شرح زاد المستقنع باب الصداق [2]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة ].

التفويض من مسائل الصداق والمهر، واعتنى به العلماء والأئمة رحمهم الله، وهو ينقسم إلى تفويض المهر، وتفويض البضع.

وتفويض المهر: أن تفوض المرأة إلى وليها أن يزوجها بأي مهر، أو أن يزوجها بدون مهر، أو تفوض للزوج أو يفوض وليها للزوج المهر فيقول له: المهر ما شئت، والمهر ما تريد، أو ما تدفع، فهذا تفويض، كذلك أيضاً أن يفوض لأجنبي، كأن تفوض المرأة لأجنبي فتقول: مهري ما يقوله فلان، لعمها أو خالها أو قريب لهـا، فتفوض إلى أجنبي.

فهذه كلها من مسائل التفويض في المهر، والتفويض في البضع سيأتي إن شاء الله، وسيذكره المصنف رحمه الله، وكلا النوعين من التفويض يُعنى به الأئمة رحمهم الله.

أما مناسبته للصداق فظاهرة؛ لأن المرأة تترك الصداق وتقديره إلى طرف أجنبي، أو إلى الطرف المقابل لوليها وهو الزوج، أو إلى وليها.

التفويض في البضع

(يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) فإنه بدون أن يأخذ رضاها وبدون أن يستأذنها يزوجها، وقد تقدم هذا معنا في مسائل الاستئذان، فإن الأب ذكرنا أن فيه من العاطفة والحنان والرحمة ما لا يشك معه، أو ما يغلب معه على الظن أنه يطلب الأصلح في الأمور لابنته، وأنه ليس هناك أب يسعى في جلب الضرر على ابنته، أو يتسبب في الإضرار بابنته، هذا هو الأصل؛ فالغالب أن الأب فيه من الحنان والرحمة ما يمنعه من أذية ابنته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) والإنسان لا يضر نفسه، فالأب يزوج ابنته المجبرة، وإذا زوجها كان الأمر كله بيده، من جهة الإيجاب عنها بدون التفات إلى رضاها وإذنها، وكذلك أيضاً في المهر، وبطبيعة الحال أنها إذا كانت مجبرة، فالغالب أنها لا تتكلم حتى في المهر.

وعلى هذا فيكون تفويضاً من كل وجه، فيزوج الأب ابنته المجبرة، فيقع العقد في هذه الحالة على هذه الصورة، ويكون وليها الذي أجبرها تولى أمرها كلية؛ من جهة تزويجها ومن جهة تحديد الصداق الذي يكون لها، أو يجعلها بدون مهر، فيفوض الأمر للزوج، كأن يزوج ابنته الصغيرة ويقول للزوج: المهر ما تعطي، وبطبيعة الحال ما استشارها ولا رجع إليها، ففي هذا تفويض من كل وجه ففوض إلى الزوج وزوجها.

التفويض في المهر

قال رحمه الله: [ أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر ].

لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر.

المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه.

والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سُئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: ( أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث ).

فحكم بثلاثة أحكام:

(مهر المِثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص ( لا وكس ولا شطط ) العدل الذي أمر الله به.

( وعليها العدة ) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة.

( ولها الميراث ) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه.

فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: ( والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا ).

فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقاً لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل.

الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد.

ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسداً لما أثبت لها مهر المثل.

وأيضاً فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقاً صحيحاً، والواقع أنه لم يسمِّ لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر.

في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالباً يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئاً متفقاً عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غداً فسيُظن أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يُسَمَّ لها مهر معين.

قال رحمه الله: [ وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي ].

(بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شِئتُ؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه.

هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شِئتَ، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه.

قال رحمه الله: [ ولها مهر المثل بالعقد ].

ثلاثة أمور:

- عندنا عقد.

- وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد.

- وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول.

هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر.

وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟

فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات.

قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن يُنْظَر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فيُنْظَر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلاً: أربعين ألفاً، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذاً: يُنْظَر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبةٌ جميلةٌ بكرٌ، بعض العلماء يقول: يُبْتَدأ بقراباتها، فيُنْظَر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختُها أو تزوجت بنتُ عمتها أو بنتُ عمها أو بنتُ خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟

وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زُوِّجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فيُنْظَر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء.

وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يُقْصَد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود : ( لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط ) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة.

وكان هذا معروفاً في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائماً القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال مِن أهل الخبرة مَن يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويُثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يُرْجَع إليهم.

ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا.

فيُحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللِّدَات والأتراب من أمثالها، ويُنْظَر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد.

قال رحمه الله: [ ويفرضه الحاكم بقدره ]

فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة.

