تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا في هذا المجلس -بإذن الله تعالى- نتكلم على شيء من المعاني والتدبر في سورة الإخلاص وسورتي المعوذتين، وهذه السور الثلاث هي من أفضل وأعظم ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكلام الله عز وجل كله فاضل وعظيم، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذه السور من الفضائل، وجعل الله جل وعلا فيها من الأثر وحسن العاقبة على الإنسان في عاجله وآجله ما خصه الله عز وجل بما لا يوجد إلا فيها، والله سبحانه وتعالى يفضل من قوله ما شاء على ما شاء ولمن شاء.

مكان نزول سورة الإخلاص وما تضمنته من معاني

وأول هذه السور هي سورة الإخلاص، وهي السورة التي تسمى بنسب الرحمن، وهذه السورة قد أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة على خلاف في ذلك، فقيل: إنها نزلت في مكة، كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وقيل: إنها نزلت في المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين قد رويا عن عبد الله بن عباس .

وهذه السورة تتضمن معاني التوحيد، وأصول معرفة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا، فيأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: الله أحد، فالله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وسبب نزول هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في غير ما خبر- أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فقالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

فضائل سورة الإخلاص

هذه السورة وما تضمنت من آيات، وما تضمنت من معان عظيمة قلما توجد مجتمعة في موضع واحد من مواضع القرآن، وقد جاء في فضائلها شيء كثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك: الحث على قراءتها في بعض ركعات من أنواع الصلوات، ويكفي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في أفضل النوافل وهي صلاة الوتر، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً وعن غير واحد من الصحابة قراءتها في غير هذا، وكذلك أيضاً فإن سور القرآن إنما تتفاضل بجملة من الوجوه، منها: بالأجور المترتبة التي يجعلها الله عز وجل في السورة، ومنها: المعاني التي تتضمنها السورة، ومن وجوه التفضيل أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يجعل لهذه السورة أثراً في بعض الأحوال التي يعرض لبني آدم، وذلك كشفاء الأمراض والأسقام، فقد جاء في سورة الإخلاص والمعوذتين ما لم يأت في غيرهما، وهذه مجتمعة في سورة الإخلاص.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر كحديث أبي الدرداء ، وجاء أيضاً من حديث أبي سعيد وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )، والمراد بذلك: في الجزاء لا في الإجزاء، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان في فضلها أي: كأنما قرأ ثلث القرآن من جهتين: الجهة الأولى الأجر والثواب، الجهة الثانية من جهة المعاني المتحققة؛ فإن القرآن على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد وعقائد.

والقسم الثاني: أحكام أي: حلال وحرام.

والثالث: هو القصص.

وهذه السورة قد جمعت النوع الأول وهو ثلث القرآن، فقد جمع الله عز وجل فيها أمر العقائد، وما يكون حقاً لله سبحانه وتعالى على عباده؛ فإن الإنسان لا يعرف ربه إلا بمعرفة صفاته، والله جل وعلا قد عرف نفسه سبحانه وتعالى لعباده بهذه السورة؛ ولهذا من قرأ سورة الإخلاص، فكأنما قرأ ثلث القرآن من جهة الأجر، إلا أن قراءة هذه السورة لا تجزئه عن قراءة القرآن، فليس له أن يقرأ السورة ثلاث مرات، ثم يظن أنه قرأ القرآن كله وسقط عنه التكليف بالقراءة بذلك، فهذا ليس هو المقصود في كلام الله عز وجل، وإنما المقصود في ذلك من جهة الثواب، وهذا الفضل توفيق من الله عز وجل ورحمة، ولطف وتيسير وعون للإنسان أن يتحقق له من الأجر مثل هذا المقدار.

وكذلك أيضاً من فضائل هذه السورة أن هذه السورة لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة من السور مشروعية تكرار هذه السورة في صلاة أو في الصلوات كما جاء في سورة الإخلاص، وقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يصلي بقومه فكلما قرأ فيهم ختم قراءته بسورة الإخلاص، يعني: في كل ركعة يقرأ سورة بعد الفاتحة، ثم يتبعها بسورة الإخلاص، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأله عن ذلك، فقال: إني أحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوه أن الله يحبه لحبه لها.

وكذلك أيضاً قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضائلها: أنها رقية، وكذلك أيضاً في قراءتها ضمن أذكار الصباح والمساء وتكرار ذلك ثلاثاً، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لغير واحد من أصحابه بتلاوتها كما جاء ذلك عن عقبة بن عامر عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بيده فقال: ( لا تدعهن في صباح ولا في مساء ) يعني: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فكان عقبة بن عامر عليه رضوان الله لا يدعهن في صباح ولا في مساء، وهذه الخصائص المجتمعة في هذه السورة، وفي سورة المعوذتين لا تكاد توجد مجتمعة في غيرها من سور القرآن ولا من آيه، مما يدل على مزيد اهتمام فيها، وعظم أثر لها على نفس الإنسان ومن حوله، إضافة إلى ما تضمنته هذه السورة من معانٍ جليلة في معرفة الله سبحانه وتعالى.

