمر الأخيَر، فإن الإنسان ربما يتغير حاله من فقر إلى غنى، فإن هذا من أمر الفتنة لينظر الله عز وجل في أمره، هل يشكر الله جل وعلا؟ أو أن الله جل وعلا جعل إصلاحه في الفقر، ثم أغناه ليفسد حتى يختبر الله جل وعلا أمره وحاله؟ هل يئوب الإنسان إلى الله جل وعلا؟

لهذا نقول: إن معنى الفتنة في كلام الله هو الابتلاء والاختبار على أي وجه كان، فإن فهم هذه الحقيقة تؤدي إلى فهم تعامل الإنسان معها، تعامل الإنسان مع الفتنة هو فرع عن تصور حقيقتها، وفهم أيضاً عن تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنواعها أصلاً وفرعاً، مع أنواعها فيما يتعلق بالأمة عامة، ومع أنواعها فيما يتعلق بالأفراد، لهذا ينبغي للإنسان أن يسبر كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الفتنة، وإذا قلنا: إن الفتنة في لغة العرب هي الامتحان والاختبار والابتلاء الذي ينزله الله جل وعلا بعبده على أي وجه كان، هذا يجرنا إلى أمر مهم وهو أن ما يذكره الله جل وعلا من معاني الفتنة واشتقاقاتها في كتابه العظيم، وكذلك في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المعاني التي يذكرها الله جل وعلا متداخلة، بينها شيء من العموم وشيء من الخصوص.

وإدراك مقاصد الله جل وعلا في كتابه العظيم في مراده في الفتنة، وكذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد الإنسان في التعامل معها، ولهذا نقول دائماً: إن الإنسان إذا أراد أن يحسن التعامل مع شيء فليعرف حقيقته، فإنه إن جهل حقيقته فإنه يسيء التعامل معها، وبقدر جهله لتلك الحقيقة يجهل الإنسان التعامل معه، ولهذا قيم الأشياء تتباين، سواءً كانت جواهر أو ذوات، أو كانت من المعاني مما لا جسم له ولا جرم، الإنسان إذا جهل القيمة لا يحسن أن يتعامل معها، ولهذا قد جاء في السنن، وكذلك أخرجه مسلم في المقدمة في حديث عائشة لما جاء رجل إلى عائشة عليها رضوان الله تعالى له هيئة فأجلسته وأعطته، فلما جاء رجل آخر، فأعطته كسرة، فقيل لها في ذلك، فقالت عائشة عليها رضوان الله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم.

هذا الإنزال ما كان ليكون من عائشة إلا وقد عرفت حقائق الناس، ولهذا ينبغي أن نعلم أن الحقائق التي تكون في الذوات يتفرع عنها أشياء كثيرة متعدية في ذات الحقيقة التي كانت في ذلك الشيء، أو ردود الفعل في تعامل الناس مع تلك الحقيقة، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مواضع الإطلاق في كلام الله جل وعلا، ومواضع التخصيص كذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الفتنة في كلام الله جل وعلا لا تخرج عن المعنى اللغوي، فكل شيء كما تقدم أحدث اختباراً وابتلاءً في الإنسان، وجعله يضطرب، وتتغير حاله ظاهراً وباطناً فهذا نوع من الفتنة، ولهذا يفتن الذهب بوضعه على النار حتى يصاغ، وكذلك أيضاً إذا صيغ بعد ذلك فإنه يفتن، وربما تغيره أيضاً من سائل إلى جماد يسمى فتنة؛ لأن هذا نوع من تغير الجوهر من حالة إلى حالة وصورة إلى أخرى.

الفتنة في لغة العرب المراد بها الابتلاء والاختبار بجميع أنواعها، وهي الامتحان الذي يهز الإنسان سواءً كان خيراً أو شراً، طرب الإنسان له إن كان من أمور الخير أو ساءه، فأي تغير يطرأ على الإنسان يعقبه شيء من التغير فإن هذا من أنواع الفتنة التي حذر الله عز وجل منها؛ لهذا ينبغي أن نعلم أن الفتنة التي يفهمها العامة ويجعلونها في أبواب الشر، وكذلك الآلام والمصائب وغير ذلك، هذا من المعاني الخاطئة أو هو بتر لمعنى الفتنة التي أرادها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم.

الله جل وعلا أطلق أمر الفتنة في كل ما غير حال الإنسان، أو جعله يضطرب وتتغير حاله على أي وجه كان حتى لو كان إلى الأمر الأخيَر، فإن الإنسان ربما يتغير حاله من فقر إلى غنى، فإن هذا من أمر الفتنة لينظر الله عز وجل في أمره، هل يشكر الله جل وعلا؟ أو أن الله جل وعلا جعل إصلاحه في الفقر، ثم أغناه ليفسد حتى يختبر الله جل وعلا أمره وحاله؟ هل يئوب الإنسان إلى الله جل وعلا؟

لهذا نقول: إن معنى الفتنة في كلام الله هو الابتلاء والاختبار على أي وجه كان، فإن فهم هذه الحقيقة تؤدي إلى فهم تعامل الإنسان معها، تعامل الإنسان مع الفتنة هو فرع عن تصور حقيقتها، وفهم أيضاً عن تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنواعها أصلاً وفرعاً، مع أنواعها فيما يتعلق بالأمة عامة، ومع أنواعها فيما يتعلق بالأفراد، لهذا ينبغي للإنسان أن يسبر كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الفتنة، وإذا قلنا: إن الفتنة في لغة العرب هي الامتحان والاختبار والابتلاء الذي ينزله الله جل وعلا بعبده على أي وجه كان، هذا يجرنا إلى أمر مهم وهو أن ما يذكره الله جل وعلا من معاني الفتنة واشتقاقاتها في كتابه العظيم، وكذلك في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المعاني التي يذكرها الله جل وعلا متداخلة، بينها شيء من العموم وشيء من الخصوص.

وإدراك مقاصد الله جل وعلا في كتابه العظيم في مراده في الفتنة، وكذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد الإنسان في التعامل معها، ولهذا نقول دائماً: إن الإنسان إذا أراد أن يحسن التعامل مع شيء فليعرف حقيقته، فإنه إن جهل حقيقته فإنه يسيء التعامل معها، وبقدر جهله لتلك الحقيقة يجهل الإنسان التعامل معه، ولهذا قيم الأشياء تتباين، سواءً كانت جواهر أو ذوات، أو كانت من المعاني مما لا جسم له ولا جرم، الإنسان إذا جهل القيمة لا يحسن أن يتعامل معها، ولهذا قد جاء في السنن، وكذلك أخرجه مسلم في المقدمة في حديث عائشة لما جاء رجل إلى عائشة عليها رضوان الله تعالى له هيئة فأجلسته وأعطته، فلما جاء رجل آخر، فأعطته كسرة، فقيل لها في ذلك، فقالت عائشة عليها رضوان الله: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم.

هذا الإنزال ما كان ليكون من عائشة إلا وقد عرفت حقائق الناس، ولهذا ينبغي أن نعلم أن الحقائق التي تكون في الذوات يتفرع عنها أشياء كثيرة متعدية في ذات الحقيقة التي كانت في ذلك الشيء، أو ردود الفعل في تعامل الناس مع تلك الحقيقة، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مواضع الإطلاق في كلام الله جل وعلا، ومواضع التخصيص كذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الفتنة في كلام الله جل وعلا لا تخرج عن المعنى اللغوي، فكل شيء كما تقدم أحدث اختباراً وابتلاءً في الإنسان، وجعله يضطرب، وتتغير حاله ظاهراً وباطناً فهذا نوع من الفتنة، ولهذا يفتن الذهب بوضعه على النار حتى يصاغ، وكذلك أيضاً إذا صيغ بعد ذلك فإنه يفتن، وربما تغيره أيضاً من سائل إلى جماد يسمى فتنة؛ لأن هذا نوع من تغير الجوهر من حالة إلى حالة وصورة إلى أخرى.

إن الله سبحانه وتعالى ذكر الفتنة في كتابه العظيم على مواضع متعددة أهمها:

فتنة الكفر

ما أطلقه الله جل وعلا وأراد به الكفر وهو أعظمها، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[البقرة:217]، المراد بالفتنة في كلام الله جل وعلا هنا هي أعظم أنواع الفتنة وهي الكفر بالله سبحانه وتعالى، وقد فسرها بذلك جماعة من المفسرين كما جاء عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومجاهد بن جبر، وغيرهم من أئمة التفسير، ولا خلاف عندهم في هذا المعنى، وإنما يقع الإشكال عند كثير من الناس بفهم مراد الله عز وجل بالفتنة، فيستشكلون كثيراً من الوقائع التي تحدث في الأزمنة فيقع خلط لديهم، هل هذا من الفتنة أو ليس من الفتنة، لماذا؟ لأنهم حملوا الفتنة على نوع من الأنواع، فوقع لديهم شيء من الخلط في التعامل معها.

