خطب ومحاضرات
شرح السنة للإمام المزني [7]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال المصنف رحمه الله: [ ولدى العرض عليه محاسبون بحضرة الموازين ونشر صحف الدواوين, أحصاه الله ونسوه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لو كان غير الله عز وجل الحاكم بين خلقه, لكنه الله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا، وهو أسرع الحاسبين، كما بدأه لهم من شقاوة وسعادة يومئذ يعودون، فريق في الجنة وفريق في السعير ].
الله سبحانه وتعالى وكل بعباده كتبة يحصون عليهم سيئاتهم وحسناتهم، ويكتبون عليهم الأفعال، فما من شيء يفعله العبد من صغيرة أو كبيرة إلا وأحصاها الله عز وجل عليه، ويسأله سبحانه وتعالى عنها، وإحصاء الله عز وجل على عباده إحصاء ليعلموا, لا ليعلم هو، فإن الله سبحانه وتعالى يحصي عليهم بالكتبة وبالحفظة، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى محص ليعلم؛ وإنما ليقيم الحجة على عباده حتى لا يعاندوه؛ لأن الإنسان خصيم وصاحب جدل، فأراد الله عز وجل أن يقيم عليه حجته.
والله سبحانه وتعالى يحشر عباده جميعاً -المؤمن والكافر- كما ولدتهم أمهاتهم، حفاة, عراة، غرلاً، ولا ينشغل أحدهم بالآخر؛ وذلك لهول المقام وهول المفزع، ولهذا لما استعظمت عائشة عليها رضوان الله تعالى ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الأمر أعظم من ذلك )؛ لشدة الكرب والفزع والخوف من المآل والعاقبة.
قال المصنف رحمه الله: (الله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا)، يعني: القيلولة، والقيلولة هي: ما يكون بعيد صلاة الظهر، وقيل القيلولة: ما يكون قبل الظهر.
وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62]، يعني: إن شاء يسر على عبده حسابه وإن شاء عسره، فالله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على عبده بما يشاء، من سرعة وعجلة، وبما يشاء يعسر الحساب، بتأخيره وتأجيله، وكذلك أيضاً تشديده على عبده، وما من أحد من العباد يناقش الحساب إلا ويعذب بمناقشته؛ للكرب الذي يجده، كما جاء في الخبر: ( من نوقش الحساب عذب ).
نعيم أهل الجنة
قال رحمه الله: [ وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون، وبصنوف اللذات يتلذذون، وبأفضل الكرامة يحبرون ].
وهنا في ذكر الجنة والنار قال رحمه الله: (وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون، وبصنوف اللذات يتلذذون، وبأفضل الكرامات يحبرون).
ونعيم الجنة على نوعين: نعيم حسي, ونعيم معنوي، فأما النعيم الحسي: فهو ما يمتعون به من مأكل، ومشرب، ومنكح، ومسكن، وغير ذلك مما يهيئه الله عز وجل لهم.
وأما النعيم المعنوي: فهو ما يجدونه من لذة معنوية، من المنظور أو المسموع؛ وهذا ليتم النعيم ويكمله الله عز وجل لعباده سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد جعل ما في الجنة مغايراً لما في الدنيا، فليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، فالخمر يشابه الخمر باسمه، والطلح يشابه الطلح باسمه، والزعفران يشابه الزعفران باسمه، واللبن يشابه اللبن باسمه، تتشابه من جهة الأسماء ولكن تختلف من جهة الحقيقة؛ وذلك لأن الله عز وجل يقول كما في الحديث الذي في الصحيح: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، يعني: أنهم لم يروا ذلك من قبل، وإذا كان مخلوق الآخرة الذي يتنعم به الإنسان ليس له مثيل في الدنيا فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟.
