شرح السنة للإمام المزني [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم حقق توحيدنا، وارزقنا صدق التوكل عليك, وحسن الظن بك، واهدنا صراطك المستقيم يا رب العالمين.

أما بعد:

فقد سبق الكلام على الإيمان بالقدر وأنه ركن من أركان الإيمان, وذلك لما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما, لما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان, قال: ( الإيمان أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالبعث بعد الموت ), فالإيمان بالقدر خيره وشره هو من أركان الإيمان التي لا يقوم الإيمان إلا عليها, ولهذا جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر لما سئل عن قول معبد الجهني لما أحدث في القدر وأن الأمر أُنُف, قال: أخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني, وأن الله عز وجل لا يقبل من أحد شيئاً حتى يؤمن بالقدر. وذلك لأن من نفى القدر على ما تقدم ينفي علم الله سبحانه وتعالى وهذا لازمه, ولهذا الأئمة من أهل السنة كالإمام أحمد عليه رحمة الله وغيره كـالشافعي فإنهم يحاجّون ويخاصمون أهل القدر بالعلم, فإنك إذا نفيت القدر فإنه يلزم من ذلك أن تنفي العلم, فيخاصم في ذلك وينازع.

وعقيدة أهل السنة في القدر أن يثبت أن الله عز وجل يعلم ما كان، ويعلم ما يكون, ويعلم ما سيكون, وأن الله عز وجل قدر أفعال الخلائق، وخلق الناس وما يفعلون, وأن الله عز وجل قدر كل شيء, سواء ما كان له اختيار ومشيئة؛ كالإنسان, أو ما ليس له اختيار كسائر الجمادات في الأرض؛ مما يجريها الله عز وجل بالرياح وغير ذلك, وأن الله عز وجل قدر أحوالها وآجالها, وقدر الله سبحانه وتعالى تقلباتها, وأن يعلم الله جل وعلا ذلك كله. ويكل ما أشكل عليه في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لضعف عقل الإنسان عن إدراك علم الله سبحانه وتعالى في الكون.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وخلق الملائكة جميعاً لطاعته, وجبلهم على عبادته ].

خلق الله عز وجل الملائكة, وهو سبحانه وتعالى لا يأمر عباده بالشرك, ولا أن يتوجهوا بصرف عبادة لغير الله سبحانه وتعالى, سواء كانوا ملائكة مقربين أو أنبياء مرسلين, وإنما يأمرهم الله جل وعلا بتوحيده وحده, ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله، فجعل لشيء من المخلوقات ولو مقرباً كالملائكة, أو مرسلاً مصطفى كالأنبياء شيئاً من العبادة من دون الله سبحانه وتعالى فقد أشرك مع الله عز وجل غيره, والملائكة لهم مشيئة يتصرفون بها, ولهذا الله سبحانه وتعالى مدحهم فقال: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6], لا يخرجون عن أمر الله سبحانه وتعالى, ولهم اختيار, ولكن الله عز وجل مدحهم على عدم الخروج عن طاعة الله سبحانه وتعالى وأمره.

أنواع الخلق من حيث المشيئة والاختيار

ولهذا نقول: إن خلق الله سبحانه وتعالى في باب المشيئة على نوعين:

النوع الأول: خلق لهم مشيئة, وهم الخلق الذين يخيرون؛ وهؤلاء كالإنس والجن والملائكة, والإنس والجن يخرجون عن أمر الله عز وجل بإذنه, والملائكة لا يعصون الله عز وجل ما أمرهم, إذ فطرهم الله عز وجل على طاعته سبحانه وتعالى.

النوع الثاني: خلق ليس لهم مشيئة؛ وذلك كالجمادات, من الأحجار، وكذلك أيضاً من التراب والمياه وغير ذلك, فإن الله سبحانه وتعالى يجريها بمشيئته من غير إرادة قائمة في ذاتها, وإنما هو بأمره وحده, ولهذا لا يجري عليها ثواب ولا عقاب, فلا تثاب هذه الجمادات؛ لأنها ليس لها اختيار وليس لها مشيئة, وإنما يثاب من له اختيار ومشيئة, وهم الإنس والجن؛ لوجود الاختيار فيهم, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], وبمشيئتهم يثيبهم إن أطاعوه, ويعاقبهم إن شاء في معصيته إلا الشرك, فقد جعل الله عز وجل أمره مقضياً, إذ لا يغفره سبحانه وتعالى لفاعله إلا أن يتوب.

قال: (وخلق الملائكة جميعاً لطاعته, وجبلهم على عبادته), ومعنى جبلهم يعني: طبعهم وفطرهم على ذلك, إذ لا يخرجون عن أمره سبحانه وتعالى.

وظائف الملائكة

قال المصنف رحمه الله: [ فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون، وطائفة منهم حول عرشه يسبحون، وآخرون بحمده يقدسون، واصطفى منهم رسلاً إلى رسله، وبعض مدبرون لأمره ].

يقول: (فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون), ومنهم حول العرش حافون, ومنهم من ينتظر عند العرش, فليس بحاف ولا بحامل, وأعمال الملائكة يسخرهم الله عز وجل لها, فمنهم ملائكة حملة العرش, ومنهم حافون حول العرش, ومنهم من هو ملك موكل بالرياح, ومنهم موكل بقبض الأرواح, ومنهم من هو موكل بأمر الجبال, ومنهم من هو موكل بالأمطار وتسييرها، وغير ذلك، بأمر الله سبحانه وتعالى وعلمه جل وعلا، ومنهم ملائكة كتبة يحصون على العباد ما يفعلون؛ كرقيب وعتيد, ومنهم ملائكة الفتنة في القبر، وهم منكر ونكير, ومنهم من أوكله الله عز وجل بالوحي -وهو: جبريل روح القدس عليه السلام- وجعله الله سبحانه وتعالى رسولاً لأنبيائه, يُنزل عليهم أمره ووحيه سبحانه وتعالى, وعلى رسولنا صلى الله عليه وسلم وغيره, ومنهم ملك الموت, ومنهم ملك الأرحام الذي يكتب ما يقدره الله عز وجل على الأجنة في بطون أمهاتهم.

فالملائكة لا يحصيهم عدداً إلا الله, ولا يعلم أفعالهم وكذلك واجباتهم إلا الخالق سبحانه وتعالى, وإذا عُلم أنهم خلق فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً, فمن صرف إليهم شيئاً من العبادة صرف إليهم شركاً, فأشرك مع الله عز وجل غيره, والله سبحانه وتعالى لا يعبد إلا هو.

بعض العقائد الفاسدة حول الملائكة

وإنما ذكر الملائكة لبيان جملة من المسائل المتعلقة بأمر الاعتقاد, ومن هذه المسائل أن هناك من يتوجه للملائكة بالعبادة, فيصرف لهم تعظيماً أو سجوداً أو سؤالاً, أو يجعلهم وسائط وشفعاء من دون الله سبحانه وتعالى, وهؤلاء أشركوا مع الله عز وجل غيره, فأراد أن يبين المصنف رحمه الله هذه المسألة، فبين أن الملائكة خلقهم الله جل وعلا, وبين الحكمة من خلقهم, فلا تتعدى هذه الحكمة، فينازع الله عز وجل في أمرهم.

وكذلك هناك من يزعم أن الملائكة بنات الله, تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً, ولهذا أراد المصنف رحمه الله أن يبين أنهم مخلوقون, خلقهم الله عز وجل كما خلق غيرهم, إلا أن الله عز وجل جعل لهم صفات، وجعل لهم ماهيات، وجعل لهم أفعالاً يوكلون بها, وجعل لهم أحوالاً من جهة زمانهم، وتحولهم وجوهرهم، وتغيرهم في ذلك، مما يقدره الله عز وجل لهم بإذنه سبحانه وتعالى.

اصطفاء الله لبعض الملائكة بالرسالة

وهنا ذكر مسألة الاصطفاء, قال: (واصطفى منهم رسلاً إلى رسله), إشارة إلى أن أفضل الملائكة هم الموكلون بالرسالة, فذكر الملائكة ثم ذكر من اصطفاه الله سبحانه وتعالى منهم لحمل رسالته, وإنما اصطفاهم الله عز وجل لشرف المحمول وهو الوحي, والذي هو كلام الله سبحانه وتعالى, ومن هذا نأخذ أنه إذا كان الملائكة حملة الوحي أفضل الملائكة، فحملة الوحي من البشر أفضل البشر، وأعلاهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

خلق الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام

قال المصنف رحمه الله: [ ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته, وقبل ذلك للأرض خلقه ].

يعني: أن الله عز وجل قدر على آدم مآله حال خلقه, وعلم ما يئول إليه أمره, وأن الله عز وجل خلقه بيده سبحانه وتعالى ففي الحديث: ( خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي ), يعني: أن الله عز وجل خلقه بيده لا كحال ذريته, فقد خلقهم الله عز وجل بأمره.

خلاف العلماء في الجنة التي سكنها آدم عليه السلام

يقول: (ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته), وقد اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها الله عز وجل آدم؛ هل هي الجنة التي يئول إليها الخلق بعد ثوابهم وبعد حسابهم في الآخرة أم هي جنة أخرى؟ اختلفوا في هذه المسألة على قولين:

منهم من قال: هي الجنة التي يئول إليها المؤمنون, ومنهم من قال: إنها جنة أخرى, وكونها جنة أخرى يحتاج في ذلك إلى دليل من الوحي صحيح صريح.

يقول: (وقبل ذلك للأرض خلقه), يعني: أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق آدم ويسكنه الجنة قدر عليه وعلم سبحانه وتعالى أنه سيئول أمره إلى الأرض, وستكون في ذلك ذريته, والله سبحانه وتعالى لا يكون شيء إلا وقد سبق في علمه جل وعلا, وإذا كان هذا في آدم فإنه في ذريته كذلك, لذا قال: (وقبل ذلك للأرض خلقه).

ابتلاء الله لآدم عليه السلام بالشجرة

قال المصنف رحمه الله: [ ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها, ثم ابتلاه بها نهاه عنه منها، ثم سلط عليه عدوه فأغواه عليها ].

وقوله: (ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها), فيه أن الله سبحانه وتعالى يخلق عباده ويقدر أشياء سبحانه وتعالى عليهم, ويكون في سابق علمه سبحانه وتعالى وقوع ذلك منهم, لحكمة يريدها الله جل وعلا, والحكمة في ذلك مفوضة إلى الخالق سبحانه وتعالى, ولهذا مع علم آدم عليه السلام بأن الله عز وجل قدر عليه ذلك إلا أنه التمس التوبة من الله جل في علاه, وذلك مما وقع منه من أكله من الشجرة.

فالشجرة التي نهى الله سبحانه وتعالى آدم وزوجه عن أكلها، نهاه الله عز وجل عن أكلها وعن قربها, وذلك أن القرب يفضي إلى الأكل, وفي هذا يُعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا نهى عن شيء نهى عما يفضي إليه ولو لم يكن من جنسه, ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى آدم عن قرب الشجرة, وكذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن الخمر وعن قربها والدنو منها؛ حتى لا يسول للنفس الطمع فيها فيقع الإنسان في شربها, ولهذا نهى الله عز وجل عن قرب أشياء ولم يُكتفِ بالنهي عن الملابسة, كما نهى الله سبحانه وتعالى عن القرب للفواحش؛ لأن القرب منها تقريب لداعي النفس للوقوع فيها, فالقرب للفواحش من إطلاق البصر, والخلوة, والاختلاط, والتبرج, والسفور, وغير ذلك من الأمور التي تفضي إليها, فهذا تقريب لها, ولهذا ما من شيء حرمه الله إلا وقد جعل ذرائع موصلة إليه محرمة حتى لا تفضي إليه.

يقول رحمه الله: (ثم ابتلاه بما نهاه عنه منها) ابتلى الله سبحانه وتعالى آدم بالأكل من الشجرة, امتحاناً منه واختباراً له ولذريته, ومع وقوع ذلك إلا أنه وزوجه طلبا المغفرة من الله سبحانه وتعالى, والله جل وعلا حينما كان آدم في الجنة ومعه زوجه سلط عليهما إبليس في الجنة, فكان إبليس في الجنة معهم وكان يتشكل على صور شتى, فتارة يأتيه بصورة بهيمة أنعام, وتارة يأتيه في صورة حية, يسول في كل مرة له الأكل من هذه الشجرة حتى أكل منها, فأمضى الله عز وجل بعد ذلك أمره, بأن أنزله وأهبطه إلى الأرض.