وقفات مع سبب نزول سورة الإخلاص

وتعريف الله عز وجل عند عباده سبحانه وتعالى بأمثال هذا التعريف الجليل، والمشتهر في سبب نزول هذه السورة أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيبهم بشيء إلا بشيء قد سمعه من ربه، وإذا لم يكن لديه شيء من الوحي انتظر حتى يأتيه الوحي، ثم أبلغهم بذلك، فسألوا رسول الله عن ربه؛ لأنهم يظنون أن الذين يدعون الربوبية كثر، فربما كان لك رب يختلف عن ربنا، فقالوا: انسب لنا ربك، يعني: إلى أي شيء يبتدئ وينتهي، فأنزل الله عز وجل عليه قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]، وهذا تعريف من الله سبحانه وتعالى.

وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن كفار قريش قاسوا حقيقة الله سبحانه وتعالى على حقيقة آلهتهم؛ فإن آلهتهم لها نسب تنتسب إليه، يعني: ترجع إليه، والله سبحانه وتعالى ترجع إليه جميع المخلوقات، فهو الذي ابتدأها وفطرها وأنشأها، وأما الله سبحانه وتعالى فهو الأول، فليس قبله شيء، وهو الآخر وليس بعده شيء، والله سبحانه وتعالى اختلف عن آلهتهم، فسبق إلى ذهنهم التشبيه في ذلك، فسألوا رسول الله عن نسب ربه، فقالوا: انسب لنا ربك، فهذه السورة يسميها غير واحد من المفسرين بنسب الرحمن تجوزاً، أي: أن الله عز وجل هو الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرجع إلى شيء إلا إلى ذاته، وكل شيء يرجع إليه؛ ولهذا قال: هو الله أحد يعني: الله سبحانه وتعالى واحد وفرد لا يرجع إلى شيء ويرجع إليه كل شيء.

وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان بطبيعته من جهة تفكيره أنه يضل في أبواب القياس في حق الله سبحانه وتعالى سواء كان ذلك في أمور الأسماء والصفات، أو معرفة حقيقة الله جل وعلا، فسبق إلى آذان كفار قريش التشبيه، وذلك أنهم ينحتون آلهتهم بأيديهم بحجارة، فهم يعرفون أصلها، سواءً كانت من خشب من أثل أو كانت من حجارة من أي جبل، أو كانت من تراب قد يبس وجفف من أي سهلٍ أو وعل أتوا به، فهم يعلمون أصل آلهتهم ومنشئها، ويريدون من ذلك أن يعرفوا حقيقة الله سبحانه وتعالى التي يظنون أن لها أصلاً كآلهتهم، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما يظنون؛ ولهذا نقول: إنما تظل البشرية بالتشبيه والقياس الفاسد، وأول ما عصي الله عز وجل بسبب القياس الفاسد وذلك بضلال إبليس، ضلال إبليس أول ضلال عرف، وإنما عصي الله عز وجل سبحانه بسبب هذا، وذلك أنه قاس نفسه على آدم، وأصل خلقته فإنه خلق من نار، ومعلوم أن النار ترتفع وتسمو بخلاف التراب الذي خلق منه آدم؛ فإنه يبقى ولا يتحرك، وهو إلى سفول وضعف بخلاف النار، فرأى في نفسه أنه أعظم منه، ولزم من ذلك أن يكون أهلاً لأن يسجد له لا أن يسجد لغيره، فكان ذلك القياس بإرجاع إبليس لأصله، وإرجاع آدم لأصله تفرع عن ذلك استحقاق صاحب الأصل الأشرف على غيره.

فعصى الله سبحانه وتعالى ولم يرجع الأمر إلى الامتثال والانقياد لله سبحانه وتعالى، فكان ذلك موجباً للسخط عليه والغضب وطرده ولعنه كذلك، ومن هذا بدأ الصراع بين إبليس وآدم وذريته ومن آمن أيضاً من ذرية الشياطين؛ ولهذا نقول: إن أصل الضلال في البشرية إنما هو بالقياس الفاسد؛ ولهذا يقول العلماء: إنه لا قياس مع النص في حال ورود نص؛ فإنه ليس للإنسان أن يعمل القياس، فربما وصل إلى شيء من المعاني الفاسدة التي تعارض الدليل، وهذا يظهر عند كثير من البدع في أبواب الأسماء والصفات؛ فإنهم ربما ضلوا في صفة من الصفات، أو في شيء من أسماء الله سبحانه وتعالى بسبب قياس انقدح في أذهانهم.