أنواع الحساب في الآخرة
وأما بالنسبة للحساب الذي يكون من الله عز وجل لعباده نجمله على نوعين:
النوع الأول: حساب يكون في حق الله سبحانه وتعالى، أي: بين العبد وبين ربه في حقه جل وعلا، وذلك فيما يقصر به العبد في جنب الله سبحانه وتعالى، من التقصير في الواجبات، وفعل المحرمات التي نهى الله عز وجل عنها وحقها يتعلق بحقه جل وعلا، كشرب الخمر فهو منكر لازم، وكذلك الزنا -ما لم يكن في ذلك بغي وتعدٍّ كما يسمى بالاغتصاب- فهو محرم لازم لله عز وجل يكون بين الاثنين، كل واحد بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً ما يكون من الأمور المحرمة التي تكون بالتراضي، مثل الربا والقمار وغير ذلك، لا يكون في ذلك حقوق بين العباد ولكن هو حق لله سبحانه وتعالى. كذلك التفريط في الواجبات، وذلك بترك شيء من الصلاة، أو التقصير فيها، أو ترك الصيام، أو غير ذلك مما أوجبه الله عز وجل، فذلك حق لله سبحانه وتعالى، الفصل فيه يكون بين العبد وربه، وأما سره وعلانيته، فالله عز وجل يفضح من شاء من عباده، ويستر من شاء من عباده، فربما ستر عبده ولم يبد سيئته لأحد إلا له، ومنهم من يفضحه الله عز وجل بسيئته.
وأولى من يهتك الله عز وجل ستره في ذلك أناس: منهم: الذين يجاهرون بحرمات الله سبحانه وتعالى، ومنهم: الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، من المنافقين وأضرابهم، حيث يظهر الله عز وجل أمرهم يوم القيامة، وأما من جهة زمن حسابهم، فإنهم يحاسبون قبل دخول الجنة والنار؛ لأنهم بسيئاتهم وحسناتهم يتمايزون بالمقام في الجنة والنار، وهذا فيما يتعلق من حق الله سبحانه وتعالى.
أما النوع الثاني: فهي الحقوق التي تكون بين الآدميين، فقد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يغفرها للعبد يوم القيامة، إلا إذا أداها الإنسان لصاحبها في الدنيا أو تحلل من صاحبها في الدنيا، فأما بقية المكفرات لذلك فبالاستغفار والتوبة، والحسنات التي تذهب السيئات، والمصائب والهموم، وهذه لا تأتي على حقوق بني آدم، فمن أخذ مالاً من أحد أو ضربه أو قتله فذلك حق بين الآدميين، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم )، يعني: أن الله عز وجل يجعل العباد يوم القيامة يتقاصون حقوقاً كانت بينهم، ولا يجريها الله عز وجل تحت مشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قضى في ذلك ألا يغفره لعبده إلا بأداء الحقوق إلى أهلها، كما جاء في الصحيح من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص الله من الشاة القرناء للشاة الجماء )، يعني: لا بد من إعادة الحقوق في الدنيا لأهلها؛ حتى يحصل الإنصاف بين العباد.
أحوال قضاء الله تعالى في حقوق العباد من جهة الزمان
وما كان من حقوق بني آدم فيما بينهم، فنقول: إنه يكون على أحوال من جهة زمان القضاء فيه:
الأولى: ما كان من المشركين الذين قضى الله عز وجل عليهم الخلود في النار، فإن الله عز وجل ينصفهم في الحقوق التي بينهم في الدنيا قبل دخول النار؛ لأنهم يتمايزون من جهة شدة العذاب وخفته بناء على ذلك.
والثانية: من قضى الله عز وجل عليهم دخول الجنة من غير ولوج النار قبل ذلك، فهؤلاء يقضي الله عز وجل بينهم حقهم كذلك؛ لأنهم يتمايزون بمراتبهم في الجنة.
الثالثة: من قضى الله عز وجل عليهم من المؤمنين دخول النار والخروج منها إلى الجنة، هؤلاء لا يفصل الله عز وجل بينهم قبل دخول النار، وإنما يفصل بينهم في حقه اللازم له، ثم يفصل بينهم في الحقوق التي بينهم بعد الخروج من النار، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج المؤمنون من النار، فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم )، أي: حقوق الدنيا لم تقتص بينهم قبل دخول النار، إنما أجلت لهم إلى ما بعد الخروج من النار وقبل دخول الجنة، ثم يقتصون الحقوق؛ لأنها تفرقهم في المرتبة في الجنة.