كثير من الناس أو أكثر العامة يظنون أن الفتنة هي القتل أو الهرج، أو القيل والقال ونحو ذلك، وهذا نوع من فهم بعض وجوه الحقيقة، وجهل أيضاً لبعض وجوهها الأخرى، لهذا هذا الجهل قد يؤدي بالإنسان إلى شيء من المعاني الخاطئة، وقد أخرج البخاري في كتابه الصحيح من حديث سعيد بن جبير، قال: سأل رجل عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عن قتال الفتنة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل الناس على الكفر، وكان دخولهم في الكفر واتباعهم للكفار فتنة، ليس كقتالكم على الملك، ولهذا لما فهم ذلك السائل من عبد الله بن عمر في قول الله جل وعلا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] قال: كيف يكون القتال، والقتال هو الفتنة؟ فكيف نقاتلهم حتى لا تكون فتنة وقد وقعت الفتنة في ابتداء الأمر؟

فبين له عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أن مراد الله عز وجل بذلك هو الكفر، وأن دخولهم في ملة الكفار هو الفتنة بحقيقتها، لهذا قدم نوعاً من أنواع الفتنة على النوع الآخر، وجعل النوع الآخر لا يكون فتنة في مثل هذا الموضع، ولهذا نقول: إن الفتنة العظمى تلغي الفتنة الدنيا، وتجعلها في سبيل محو الفتنة العظمى أمراً محموداً، لهذا إذا فهم الإنسان مراد الله عز وجل بالفتنة ومواضعها في كلام الله جل وعلا أدرك الحقيقة.

أعظم أنواعها هو الكفر بالله سبحانه وتعالى، وذلك أن الإنسان إذا تغيرت حاله من إيمان إلى كفر، وكذلك تغير من فطرته التي فطره الله عز وجل عليها وقد وقع في الفتنة، الذي يكون في الكفر ابتداءً كيف يوصف بالفتنة، وهو قد ولد عليها ونشأ عليها؟! نقول: قد تغير من فطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، هذا التغير الذي طرأ على الإنسان عن فطرته هو فتنة وقع فيها الإنسان وابتلي فيها.

فتنة تغير المعاني والحقائق

النوع الثاني من أنواع الفتنة: هو تغير المعاني والحقائق، فإذا تغيرت المعاني والحقائق عن الإنسان على أي نحو كان حجمها، فإن هذا من الفتنة التي يقع فيها الإنسان، يدخل هذا في أبواب الأصول، ويدخل في هذا النوع الأول، ويدخل كذلك في أبواب الفروع بأنواعها، وذلك مما يقع فيه الناس في تغيير المصطلحات وقلب الحقائق وغير ذلك، وكذلك أيضاً إلباس الحق بالباطل الذي وقع فيه كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة بتسمية الخير بالشر، والشر بالخير، والحق بالباطل والباطل بالحق، والصواب بالخطأ والخطأ بالصواب، هذا نوع من التلبيس والفتنة الذي أمر الله عز وجل بتغييره، لهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم مبيناً ذلك النوع من الفتنة: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ [التوبة:48].

إذاً: تقليب الحقائق حينما يتكلم متكلم، أو يفتي مفت، أو يتحدث متحدث، أو يصنف مصنف ببيان بدعة وسماها سنة فإن هذا من أنواع الفتنة، كذلك أيضاً العكس؛ لأن هذا من تلبيس إبليس على الناس، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، كما روى الدارمي من حديث أبي وائل: كيف بكم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويعمل فيها بغير السنة، يعني: جعل أن الفتنة إذا لبسها الإنسان لباساً تاماً أي: لبس نوعاً من الدين ونوعاً من الحقائق يختلف عن الحقيقة التي وضعها الله عز وجل، فهذا تسربل بتلك الفتنة وفهمها على غير مرادها، لهذا الفتنة التي يقع فيها الإنسان بفهم الحقائق على غير وجهها، هذا من أعظم أنواع الفتنة وأعظمها هو إلباس الكفر بالإيمان، والإيمان بالكفر.

إذا أردنا أن ننظر إلى دعوة فرعون، فرعون يستعمل نفس المصطلحات التي يستعملها موسى، ولهذا يقول فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فسبيل الرشاد والطريقة وهو الصراط المستقيم هذا هو الذي يستعمله سائر الأنبياء.

إذاً: تلك العبارة هي نوع من الافتتان الذي أراد أن يبدل دين الناس على نحو لم يرده الله جل وعلا، كذلك أيضاً في طرائق المنافقين في تبديل مراد الله عز وجل بالمعاني والتماس معنى من كلام الله عز وجل لم يرده الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، هذه المتشابهات هي التي جرت الإنسان إلى الفتنة، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، لماذا؟ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].

إذاً: لبس الحق بالباطل، وقلب المعنى عن مراد الله، ولو كان أصل الدليل من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إحداث فتنة في الأمة ينبغي للأمة أن تكون على بينة وبصيرة منه، كذلك أيضاً ينبغي أن نعلم أن هذا النوع هو أعظم ما يتصدى له العلماء، ويأتي الكلام عليه في مسألة الموقف من هذه الفتن، وهي على مراتب متعددة منها ما يبتلى به العامي، ومنها ما يبتلى به أهل الإيمان الخلص، ومنها ما يبتلى به أهل العلم، ومنها ما يبتلى به العباد الصالحون، ولهذا هي على مراتب متنوعة، النجاة من سائر أنواع الفتن هي البصيرة بالعلم كتاباً وسنة.

