شرح السنة للإمام المزني [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فثمة مسألة تتعلق بالإيمان سألها أحد الإخوة, وهي ما يتعلق بقول المصنف رحمه الله: (الإيمان قول وعمل) واستشكل ما يأتي في بعض النصوص من إدخال الله عز وجل لبعض المؤمنين وإخراجهم من النار ولم يعملوا خيراً قط؛ كما جاء في حديث أبي هريرة عليه رضوان الله, وهذا الحديث في الصحيح, وفيه: ( لم يعملوا خيراً قط ), والإيمان قول وعمل, ولا يصح إيمان الإنسان إلا بقول وعمل, ومعلوم أن الإنسان إذا لم يكن لديه قول وعمل في إيمانه الباطن والظاهر فإنه ليس بمؤمن, وإذا لم يكن مؤمناً فالله عز وجل قد حرم على المشركين الجنة, فكيف يخرج الله عز وجل من لم يعمل خيراً قط من النار ويدخله الجنة؟

موجبات دخول الجنة بين الأفعال والتروك

فينبغي الكلام على مسألة تعتبر مقدمة لهذا الإشكال, وهي أن الله سبحانه وتعالى يدخل بعض عباده الجنة بعد أن يدخله النار ممن شاء وقدر عليه العذاب من أهل الإيمان, ومن قضى الله عز وجل عليه الكفر وعذبه سبحانه وتعالى به يدخله النار بالأفعال والتروك, فلدينا أفعال وتروك, فالأفعال والتروك يستقل الناس فيها ويستكثرون, فمنهم من يستكثر من أمور الأفعال ومنهم من يقل منها, ومنهم من يستكثر من التروك مخلصاً ومنهم من يقع في المحرمات, لذا قد يستوجب بعض العباد دخول الجنة بالتروك مع قلة في الأفعال, وذلك أنه ترك المحرمات وترك الموبقات وترك المهلكات ولكن لديه عمل قليل, فعظم لديه الترك وقل لديه الفعل, وقد يدخل الله سبحانه وتعالى بعض عباده النار بفعل محرم مع وجود عمل صالح لديه, وقد يدخل الله سبحانه وتعالى بعض عباده النار بترك الطاعات -وهو يقابل دخول الجنة بفعلها- مع أنه لم يفعل المحرمات, فيكون لديه ترك الطاعات كثيراً وفعل المحرمات قليلاً, والناس في ذلك بين مستقل ومستكثر, إذا أدركنا هذه المسألة فإننا نفرق بين الفعل الذي يبادر به الإنسان من جهة العمل, وهو المقصود لدينا في مسألة الإيمان وبين ما يتعلق بمسألة التروك, إذا أدركنا هذا الأصل فدعونا ننتقل إلى معنى آخر.

دليل الطبع والشرع وأثرهما في العذاب والنجاة

وهذا المعنى وهو أن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على فطرة صحيحة مستقيمة, وهذه الفطرة هي ما جبلهم عليها من إدراك بعض المحرمات بلا نص, فهم يفهمون المحرم بلا نص من الوحي, وهذا ما يسمى بوازع الطبع, وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], وكما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), وهذا دليل الفطرة, فما هي المسائل التي يعرفها الإنسان بلا نص؟ فيعرف أنها محرمة بلا وحي وبلا رسول وبلا نذير؟ يعرف الأشياء المحرمة كالقتل, فيعرف أنه محرم بالفطرة, ويعرف أن السرقة -وهي أخذ مال الناس خفية- محرمة, ولا يحتاج إلى نص, وإنما جاء النص في ذلك مؤكداً ومعظماً, فدليل الطبع هو النوع الأول؛ وهو دليل الفطرة.

النوع الثاني: هو دليل الشرع الذي لا يمكن لأحد من الناس أن يعلم التشريع به فطرة, وإنما لا بد من دليل من الشرع يبينه الوحي من الكتاب والسنة, فدليل الشرع هي هذه الشرائع, فالإنسان يولد ويكبر ولا يعلم أحكام الصلاة, فهل يمكن أن يعلم الصلاة بالطبع والفطرة؟ لا يمكن أن يعلمها, لكن يعلم أن ثمة خالقاً يستحق التذلل والتعبد والخضوع والطاعة له, لكن كيف يطيع وهو لا يعرف هذا, فتأتي الشريعة ببيان هذه الأحكام, كذلك أيضاً هناك محرمات لا يدل عليها دليل الطبع, وإنما يدل عليها دليل الشرع, كلبس الذهب والفضة مثلاً من المنهيات للرجال, فهذا لا يدل عليه غالباً دليل الفطرة, وإنما لا بد من دليل الشرع, كذلك النهي عن الأكل بالشمال وغير ذلك فهذه لا بد فيها من دليل الشرع، ولا يدل عليها دليل الطبع.