وأما من كان له حق من أهل النار على أهل الجنة، ومن كان له من أهل الجنة حق على أهل النار، فإن الله عز وجل يقضي عليه الحق قبل أن يدخلها؛ بمعنى: أنه إذا كان لأحد من أهل النار حق على أحد من أهل الجنة أو العكس، ثم كتب لهذا الجنة، وذاك كتب له النار بموجب آخر، فالله عز وجل يقضي بينهم قبل دخولهم الجنة وقبل دخولهم النار؛ وذلك لما جاء في حديث جابر بن عبد الله في المسند وأصله في الصحيح معلق، قال عليه الصلاة والسلام: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فيقول: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قالوا: يا رسول الله! كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاة عراة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالحسنات والسيئات )، يعني: تقتصون حقوقاً لا بالقصاص بالضرب أو القتل أو غير ذلك، أو بالدنانير والدراهم، وإنما يبدلها الله حسنات وسيئات، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى يؤجل بعض حقوق العباد الذين كتب الله عز وجل عليهم دخول النار إلى ما بعد الخروج منها، حتى تكون رفعة لهم في الجنة.
فالحقوق المتلازمة لصاحب جنة مع صاحب نار، يعيدها الله عز وجل لأصحابها قبل دخول هؤلاء أماكنهم، وهذا مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى.
وأما ما يتعلق بالحقوق التي كانت لأهل النار من أهل الجنة، فإن الله سبحانه وتعالى يدخلهم النار، فإذا محصهم بذنوبهم التي من حقه جل وعلا، تبقى الحقوق التي بينهم، ثم يجعلها بعد ذلك في القنطرة التي تكون بين الجنة والنار، يتمايزون فيها بعد ذلك مرتبة في الجنة، فينقص هذا ويزيد هذا بحسب الحقوق.
تعظيم حقوق الآدميين
وبهذا نعلم أن ما كان من حقوق الآدميين فقد قضى الله عز وجل ألا يغفره لصاحبه إلا بإعادة الحقوق إلى أهلها, ولهذا عظم حق الآدميين فيما بينهم على حق الله عز وجل الخاص سوى الشرك؛ لأن حق الآدميين مبني على المشاحة لا على المسامحة، وحق الله عز وجل مبني على المسامحة؛ لعظم رحمته سبحانه وتعالى, وأعظم الحقوق التي تكون بين المؤمنين فيما يظهر هو حق النبي في مقابل حق غيره، وحق المجاهد على القاعد؛ كما جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، ومن خلف غازياً في أهله فخانه فيهم أوقفه الله عز وجل على حسناته يوم القيامة، فيقال له: خذ منها ما شئت، فما ظنكم )، يعني: ما ظنكم أنه تارك من ذلك, والأمر في ذلك مبني على المشاحة، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى يباين بين حقوق العباد بحسب مراتبهم ومنازلهم، فحق الأب على ابنه من جهة المال ومن جهة التعدي عليه يختلف عن العدوان على الأخ، والعدوان على الجار القريب يختلف عن الجار البعيد، كما أن الزنا بحليلة الجار يختلف عن الزنا بحليلة الأبعد، فإنه أعظم، كما أن الوقيعة في نساء المحارم يختلف عن الوقيعة في نساء الأبعدين وإن كان جنس العمل واحداً.
ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يحترز في حقوق الآدميين قدر وسعه وإمكانه، فإنه لا بد من قضائها يوم القيامة، وقضاؤها يكون فيما يستهلكه من عمره من أعمال وطاعات يفعلها لسنوات يذهب بها رجل واحد بسبب حق من الحقوق, إما حق مالي, أو حق في عرضه، أو حق في دمه، فالاحتراز في ذلك مطلوب، فإن الله عز وجل عدل.
ولو نفذت حسنات الإنسان وما بقي عنده شيء، فإن الله يرجع إلى سيئات الإنسان ويعطيه بمقدارها؛ كما جاء في حديث المفلس في صحيح الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال, ويأتي وقد ضرب هذا -انظروا, لا يوجد فيها شيء من حقوق الله الخاصة، كلها حقوق عامة بين الناس-، ولطم هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار )، وهذا من كمال عدل الله سبحانه وتعالى وإنصافه، ومن كمال عدله أيضاً أن يجعل الحقوق بين المخلوقين شاملة للبهائم في القصاص فيما بينها, مع أنها ليست مكلفة برسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن هذه الأمور مدركة بالطبع، وهذا دليل على شدة وازع الطبع وقوته، وأثره في باب التكليف وعدم العذر.