إذا أردنا أن ننظر إلى ما استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام من أمر الفتنة وما أخبر به من تكاثر الفتنة في آخر الزمان نجد أن الله جل وعلا يربطها بنقص العلم وظهور الجهل، كذلك أيضاً في ظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة )، وجاء في رواية: ( إن من أشراط الساعة أن يقبض العلم ويكثر الهرج، ويفشو الزنا، ويظهر الجهل، وتكثر الفتن )، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن ظهور الفتن مرتبط مع قبض العلم، فإذا قبض العلم من جهة الحقيقة، أو قبض العلم من جهة البيان فإن الفتنة حينئذٍ تظهر في الناس بجميع أنواعها، فيبتلى الناس ويحدث تغير فيهم، يرتكبون البدعة ويظنون أنها سنة، ويرتكبون السنة ويظنون أنها من البدع، ويسمون أشياء على خلاف أسمائها، ولهذا نقول: إن المعنى العام للفتنة قد يتحقق في قلب المعاني، قلب المعاني من جهة الحقيقة والمعنى هي داخلة في سائر هذه الأنواع.

كذلك أيضاً ينبغي أن نعلم أن الفتنة في تغير الحقائق التي وضعها الله سبحانه وتعالى، كذلك الحقائق العقلية الفطرية إذا بدلت فقد فتن الناس فيها.

فتنة الابتلاء الذي يتعرض له الإنسان

من أنواع الفتنة وهو النوع الثالث: الابتلاء الذي يقع فيه الإنسان من المصائب وكذلك الشدائد التي تلحق الإنسان، فهذا من الابتلاء الذي سمي فتنة في كلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من الاستعاذة بالفتنة، والافتتان بها، ونحو ذلك، وهذا مواضعه كثيرة جداً، وهو أكثر ما يطرق بوصف الفتنة في كلام الله جل وعلا، لماذا كان هذا من أعم المعاني في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه يتلبس به سائر الناس، كذلك إذا تلبس به سائر الناس فإن أثره على سائر الناس ظاهر بين، فيبتلى الإنسان ويجعل فتنة الناس كعذاب الله، ومعنى فتنة الناس ما يقع للإنسان من ابتلاء، من عذاب، وكذلك أيضاً ربما تشريد أو سلب المال، أو الأمراض والأسقام والقتل، وغير ذلك، فيكون هذا له أثر على ذات الإنسان في دينه.

وأما جعل فتنة الناس كعذاب الله، أي: أنه قد جعل تلك الفتنة التي يبتلى بها في دينه كعذاب الله تصرفه عن الحق إلى الباطل، فالله جل وعلا إذا أراد أن يحذر عبداً حذره من عقابه سبحانه وتعالى، فينصرف عن عمل قصده إلى عمل آخر أراده الله جل وعلا ليسلم، فالذي ينفر من البلاء الذي ينزله به البشر، قد وقع في الفتنة؛ لأنه قد جعل فتنة الناس كعذاب الله، وهذا نوع من الافتتان الذي حذر الله عز وجل من الوقوع فيه.

فتنة الإنسان بالنعيم

والنوع الرابع في ذلك: هي فتنة الإنسان بالنعيم، وهي ما تسمى فتنة الإنسان في أهله وولده وماله، وهذا هو النعيم، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، الله سبحانه وتعالى ذكر بلاء الإنسان بالموت، وبين أن الإنسان يبتلى بقبض نفسه، أو يبتلى بقبض نفس غيره، وبلاؤه بقبض نفسه؛ لأن ذلك يفضي إلى فتنة القبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قد استعاذ كما جاء في الصحيح قال: ( اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن عذاب القبر، ومن فتنة النار، ومن عذاب النار )، فثمة فتنة يفضي إليها.

كذلك أيضاً في الاحتضار نوع من البلاء الذي ينزل على الإنسان، فربما أفضى به إلى شيء من القنوط، ولا يقنط من رحمة الله إلا من سلب الإيمان والعياذ بالله، لهذا نقول: إن ابتلاء الإنسان بشيء من الخير هذا أيضاً له وجه من الخطورة باعتبار أن الناس لا يدركون هذا، يظنون أن الفتنة هي سلب المال، سلب الولد، سلب الخير والرزق الذي يؤتاه الإنسان، بل إن المال قد يكون فتنة للإنسان، فينبغي له أن يحذر من ذلك، ولهذا قال الله جل وعلا مبيناً بعد أن بين أن قبض الأرواح ابتلاء من الله جل وعلا أنه ينبغي للسامع ألا يظن أن الفتنة من هذا النوع من البلاء، بل إن الله جل وعلا يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]، أي: أن الله سبحانه وتعالى ربما أعطى الإنسان شيئاً من أنواع الفتنة وهي على مراتب متعددة.