والله سبحانه وتعالى يعاقب عباده بالأمرين, بدليل الطبع وبدليل الشرع؛ ولهذا الإنسان إذا كان ملحداً يزعم أنه لا خالق, ثم قام بجريمة قتل ولم يكن لديه نص من الوحي من كلام الله ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القتل محرم وببيان عقوبته, فالله سبحانه وتعالى يوم القيامة يؤاخذه على القتل ولو فعله من غير علمه بالشرع؛ لأن الدليل قائم بالطبع, ولهذا ينزل الخلق عليه العقوبة فيما بينهم، فإذا قتل فإنهم ينزلون عليه العقوبة بذلك؛ لأن هذا الأمر معلوم بالطبع.

كذلك أيضاً ما يكون من السرقة والاغتصاب وغير ذلك من الأمور المعروفة في الطبائع, ولهذا تجد الناس على اختلاف شرائعهم ومللهم, سواء كانت سماوية محرفة أو محكمة، أو كانوا أيضاً من أهل الاختراع والابتداع للملل أو من الذين يعبدون الأصنام والأوثان, كلهم يحرمون القتل، والسرقة، وغصب الناس أموالهم وضربهم وغير ذلك؛ لأن دليل الطبع في ذلك قائم عندهم.

فإذا وجد مسلم من المسلمين يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ولم يرد إليه من نصوص الشرع إلا شيء يسير يقوم به, أو ربما لم يأته شيء من الأدلة إلا ما ينطق به من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يأته شيء من تفصيلها, ثم قام بالقتل, فهل يعاقبه الله عز وجل يوم القيامة بالقتل أو لا يعاقبه، مع أنه لم يأته دليل من الكتاب، ولا أيضاً من السنة أن القتل حرام؟ الجواب: أن الله يعاقبه بالقتل؛ لأن دليل الفطرة قائم فيه, ودليل الطبع تارة يكون في الإنسان أقوى من دليل الشرع, والله الذي أوجد دليل الطبع في الإنسان هو الذي أنزل دليل الشرع على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس.

ولهذا تقوم الحجة على الإنسان بالدليلين: بدليل الطبع ودليل الشرع, وقد جعل الله سبحانه وتعالى دليل الطبع في الناس فيما فطرهم عليه من الإيمان بوحدانيته حينما أخرج من آدم ذريته وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172], وهذا الإشهاد هو دليل الطبع, وهو الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى, ويقيم الله عز وجل الحجة على عباده يوم القيامة بهذا الدليل؛ بأنك خلقت وأنك مطبوع على الإيمان بالخالق, فلماذا تجحد الحقيقة التي يؤمن بها العقل، ويؤمن بها السمع والبصر من جهة ما يشاهده, ولماذا تكفر بها, فدليلها في ذلك قائم, لكن ما يتعدى عن هذا وهو كيف يُعبد الخالق؟ أنت تؤمن بوجود خالق لكن الصلة بينك وبين وصف هذا الخالق وبين صرف العبادة له هذا الأمر الذي يحتاج إلى دليل شرعي, وهو مساحة العذر بالجهل, ولهذا لا يعذر الملحد بلغه الدليل أو لم يبلغه الدليل؛ لأنه قد قام فيه قائم الطبع, ولهذا حينما يأتي شخص ويقول: أنا لا أؤمن بوجود خالق, فهذا لا يعذر بجهله مع أنه لم يأته نبي مرسل؛ لأن دليل الطبع في فطرة الإنسان موجود وهو الذي جحده, ولو جاءه نص لجحده أيضاً, إذاً هو يجحد دليلاً مشابهاً من جهة الحجة لدليل الشرع، وهو ما يأتي من آيات الله سبحانه وتعالى في كتابه ووحيه العظيم.

كيفية دخول الشخص النار وخروجه منها ولم يعمل خيراً قط

ولهذا نأتي إلى مسألة وهي أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط, إذاً ماذا كان يفعل؟ لماذا دخل النار؟ لدينا الباب الآخر, وهو أنه لم يفعل خيراً قط, بل كان يفعل محرمات, فعدم فعله للخير على أمرين: إما بعلم أو بعدم علم, فالإنسان يدخل الجنة إما بأفعال أو بتروك: فالتروك كتروك المحرمات والأفعال كأفعال الطاعات.

فلا بد أن يوجد جنس الأفعال في الإنسان حتى يستوجب الجنة, فقد يكون لدى الإنسان مثقال ذرة من الأفعال فحفظ على إيمانه, ولكن لديه تروك كثيرة من المحرمات زادت في ثوابه مخلصاً لله عز وجل فاستحق دخول الجنة.