والإنسان كل المعلومات التي لديه إنما هي أقيسة على مشاهدات، أو على مسموعات، يقيس ما يسمع على ما يرى، أو ما يخبر به على ما شاهده وعاينه، ثم يظن أن الغائب عنه كذلك؛ ولهذا الإنسان إنما هو انعكاس لما يشاهد، فالله جل وعلا قد أوجده خالي الذهن كحال الإناء الخالي الذي يستقبل ولا يدري ماذا يستقبل أي: يستقبل ماءً أو يستقبل لبناً، أو يستقبل تراباً، أو غير ذلك مما يوضع فيه، ولا يدري ما يوضع فيه حتى يوضع فيه فيدرك بعد ذلك العقل ماذا وضع فيه؛ ولهذا الأقيسة في ذلك تطرأ على الإنسان بمقدار ما طرأ عليه من معلومات، ثم بعد ذلك يقوى لديه القياس، أو يضعف على قدر المعروضات على ذهن الإنسان.

ولهذا الله سبحانه وتعالى لا مثيل حتى يقاس عليه؛ ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، يعني: ضرب الأمثلة لا يأتي على الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا نقول: إن أكثر الضلال إنما هو بضرب الأمثلة على الغيبيات؛ لهذا نقول: إن قياس الله جل وعلا على غيره، أو قياس غيره عليه، هذا من المعاني الخاطئة، لماذا؟ لأن من أركان القياس هو معرفة الفرع ومعرفة الأصل، والإنسان لم ير ربه جل وعلا فكيف يقيس غير الله جل وعلا على الله، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ثم أيضاً في هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا بلغه شيء من أسماء الله عز وجل وصفاته أن يعلم أن كل ما يخطر في باله ويرتسم في ذهنه من وصف أو هيئة لتلك الصفة فإن الله عز وجل على غيرها لماذا؟ لأن الإنسان يقيس الغائب على المشاهد، فيظن أن الله عز وجل كذلك؛ ولهذا يقال: إن الإنسان كلما ظن أن الله كذلك فالله سبحانه وتعالى غير ذلك، وهذا بطبيعة الإنسان، والناس يختلفون في قدر المشاهدات والمعاينات، منهم من عاين سورة معينة فإذا تحدث عن سورة تذكر السورة فقاس عليها؛ ولهذا الذين في القرن الماضي إذا حدثوا عن صورة رجل أن رجلا ًقدم إليهم تخيلوا رجلاً على ناقة أو نحو ذلك، في زماننا يتخيلون الرجل جاء على مركب أو على لباس حديث، وقبل قرنين يختلف، وقبل ذلك يختلف، والبلدان أيضاً تختلف، وهذا بحسب ما لدى الإنسان من ارتسام.

كذلك أيضاً الإنسان الذي في بلد طوال، وإذا حدث عن رجل تخيل أن الرجل على لون معين، البلد الذين فيهم سود أو بيض أو حمر أو غير ذلك من ألوان الناس إذا حدث أن رجلاً جاء ونحو ذلك تخيل على هيئته ومن حوله أن هذا الرجل جاء كذلك، والرجل كذلك أيضاً الذي في بلد تختلف أشكال الناس وأجناسهم فيه، تخيل أن الرجل على الأجناس التي يشاهد؛ ولهذا الإنسان إنما هو يقيس على ما شاهده؛ ولهذا إذا حدثت رجلاً غربياً أو رجلاً شرقياً عن أنك دخلت على رجلين وهما جالسان ويتحدثان أو يأكلان، ارتسم في ذهنه في طريقة الجلوس الموجودة عنده، فيفهم المشرقي على خلاف المغربي، وتجد المغربي يتصور ذلك أنهم على طاولة وعلى كرسي، وتجد أن في بلد آخر يفكر أنهما على الأرض ارتسم في ذهنه الأرض، وإذا قلت: يا فلان! ارتسم في ذهن شخص اعتاد على الأكل بالملعقة على أنهما يأكلان بالملعقة، وإذا ارتسم في ذهن الإنسان في عادته أنهما يأكلان باليد يأكل باليد، وربما ارتسم في ذهنه أيضاً نوع الوجبة التي كان يأكلها وقومه، وهكذا بحسب المشاهد لديه؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى نهى عن ضرب الأمثلة على الله سبحانه وتعالى؛ وذلك لعدم وجود مثال؛ ولهذا الله جل وعلا يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].

وأصل ضلال أهل البدع في أبواب الأسماء والصفات هو في هذا الباب، فشبهوا الله جل وعلا بغيره، فلما جاءهم أن الله عز وجل على العرش استوى، منهم من شبه الله عز وجل بغيره سبحانه وتعالى، وفسروا الاستواء بالجلوس أو القعود: قعود الإنسان على عرشه، أو قعود الملك على عرشه، هذا ضرب من التشبيه أو ليس بضرب من التشبيه؟ ضرب من التشبيه، ما الذي حملهم؟ حملهم على ذلك المشاهدة التي رأوها، واستواء عروش الناس على عروشهم أو الملوك على عروشهم يختلف أيضاً من بلد إلى بلد في هيئة الاستواء وكذلك أنواع العروش وغير ذلك، فهي مختلفة في الأمور المشاهدة فكيف في أمر غيبي لم يشاهده الإنسان وليس كمثله شيء وهو السميع البصير سبحانه وتعالى.