أعظم هذه المراتب ظهوراً: أن الخير إذا أعطاه الله جل وعلا الإنسان فصرفه ذلك الخير عن شيء من معاني الحق فإن هذا من الفتنة التي يقع فيها الإنسان، كأن يكون الإنسان مثلاً مصلياً صائماً قائماً، فرزق مالاً، أو رزق ذرية، فقلت عبادته وقلت دعوته، أو قل إيمانه، أو قلت صلاته، أو قل تسبيحه وذكره، فهذا نوع من الافتتان الذي يقع فيه الإنسان.

النبي عليه الصلاة والسلام قد مر به كما جاء في حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً على المنبر، فقدم الحسن والحسين يعثران وعليهما ثوبان أحمران يعثران بثوبيهما، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما عليه، فقال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] )، هذا المقدار من الفتنة ما الذي قصده النبي عليه الصلاة والسلام؟ قصده أن ثمة قدراً لا يدركه إلا من هو في مقام النبوة أو من ورثة الأنبياء، وهو الذي يدرك معنى دقيقاً يصرف الإنسان عن شيء فاضل إلى شيء مفضول، فالنبي عليه الصلاة والسلام نزل إلى الحسن والحسين وترك الخطبة، وهذا معنى دقيق لا يفوت خيراً فإن الصحابة ينتظرون، ولكن هذا المعنى الدقيق هو الذي أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنه قد ابتلي به وفتن عليه الصلاة والسلام، الله عز وجل قد يفتن نبياً من أنبيائه، ولهذا قال الله عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34].

والفتنة تقع على النبي كما تقع على غيره، ولكن مقدار الفتنة على النبي أمر دقيق يدركه النبي من جهة إدراك معناه، ومن جهة أثره عليه، ولو كان أمراً دقيقاً، مثل هذا الأمر لو وقع من آحاد الناس ولو من العباد لما أدرك معناه، ولكن النبي عله الصلاة والسلام لما كان الكمل من العباد يدركون أن فتنتهم في ذلك هو أن يصرف عن معنى فاضل، ولو لمعنى دقيق، أو لحظات يسيرة إلى شيء مفضول، ولو كان ذلك في ذاته له معنى من جهة الحقيقة.

بعض الناس وخاصة المتعلمين أو المثقفين ونحو ذلك، في أبواب الفاضل والمفضول يقعون في الفتنة ويتلبسون فيها كثيراً، وسبب الوقوع في الفتنة هو الجهل بين حقائق الأشياء، الأشياء بينها حقيقة إذا جهل الإنسان أحدها وقع في الفتنة؛ لأنه جهل المقدار الفارق بين الشيئين، والمقدار الفارق بين الحقيقتين يجعل الإنسان يقدم إحداهما على الأخرى ربما لحظ خارج عن تلك الحقيقتين، ويظن أنه نظر إلى الحق متجرداً، وهذا من المعاني التي ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة فيها.

العلماء يفتنون، الصالحون، طلاب العلم، مهما بلغ الإنسان من العلم ربما يفتن بشيء من أنواع الفتنة، وسبب ذلك أن الإنسان ينصرف أو يستجلب، أو ربما يستدعي الشيطان لديه النصوص من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضائل شيء بذاته بعيداً عن مقارنته بغيره، في أيهما أفضل زماناً ومكاناً وحقيقة، ثم يقدم غيره إذا فصله عن تركيبته تلك، فيقدم غيره فيقع في شيء من الافتتان لا يدركه الإنسان، وإذا نظر إلى ما قدم، ونظر إلى النصوص من الكتاب والسنة سلى نفسه أنه مشغول بشيء من الصالحات، أو مشغول بشيء من المعاني العظيمة الجليلة، وقد ورد فيها كذا وورد فيها كذا، هذا نوع من تلبيس إبليس على العلماء وعلى المثقفين، وعلى أهل المعرفة والعقل والدراية، لهذا نقول: إن أنواع الفتنة على مراتب متعددة، ولهذا الإنسان يبلى بالفتنة أياً كانت مرتبته.

يقول عبد الله بن مسعود كما روى ابن جرير الطبري من حديث القاسم قال عبد الله بن مسعود في قول الله جل وعلا: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] قال: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على الفتنة، ومراده بالاشتمال، أن هذه المعاني من الفتنة لا يدركها الإنسان من جهة حقيقتها يخلط في أبواب المفاضلة، ينظر بعين واحدة إلى جزئية معينة، أما من جهة ترك تلك لأجل تلك، ومقدارها في الشرع، مقدارها من جهة الزمن والحال، ومقتضى الكلام والقول أو العمل، فإن هذا من تلبيس إبليس ربما على كثير من الصالحين.