الحكم فيما لو مات أحد الزوجين قبل الدخول وتسمية المهر

قال رحمه الله: [ ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها ]

(ومن مات منهما قبل الإصابة) أي: قبل أن يدخل بها ويصيبها توفي، فإننا ننظر إلى مهر المثل كما ذكرنا في حديث معقل بن سنان الأشجعي في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فحديث بروع بنت واشق حديث ثابت ويدل دلالةً واضحة على أنه: يحتكم إلى مهر المثل. هذا الحكم الأول.

وثانياً: أنه يكون عليها الحداد والعدة.

وثالثاً: أنه يكون لها الميراث؛ لأنها من نسائه.

(قبل الإصابة والفرض) أي: وقبل أن يفرض لها، فالحكم مثلما ذكرنا في الحديث، لكن لو فرض لها فريضة، مثلاً: لو أن زوجاً فرض لامرأته عشرة آلاف صداقاً، وتم النكاح، أي: تم العقد، ثم توفي هذا الزوج، فنقول: يجب على ورثته أن يخرجوا من ميراثه عشرة آلاف فقط؛ لأنها المسمى، فهذه المسائل هي إذا لم يُسَمَّ الصداق، وقد ذكرنا أن التفويض لا تسمية فيه.

[ ورثه الآخر ولها مهر نسائها ].

(ورثه الآخر) لأن العقد من أسباب الميراث الثلاثة، وهي: النكاح والولاء والنسب.

أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب

هذه ثلاثة أسباب، فالنكاح من أسباب الميراث، وهذا بإجماع العلماء، فكل امرأة عقد عليها رجل، ثم توفي قبل أن يدخل بها، فإنها من نسائه وترثه، ولو توفيت هي ورثها، فهو يرثها وترثه.

حكم المطلقة قبل الدخول إذا لم يسم المهر

قال رحمه الله: [ وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره ]

أي: وإن طلقها المفوض، وهم يقولون: مفوِّضة ومفوَّضة، يقولون: امرأة مفوِّضة إذا فوضت لوليها أو للزوج أو لأجنبي، ومفوَّضة أي: فُوِّض أمرهـا إلى الغيـر.

إذا طلقت هذه المفوَّضة قبل الدخول، ففي هذه الحالة ليس عندنا فريضة وليس هناك مهر مسمى، فالشريعة جاءت بأنه إذا وقع فراق وطلاق قبل الدخول وليس هناك مسمىً فإن للمرأة المتعة؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

وفي الآية الثانية قال في المطلقة عموماً: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] وذكروا عن شريح أبي أمية القاضي الكندي رحمه الله -وكان ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء الراشدين، فنعم المولي ونعم المولى، ولي لـعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وكان إماماً في القضاء- أن رجلاً طلق امرأة فأمره أن يمتعها فأبى، فتلا عليه الآية الأولى، فامتنع، ثم تلا عليه الآية الثانية، فامتنع، الآية الأولى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] والآية الثانية: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] فأصر الرجل وقال: ما دامت متعة وليست بواجب فلا أريد أن أمتعها، من غضبه من زوجته -نسأل الله السلامة والعافية- صم وعمي عن أمر الله عز وجل وندبه، فشاء الله عز وجل أن تمر الأيام فاحتاج قوم إلى شهادة هذا الرجل، فجاءوا به إلى شريح فقال: والله لا أقبل شهادته، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين، فاصرف وجهك عني، فطرده ولم يقبل شهادته؛ لأن المؤمن لا يرد هذه الأوامر الشرعية ولا يستخف بها، والله يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، ولذلك لا ينبغي إذا وقع الطلاق والفراق أن ينسى كل من الزوجين الآخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من الحفظ للعهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان).

فلو سُئلت عن المطلقة قبل الدخول، تقول: لها حالتان:

إن كانت قد سمي لها المهر فنصف ما سمي.

وإن لم يُسَمَّ المهر فلها المتعة حقٌ واجبٌ على المحسنين، والدليل قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] أي بما جرى عليه العرف، أو بالمعروف، والمعنى: أنه يمتعها مصاحباً للمعروف، بدون منة، فلا يعطيها المتعة يمتن بها، أو يؤذيها أو يصيبها بنوع من الإضرار، إنما يكون هذا بالمعروف على سبيل المكارمة على الوجه الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

فهذه الآية تدل دلالة واضحة على إثبات المتعة، والمتعة تكون بالمعروف، أي: على حسب حال الزوج، فإن كان الزوج غنياً نظر في مثله، فمثلاً: لو جرى العرف أن مثله يمتع بهدية بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فيشتري لها ذهباً بثلاثة آلاف ويبعثه إليها.