ومن الناس ما إن ارتسم في ذهنه معنى قبيح، فدفعه ذلك إلى نفي تلك الصفة؛ تنزيهاً لله جل وعلا، فلما ارتسم المعنى القبيح أراد أن ينزه الله جل وعلا عن ذلك، مثل الاستواء، فبعض الطوائف يعطل هذا وينفي الاستواء؛ لماذا؟ لأنه يرى أن الإنسان أو الملك إذا استوى على عرش أنه محتاج إلى عرشه، فإذا زال العرش سقط الإنسان عن عرشه، قالوا: وفي هذا أنا لو قلنا بالاستواء على هذه الصفة أن الله عز وجل محتاج إلى عرشه، ومنهم من يقول: إن العرش أكبر من الجالس عليه، وعلى هذا فالعرش أكبر من الله سبحانه وتعالى تعالى الله عز وجل عن ذلك، ودفعهم إلى ذلك إلى نفي هذا وتعطيله.

إذاً: سبق إلى ذهنهم شيء من التشبيه والتمثيل قبل التعطيل؛ ولهذا يقول العلماء: إن كل معطل مشبه، أي: سبق إلى ذهنه شيء من التشبيه فنفر منه؛ ولهذا نقول: إن التشبيه كله باطل، وعليك أن تثبت أن الله عز وجل له من الأسماء والصفات ما ذكره الله جل وعلا في كتابه، أما كيف وعلى أي صفة؟ فالإنسان لا يعرف عن ذلك شيئاً، وليس له مثال فيمر الأدلة الواردة في ذلك كما جاءت، يثبت حقيقتها وأن لها معنى، والمعنى ما عرفنا الله عز وجل عليه مما نعلم من معانيه، وما لم نعلمه نكله إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان إذا أراد أن يمثل لا بد له من فرع أو أصل، والله جل وعلا واحد سبحانه وتعالى ليس ثمة فرع دون.. وليس ثمة أصل فوقه، وهو الأول سبحانه وتعالى وليس قبله شيء، وهو الآخر وليس بعده شيء؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى معرفاً بنفسه لعباده، آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله جل وعلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

والله سبحانه وتعالى على ما تقدم معنا في تفسير سورة الفاتحة في اشتقاق كلمة الله سبحانه وتعالى من أي وجه مشتقة، وذكرنا كلام غير واحد من العلماء في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)

وفي قوله جل وعلا: أَحَدٌ [الإخلاص:1] قيل: إن (أحد) بمعنى الواحد، وقيل: إن (أحد) تختلف عن الواحد، وهما قولان للعلماء، منهم من قال: إن الواحد هو المتفرد بالذات، والأحد هو المتفرد بالصفات والمعاني، ومن العلماء من يحمل كلا اللفظين على معنى واحد، وهو الأظهر.

تفسير قوله تعالى: (الله الصمد)

قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]، والصمد قد اختلف أيضاً في معناها، جاء عن عبد الله بن عباس فيما رواه علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس قال: هو السيد الكامل في سؤدده، وجاء أيضاً عن غير واحد من السلف كـمجاهد بن جبر وغيره أن الصمد هو الذي لا جوف له، يعني: أنه لا يأكل ولا يشرب، هذا في لغة العرب يصفون ذلك فيما يعلمون مما يكون مثلاً من المحسوسات أو غير ذلك التي لا تكون بحاجة إلى طعام وشراب، والله جل وعلا سمى نفسه بالصمد أي: أنه لا يحتاج إلى شيء، ويحتاجه كل شيء سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2]، أي: أن الله سبحانه وتعالى السيد الكامل في سؤدده الذي لا يحتاج إلى أكل وشراب ليبقى، ولا يحتاج لشيء من مخلوقاته سبحانه وتعالى لينتفع ولا ليدفع الضر، وكل شيء محتاج إليه في هذا الباب.

تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)

قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، ومعلوم أيضاً أن من وجوه الضلال على ما تقدم: ما يطرأ على الناس من أقيسة؛ ولهذا كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: انسب لنا ربك يعني: إلى أين يرجع؟ فالله سبحانه وتعالى قد بيّن غاية البيان على سبيل الإيجاز والاختصار، نسبه سبحانه وتعالى أنه واحد جل وعلا، لا يرجع الله جل وعلا إلى شيء، ويرجع إليه كل شيء، لم يلد ولم يولد، لم يكن له سبحانه وتعالى أب، ولم يكن له سبحانه وتعالى ابن، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، وهذا فيه دفع للتوهم الذي يطرأ على ذهن الناس، أو الوهم الذي طرأ على ذهن كفار قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يجهل حقيقة ربه فأرادوا اختباره، وإما أن يعرفوا حقيقة الرب الذي يدعو إليه، ومنهم من يسأل ذلك السؤال تعنتاً فأجابهم الله سبحانه وتعالى مخبراً نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، أي: أن الله عز وجل لا ينتسب إلى أحد.