ابتلاء الله عز وجل لعبده بالخير والشر، هذا أمر معلوم ومشاهد، الحقيقة التي ينبغي أن تعلم في ابتداء الدخول في هذا النوع من أنواع الابتلاء، وهو ابتلاء الإنسان بالخير وبالنعمة، أن يعلم الإنسان أنه يبتلى بالخير كما يبتلى بالشر على السواء، ولما كان الناس ينظرون إلى النظرة المادية يظنون أن الابتلاء يكون بالسلب، لا يكون بالعطاء، يكون بسلب الله عز وجل الخير لا يكون بعطائه، وهذا هو نوع جهل بحقائق المعاني الشرعية من جهة الأصل، وكذلك بمراد الله سبحانه وتعالى بعباده، السنن الكونية في الأمم، فإن الله عز وجل يبتلي الأمم بالنعيم والإغداق عليهم، كما ابتلى الله عز وجل كثيراً من القرى بأن أغدق عليهم بالنعم، ورزقهم من الطيبات والثمرات بما يشتهون منها، وذلك لينظر هل يشكروا أم يكفروا، وابتلى الله عز وجل في ذلك سليمان، وابتلى في ذلك داود وابتلى في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ولهذا نقول: إن الإنسان قد يبتلى بالخير فلا يصبر ولا يستطيع الصبر، وقد يبتلى بالشر ويستطيع مع ذلك الصبر، ومن نظر إلى حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أنه يتقلل من الدنيا، ولا يتقلل عليه الصلاة والسلام كثيراً من التعرض للبلاء، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يهاجر ويذهب إلى دعوة القبائل، ويقاتل في سبيل الله، ويقود السرايا والجيوش ونحو ذلك، لماذا النبي عليه الصلاة والسلام تقلل من أمر الدنيا؟ لأن سلبها أمر عظيم وثقيل على الإنسان، وذلك أن البلاء الذي ينزل بالإنسان ربما في الغالب يكون بلاء في ذات الإنسان خاصاً به، ربما لا يعلم به أحد، ربما ينزل به مرض ويصبر عليه إلى أن يموت، أو ينزل به مثلاً نازلة يستطيع الإنسان أن يكتمها، ولكن بالنسبة للنعيم إذا رزق الله عز وجل عبده نعيماً ثم سلبه منه، فإن ذلك مدعاة إلى شماتة الناس، مدعاة إلى محاولة الإنسان للكذب أو التشبع بما لم يعط، أو مسايرة الناس حتى يعيدوا له حقه المسلوب ونحو ذلك، أو كذلك النهم الذي غرس في الإنسان من محبة الزيادة بالمال، ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو أعطي ابن آدم وادياً من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ).

لهذا نقول للإنسان: إنه إذا ابتلاه الله عز وجل بالخير فليعلم أن هذا الابتلاء يستوجب يقظة، وهذه اليقظة على أمور: منها أن يعرف حاله قبل تلك النعمة، وثباته على تلك الحال من عدم تغير في أمور العبادة، أمور الصلاة، أمور الصدقة، أمور الإحسان إلى الغير، النظر إلى الفقراء القلب من جهة النظر إلى الفقير المحتاج المعوز الضعيف، نصرة المظلوم، المشي مع صاحب الحاجة، يجد الإنسان في حال فقره وضعفه يجد في ذلك حباً للفقراء والمساكين، وحباً مثلاً لمعاشرتهم ونحو ذلك، وأما إذا أعطاه الله عز وجل خيراً يجد من ذلك بعداً ونفرة منه؛ لأنه قد ارتفع طبقة عنهم، وهذا من الابتلاء والفتنة التي يقع فيها الإنسان ليصرف الله عز وجل عبده إما إلى خير، وإما إلى شر.

ولهذا الإنسان الذي يؤمن بقضاء الله عز وجل وقدره، يؤمن بحكمة الله سبحانه وتعالى، يؤمن بمكر الله عز وجل أن الله عز وجل إذا قدر له في ذاته أراد به خيراً فعليه أن يستغل الخير لصالح نفسه، وأنه إذا سلبه خيراً أن الله عز وجل أراد به خيراً أيضاً.

قد جاء من حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى كما روى الحاكم وغيره، وجاء عند ابن عساكر أيضاً، قال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: إن الرجل ليحرص على الشيء من الإمارة والتجارة حتى يدنو منها ثم يأمر الله عز وجل ملكاً: أن ائت عبدي فلاناً فاصرفه عن ذلك الخير، فإني إن أيسره له يدخل النار فيصرفه الله عز وجل عنه فيتظنى العبد فيقول: غلبني فلان.. غلبني فلان.. غلبني فلان، وما هو إلا الله صرفه عنه.

لهذا الإنسان في أبواب الخير وأبواب الشر عليه أن يعلق أمره بالله سبحانه وتعالى من جهة وهب الخير، ومن جهة أيضاً سلب الخير، الضراء التي تلحق بالإنسان أن الله عز وجل أراد به خيراً.

اليوم يحدثني أحد الأطباء في معنى لطيف، ربطته بأمر الفتنة، وهو أن الإنسان قد يبتلى بمرض ويدفعه الله عز وجل عن شيء عظيم، وذلك أن أحد الأطباء يقول: وجد عندي مريض، وهذا المريض قد ابتلي بالسمنة المفرطة، وهذه السمنة أوشكت أن تؤثر على أمر القلب لديه، وأنه يوشك إذا زاد بضع كيلوجرامات من وزنه أن ذلك يودي بحياته، وهو لا يعلم بهذه الحال، فأصابه مرض هد من وزنه وأسقط، وقد حرص حرصاً شديداً على إنقاص الوزن فلم يستطع، أصيب بهم ومصائب في ماله وذهب شيء من ثرواته، وتأذى من ذلك أذية كثيرة نزل من وزنه شيء كثير، ثم عادت له عافيته، الله عز وجل يأخذ من عبده شيئاً، ويعطيه شيئاً، وكم من بلاء في الإنسان لا يدرك حقيقته، ينزل الله عز وجل عليه بلاءً آخر ليدفع عنه ضراء باطنة لا يدركها، فالله عز وجل يدرك من أمر عبده ما لا يدرك الإنسان من أمر ذاته، ولهذا الله عز وجل أمر الإنسان أن يبصر في نفسه، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].

الإنسان إذا كان يجهل ذاته فكيف يعلم غيره؟ ولكن الله عز وجل أراد بقوله: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] إشارة إلى حقيقة أنك تجهل ذاتك، وتجهل نفسك، فإذا جهلت ذاتك فإنك لغيرك من الأمور المنفكة عنك من باب أولى من أمر الجهالة، لهذا إذا نظر الإنسان إلى قضاء الله عز وجل وقدره، إذا نظر الإنسان إلى الخير أن الله عز وجل يبتليه به ابتلاءً لينظر حاله، أيشكر أم يكفر، فإن الإنسان يستطيع أن يتعامل مع الخير تعاملاً حسناً، ويوفق ويسدد في ذلك تسديداً عظيماً.

ما أطلقه الله جل وعلا وأراد به الكفر وهو أعظمها، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ[البقرة:217]، المراد بالفتنة في كلام الله جل وعلا هنا هي أعظم أنواع الفتنة وهي الكفر بالله سبحانه وتعالى، وقد فسرها بذلك جماعة من المفسرين كما جاء عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومجاهد بن جبر، وغيرهم من أئمة التفسير، ولا خلاف عندهم في هذا المعنى، وإنما يقع الإشكال عند كثير من الناس بفهم مراد الله عز وجل بالفتنة، فيستشكلون كثيراً من الوقائع التي تحدث في الأزمنة فيقع خلط لديهم، هل هذا من الفتنة أو ليس من الفتنة، لماذا؟ لأنهم حملوا الفتنة على نوع من الأنواع، فوقع لديهم شيء من الخلط في التعامل معها.

كثير من الناس أو أكثر العامة يظنون أن الفتنة هي القتل أو الهرج، أو القيل والقال ونحو ذلك، وهذا نوع من فهم بعض وجوه الحقيقة، وجهل أيضاً لبعض وجوهها الأخرى، لهذا هذا الجهل قد يؤدي بالإنسان إلى شيء من المعاني الخاطئة، وقد أخرج البخاري في كتابه الصحيح من حديث سعيد بن جبير، قال: سأل رجل عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى عن قتال الفتنة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل الناس على الكفر، وكان دخولهم في الكفر واتباعهم للكفار فتنة، ليس كقتالكم على الملك، ولهذا لما فهم ذلك السائل من عبد الله بن عمر في قول الله جل وعلا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193] قال: كيف يكون القتال، والقتال هو الفتنة؟ فكيف نقاتلهم حتى لا تكون فتنة وقد وقعت الفتنة في ابتداء الأمر؟

فبين له عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أن مراد الله عز وجل بذلك هو الكفر، وأن دخولهم في ملة الكفار هو الفتنة بحقيقتها، لهذا قدم نوعاً من أنواع الفتنة على النوع الآخر، وجعل النوع الآخر لا يكون فتنة في مثل هذا الموضع، ولهذا نقول: إن الفتنة العظمى تلغي الفتنة الدنيا، وتجعلها في سبيل محو الفتنة العظمى أمراً محموداً، لهذا إذا فهم الإنسان مراد الله عز وجل بالفتنة ومواضعها في كلام الله جل وعلا أدرك الحقيقة.

أعظم أنواعها هو الكفر بالله سبحانه وتعالى، وذلك أن الإنسان إذا تغيرت حاله من إيمان إلى كفر، وكذلك تغير من فطرته التي فطره الله عز وجل عليها وقد وقع في الفتنة، الذي يكون في الكفر ابتداءً كيف يوصف بالفتنة، وهو قد ولد عليها ونشأ عليها؟! نقول: قد تغير من فطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، هذا التغير الذي طرأ على الإنسان عن فطرته هو فتنة وقع فيها الإنسان وابتلي فيها.