وكذلك بالنسبة لدخول النار, فقد يدخل الإنسان النار ولديه أكثر من مثقال الذرة من جهة الطاعات، ولكن لديه محرمات وأفعال، فهو لم يفِ بالتروك التي أمر الله عز وجل بتركها فاستحق حينئذ دخول النار؛ كالذي يقع في الزنا, ويقع في الربا, ويقع في السرقة, ولكنه يصلي ويصوم، وآخر أقل منه صلاة ولكن لديه تروك, أي: تارك المحرمات, فهذا يدخل الجنة، وذاك يعذب في النار.

ولهذا لدينا بابان: الباب الأول باب الأفعال, والباب الثاني باب التروك, ولدينا دليلان: دليل الطبع, ودليل الشرع, وكلها يعاقب الله عز وجل بها عباده بالأفعال والتروك, ويثيب الله عز وجل عباده أيضاً بنوع من الأفعال والتروك.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد يدخل عبداً النار ولم يبلغه دليل الأفعال في الشرع, بمعنى: أن الإنسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وهو لا يدري ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك, ولا يعلم شيئاً من الشريعة, فهذا معذور، لكنه يقتل ويزني ويسرق, فلم يأته دليل من الشرع في فرضية الصلاة فضلاً عن أن يأتيه دليل من الشرع بمسألة الزنا والسرقة والقتل, لكنه يزني ويسرق ويقتل, فهذا يستوجب النار, وقد يعذبه الله سبحانه وتعالى, وهو لديه أفعال، فإذا عذبه الله عز وجل عذبه بما ثبت من دليل الطبع فيه, وهو تحريم القتل, وإن لم يأت نص بتحريم القتل لديه, فالقرآن ليس لديه والسنة ليست لديه, لكن دليل الطبع موجود لديه بتحريم القتل, فعذبه الله به، ولكن لم يعذبه بترك الأعمال؛ لأنه ليس لديه خير يخرجه من النار إلى الجنة, ولما عذبه الله بالقتل، وعذبه بالزنا، وعذبه بالسرقة وعاقبه فيها ومحصه ليس لديه عمل خير, فهذا يخرج من النار ولم يعمل خيراً قط.

وهذا التوجيه, يؤيده حديث حذيفة عند ابن ماجه وكذلك عند الحاكم في المستدرك مرفوعاً: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ), يعني: يدفن وتطمس معالمه, ( حتى لا يدرى ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك, إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله, سمعنا آباءنا يقولونها ونحن نقولها ) هذا لديه قول, لكن ليس لديه عمل, قيل لـحذيفة: ( ما تفعل به لا إله إلا الله؟ قال: تنجيه من النار لا أبا لك ), لهذا نقول: إن الإنسان الذي ليس لديه علم بالأفعال يعذر بعدم فعله لعدم علمه, ولو قيل: كيف يدخل النار؟ فنقول: بالأفعال التي دل عليها الطبع, ولهذا لو تأتي الأرض من مشرقها إلى مغربها, فتسأل أي شخص عن حكم القتل, فيقول لك: محرم طبعاً, والسرقة محرمة, فيؤمنون بهذا, فما الذي جعلهم يؤمنون به؟ فنقول: دليل أوجده الله في الناس كما أنزل الوحي؛ ليؤيده بالطبع, ولهذا تنحرف بعض الفطر, فتجد أنهم يجعلون الزنا حلالاً, فهذه فطر مبدلة، فكما تبدل الشرائع تبدل كذلك الفطر.

توجيه حديث: (لم يعمل خيراً قط) في اللغة

أيضاً من الأمور التي يوجه فيها هذا أن العرب قد تستعمل قولهم: لم يعمل خيراً قط, أو لم ير شيئاً قط, لشدة ما يخالفه, ولهذا جاء في الحديث ( في الرجل الذي يغمس في النار غمسة, هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا, أو يغمس في الجنة غمسة وهو أبأس الناس، فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا ), فهذا كلامه ليس بصحيح؛ لأن معنى قوله: لم يمر به بؤس قط، أنه رأى نعيماً لعظمته تضاءل لديه ما مر به من بؤس, وقوله: لم يمر به نعيم قط، أنه رأى عذاباً لهوله تضاءل ما مر به من نعيم.