قال رحمه الله: [ وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون، وبصنوف اللذات يتلذذون، وبأفضل الكرامة يحبرون ].
وهنا في ذكر الجنة والنار قال رحمه الله: (وأهل الجنة يومئذ في الجنة يتنعمون، وبصنوف اللذات يتلذذون، وبأفضل الكرامات يحبرون).
ونعيم الجنة على نوعين: نعيم حسي, ونعيم معنوي، فأما النعيم الحسي: فهو ما يمتعون به من مأكل، ومشرب، ومنكح، ومسكن، وغير ذلك مما يهيئه الله عز وجل لهم.
وأما النعيم المعنوي: فهو ما يجدونه من لذة معنوية، من المنظور أو المسموع؛ وهذا ليتم النعيم ويكمله الله عز وجل لعباده سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قد جعل ما في الجنة مغايراً لما في الدنيا، فليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء، فالخمر يشابه الخمر باسمه، والطلح يشابه الطلح باسمه، والزعفران يشابه الزعفران باسمه، واللبن يشابه اللبن باسمه، تتشابه من جهة الأسماء ولكن تختلف من جهة الحقيقة؛ وذلك لأن الله عز وجل يقول كما في الحديث الذي في الصحيح: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )، يعني: أنهم لم يروا ذلك من قبل، وإذا كان مخلوق الآخرة الذي يتنعم به الإنسان ليس له مثيل في الدنيا فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟.
وأما بالنسبة للحساب الذي يكون من الله عز وجل لعباده نجمله على نوعين:
النوع الأول: حساب يكون في حق الله سبحانه وتعالى، أي: بين العبد وبين ربه في حقه جل وعلا، وذلك فيما يقصر به العبد في جنب الله سبحانه وتعالى، من التقصير في الواجبات، وفعل المحرمات التي نهى الله عز وجل عنها وحقها يتعلق بحقه جل وعلا، كشرب الخمر فهو منكر لازم، وكذلك الزنا -ما لم يكن في ذلك بغي وتعدٍّ كما يسمى بالاغتصاب- فهو محرم لازم لله عز وجل يكون بين الاثنين، كل واحد بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً ما يكون من الأمور المحرمة التي تكون بالتراضي، مثل الربا والقمار وغير ذلك، لا يكون في ذلك حقوق بين العباد ولكن هو حق لله سبحانه وتعالى. كذلك التفريط في الواجبات، وذلك بترك شيء من الصلاة، أو التقصير فيها، أو ترك الصيام، أو غير ذلك مما أوجبه الله عز وجل، فذلك حق لله سبحانه وتعالى، الفصل فيه يكون بين العبد وربه، وأما سره وعلانيته، فالله عز وجل يفضح من شاء من عباده، ويستر من شاء من عباده، فربما ستر عبده ولم يبد سيئته لأحد إلا له، ومنهم من يفضحه الله عز وجل بسيئته.
وأولى من يهتك الله عز وجل ستره في ذلك أناس: منهم: الذين يجاهرون بحرمات الله سبحانه وتعالى، ومنهم: الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، من المنافقين وأضرابهم، حيث يظهر الله عز وجل أمرهم يوم القيامة، وأما من جهة زمن حسابهم، فإنهم يحاسبون قبل دخول الجنة والنار؛ لأنهم بسيئاتهم وحسناتهم يتمايزون بالمقام في الجنة والنار، وهذا فيما يتعلق من حق الله سبحانه وتعالى.