فصفات الله جل وعلا هي ذاته سبحانه وتعالى؛ فإن الذات هي مجموعة صفات، وهذه الصفات هي الذات.

طرق معرفة الله تعالى

ولهذا نقول: إن الله عز وجل يعرف سبحانه وتعالى بمعرفة ذاته، وبمعرفة صفاته؛ ولهذا نقول: إن الإنسان يعرف الله عز وجل بشيئين:

الشيء الأول: رؤية الله سبحانه وتعالى، فإذا رأيت الله جل وعلا أو رأيت غيره عرفته، لرؤيتك له، والله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا، ويرى في الآخرة، فمن رآه عرفه سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً من رأى الشيء عرفه، واستطاع أن يصف ما رأى.

الثاني: هو بمعرفة صفاته ولو لم يره، وذلك أن يعرف صفات الله سبحانه وتعالى بالسمع والبصر وكذلك أيضاً باليد وكذلك أيضاً الرجل في القدم، وكذلك أيضاً في الساق، وغير ذلك من صفات الله سبحانه وتعالى القائمة في ذاته، وكذلك أيضا ًفي قدرة الله عز وجل ورحمته ولطفه، وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى، فنقول: إن هذه صفات الله سبحانه وتعالى فيعرف الإنسان بالصفات الذات، ونضيف شيئاً ثالثاً في هذا، وهو أن يعرف الآثار؛ ليعرف الصفات والذات؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أمر عباده بأن ينظروا فيما خلق الله عز وجل ليعرفوا صفات الله سبحانه وتعالى من القوة والقدرة والقهر والجبروت، والكبرياء والعزة وغير ذلك مما هو لله سبحانه وتعالى لا يشاركه في غيره.

لهذا يأمر الله عز وجل عباده بالتفكر كثيراً، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا [آل عمران:191]، فيتفكرون في خلق السماوات وما فيها من أبراج وكواكب ونجوم وسحب، ويتفكرون أيضاً في الأرض وما جعل الله عز وجل فيها من سهول وأودية وبحار وأنهار وجبال، وتراب وشجر وحجر، وغير ذلك مما جعله الله عز وجل فيها، وما جعل الله عز وجل عليها من مخلوقات من دواب تدب مما يمشي على رجلين، ومن يمشي على أربع، ومن يمشي على أكثر من ذلك، ومنها من يزحف، وغير ذلك من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.

وأمر الله عز وجل أيضاً الإنسان أن ينظر في نفسه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وهذه يتعرف بها الإنسان على ماذا؟ على الله سبحانه وتعالى، ولو لم يره أو لم يعرفه بصفاته؛ ولهذا تقول العرب: الأثر يدل على المسير، وقد جاء عن بعض الملاحدة أنه جاء إلى بعض الأئمة فقال له: بماذا تعرف خالقك أو تثبت خالقك؟ فقال: ائذن لي بالتفكر، أو أني مشغول بسفينة في البحر فيها تجارة متوجهة إليّ وأخشى عليها الضياع، وأنتظر قدومها؛ فإنها لا ربان لها، قالوا: كيف لا ربان لها وتنتظر قدومها؟! قال: ويحكم! سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحر ذو أمواج، من يستطيع ذلك إلا اللطيف الخبير، يعني: إذا أنتم استكثرتم على سفينة أن تأتي فمن يسير هذه الأفلاك هذا المسير، على هذه الدقة المتناهية من أول الخليقة إلى يومنا؟ ولهذا نقل أهل الأدب أن أعرابياً سئل كيف عرفت أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وأن الله عز وجل موجود؟ فقال لهم: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ بلى يدل ذلك على اللطيف الخبير.

فالإنسان في ذاته إذا رأى أثراً ألا يعلم أن رجلاً مر من هنا، ألا يميز بالأثر يقول: هذا أثر صبي صغير، وهذا أثر كبير، وهذا أثر دابة، ويعرف ويميز الدابة، هذا خف الناقة وهذا حافر، وهذا أثر طير وغير ذلك، ألا يميز هذا أو لا يميزه؟ يميزه، وإذا أراد إنسان أن ينازعه إياه وقال: هذا ليس أثر البعير، وإنما هو أثر طائر، هل يستطيع أن يخالفه؟ هل يستطيع الإنسان أن يحلف على أن هذا أثر بعير أو أثر طائر؟ يميز أو لا يميز؟ يميز، وإذا خالفه أحد هل يحلف؟ لا يحلف.

يحتاج إلى تمييز أو لا يحتاج؟ العاقل لا يحتاج، وأما المجنون فيحتاج إلى دليل لإثبات نفسه فضلاً عن إثبات غيره؛ ولهذا نقول: إن الإنسان ولو لم يشاهد العين يستطيع أن يثبتها ولو لم يرها، لماذا؟ لآثارها؛ ولهذا نقول: إن الله عز وجل قد عرف نفسه لعباده بأنواع من أمور المعرفة التي يستدلون بها على معرفة صفات الله جل وعلا سبحانه؛ ولهذا الله جل وعلا عرف نفسه لعباده بوحيه، وما ذكره الله جل وعلا في ذلك فأرشد العباد إلى شيء من الأدلة إليه، وأرشد الله سبحانه وتعالى إلى شيء أيضاً من المعاني التي ربما لا يستدل الإنسان إليها بشيء من المشاهدات إلا بمشقة، فإن لله عز وجل من الأسماء والصفات ما لا يستطيع الإنسان الوقوف عليه إلا بالسمع وهو النص المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك عن ربه جل وعلا كتاباً وسنة.

إرجاع كيفية صفات الله إلى الله

ولهذا نقول: إن الإنسان في أمور الله سبحانه وتعالى يكلها إلى السمع، وألا يتجوز في ذلك، فلا يثبت لله عز وجل ما لم يثبته سبحانه وتعالى لنفسه جل وعلا، وهذه يهتدي بها الإنسان من أمور الأرض ودلالتها والسماء والأبراج على قدرة الله عز وجل وبديع صنعه، وما عدا ذلك مما لا يستدل الإنسان به من أمور الكون، فهو يردها إلى الله سبحانه وتعالى، فثمة أمور من دقائق الصفات لا يستطيع الإنسان أن يستنبطها مجردة من دلالات الكون، فلا يستطيع الإنسان مثلاً أن يثبت أن لله عز وجل أصابع من غير دليل، لكن ثبت الدليل على أن له أصابع سبحانه وتعالى، وهذه تليق بالله سبحانه وتعالى نثبت لها حقيقة، ولا نكيفها، ولا نشبهها، ولا نمثلها بشيء من مخلوقات الله عز وجل؛ لأنه ليس له مثال، وليس للإنسان أن يقول: إنه لا بد من دلالة في الكون تثبت أمثال هذه الصفات، نقول: هذه مردها السمع، فالإنسان يستدل من دلالات الكون وظواهره على قدرة الله عز وجل وقوته وعزته وجبروته وبطشه، وغير ذلك من الدلالات كغناه سبحانه وتعالى وهيمنته جل في علاه على هذه المخلوقات وحسن تدبيرها، ولطف الله جل وعلا بعباده وغضبه في إنزال العقوبات، ورحمته بعباده أنه يخرج الناس وكذلك أيضاً الإحياء والإماتة وغير ذلك.

فنقول: إن من الصفات ما يستطيع الإنسان الوقوف عليها من أمور الكون، ومنها ما لا يستطيع الإنسان الوقوف عليها إلا بالنص المسموع من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ابتداء الأشياء وانتهاء مردها إلى الله تعالى

في قول الله جل وعلا: اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:2-3]، الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في هذه الدنيا، وجعل له ابتداء وانتهاء، ومعلوم أن الإنسان إذا عاش على صورة معينة تخيل أن غيره كذلك، باعتبار أن الإنسان يبتدئ بولادة وينتهي بموت، ويظن أن غيره كذلك، كذلك أيضا ًعجلة الزمن تبتدئ وتنتهي، ويظن أن كل موجود له عجلة زمن، الله عز وجل خلق الإنسان وخلق عجلة الزمن، ووضع الإنسان في عجلة الزمن وأداره، فظن الإنسان الذي يعيش في ذلك أن كل موجود له دائرة زمن؛ ولهذا الإنسان يعجز عن تصور وجود شيء بلا زمن، فالإنسان إذا غلب على ذهنه تصور معين ظن أن كل شيء خارج عنه كذلك، حتى يجد مثالاً خارقاً في هذا؛ ولهذا الإنسان في الكون إذا كان لديه شيء ثم وضعه يسقط إلى أسفل أو إلى أعلى؟ يسقط إلى أسفل، أما أعلى فلا يسمى سقوطاً، بل يسمى ارتفاعاً، أليس كذلك؟ كذلك، لكن هل يخطر في بال الإنسان أنه إذا وضع شيء يمكن لا يسقط، لا يتخيل وجود هذا حتى يكتشفه، فيظن كل شيء كذلك، فإذا خرج عن هذه الدائرة وجد أنه يوجد من الأجرام من إذا وضعه لا يسقط إلى أسفل وإنما يمضي أليس كذلك؟ نعم، ولهذا هذه الدائرة التي وضع فيها لا يستطيع أن يتصور شيئاً خارجاً عنه؛ ولهذا الإنسان لا يمكن أن يضرب مثالاً إلا وهو موجود؛ ولهذا لا يستطيع أحد منكم أن يرسم شكلاً لم يره، لو أعطي أحدكم قلماً وورقة وأقول: ارسم شكلاً لم تره هل يستطيع؟ لا يستطيع، حتى لو قام بالإدارة ونحو ذلك، هو إما رآها في رسم سحاب وإما رآها في شيء من مخلوقات الله من غصن شجر أو في أرض من سف الرياح أو غير ذلك، لا يمكن أن يرسم شيئاً على الإطلاق، حتى التخيلات التي يراها الإنسان من شكل الأشياء مثلاً يقول: هذه صورة الجن أو صورة إبليس أو نحو ذلك، هذه أين رآها؟ إن لم يرها في اليقظة رآها في المنام، هو انعكاسات بين يقظة ومنام، لا يمكن أن يأتي بشيء جديد، هذه الأشكال الموجودة في ذهن الإنسان المشاهدة في يقظة أو في منام، هذه أمثلة، الإنسان يقوم باستخراجه؛ ولهذا نقول: إن الإنسان حتى في صناعاته لا يمكن أن يأتي بشيء إلا وهو موجود في الكون، رآه ثم قام بصناعة شيء على مثاله، والصناعة لدى الإنسان تختلف: منها ما يجمع جزئين، ومنها ما يجمع ثلاثة، ومنها ما يجمع عشرة، إذاً هو يركب بين متفرقات ويظن أنه أبدع.

ولهذا المعلومات والمعارف التي لدى الإنسان، وهل هي إيجاد من عدم، أم تركيب متفرق؟ تركيب متفرق، ويبدع الإنسان في ذلك بقدر التركيبات في هذا.

من الناس من يجمع معلومتين ويخرج بمعلومة، ومنهم من يجمع خمسين معلومة، ويكون لديه نتيجة أخرى؛ ولهذا أكثر الناس معلومات أكثرهم إنتاجاً، فجمع المعلومات هو شبيه بجمع المادة المحسوسة، وليس للإنسان شيء من المعرفة أكثر مما هو موجود أوجده الله سبحانه وتعالى منه يقيس ومنه ينتج؛ ولهذا الإنسان إنما يأتي إلى شيء من الموجودات ويقوم بخلقها، سواء كان من المعارف أو كان من المواد؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن هذه الدائرة التي يوجد فيها الإنسان أن الله سبحانه وتعالى ليس له مثيل سبحانه وتعالى فيها، ولا في غيرها؛ ولهذا الله عز وجل يقول في كتابه العظيم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، يعني: الله عز وجل سميع وبصير، لكن أعلم أنه ليس كمثله شيء؛ ولهذا نقول: ينبغي للإنسان في حال الإثبات أن يثبت أمر الصفة لله عز وجل ولا يشبه، ولا يكيف، ويتوقف، ولا يجعل لازماً للصفة صفة أخرى؛ ولهذا بعض الأئمة ربما يكون لديه شيء من هذا من التسامح في مسائل اللوازم، كما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك ) يقول: هذا فيه دليل على إثبات صفة الشم، هل هذا صحيح أو ليس بصحيح؟ الراجح أنه ليس بصحيح، لماذا؟ لأن الإنسان يعرف الطيب من غيره من الرائحة بالشم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أطيب عند الله، وما يدريك أنها كانت بشم أو بغير شم، أو بعلم لا يحتاج إلى مثل هذا، هل نستطيع أن نثبت هذا أم لا نستطيع؟ نتوقف في إثبات أن لله عز وجل ريحة استدلالاً بحديث: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك )؛ ولهذا نقول: إن مثل هذا الأمر توقيفي يثبت ولا يزاد على ذلك، ويعذر الإنسان فيما يخطر في باله من أشياء.

لكن ينبغي للإنسان أن يطردها ويتيقن أنه ليس لله مثال، ويكفي الإنسان أنه في الكون الذي موجود فيه يرى من مخلوقات الله يوماً بعد يوم ما ليس له مثال، ولو ذهب الإنسان إلى برية وهي كلها مخلوقات، ذهب إلى برية رأى من الحشرات ورأى من الكائنات ما لم يره من السابق أليس كذلك؟ كذلك.

هذا في دائرة كون هو وجد فيها، والله سبحانه وتعالى بين أنه ليس كمثله شيء.

وهذا يدل على ضعف الإنسان في جانب القياس؛ فثمة مخلوقات أنت لا تعلم حالها، فكيف تريد أن تثبت لله عز وجل شيئاً وليس له مثال سبحانه وتعالى؟!

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد)

قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، أي: لم يكن لله عز وجل ما يكافئه من مثيل أو شبيه أي: ليس لك أن تقيس، لماذا؟ لأن القياس يلزم من ذلك أن تثبت أصلاً، وأنت لم تر الأصل، وليس لديك أيضاً شيء من الفروع من هذا لكي تلحقها بذلك الأصل.

وعلى هذا فالله جل وعلا واحد أحد سبحانه وتعالى لا ند له ولا نظير، ولا شبيه له تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيرا.

وأول هذه السور هي سورة الإخلاص، وهي السورة التي تسمى بنسب الرحمن، وهذه السورة قد أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة على خلاف في ذلك، فقيل: إنها نزلت في مكة، كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، وقيل: إنها نزلت في المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين قد رويا عن عبد الله بن عباس .

وهذه السورة تتضمن معاني التوحيد، وأصول معرفة الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا، فيأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: الله أحد، فالله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وسبب نزول هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في غير ما خبر- أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فقالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

هذه السورة وما تضمنت من آيات، وما تضمنت من معان عظيمة قلما توجد مجتمعة في موضع واحد من مواضع القرآن، وقد جاء في فضائلها شيء كثير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك: الحث على قراءتها في بعض ركعات من أنواع الصلوات، ويكفي في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في أفضل النوافل وهي صلاة الوتر، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً وعن غير واحد من الصحابة قراءتها في غير هذا، وكذلك أيضاً فإن سور القرآن إنما تتفاضل بجملة من الوجوه، منها: بالأجور المترتبة التي يجعلها الله عز وجل في السورة، ومنها: المعاني التي تتضمنها السورة، ومن وجوه التفضيل أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يجعل لهذه السورة أثراً في بعض الأحوال التي يعرض لبني آدم، وذلك كشفاء الأمراض والأسقام، فقد جاء في سورة الإخلاص والمعوذتين ما لم يأت في غيرهما، وهذه مجتمعة في سورة الإخلاص.

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما خبر كحديث أبي الدرداء ، وجاء أيضاً من حديث أبي سعيد وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن )، والمراد بذلك: في الجزاء لا في الإجزاء، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان في فضلها أي: كأنما قرأ ثلث القرآن من جهتين: الجهة الأولى الأجر والثواب، الجهة الثانية من جهة المعاني المتحققة؛ فإن القرآن على ثلاثة أقسام:

القسم الأول: توحيد وعقائد.

والقسم الثاني: أحكام أي: حلال وحرام.

والثالث: هو القصص.

وهذه السورة قد جمعت النوع الأول وهو ثلث القرآن، فقد جمع الله عز وجل فيها أمر العقائد، وما يكون حقاً لله سبحانه وتعالى على عباده؛ فإن الإنسان لا يعرف ربه إلا بمعرفة صفاته، والله جل وعلا قد عرف نفسه سبحانه وتعالى لعباده بهذه السورة؛ ولهذا من قرأ سورة الإخلاص، فكأنما قرأ ثلث القرآن من جهة الأجر، إلا أن قراءة هذه السورة لا تجزئه عن قراءة القرآن، فليس له أن يقرأ السورة ثلاث مرات، ثم يظن أنه قرأ القرآن كله وسقط عنه التكليف بالقراءة بذلك، فهذا ليس هو المقصود في كلام الله عز وجل، وإنما المقصود في ذلك من جهة الثواب، وهذا الفضل توفيق من الله عز وجل ورحمة، ولطف وتيسير وعون للإنسان أن يتحقق له من الأجر مثل هذا المقدار.

وكذلك أيضاً من فضائل هذه السورة أن هذه السورة لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة من السور مشروعية تكرار هذه السورة في صلاة أو في الصلوات كما جاء في سورة الإخلاص، وقد جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجل الذي كان يصلي بقومه فكلما قرأ فيهم ختم قراءته بسورة الإخلاص، يعني: في كل ركعة يقرأ سورة بعد الفاتحة، ثم يتبعها بسورة الإخلاص، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأله عن ذلك، فقال: إني أحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبلغوه أن الله يحبه لحبه لها.

وكذلك أيضاً قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضائلها: أنها رقية، وكذلك أيضاً في قراءتها ضمن أذكار الصباح والمساء وتكرار ذلك ثلاثاً، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لغير واحد من أصحابه بتلاوتها كما جاء ذلك عن عقبة بن عامر عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بيده فقال: ( لا تدعهن في صباح ولا في مساء ) يعني: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فكان عقبة بن عامر عليه رضوان الله لا يدعهن في صباح ولا في مساء، وهذه الخصائص المجتمعة في هذه السورة، وفي سورة المعوذتين لا تكاد توجد مجتمعة في غيرها من سور القرآن ولا من آيه، مما يدل على مزيد اهتمام فيها، وعظم أثر لها على نفس الإنسان ومن حوله، إضافة إلى ما تضمنته هذه السورة من معانٍ جليلة في معرفة الله سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2709 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2473 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2314 استماع
العالِم والعالَم 2307 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2296 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2129 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2101 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2100 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2075 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2044 استماع