النوع الثاني من أنواع الفتنة: هو تغير المعاني والحقائق، فإذا تغيرت المعاني والحقائق عن الإنسان على أي نحو كان حجمها، فإن هذا من الفتنة التي يقع فيها الإنسان، يدخل هذا في أبواب الأصول، ويدخل في هذا النوع الأول، ويدخل كذلك في أبواب الفروع بأنواعها، وذلك مما يقع فيه الناس في تغيير المصطلحات وقلب الحقائق وغير ذلك، وكذلك أيضاً إلباس الحق بالباطل الذي وقع فيه كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة بتسمية الخير بالشر، والشر بالخير، والحق بالباطل والباطل بالحق، والصواب بالخطأ والخطأ بالصواب، هذا نوع من التلبيس والفتنة الذي أمر الله عز وجل بتغييره، لهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم مبيناً ذلك النوع من الفتنة: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ [التوبة:48].

إذاً: تقليب الحقائق حينما يتكلم متكلم، أو يفتي مفت، أو يتحدث متحدث، أو يصنف مصنف ببيان بدعة وسماها سنة فإن هذا من أنواع الفتنة، كذلك أيضاً العكس؛ لأن هذا من تلبيس إبليس على الناس، ولهذا يقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى، كما روى الدارمي من حديث أبي وائل: كيف بكم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير، ويعمل فيها بغير السنة، يعني: جعل أن الفتنة إذا لبسها الإنسان لباساً تاماً أي: لبس نوعاً من الدين ونوعاً من الحقائق يختلف عن الحقيقة التي وضعها الله عز وجل، فهذا تسربل بتلك الفتنة وفهمها على غير مرادها، لهذا الفتنة التي يقع فيها الإنسان بفهم الحقائق على غير وجهها، هذا من أعظم أنواع الفتنة وأعظمها هو إلباس الكفر بالإيمان، والإيمان بالكفر.

إذا أردنا أن ننظر إلى دعوة فرعون، فرعون يستعمل نفس المصطلحات التي يستعملها موسى، ولهذا يقول فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فسبيل الرشاد والطريقة وهو الصراط المستقيم هذا هو الذي يستعمله سائر الأنبياء.

إذاً: تلك العبارة هي نوع من الافتتان الذي أراد أن يبدل دين الناس على نحو لم يرده الله جل وعلا، كذلك أيضاً في طرائق المنافقين في تبديل مراد الله عز وجل بالمعاني والتماس معنى من كلام الله عز وجل لم يرده الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول الله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، هذه المتشابهات هي التي جرت الإنسان إلى الفتنة، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7]، لماذا؟ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7].

إذاً: لبس الحق بالباطل، وقلب المعنى عن مراد الله، ولو كان أصل الدليل من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إحداث فتنة في الأمة ينبغي للأمة أن تكون على بينة وبصيرة منه، كذلك أيضاً ينبغي أن نعلم أن هذا النوع هو أعظم ما يتصدى له العلماء، ويأتي الكلام عليه في مسألة الموقف من هذه الفتن، وهي على مراتب متعددة منها ما يبتلى به العامي، ومنها ما يبتلى به أهل الإيمان الخلص، ومنها ما يبتلى به أهل العلم، ومنها ما يبتلى به العباد الصالحون، ولهذا هي على مراتب متنوعة، النجاة من سائر أنواع الفتن هي البصيرة بالعلم كتاباً وسنة.

إذا أردنا أن ننظر إلى ما استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام من أمر الفتنة وما أخبر به من تكاثر الفتنة في آخر الزمان نجد أن الله جل وعلا يربطها بنقص العلم وظهور الجهل، كذلك أيضاً في ظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة )، وجاء في رواية: ( إن من أشراط الساعة أن يقبض العلم ويكثر الهرج، ويفشو الزنا، ويظهر الجهل، وتكثر الفتن )، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن ظهور الفتن مرتبط مع قبض العلم، فإذا قبض العلم من جهة الحقيقة، أو قبض العلم من جهة البيان فإن الفتنة حينئذٍ تظهر في الناس بجميع أنواعها، فيبتلى الناس ويحدث تغير فيهم، يرتكبون البدعة ويظنون أنها سنة، ويرتكبون السنة ويظنون أنها من البدع، ويسمون أشياء على خلاف أسمائها، ولهذا نقول: إن المعنى العام للفتنة قد يتحقق في قلب المعاني، قلب المعاني من جهة الحقيقة والمعنى هي داخلة في سائر هذه الأنواع.

كذلك أيضاً ينبغي أن نعلم أن الفتنة في تغير الحقائق التي وضعها الله سبحانه وتعالى، كذلك الحقائق العقلية الفطرية إذا بدلت فقد فتن الناس فيها.