أما النوع الثاني: فهي الحقوق التي تكون بين الآدميين، فقد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يغفرها للعبد يوم القيامة، إلا إذا أداها الإنسان لصاحبها في الدنيا أو تحلل من صاحبها في الدنيا، فأما بقية المكفرات لذلك فبالاستغفار والتوبة، والحسنات التي تذهب السيئات، والمصائب والهموم، وهذه لا تأتي على حقوق بني آدم، فمن أخذ مالاً من أحد أو ضربه أو قتله فذلك حق بين الآدميين، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم )، يعني: أن الله عز وجل يجعل العباد يوم القيامة يتقاصون حقوقاً كانت بينهم، ولا يجريها الله عز وجل تحت مشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قضى في ذلك ألا يغفره لعبده إلا بأداء الحقوق إلى أهلها، كما جاء في الصحيح من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص الله من الشاة القرناء للشاة الجماء )، يعني: لا بد من إعادة الحقوق في الدنيا لأهلها؛ حتى يحصل الإنصاف بين العباد.
وما كان من حقوق بني آدم فيما بينهم، فنقول: إنه يكون على أحوال من جهة زمان القضاء فيه:
الأولى: ما كان من المشركين الذين قضى الله عز وجل عليهم الخلود في النار، فإن الله عز وجل ينصفهم في الحقوق التي بينهم في الدنيا قبل دخول النار؛ لأنهم يتمايزون من جهة شدة العذاب وخفته بناء على ذلك.
والثانية: من قضى الله عز وجل عليهم دخول الجنة من غير ولوج النار قبل ذلك، فهؤلاء يقضي الله عز وجل بينهم حقهم كذلك؛ لأنهم يتمايزون بمراتبهم في الجنة.
الثالثة: من قضى الله عز وجل عليهم من المؤمنين دخول النار والخروج منها إلى الجنة، هؤلاء لا يفصل الله عز وجل بينهم قبل دخول النار، وإنما يفصل بينهم في حقه اللازم له، ثم يفصل بينهم في الحقوق التي بينهم بعد الخروج من النار، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج المؤمنون من النار، فيوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم )، أي: حقوق الدنيا لم تقتص بينهم قبل دخول النار، إنما أجلت لهم إلى ما بعد الخروج من النار وقبل دخول الجنة، ثم يقتصون الحقوق؛ لأنها تفرقهم في المرتبة في الجنة.
وأما من كان له حق من أهل النار على أهل الجنة، ومن كان له من أهل الجنة حق على أهل النار، فإن الله عز وجل يقضي عليه الحق قبل أن يدخلها؛ بمعنى: أنه إذا كان لأحد من أهل النار حق على أحد من أهل الجنة أو العكس، ثم كتب لهذا الجنة، وذاك كتب له النار بموجب آخر، فالله عز وجل يقضي بينهم قبل دخولهم الجنة وقبل دخولهم النار؛ وذلك لما جاء في حديث جابر بن عبد الله في المسند وأصله في الصحيح معلق، قال عليه الصلاة والسلام: ( يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله عز وجل بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فيقول: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قالوا: يا رسول الله! كيف وإنا نأتي الله عز وجل حفاة عراة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالحسنات والسيئات )، يعني: تقتصون حقوقاً لا بالقصاص بالضرب أو القتل أو غير ذلك، أو بالدنانير والدراهم، وإنما يبدلها الله حسنات وسيئات، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى يؤجل بعض حقوق العباد الذين كتب الله عز وجل عليهم دخول النار إلى ما بعد الخروج منها، حتى تكون رفعة لهم في الجنة.
فالحقوق المتلازمة لصاحب جنة مع صاحب نار، يعيدها الله عز وجل لأصحابها قبل دخول هؤلاء أماكنهم، وهذا مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى.
وأما ما يتعلق بالحقوق التي كانت لأهل النار من أهل الجنة، فإن الله سبحانه وتعالى يدخلهم النار، فإذا محصهم بذنوبهم التي من حقه جل وعلا، تبقى الحقوق التي بينهم، ثم يجعلها بعد ذلك في القنطرة التي تكون بين الجنة والنار، يتمايزون فيها بعد ذلك مرتبة في الجنة، فينقص هذا ويزيد هذا بحسب الحقوق.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح السنة للإمام المزني [9] | 2609 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [8] | 2416 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [10] | 1922 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [1] | 1894 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [5] | 1549 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [3] | 1369 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [6] | 1236 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [4] | 979 استماع |
شرح السنة للإمام المزني [2] | 669 استماع |