والسبب في أن الله جعل على الموسع قدره وعلى المقتدر قدره: أنه إذا كان من بيئة غنية فالله يريد أن يربط بين الزوج والزوجة بحفظ العهد، فحينما يعطيها شيئاً يليق بغناه ويسره تكون فعلاً هدية، ويكون لها معنى الهدية، لكن حينما يكون غنياً ثرياً بسط الله عليه من رزقه ويأتيها بشيء تافه يصبح بدل أن يتضمن معنى المكارمة يصبح متضمناً لمعنى الإهانة، فيخرج عن مقصود الشرع.

فإذاً لابد أن ينظر إلى حال الزوج، وأن يتقي الله عز وجل فيما أمره الله به وندبه إليه.

قال رحمه الله: [ ويستقر مهر المثل بالدخول ].

إذا دخل الزوج على زوجته وهي مفوضة فيستقر مهر المثل بالدخول، ويثبت في هذه الحالة، ويكون حقاً كاملاً لها.

قال رحمه الله: [ وإن طلقها بعده فلا متعة ].

أي: طلقها بعد الدخول فلها المهر كاملاً، وليست من الممتعات، يريد أن يقول: إنه يثبت لها المهر.

وقوله: (فلا متعة) ليس المراد أنه ما لها شيء، إنما مراده أنها لا تصبح من ذوات المتعة، وإنما تصبح من ذوات الصداق، أي: اللاتي لهن المهر والصداق كاملاً.

(يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) فإنه بدون أن يأخذ رضاها وبدون أن يستأذنها يزوجها، وقد تقدم هذا معنا في مسائل الاستئذان، فإن الأب ذكرنا أن فيه من العاطفة والحنان والرحمة ما لا يشك معه، أو ما يغلب معه على الظن أنه يطلب الأصلح في الأمور لابنته، وأنه ليس هناك أب يسعى في جلب الضرر على ابنته، أو يتسبب في الإضرار بابنته، هذا هو الأصل؛ فالغالب أن الأب فيه من الحنان والرحمة ما يمنعه من أذية ابنته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) والإنسان لا يضر نفسه، فالأب يزوج ابنته المجبرة، وإذا زوجها كان الأمر كله بيده، من جهة الإيجاب عنها بدون التفات إلى رضاها وإذنها، وكذلك أيضاً في المهر، وبطبيعة الحال أنها إذا كانت مجبرة، فالغالب أنها لا تتكلم حتى في المهر.

وعلى هذا فيكون تفويضاً من كل وجه، فيزوج الأب ابنته المجبرة، فيقع العقد في هذه الحالة على هذه الصورة، ويكون وليها الذي أجبرها تولى أمرها كلية؛ من جهة تزويجها ومن جهة تحديد الصداق الذي يكون لها، أو يجعلها بدون مهر، فيفوض الأمر للزوج، كأن يزوج ابنته الصغيرة ويقول للزوج: المهر ما تعطي، وبطبيعة الحال ما استشارها ولا رجع إليها، ففي هذا تفويض من كل وجه ففوض إلى الزوج وزوجها.

قال رحمه الله: [ أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر ].

لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر.

المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه.

والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سُئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: ( أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث ).

فحكم بثلاثة أحكام:

(مهر المِثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص ( لا وكس ولا شطط ) العدل الذي أمر الله به.

( وعليها العدة ) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة.

( ولها الميراث ) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه.

فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: ( والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا ).

فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقاً لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل.

الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد.

ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسداً لما أثبت لها مهر المثل.

وأيضاً فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقاً صحيحاً، والواقع أنه لم يسمِّ لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر.

في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالباً يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئاً متفقاً عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غداً فسيُظن أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يُسَمَّ لها مهر معين.

قال رحمه الله: [ وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي ].

(بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شِئتُ؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه.

هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شِئتَ، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه.

قال رحمه الله: [ ولها مهر المثل بالعقد ].

ثلاثة أمور:

- عندنا عقد.

- وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد.

- وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول.

هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر.

وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟

فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات.

قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن يُنْظَر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فيُنْظَر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلاً: أربعين ألفاً، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذاً: يُنْظَر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبةٌ جميلةٌ بكرٌ، بعض العلماء يقول: يُبْتَدأ بقراباتها، فيُنْظَر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختُها أو تزوجت بنتُ عمتها أو بنتُ عمها أو بنتُ خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟

وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زُوِّجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فيُنْظَر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء.

وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يُقْصَد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود : ( لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط ) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة.

وكان هذا معروفاً في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائماً القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال مِن أهل الخبرة مَن يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويُثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يُرْجَع إليهم.

ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا.

فيُحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللِّدَات والأتراب من أمثالها، ويُنْظَر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد.

قال رحمه الله: [ ويفرضه الحاكم بقدره ]

فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة.