الحجاب في الميزان


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله عز وجل قد أنعم على خلقه بالنعم الكثيرة المتوافرة التي لا يحصى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وإن من أعظم النعم التي أنزلها الله عز وجل على هذه الأمة أن أنزل عليها كتاباً بيناً فيه شفاء لكل الناس، شفاء من الأمراض والأسقام المعنوية والحسية، كما أنزل الله عز وجل القرآن على هذه الأمة لتبرأ من جميع الأدواء والعلل الظاهرة والباطنة، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]، أي: ما أنزل الله عز وجل القرآن على نبيه إلا لأجل السعادة في الدارين.

وأن من أعظم النعم على هذه الأمة أن جعل الله عز وجل دينها يسراً، ورفع عنها الأغلال، والمشقة التي كانت على الأمم السابقة، فما أراد الله عز وجل بهذه الأمة عسراً، وإنما أراد الله بها يسراً: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فرفع الله عز وجل عن هذه الأمة الحرج، وأنزل عليهم اليسر، فكان القرآن بأحكامه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء فيها هي من اليسر الذي يجب الأخذ به واعتباره على هذا الوجه، لا أنه يحمل على خلاف ذلك، وذلك أن الشريعة ما جاءت إلا لأصحاب الفطر السوية السليمة فأخذوها كما جاءت بالتسليم من غير انحراف في الفهم، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].

ومن النعم الظاهرة التي أنعم الله عز وجل بها على بني آدم أن أنزل عليهم لباساً وريشاً يستترون به ويتجملون به، ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، قال غير واحد من المفسرين: إن اللباس هو ما يستر به الإنسان عورته، وأما الريش فهو شيء أكمل من ذلك وهو ما يتجمل به الإنسان من متاع وأثاث، وما يضعه الإنسان من الكماليات على جسده ليتجمل به عند الآخرين، فأنزل الله عز جل هذه النعمة على الناس كافة، لكي يكون موضع شكر في حالهم على الدوام، فإن الإنسان إذا كان ممن يماس النعمة على وجه الدوام، كان تأمله وتدبره فيها أكثر من غيرها، بخلاف ما يطرأ عليه من النعم فتكون عنده محل استغراب.

ولهذا لما كانت النعمة على هذه الحال حذر الله سبحانه وتعالى من نقيضها أن يكون الإنسان سبباً لزوال هذه النعمة من تلقاء نفسه سواءً برأي أو باتباع إغواء إبليس، ولهذا كان عقوبة آدم عليه السلام أن أنزله الله عز وجل من الجنة إلى هذه الأرض، وكان أول عقوبة أن بدت لهما سوأتهما، ولهذا بيّن الله عز وجل صراع آدم وزوجه عليهما السلام مع إبليس حينما منعه الله عز وجل أن يأكل من الشجرة فلما أطاع إبليس بقوله ورأيه، حينما طمعهما بطول البقاء أبدى الله عز وجل لهما سوأتهما.

قال العلماء في معنى قوله سبحانه وتعالى: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، إن الله عز وجل قد أنزل على هذه الأمة لباسين وريشاً، أما اللباسان: فلباسان في الظاهر، ولباس من جهة المعنى، فالظاهر هو الحسي وهو ما يستر الإنسان به عورته, وأما الباطن فهو المعنوي وهو الدين والتقوى الذي أمر الله عز وجل بلزومها، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، وذلك أن الإنسان إذا تزود بالتقوى ستر ظاهره، وإذا لم يتزود بالتقوى فإنه لا يستر ظاهره، فإن أعظم ما يكون عليه الإنسان أن يستر باطنه بتقوى الله عز وجل، فإذا كان كذلك ستر عورته الظاهرة، فإن هذا لازم لذلك كالشجرة إذا سقاها الإنسان خرجت خضراء مورقة، وإذا لم يسقها لم تخرج كذلك، فإن القلب إذا كان حياً كان بقية الجسد كذلك، وإذا كان ميتاً كان الجسد كذلك.

وأما الريش فأنزله الله عز وجل ليتجمل به الإنسان ويتكمل به.

وأما أفضل اللباس على الإطلاق فهو ما أجمع عليه العقلاء من إصلاح باطن الإنسان بتقوى الله سبحانه وتعالى، ومراقبته، ولهذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام تقوى الله عز وجل على أي شيء يتقيه الإنسان من الفتن، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدنيا حلوة خضرة, وإن الله عز وجل مستعملكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الله واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل قبل أن يتقي الإنسان الفتن الظاهرة الأخرى من فتنة النساء وغيرها مع شدة خطرها على الإنسان؛ لأن الإنسان إذا كان له وازع من قلبه حمله ذلك على مراقبة الله عز وجل في السر والعلانية سواءً كان في غيبة عن الناس أو في شهادة، وهذا هو أعظم ما يجعل الإنسان على استقامة في حاله كلها.

وكلامنا في هذا اليوم هو عن نعمة عظيمة جليلة أنعم الله عز وجل بها على عباده من بني آدم أن جعل الله عز وجل لهم من اللباس ما يسترون به أبدانهم، وجعل الله عز وجل ذلك نعمة, وجعله من الآيات التي لا يتدبرها ولا يتأملها إلا الذين يعقلون، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من مخالفة أمره في مواضع متعددة، وخص بذلك العقلاء من الرجال والنساء، فأمر الله سبحانه وتعالى النساء بستر العورات على وجه العموم، وأمر الرجال بأن يأخذوا زينتهم تكملاً، فإذا كان ذلك الأمر في أخذ الزينة، فما دون ذلك من باب أولى؛ قال الله سبحانه وتعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وهذا على وجه الأمر، قال غير واحد من العلماء: إن ظاهر ذلك يقتضي الوجوب.

فلا يليق بالإنسان أن يبتذل، ويأخذ الرديء من اللباس عند الذهاب إلى بيت من بيوت الله، فإنه يأثم بذلك كما ذهب إلى هذا بعض الفقهاء من الحنابلة والشافعية والظاهرية.

فالكلام في هذه المحاضرة عن: (الحجاب في الميزان), والحجاب من جهة الأصل هو الاستتار، ويغلب استعمال كثير من الناس في هذا العصر حمل الحجاب على معنى من معانيه، وهو في الأصل الاستتار على وجه العموم، سواءً استتر الإنسان ببناءٍ أو بلباسٍ أو يضرب له خيمة، أو دار، أو يستتر بحائط، أو أي شيء من أنواع اللباس، فإن هذا كله داخل في أنواع الحجاب، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، أي: من وراء ساتر، فهذا الحجاب الذي أخبر الله عز وجل عنه في هذه الآية هو الساتر الذي ربما لا يماس المرأة، فيكون حينئذٍ حائلاً بينها وبين من يسألها متاعاً، وأما المعنى الذي يحمله كثير من الناس عليه من تقييد معنى الحجاب ببعض أحكام، أو ببعض ما دل الدليل عليه، فهو وإن كان صحيحاً من جهة لغة العرب، إلا أن فيه تقييداً لهذا النص، فمن نظر إلى نصوص الكتاب والسنة، وجد أن الله أمر النساء بالاحتجاب عن الرجال إلا لضرورة، وألا تخرج المرأة إلا لحاجة ومن ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصحيح وغيره من حديث عائشة عليها رضوان الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: ( قد أذن الله لكن أن تخرجن لحاجتكن )، وجاء من غير وجهٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو هذا المعنى وجاء أتم بياناً خارج الصحيح، وسنتكلم في هذه المحاضرة على الحجاب بجميع أنواعه، ونأتي بالأدلة من الكتاب والسنة على جهة الإجمال؛ لأن استيفاء ذلك متعذر، ولا يمكن إدراكه لورود الأدلة الكثيرة المتضافرة على هذا الأصل العظيم.

وكذلك وجود من يخالف في فهم هذه الأدلة من بعض الفقهاء من الأئمة من السلف والخلف، فإيراد الأدلة في جميع مسائل في هذه المحاضرة مما يشق ولا يمكن استيعابه، وكذلك إيراد أدلة المخالفين في بعض المسائل مما يشق أيضاً، وإنما سنورد ما يندرج في الجملة من الأدلة في بعضها، نورد أظهرها وأقواها حجة، ثم نبين الراجح منها والمرجوح، ثم نبين وجه الرجحان ووجه الدليل غير الراجح، وهذا كله بالأدلة البينة الظاهرة من الكتاب والسنة، وما كان من الأدلة فيه ضعف فإننا سنبين ضعفه ومن ضعفه من الأئمة ومن رد ذلك، ومن كان محتجاً بأحد من الأدلة نبين قوله وإن كان هذا القول لا ينسب لأحد بيناه، خاصة أن هذه المسائل قد دخل فيها كثير ممن ينتسب إلى الجهالة، ولا ينتسب إلى العلم، ودخل في ذلك جملة من أهل العلم بحسن ظن، ودخل في ذلك أيضاً جملة ممن ينتسبوا إلى العلم ربما رغبة ورهبة مسايرة لبعض الأهواء المعاصرة، كما كان ذلك في كثير من القرون، وهذا سيأتي بيانه بإذن الله.

سبب الخلط في مفهوم الحجاب

إن من نعم الله عز وجل أن جعل العقلاء أصحاب الفطر السليمة على هداية من ربهم واستقامة في هذا الجانب، وإدراك هذه النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى على عباده، فإن من نعم الله عز وجل الظاهرة البينة أن جعل الأحكام ظاهرة بين الرجال والنساء، وجعل العلاقة محدودة بضوابط معلومة، حدها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي أن يعلم ما تقدمت الإشارة إليه أن معنى الحجاب في كلام الله عز وجل، وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في اصطلاح السلف، وفي لغة العرب أيضاً من جهة الأصل، هو أعم مما يطلقه كثير من أهل العصر بتحديده على بعض الوجوه، وهذا ما أحدث خلطاً في كثير من مسائله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن من لم يعرف اصطلاح الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، حمل هذه المصطلحات الواردة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يفهمه أهل عصره على خلاف مراد الله عز وجل، وفهم رسوله، وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

وهذا ما أحدث الخلط في كثير من المسائل عند كثير من طلاب الحق، فيحيلون كثيراً من مسائل الدين على ما يفهمه أهل العصر من هذه الألفاظ، مع الجهالة البينة باصطلاح الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى في فهم الأدلة؛ فلهذا كان لزاماً أن نبين معنى الحجاب من جهة النصوص: من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مفهوم الحجاب في الشرع

تقدمت الآية المشيرة إلى أن معنى الحجاب هو أن تحتجب المرأة أو الرجل بجسده، وأن هذا يطلق عليه حجاباً وإن لم يكن مماساً، فالحجاب كما جاء عن غير واحد من العلماء من أهل العربية كـأبي عبيدة وغيره هو ما استتر به الإنسان سواء كان لباساً من خمار أو جلباب، أو غير ذلك مما يستتر به الرجل، أو المرأة فإنه يسمى حجاباً، وبهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالحجاب، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على هذا المعنى العام، ولهذا حينما يأمر الله عز وجل النساء على وجه العموم، وخاصة أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله تعالى بالاحتجاب، فإنه يأمرهن من جهة الأصل بعدم الخروج إلا لحاجة، وما كان لحاجة فإنهن يخرجن مع التقيد باللباس والحشمة، ولما كان كذلك على هذا المعنى، وجهل كثير من أهل العصر هذا المعنى، ظنوا أن الحجاب المراد به التستر فحسب، وظنوا أن المرأة إذا كانت متسترة جاز لها أن تخرج متى شاءت لحاجة أو لغير حاجة، لضرورة أو لغير ضرورة، وجاز لها مخالطة الرجال، فيقولون: إذا خرجت متحجبة متسترة، فلا ضير في ذلك.

وهذا معارض لما ثبت من جهة الأصل أن الله سبحانه وتعالى أمر النساء بأن يقرن في البيوت، وألا يخرجن إلا لحاجة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

الحجاب في الأمم السابقة

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن التبرج وخروج المرأة لإبداء زينتها من جهة الأصل من عادة الجاهلية الأولى، فقال جل وعلا: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] فهذا دليل على أن ثمة جاهلية، وأن أشد هذه الجاهليات هي الجاهلية الأولى التي فيها ابتذال النساء.

وقد جاء عن غير واحد من المفسرين كـعبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم ، و ابن المنذر وغيرهم، أن المراد بالجاهلية هذه هي: ما كان بين نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، قالوا: فإن المرأة كانت تمشي نصف عريانة، بل قيل: إن لها زوجاً وعشيقاً.

وقيل: بأن المراد بذلك ما كان بين آدم ونوح، وهذا مروي عن الحكم بن عتيبة، كما رواه ابن جرير وغيره.

وقد جاء عن عامر بن شراحيل الشعبي أن تلك الجاهلية هي: ما كان بين عيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، وما كان بعد ذلك فإن أمر النساء على استقامة، وكن مستترات، وقيل: أن المراد الجاهلية الأولى هي ما كان بين موسى وعيسى كما جاء هذا عن بعض المفسرين، كما بيّن ذلك ابن جرير الطبري وغيره.

والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أشار بقوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، أن ثمة من كان من السالفين على استقامة في حال الحجاب والتستر، سواءً ممن كان على هدى ورشاد من أتباع الأنبياء، أو كانوا من غير أتباعهم ممن كان على فطرة سوية، ومن نظر إلى نصوص الشريعة والآثار المروية في ذلك عن السلف الصالح ممن يحدث عن بني إسرائيل، أو ممن يروي والغالب أنه لا يروي إلا بشيء من أمور الغيب مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أن كثيراً من أمور أصحاب العصور الأولى كانت على استقامة حال من التستر وغيره، وقد جاء هذا في قوم صالح، وشعيب، وعيسى وموسى عليهم الصلاة والسلام، وقد روى ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم و ابن المنذر وغيرهم من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] جاءت وقد غطت وجهها.

قيل: إن هذه هي ابنة شعيب ، كما جاء هذا عن بعض المفسرين، والأشهر أنها ليست ابنة شعيب، وقيل إنها ابنة يثرب صاحب مدين، وقيل: إنها ابنة أخي شعيب عليه الصلاة والسلام، وعلى كل فإن هذا الأمر يدل على أن النساء في ذلك الوقت كن يحتجبن ويستترن عن الرجال، وجاء هذا أيضاً في قوم صالح، كما ذكر ابن عساكر وغيره في قصة من عقر الناقة حينما جاءته أم غم جاءت إلى قدار سالف وهو الذي عقر الناقة فقالت: اعقرها وأعطيك أحسن بناتي وأجملهن، فلما أراد أن يعقر الناقة أتت بابنتها إليه، فكشفت عن وجهها فرآها كأجمل النساء، فافتتن بها فنحر الناقة وعقرها، فأحل الله عز وجل عقابه بهذه الأمة.

وكذلك ما جاء عن اليهود في مصنفاتهم وغيرهم من بيان قيمة الحجاب، وتستر النساء، وعدم مخالطتهن للرجال، بل وتغطية وجوههن.

وكذلك ما وجد في أشعار الجاهليين ممن كان قبل الإسلام من بيان الاستتار، فقد وجد هذا في أشعار عدة منهم سواءً بإطلاق الخمار أو النقاب، أو الحجاب على وجه العموم، ولهذا فقد ذكر النابغة امرأة النعمان بن المنذر حينما مرت أمامه، وسقط خمارها من غير قصد، فقال:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

أي: أنها تناولت خمارها بيد، واتقت الرجال بيدها الأخرى خشية أن يروها حينما سقط خمارها من غير قصد، وهذا قد جاء عن غير واحد، كما جاء عن من يتغزل بـمية حينما كان يتمنى رؤيتها من بين النساء، وكانت تحتجب كسائر النساء، فقال:

جزى الله البراقع من ثياب عن الفتيان دوماً ما بقينا

يوارين الملاح فلا نراها ويوارين القباح فيزدهينا

وظاهر هذا أن نساء الجاهلية كنا يستترن بالنقاب، وبالخمار عن وجوه الرجال، وهذا إذا عرف في الجاهلية، فهو كذلك قد عرف في صدر الإسلام، وكان من جهة الأصل معروفاً مشتهراً، إلا أنه ليس على الإطلاق، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدر الأول أصحاب غيرة شديدة، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يأذنون لأحد من النساء أن تشكف وجهها، بل قد وقعت معركة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود من بني قينقاع لأنهم تسببوا في كشف وجه امرأة فوقع الشر بينهم كما جاء في بعض الروايات.

فقد روى ابن عساكر وكذلك الخطيب وغيرهم من حديث عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: لما كانت امرأة من المسلمين قد ذهبت إلى بني قينقاع تبيع حليباً لها، وقد غطت وجهها، فأراداها واحد منهم أن تكشف وجهها فأبت، فذهب إليها من خلفها، فعقد إزارها في ظهرها، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا فانتصر لها أحد المسلمين، فقتل اليهودي فقاموا عليه فقتلوه، ثم وقع بينهم وبين المسلمين ما وقع، وهذا جاء عن أبي عون ، وجاء من غير طريقه كما جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، من وجه آخر بنحو هذه القصة.

وجاء في جملة من الحكايات عن بني إسرائيل في بيان أهمية ذلك, وتستر النساء على وجه العموم.

وأما من جهة النصوص الظاهرة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأدلة في ذلك ظاهرة بينة، وما ينبغي الإشارة إليه أن الأدلة في كلام الله عز وجل من جهة المعنى والإجمال الواردة في هذا الباب دالة على المعنى الإجمالي وهو وجوب أن تستتر المرأة عن أعين الرجال قدر إمكانها، وألا تظهر إلا ما لا بد منه، ولهذا فقد كان عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك كما كن المهاجرات والأنصاريات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أنزل الله عز وجل قوله جل وعلا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما روى البخاري و مسلم : ( رحم الله النساء المهاجرات حينما أنزل الله عز وجل: (( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ))، قطعن مروطهن واختمرن بها )، قال غير واحد من شراح الحديث: إن المراد بذلك أنهن قطعن المروط، وغطين بهن الوجوه، وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين.

ومما جاء في ذلك في كلام الله سبحانه وتعالى جملة من الآي، نورد جملة منها، ثم نبين معانيها، ثم نبين بعد ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مما يدل عليه، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين، ثم بعد ذلك نبين ما ورد عن الأئمة الأربعة وغيرهم، ثم نبين الأدلة الواردة التي يستدل بها بعض العلماء في بعض فروع هذه المسائل مما يخالفون فيه، ونبين هذه الأدلة مع بيان صحتها وضعفها ونناقش الأدلة التي ليست بصحيحة، ونبين احتمال الرب في حال صحة بعض الأحاديث، ونبين جملة من أسماء الأئمة الذين تكلموا على هذه المسائل.

إن من نعم الله عز وجل أن جعل العقلاء أصحاب الفطر السليمة على هداية من ربهم واستقامة في هذا الجانب، وإدراك هذه النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى على عباده، فإن من نعم الله عز وجل الظاهرة البينة أن جعل الأحكام ظاهرة بين الرجال والنساء، وجعل العلاقة محدودة بضوابط معلومة، حدها الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينبغي أن يعلم ما تقدمت الإشارة إليه أن معنى الحجاب في كلام الله عز وجل، وفي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في اصطلاح السلف، وفي لغة العرب أيضاً من جهة الأصل، هو أعم مما يطلقه كثير من أهل العصر بتحديده على بعض الوجوه، وهذا ما أحدث خلطاً في كثير من مسائله، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: إن من لم يعرف اصطلاح الكتاب والسنة، واصطلاح الصحابة عليهم رضوان الله تعالى ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، حمل هذه المصطلحات الواردة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يفهمه أهل عصره على خلاف مراد الله عز وجل، وفهم رسوله، وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

وهذا ما أحدث الخلط في كثير من المسائل عند كثير من طلاب الحق، فيحيلون كثيراً من مسائل الدين على ما يفهمه أهل العصر من هذه الألفاظ، مع الجهالة البينة باصطلاح الصحابة والتابعين عليهم رضوان الله تعالى في فهم الأدلة؛ فلهذا كان لزاماً أن نبين معنى الحجاب من جهة النصوص: من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقدمت الآية المشيرة إلى أن معنى الحجاب هو أن تحتجب المرأة أو الرجل بجسده، وأن هذا يطلق عليه حجاباً وإن لم يكن مماساً، فالحجاب كما جاء عن غير واحد من العلماء من أهل العربية كـأبي عبيدة وغيره هو ما استتر به الإنسان سواء كان لباساً من خمار أو جلباب، أو غير ذلك مما يستتر به الرجل، أو المرأة فإنه يسمى حجاباً، وبهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا أمر بالحجاب، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحمل على هذا المعنى العام، ولهذا حينما يأمر الله عز وجل النساء على وجه العموم، وخاصة أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله تعالى بالاحتجاب، فإنه يأمرهن من جهة الأصل بعدم الخروج إلا لحاجة، وما كان لحاجة فإنهن يخرجن مع التقيد باللباس والحشمة، ولما كان كذلك على هذا المعنى، وجهل كثير من أهل العصر هذا المعنى، ظنوا أن الحجاب المراد به التستر فحسب، وظنوا أن المرأة إذا كانت متسترة جاز لها أن تخرج متى شاءت لحاجة أو لغير حاجة، لضرورة أو لغير ضرورة، وجاز لها مخالطة الرجال، فيقولون: إذا خرجت متحجبة متسترة، فلا ضير في ذلك.

وهذا معارض لما ثبت من جهة الأصل أن الله سبحانه وتعالى أمر النساء بأن يقرن في البيوت، وألا يخرجن إلا لحاجة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى أن التبرج وخروج المرأة لإبداء زينتها من جهة الأصل من عادة الجاهلية الأولى، فقال جل وعلا: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33] فهذا دليل على أن ثمة جاهلية، وأن أشد هذه الجاهليات هي الجاهلية الأولى التي فيها ابتذال النساء.

وقد جاء عن غير واحد من المفسرين كـعبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير و ابن أبي حاتم ، و ابن المنذر وغيرهم، أن المراد بالجاهلية هذه هي: ما كان بين نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، قالوا: فإن المرأة كانت تمشي نصف عريانة، بل قيل: إن لها زوجاً وعشيقاً.

وقيل: بأن المراد بذلك ما كان بين آدم ونوح، وهذا مروي عن الحكم بن عتيبة، كما رواه ابن جرير وغيره.

وقد جاء عن عامر بن شراحيل الشعبي أن تلك الجاهلية هي: ما كان بين عيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، وما كان بعد ذلك فإن أمر النساء على استقامة، وكن مستترات، وقيل: أن المراد الجاهلية الأولى هي ما كان بين موسى وعيسى كما جاء هذا عن بعض المفسرين، كما بيّن ذلك ابن جرير الطبري وغيره.

والمراد بذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أشار بقوله تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، أن ثمة من كان من السالفين على استقامة في حال الحجاب والتستر، سواءً ممن كان على هدى ورشاد من أتباع الأنبياء، أو كانوا من غير أتباعهم ممن كان على فطرة سوية، ومن نظر إلى نصوص الشريعة والآثار المروية في ذلك عن السلف الصالح ممن يحدث عن بني إسرائيل، أو ممن يروي والغالب أنه لا يروي إلا بشيء من أمور الغيب مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد أن كثيراً من أمور أصحاب العصور الأولى كانت على استقامة حال من التستر وغيره، وقد جاء هذا في قوم صالح، وشعيب، وعيسى وموسى عليهم الصلاة والسلام، وقد روى ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم و ابن المنذر وغيرهم من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، أنه قال في قول الله سبحانه وتعالى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25] جاءت وقد غطت وجهها.

قيل: إن هذه هي ابنة شعيب ، كما جاء هذا عن بعض المفسرين، والأشهر أنها ليست ابنة شعيب، وقيل إنها ابنة يثرب صاحب مدين، وقيل: إنها ابنة أخي شعيب عليه الصلاة والسلام، وعلى كل فإن هذا الأمر يدل على أن النساء في ذلك الوقت كن يحتجبن ويستترن عن الرجال، وجاء هذا أيضاً في قوم صالح، كما ذكر ابن عساكر وغيره في قصة من عقر الناقة حينما جاءته أم غم جاءت إلى قدار سالف وهو الذي عقر الناقة فقالت: اعقرها وأعطيك أحسن بناتي وأجملهن، فلما أراد أن يعقر الناقة أتت بابنتها إليه، فكشفت عن وجهها فرآها كأجمل النساء، فافتتن بها فنحر الناقة وعقرها، فأحل الله عز وجل عقابه بهذه الأمة.

وكذلك ما جاء عن اليهود في مصنفاتهم وغيرهم من بيان قيمة الحجاب، وتستر النساء، وعدم مخالطتهن للرجال، بل وتغطية وجوههن.

وكذلك ما وجد في أشعار الجاهليين ممن كان قبل الإسلام من بيان الاستتار، فقد وجد هذا في أشعار عدة منهم سواءً بإطلاق الخمار أو النقاب، أو الحجاب على وجه العموم، ولهذا فقد ذكر النابغة امرأة النعمان بن المنذر حينما مرت أمامه، وسقط خمارها من غير قصد، فقال:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

أي: أنها تناولت خمارها بيد، واتقت الرجال بيدها الأخرى خشية أن يروها حينما سقط خمارها من غير قصد، وهذا قد جاء عن غير واحد، كما جاء عن من يتغزل بـمية حينما كان يتمنى رؤيتها من بين النساء، وكانت تحتجب كسائر النساء، فقال:

جزى الله البراقع من ثياب عن الفتيان دوماً ما بقينا

يوارين الملاح فلا نراها ويوارين القباح فيزدهينا

وظاهر هذا أن نساء الجاهلية كنا يستترن بالنقاب، وبالخمار عن وجوه الرجال، وهذا إذا عرف في الجاهلية، فهو كذلك قد عرف في صدر الإسلام، وكان من جهة الأصل معروفاً مشتهراً، إلا أنه ليس على الإطلاق، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدر الأول أصحاب غيرة شديدة، ولهذا كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لا يأذنون لأحد من النساء أن تشكف وجهها، بل قد وقعت معركة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود من بني قينقاع لأنهم تسببوا في كشف وجه امرأة فوقع الشر بينهم كما جاء في بعض الروايات.

فقد روى ابن عساكر وكذلك الخطيب وغيرهم من حديث عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال: لما كانت امرأة من المسلمين قد ذهبت إلى بني قينقاع تبيع حليباً لها، وقد غطت وجهها، فأراداها واحد منهم أن تكشف وجهها فأبت، فذهب إليها من خلفها، فعقد إزارها في ظهرها، فلما قامت بدت عورتها فضحكوا فانتصر لها أحد المسلمين، فقتل اليهودي فقاموا عليه فقتلوه، ثم وقع بينهم وبين المسلمين ما وقع، وهذا جاء عن أبي عون ، وجاء من غير طريقه كما جاء عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى، من وجه آخر بنحو هذه القصة.

وجاء في جملة من الحكايات عن بني إسرائيل في بيان أهمية ذلك, وتستر النساء على وجه العموم.

وأما من جهة النصوص الظاهرة من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الأدلة في ذلك ظاهرة بينة، وما ينبغي الإشارة إليه أن الأدلة في كلام الله عز وجل من جهة المعنى والإجمال الواردة في هذا الباب دالة على المعنى الإجمالي وهو وجوب أن تستتر المرأة عن أعين الرجال قدر إمكانها، وألا تظهر إلا ما لا بد منه، ولهذا فقد كان عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك كما كن المهاجرات والأنصاريات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أنزل الله عز وجل قوله جل وعلا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قالت عائشة عليها رضوان الله تعالى كما روى البخاري و مسلم : ( رحم الله النساء المهاجرات حينما أنزل الله عز وجل: (( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ ))، قطعن مروطهن واختمرن بها )، قال غير واحد من شراح الحديث: إن المراد بذلك أنهن قطعن المروط، وغطين بهن الوجوه، وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين.

ومما جاء في ذلك في كلام الله سبحانه وتعالى جملة من الآي، نورد جملة منها، ثم نبين معانيها، ثم نبين بعد ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مما يدل عليه، وكذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين، ثم بعد ذلك نبين ما ورد عن الأئمة الأربعة وغيرهم، ثم نبين الأدلة الواردة التي يستدل بها بعض العلماء في بعض فروع هذه المسائل مما يخالفون فيه، ونبين هذه الأدلة مع بيان صحتها وضعفها ونناقش الأدلة التي ليست بصحيحة، ونبين احتمال الرب في حال صحة بعض الأحاديث، ونبين جملة من أسماء الأئمة الذين تكلموا على هذه المسائل.

وقبل الشروع في ذلك نتكلم على جملة من المسائل مما اتفق عليه العلماء مما تقدمت الإشارة إليه على وجه الإجمال.

الأمر مجملاً بالتعفف والاستتار والنهي عن دواعي الفتنة

أولاً: قد دل الدليل من جهة الإجمال على أهمية الاستتار والعفاف والستر، وأن الإنسان ينبغي قدر إمكانه أن يحترز من النساء، فقد قد جاءت الأدلة كثيرة في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من مخالطة النساء والدنو منهن، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان عاقبة التكشف والتعري، كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث إسرائيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة : ( صنفان من أهل النار لم أرهم قط، أناس معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت لا يرحن ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ).

فقوله عليه الصلاة والسلام: ( كاسيات عاريات مائلات مميلات ) مائلات أي: بأنفسهن، مميلات لغيرهن بما يبدينه من زينتهن، فإنهن قد أملن الدين وأملن الأخلاق فانحرف هؤلاء بانحرافهن، وهذا يظهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ( واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )، ولهذا حرم النبي عليه الصلاة والسلام جملة من دواعي الفاحشة من النظر المحرم، بل بين النبي عليه الصلاة والسلام أن النظرة الأولى للإنسان، وأنه لا يجوز أن يستغفل، وبيّن عليه الصلاة والسلام نظر الفجاءة كما جاء في حديث جرير في الصحيح: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن النظرة )، بل قال غير واحد من العلماء: إن هذا محل إجماع، بل قال ابن مفلح في الفروع: إن النظر لشهوة محرم، ومن أنكره فقد كفر، ومراده بذلك أنه ظاهر في كلام الله سبحانه وتعالى، ومن أنكره فقد أنكر شيئاً بيناً من كلام الله عز وجل، فهو متواتر ومن أنكر المتواتر البين من جهة اللفظ أو المعنى فإنه كافر بالله سبحانه وتعالى خارج عن الملة.

ومن هذا المعنى نهى الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام في جملة من الأخبار أن تلبس المرأة ما يشف جسدها أو يصف عضوها، وهذا محل اتفاق عند العلماء، حكى اتفاق العلماء على ذلك غير واحد، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في المسند والبيهقي من حديث أسامة بن زيد ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له ثياباً قبطية، فلما لم يرها عليه سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: أهديتها لزوجتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مرها فلتضع تحتها شيئاً فإني أخشى أن تصب إضامها )، وقد حسن هذا الخبر غير واحد من الأئمة.

وقد جاء عند ابن سعد من حديث هشام بن عروة عن المنذر بن الزبير أنه لما قدم من العراق أهدى إلى أسماء بنت أبي بكر عليها رضوان الله تعالى ثياباً قبطية وكانت قد عميت فمستها بيدها فقالت: أف أعيدوا إليه كسوته، وراجعها في ذلك فقالت عليها رضوان الله تعالى: إنها تشف، وإذا لم تشف فإنها تصف. أي: تصف الجسد.

وقد جاء في ذلك عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كما جاء في سنن البيهقي وغيره: أنه نهى النساء عن لبس الثياب القبطية؛ لأنها تصف الأجساد، أو تشفها، أي: أنها تبدي الجسد من ورائها، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلبس الغلاظ من الثياب، حتى لا يظهر جسد المرأة، وهذا محل إجماع عند العلماء، ولا خلاف عندهم في ذلك.

لون اللباس الذي تلبسه المرأة

ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب ما تلبسه المرأة وتستتر به، وهل له لون معين أم لا؟ الوارد في ذلك عن الصحابيات عليهن رضوان الله تعالى أنهن كن يلبسن السواد، وقد جاء هذا عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما روى مسدد في مسنده من حديث إسماعيل بن أبي جعفر عن أمه وأخته أنهما دخلتا على عائشة عليها رضوان الله تعالى، وعليها خمار أسود، فسألنها عن تخمر المرأة وهي محرمة، فأخذت بخمارها من على صدرها ووضعته على وجهها، وقد جاء هذا في حديث أم سلمة لما أنزل الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، قالت: خرجن النساء وكأنهن الغربان عليهن أكسية سود، وجاء هذا عند عبد الرزاق في مصنفه وغيره، وجاء وهذا ما يفهم من خبر أنس بن مالك عليه رضوان الله تعالى كما في الصحيح، وإن لبست المرأة غير ذلك فلا حرج فيه، إذا كان عليه الوصف تاماً والابتداء بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا.

أقوال العلماء في حكم كشف شعر المرأة

وأما ما تستره المرأة، وقد اتفق العلماء على أنها يجب عليها أن تستر جميع جسدها على خلاف في بعض الأجزاء مما يأتي الكلام عليه، فاتفق العلماء على أن المرأة يحرم عليها أن تظهر شعرها، حكى إجماع العلماء على ذلك غير واحد منهم ابن المنذر ، وابن حزم الأندلسي في كتابه الإجماع، وغيره من الأئمة أنه لا يجوز للمرأة أن تظهر شعرها على الإطلاق، وهذا المقرر في سائر المذاهب الفقهية: المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة، وكذلك مذهب الظاهرية، بل قد نص الفقهاء من أرباب المذاهب البدعية من جهة الاعتقاد كالرافضة والإباضية وغيرها على أنه يحرم على المرأة أن تظهر شيئاً من شعرها، فيكون حينئذٍ هذا من النصوص القطعية المتواترة.

حكم النقاب

وأما النقاب وستر المرأة لوجهها من جهة الأصل وتقرير هذه المسألة، فينبغي أن يعلم أن النقاب كما أنه موجود في الجاهلية، فهو كذلك موجود في صدر الإسلام على هيئته بإظهار المرأة لعينيها، ومن نفى ذلك فإنه دليل على الجهل الظاهر البين، كما تقدمت الإشارة إليه ببيان أشعار الجاهليين، وكما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، كما ذكر ابن سعد في الطبقات من حديث أم سلمة أنها دخلت على أمهات المؤمنين، وهن منتقبات، وسمت منهن عائشة عليها رضوان الله تعالى، و زينب و جويرية ، وغيرهن عليهن رضوان الله تعالى، وكذلك ما يذكره الفقهاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام النقاب في جملة من المواضع في عورة المرأة عند الرجال، وسترها، وكذلك في مسائل المناسك، وتنقب المرأة في الإحرام، وقد عقد غير واحد من العلماء فصولاً في لبس المرأة نقابها في حال طوافها، كما ترجم لذلك الفاكهي في كتابه أخبار مكة فقال: باب ذكر طواف المرأة متنقبة، وأورد في ذلك عشرة من الأخبار، عن عبد الله بن عباس و عائشة و عطاء بن أبي رباح و مجاهد بن جبر و جابر بن زيد وغيرهم من السلف أنهم يرون طواف المرأة وهي متنقبة، وإن كانت محرمة إذا كانت لا تجد ما تغطي بها وجهها، وقد جاء ذلك عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ستأتي الإشارة إليه.