ولهذا قد يستعمل في لغة العرب أنه لم يفعل خيراً قط لعظم السيئات في مقام الحسنات, وهذا أسلوب عربي, وأمثال هذه النصوص لا نضرب بها المحكم, وإنما نفسرها ونبينها على ما جاء في أصول الشريعة العامة, ونفهم بالتفصيل والتأصيل الأول مسألة من المسائل المهمة, وهي مسألة العذر بالجهل, فثمة أشياء دل عليها دليل الطبع فالأصل ألا يعذر بها أحد, شخص يقول: أنا ملحد, نقول: هذا دل عليه دليل الطبع, لسنا بحاجة لمحمد ولا لعيسى ولا لموسى, لسنا بحاجة إلى شيء, دليل الطبع قام في هذا الأمر, فالقاتل يعاقب, لو جاءنا رجل الآن وقال: إني قتلت فلاناً ولم يبلغني دليل من الكتاب والسنة عن هذا, فيقام عليه الحد؛ لأنه ليس بحاجة إلى نص؛ لأن الله فطره على هذا الشيء وأوجد فيه هذا الأمر, وموجد الطبع هو منزل الشرع, وقد أقام الحجة بالاثنين, إذاً ما فائدة الشرع مع ثبوت ذلك في الطبع؟ ليحافظ على الطبع من التبديل وكذلك يؤكد الطبع بالتنزيل حتى يعظم في نفس الإنسان القتل.

ولهذا جاءت النصوص متكاثرة بالوعيد على القتل والزنا وغير ذلك؛ حتى تكبح جماح الشهوة والعدوان, فالإنسان قد يحب الانتقام؛ فيأتيه النص ويوقفه, وقد يتجاوز الطبع فيأتيه النص, ولهذا إذا اجتمع الطبع والشرع على الإنسان تقاويا على أسره وتقييده, وإذا كان الإنسان صاحب فطرة صحيحة وصاحب شرع صحيح فإنه حينئذ يكون أكثر انضباطاً.

وقد يكون الإنسان منضبطاً بطبع صحيح بلا شرع يعلمه, وينضبط في دائرة الشرع ويضل فيما فقده من أمور الشرع, ولهذا نعرف دوائر العذر, ودوائر عدم العذر؛ فلو شرب شخص الخمر وسكر ولم يعلم دليلاً من الشرع في ذلك؛ فهل يعذر بشربه الخمر أو لا يعذر؟ الجواب أنه يعذر؛ لأن الخمر لا يدل على تحريمها الطبع, كذلك الذي يترك الصلاة, وهو جاهل بها وثبت جهله, فدليل الطبع لا يدل على هذا, لكن لو سرق، أو زنى، أو ضرب، أو اغتصب أو غير ذلك فهذه يدل عليها دليل الطبع؛ لأنه بطبع الإنسان لا يحب أن ترتد إليه هذه الأشياء, ولا يحب أن تكون منه, وإن وجد نزوة أن تكون في غيره.

أحكام العذر بالجهل

ثم بعد ذلك تأتي الدائرة الأخرى وهي العذر بالجهل في مسألة من مسائل الشرع متى يعذر الإنسان ومتى لا يعذر؟ فما تمكن الإنسان من العلم به ولم يسعَ إلى تحقيقه, فهذا لا يعذر به ولو كان جاهلاً من جهة الحقيقة؛ فحينما تأتي إلى شخص وتقول له: هذه أحكام الإسلام وأركانه, قم بقراءتها وتعلمها لتتعبد لله, ثم تركها ولم يقرأها, فهذا من جهة الحقيقة هو جاهل, وشخص آخر لم يعرض عليه الإسلام ولم يعلم بمكانه حتى يسعى إليه, ولم يسعَ إليه, اشتركا في الجهل, لكن ذاك تمكن من العلم وعلم بمكانه فأعرض, ولو طلبه لرفع الجهل عنه, وذاك ما علم بمكانه وما عرض عليه, فيعذر الثاني ولا يعذر الأول, بحسب الحال, وهي على مراتب, قد تختلف في زمن ولا تختلف في زمن, وتشتهر في موضع دون موضع.

وتأتي بعض المسائل الخلافية في هذا الأمر, ومنها مسألة الشرك والوثنية, هل يعذر الإنسان بجهله في أمر الوثنية إذا عبد الأصنام أم لا يعذر؟ فتدخل في هذه الدائرة, هل عبادة الأصنام يدل عليها دليل الطبع منفرداً؟ فإنك تعلم بوجود خالق فلماذا تعبد الحجر؟ إذا عبد الحجر منفرداً على أنه الخالق مدبر الكون إذاً نفى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وذلك بتعدده, فالعلماء عليهم رحمة الله تعالى لهم كلام في هذا, فمنهم من ينفي العذر في مثل هذا الأصل, ومنهم من يعذر بحسب الحال.

ولهذا يختلفون في مسألة أهل الفترة على أقوال, وهي تتقارب من جهة التأصيل وتختلف من جهة التنزيل, والكلام على هذه المسألة يحتاج إلى بسط, ولكن نكتفي بهذا القدر.

وبه نعلم المسألة التي يتكلم فيها العلماء, أو يسأل عنها بعض الإخوة, وهي مسألة كيف يخرج الله عز وجل أناساً من النار لم يعملوا خيراً قط ويدخلهم الجنة مع أننا نقول: إن الإيمان قول وعمل, إذاً إذا انتفى الإيمان ليسوا من أهل الإسلام, نقول: انتفى عنهم العمل بعذر وعوقبوا بالتروك, لوجود وازع الطبع فكابروا عليه فعوقبوا عليه, ولهذا قد يدخل الإنسان النار ولو لم يعلم دليلاً بحرمة السرقة، وحرمة القتل، وما في أحكامها؛ لوجود قائم الطبع في ذلك, ويعظم عليه العقاب إذا اجتمع فيه الوازعان: وازع الطبع, ووازع الشرع.

فينبغي الكلام على مسألة تعتبر مقدمة لهذا الإشكال, وهي أن الله سبحانه وتعالى يدخل بعض عباده الجنة بعد أن يدخله النار ممن شاء وقدر عليه العذاب من أهل الإيمان, ومن قضى الله عز وجل عليه الكفر وعذبه سبحانه وتعالى به يدخله النار بالأفعال والتروك, فلدينا أفعال وتروك, فالأفعال والتروك يستقل الناس فيها ويستكثرون, فمنهم من يستكثر من أمور الأفعال ومنهم من يقل منها, ومنهم من يستكثر من التروك مخلصاً ومنهم من يقع في المحرمات, لذا قد يستوجب بعض العباد دخول الجنة بالتروك مع قلة في الأفعال, وذلك أنه ترك المحرمات وترك الموبقات وترك المهلكات ولكن لديه عمل قليل, فعظم لديه الترك وقل لديه الفعل, وقد يدخل الله سبحانه وتعالى بعض عباده النار بفعل محرم مع وجود عمل صالح لديه, وقد يدخل الله سبحانه وتعالى بعض عباده النار بترك الطاعات -وهو يقابل دخول الجنة بفعلها- مع أنه لم يفعل المحرمات, فيكون لديه ترك الطاعات كثيراً وفعل المحرمات قليلاً, والناس في ذلك بين مستقل ومستكثر, إذا أدركنا هذه المسألة فإننا نفرق بين الفعل الذي يبادر به الإنسان من جهة العمل, وهو المقصود لدينا في مسألة الإيمان وبين ما يتعلق بمسألة التروك, إذا أدركنا هذا الأصل فدعونا ننتقل إلى معنى آخر.

وهذا المعنى وهو أن الله سبحانه وتعالى قد فطر الناس على فطرة صحيحة مستقيمة, وهذه الفطرة هي ما جبلهم عليها من إدراك بعض المحرمات بلا نص, فهم يفهمون المحرم بلا نص من الوحي, وهذا ما يسمى بوازع الطبع, وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30], وكما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ), وهذا دليل الفطرة, فما هي المسائل التي يعرفها الإنسان بلا نص؟ فيعرف أنها محرمة بلا وحي وبلا رسول وبلا نذير؟ يعرف الأشياء المحرمة كالقتل, فيعرف أنه محرم بالفطرة, ويعرف أن السرقة -وهي أخذ مال الناس خفية- محرمة, ولا يحتاج إلى نص, وإنما جاء النص في ذلك مؤكداً ومعظماً, فدليل الطبع هو النوع الأول؛ وهو دليل الفطرة.

النوع الثاني: هو دليل الشرع الذي لا يمكن لأحد من الناس أن يعلم التشريع به فطرة, وإنما لا بد من دليل من الشرع يبينه الوحي من الكتاب والسنة, فدليل الشرع هي هذه الشرائع, فالإنسان يولد ويكبر ولا يعلم أحكام الصلاة, فهل يمكن أن يعلم الصلاة بالطبع والفطرة؟ لا يمكن أن يعلمها, لكن يعلم أن ثمة خالقاً يستحق التذلل والتعبد والخضوع والطاعة له, لكن كيف يطيع وهو لا يعرف هذا, فتأتي الشريعة ببيان هذه الأحكام, كذلك أيضاً هناك محرمات لا يدل عليها دليل الطبع, وإنما يدل عليها دليل الشرع, كلبس الذهب والفضة مثلاً من المنهيات للرجال, فهذا لا يدل عليه غالباً دليل الفطرة, وإنما لا بد من دليل الشرع, كذلك النهي عن الأكل بالشمال وغير ذلك فهذه لا بد فيها من دليل الشرع، ولا يدل عليها دليل الطبع.

والله سبحانه وتعالى يعاقب عباده بالأمرين, بدليل الطبع وبدليل الشرع؛ ولهذا الإنسان إذا كان ملحداً يزعم أنه لا خالق, ثم قام بجريمة قتل ولم يكن لديه نص من الوحي من كلام الله ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن القتل محرم وببيان عقوبته, فالله سبحانه وتعالى يوم القيامة يؤاخذه على القتل ولو فعله من غير علمه بالشرع؛ لأن الدليل قائم بالطبع, ولهذا ينزل الخلق عليه العقوبة فيما بينهم، فإذا قتل فإنهم ينزلون عليه العقوبة بذلك؛ لأن هذا الأمر معلوم بالطبع.

كذلك أيضاً ما يكون من السرقة والاغتصاب وغير ذلك من الأمور المعروفة في الطبائع, ولهذا تجد الناس على اختلاف شرائعهم ومللهم, سواء كانت سماوية محرفة أو محكمة، أو كانوا أيضاً من أهل الاختراع والابتداع للملل أو من الذين يعبدون الأصنام والأوثان, كلهم يحرمون القتل، والسرقة، وغصب الناس أموالهم وضربهم وغير ذلك؛ لأن دليل الطبع في ذلك قائم عندهم.

فإذا وجد مسلم من المسلمين يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ولم يرد إليه من نصوص الشرع إلا شيء يسير يقوم به, أو ربما لم يأته شيء من الأدلة إلا ما ينطق به من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يأته شيء من تفصيلها, ثم قام بالقتل, فهل يعاقبه الله عز وجل يوم القيامة بالقتل أو لا يعاقبه، مع أنه لم يأته دليل من الكتاب، ولا أيضاً من السنة أن القتل حرام؟ الجواب: أن الله يعاقبه بالقتل؛ لأن دليل الفطرة قائم فيه, ودليل الطبع تارة يكون في الإنسان أقوى من دليل الشرع, والله الذي أوجد دليل الطبع في الإنسان هو الذي أنزل دليل الشرع على النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس.

ولهذا تقوم الحجة على الإنسان بالدليلين: بدليل الطبع ودليل الشرع, وقد جعل الله سبحانه وتعالى دليل الطبع في الناس فيما فطرهم عليه من الإيمان بوحدانيته حينما أخرج من آدم ذريته وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172], وهذا الإشهاد هو دليل الطبع, وهو الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى, ويقيم الله عز وجل الحجة على عباده يوم القيامة بهذا الدليل؛ بأنك خلقت وأنك مطبوع على الإيمان بالخالق, فلماذا تجحد الحقيقة التي يؤمن بها العقل، ويؤمن بها السمع والبصر من جهة ما يشاهده, ولماذا تكفر بها, فدليلها في ذلك قائم, لكن ما يتعدى عن هذا وهو كيف يُعبد الخالق؟ أنت تؤمن بوجود خالق لكن الصلة بينك وبين وصف هذا الخالق وبين صرف العبادة له هذا الأمر الذي يحتاج إلى دليل شرعي, وهو مساحة العذر بالجهل, ولهذا لا يعذر الملحد بلغه الدليل أو لم يبلغه الدليل؛ لأنه قد قام فيه قائم الطبع, ولهذا حينما يأتي شخص ويقول: أنا لا أؤمن بوجود خالق, فهذا لا يعذر بجهله مع أنه لم يأته نبي مرسل؛ لأن دليل الطبع في فطرة الإنسان موجود وهو الذي جحده, ولو جاءه نص لجحده أيضاً, إذاً هو يجحد دليلاً مشابهاً من جهة الحجة لدليل الشرع، وهو ما يأتي من آيات الله سبحانه وتعالى في كتابه ووحيه العظيم.

ولهذا نأتي إلى مسألة وهي أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط, إذاً ماذا كان يفعل؟ لماذا دخل النار؟ لدينا الباب الآخر, وهو أنه لم يفعل خيراً قط, بل كان يفعل محرمات, فعدم فعله للخير على أمرين: إما بعلم أو بعدم علم, فالإنسان يدخل الجنة إما بأفعال أو بتروك: فالتروك كتروك المحرمات والأفعال كأفعال الطاعات.

فلا بد أن يوجد جنس الأفعال في الإنسان حتى يستوجب الجنة, فقد يكون لدى الإنسان مثقال ذرة من الأفعال فحفظ على إيمانه, ولكن لديه تروك كثيرة من المحرمات زادت في ثوابه مخلصاً لله عز وجل فاستحق دخول الجنة.

وكذلك بالنسبة لدخول النار, فقد يدخل الإنسان النار ولديه أكثر من مثقال الذرة من جهة الطاعات، ولكن لديه محرمات وأفعال، فهو لم يفِ بالتروك التي أمر الله عز وجل بتركها فاستحق حينئذ دخول النار؛ كالذي يقع في الزنا, ويقع في الربا, ويقع في السرقة, ولكنه يصلي ويصوم، وآخر أقل منه صلاة ولكن لديه تروك, أي: تارك المحرمات, فهذا يدخل الجنة، وذاك يعذب في النار.

ولهذا لدينا بابان: الباب الأول باب الأفعال, والباب الثاني باب التروك, ولدينا دليلان: دليل الطبع, ودليل الشرع, وكلها يعاقب الله عز وجل بها عباده بالأفعال والتروك, ويثيب الله عز وجل عباده أيضاً بنوع من الأفعال والتروك.

ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد يدخل عبداً النار ولم يبلغه دليل الأفعال في الشرع, بمعنى: أن الإنسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وهو لا يدري ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك, ولا يعلم شيئاً من الشريعة, فهذا معذور، لكنه يقتل ويزني ويسرق, فلم يأته دليل من الشرع في فرضية الصلاة فضلاً عن أن يأتيه دليل من الشرع بمسألة الزنا والسرقة والقتل, لكنه يزني ويسرق ويقتل, فهذا يستوجب النار, وقد يعذبه الله سبحانه وتعالى, وهو لديه أفعال، فإذا عذبه الله عز وجل عذبه بما ثبت من دليل الطبع فيه, وهو تحريم القتل, وإن لم يأت نص بتحريم القتل لديه, فالقرآن ليس لديه والسنة ليست لديه, لكن دليل الطبع موجود لديه بتحريم القتل, فعذبه الله به، ولكن لم يعذبه بترك الأعمال؛ لأنه ليس لديه خير يخرجه من النار إلى الجنة, ولما عذبه الله بالقتل، وعذبه بالزنا، وعذبه بالسرقة وعاقبه فيها ومحصه ليس لديه عمل خير, فهذا يخرج من النار ولم يعمل خيراً قط.

وهذا التوجيه, يؤيده حديث حذيفة عند ابن ماجه وكذلك عند الحاكم في المستدرك مرفوعاً: ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ), يعني: يدفن وتطمس معالمه, ( حتى لا يدرى ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك, إلا أقوام يقولون: لا إله إلا الله, سمعنا آباءنا يقولونها ونحن نقولها ) هذا لديه قول, لكن ليس لديه عمل, قيل لـحذيفة: ( ما تفعل به لا إله إلا الله؟ قال: تنجيه من النار لا أبا لك ), لهذا نقول: إن الإنسان الذي ليس لديه علم بالأفعال يعذر بعدم فعله لعدم علمه, ولو قيل: كيف يدخل النار؟ فنقول: بالأفعال التي دل عليها الطبع, ولهذا لو تأتي الأرض من مشرقها إلى مغربها, فتسأل أي شخص عن حكم القتل, فيقول لك: محرم طبعاً, والسرقة محرمة, فيؤمنون بهذا, فما الذي جعلهم يؤمنون به؟ فنقول: دليل أوجده الله في الناس كما أنزل الوحي؛ ليؤيده بالطبع, ولهذا تنحرف بعض الفطر, فتجد أنهم يجعلون الزنا حلالاً, فهذه فطر مبدلة، فكما تبدل الشرائع تبدل كذلك الفطر.

أيضاً من الأمور التي يوجه فيها هذا أن العرب قد تستعمل قولهم: لم يعمل خيراً قط, أو لم ير شيئاً قط, لشدة ما يخالفه, ولهذا جاء في الحديث ( في الرجل الذي يغمس في النار غمسة, هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا, أو يغمس في الجنة غمسة وهو أبأس الناس، فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا ), فهذا كلامه ليس بصحيح؛ لأن معنى قوله: لم يمر به بؤس قط، أنه رأى نعيماً لعظمته تضاءل لديه ما مر به من بؤس, وقوله: لم يمر به نعيم قط، أنه رأى عذاباً لهوله تضاءل ما مر به من نعيم.

ولهذا قد يستعمل في لغة العرب أنه لم يفعل خيراً قط لعظم السيئات في مقام الحسنات, وهذا أسلوب عربي, وأمثال هذه النصوص لا نضرب بها المحكم, وإنما نفسرها ونبينها على ما جاء في أصول الشريعة العامة, ونفهم بالتفصيل والتأصيل الأول مسألة من المسائل المهمة, وهي مسألة العذر بالجهل, فثمة أشياء دل عليها دليل الطبع فالأصل ألا يعذر بها أحد, شخص يقول: أنا ملحد, نقول: هذا دل عليه دليل الطبع, لسنا بحاجة لمحمد ولا لعيسى ولا لموسى, لسنا بحاجة إلى شيء, دليل الطبع قام في هذا الأمر, فالقاتل يعاقب, لو جاءنا رجل الآن وقال: إني قتلت فلاناً ولم يبلغني دليل من الكتاب والسنة عن هذا, فيقام عليه الحد؛ لأنه ليس بحاجة إلى نص؛ لأن الله فطره على هذا الشيء وأوجد فيه هذا الأمر, وموجد الطبع هو منزل الشرع, وقد أقام الحجة بالاثنين, إذاً ما فائدة الشرع مع ثبوت ذلك في الطبع؟ ليحافظ على الطبع من التبديل وكذلك يؤكد الطبع بالتنزيل حتى يعظم في نفس الإنسان القتل.

ولهذا جاءت النصوص متكاثرة بالوعيد على القتل والزنا وغير ذلك؛ حتى تكبح جماح الشهوة والعدوان, فالإنسان قد يحب الانتقام؛ فيأتيه النص ويوقفه, وقد يتجاوز الطبع فيأتيه النص, ولهذا إذا اجتمع الطبع والشرع على الإنسان تقاويا على أسره وتقييده, وإذا كان الإنسان صاحب فطرة صحيحة وصاحب شرع صحيح فإنه حينئذ يكون أكثر انضباطاً.

وقد يكون الإنسان منضبطاً بطبع صحيح بلا شرع يعلمه, وينضبط في دائرة الشرع ويضل فيما فقده من أمور الشرع, ولهذا نعرف دوائر العذر, ودوائر عدم العذر؛ فلو شرب شخص الخمر وسكر ولم يعلم دليلاً من الشرع في ذلك؛ فهل يعذر بشربه الخمر أو لا يعذر؟ الجواب أنه يعذر؛ لأن الخمر لا يدل على تحريمها الطبع, كذلك الذي يترك الصلاة, وهو جاهل بها وثبت جهله, فدليل الطبع لا يدل على هذا, لكن لو سرق، أو زنى، أو ضرب، أو اغتصب أو غير ذلك فهذه يدل عليها دليل الطبع؛ لأنه بطبع الإنسان لا يحب أن ترتد إليه هذه الأشياء, ولا يحب أن تكون منه, وإن وجد نزوة أن تكون في غيره.

ثم بعد ذلك تأتي الدائرة الأخرى وهي العذر بالجهل في مسألة من مسائل الشرع متى يعذر الإنسان ومتى لا يعذر؟ فما تمكن الإنسان من العلم به ولم يسعَ إلى تحقيقه, فهذا لا يعذر به ولو كان جاهلاً من جهة الحقيقة؛ فحينما تأتي إلى شخص وتقول له: هذه أحكام الإسلام وأركانه, قم بقراءتها وتعلمها لتتعبد لله, ثم تركها ولم يقرأها, فهذا من جهة الحقيقة هو جاهل, وشخص آخر لم يعرض عليه الإسلام ولم يعلم بمكانه حتى يسعى إليه, ولم يسعَ إليه, اشتركا في الجهل, لكن ذاك تمكن من العلم وعلم بمكانه فأعرض, ولو طلبه لرفع الجهل عنه, وذاك ما علم بمكانه وما عرض عليه, فيعذر الثاني ولا يعذر الأول, بحسب الحال, وهي على مراتب, قد تختلف في زمن ولا تختلف في زمن, وتشتهر في موضع دون موضع.

وتأتي بعض المسائل الخلافية في هذا الأمر, ومنها مسألة الشرك والوثنية, هل يعذر الإنسان بجهله في أمر الوثنية إذا عبد الأصنام أم لا يعذر؟ فتدخل في هذه الدائرة, هل عبادة الأصنام يدل عليها دليل الطبع منفرداً؟ فإنك تعلم بوجود خالق فلماذا تعبد الحجر؟ إذا عبد الحجر منفرداً على أنه الخالق مدبر الكون إذاً نفى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وذلك بتعدده, فالعلماء عليهم رحمة الله تعالى لهم كلام في هذا, فمنهم من ينفي العذر في مثل هذا الأصل, ومنهم من يعذر بحسب الحال.

ولهذا يختلفون في مسألة أهل الفترة على أقوال, وهي تتقارب من جهة التأصيل وتختلف من جهة التنزيل, والكلام على هذه المسألة يحتاج إلى بسط, ولكن نكتفي بهذا القدر.

وبه نعلم المسألة التي يتكلم فيها العلماء, أو يسأل عنها بعض الإخوة, وهي مسألة كيف يخرج الله عز وجل أناساً من النار لم يعملوا خيراً قط ويدخلهم الجنة مع أننا نقول: إن الإيمان قول وعمل, إذاً إذا انتفى الإيمان ليسوا من أهل الإسلام, نقول: انتفى عنهم العمل بعذر وعوقبوا بالتروك, لوجود وازع الطبع فكابروا عليه فعوقبوا عليه, ولهذا قد يدخل الإنسان النار ولو لم يعلم دليلاً بحرمة السرقة، وحرمة القتل، وما في أحكامها؛ لوجود قائم الطبع في ذلك, ويعظم عليه العقاب إذا اجتمع فيه الوازعان: وازع الطبع, ووازع الشرع.