وفي هذا أيضاً أن الإنسان لا يجوز له أن يحتج بقدر الله على فعله المحرم, ومن فعل أمراً محرماً، فاحتج بقدر الله عز وجل عليه ولم يتب فقد سلك طريقة إبليس, ولهذا أول مخالفة للخالق سبحانه وتعالى بدت في الجن من إبليس, وفي البشر من آدم وزوجه عليهما السلام, فإبليس احتج بقدر الله على ذنبه ولم يتب, ولهذا قال: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16], أي: بما أمضيت وقضيت علي من الضلال والإغواء سأستمر في هذا الأمر, وأما آدم وزوجه فاستغفرا الله سبحانه وتعالى مما وقع منهما، فمن استغفر فقد سلك طريقة آدم, فهو آدمي, ومن احتج بقدر الله عز وجل على ذنبه وبقي عليه فهو إبليسي, ولهذا نقول: إن قدر الله عز وجل ليس حجة للإنسان أن يمضي على ما هو عليه, بل يتوب ويستغفر وينيب إلى الله سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه الله: [ وجعل أكله لها إلى الأرض سبباً، فما وجد إلى ترك أكلها سبيلاً، ولا عنه لها مذهباً ].

وذلك أن الله عز وجل قدر ذلك عليه, ولا يخرج الإنسان عن قدر الله سبحانه وتعالى، وما كتبه جل وعلا عليه, فلا بد أن يصير إليه, ولهذا المؤمن يقلع ويستغفر, ويسأل الله سبحانه وتعالى أيضاً الإعانة على ذلك والثبات عليه. نعم.

مآل ذرية آدم عليه السلام بعد خلقهم

قال رحمه الله: [ ثم خلق للجنة من ذريته أهلاً، فهم بأعمالها بمشيئته عاملون، وبقدرته وبإرادته ينفذون ].

وهذا مما يقدره الله عز وجل كذلك على ذرية آدم, فخلق للجنة خلقاً وهم في بطون أمهاتهم, وخلق للنار خلقاً وهم في بطون أمهاتهم, وقدر الله سبحانه وتعالى للجنة أهلاً وللنار أهلاً؛ كما جاء في حديث عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذلك أيضاً جاء في حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا من سابق علم الله جل وعلا وتقديره لعباده, فإذا أراد الله عز وجل حصول شيء هيأ له أسبابه, ولا يخرج الإنسان عن ذلك.

قال رحمه الله: [ وخلق من ذريته للنار أهلاً، فخلق لهم أعيناً لا يبصرون بها، وآذاناً لا يسمعون بها، وقلوباً لا يفقهون بها، فهم بذلك عن الهدى محجوبون، وبأعمال أهل النار بسابق قدره يعملون ].

وهذا أيضاً كما أنه في أمر الجنة كذلك أيضاً في أمر النار, وما قدره الله سبحانه وتعالى على خلقه كذلك, والله جل وعلا لو لم يخلق لهم بصراً، وسمعاً، وعقلاً، وقلباً، لم يعذبهم الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله عز وجل إنما عذبهم مع وجود السمع والبصر والقلب؛ لأنه به تقوم الحجة, فإذا قامت الحجة عليه ولم يعمل -يعني: أنه لم يستجب مع علمه- فكان معانداً, ولهذا يقول الله جل وعلا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6], وما قال حتى يستجيب؛ لأنه ربما لا يستجيب, فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [الرعد:40], إنما على الرسول البلاغ, وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54], فعليه أن يُسمع بهذه الحواس التي آتاه الله عز وجل الإنسان الحجة, فإذا لم ينقاد, فإنه حينئذ تقوم عليه الحجة, واستحق حينئذ العقاب.

ولهذا الإنسان الذي لا يستجيب ويكتفي بالسماع والبصر والإدراك والوعي بقلبه من غير عمل فيه شبه بالبهائم؛ لأنه يسمع كما تسمع, ويبصر كما تبصر, ويفقه كما تفقه، وشابهها في عدم العمل, ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ [الفرقان:44], يعني: يشابهونها في عدم العمل والاستجابة, ويشابهونها بالسماع المجرد فقط, وشبههم الله عز وجل أيضاً بالأموات؛ لأنهم يسمعون ولكنهم لا يستجيبون, ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في المشركين الذين وضعهم في قليب بدر: ( ما أنتم بأسمع لي منهم ), يعني: يسمعون, ولكن لا يستطيعون أن يردوا, ولا يستطيعون أن يستجيبوا, ولا يستطيعون أن ينفعوا ولا أن يضروا, لا أنفسهم ولا غيرهم.

ولهذا نقول: إن خلق الله سبحانه وتعالى في باب المشيئة على نوعين:

النوع الأول: خلق لهم مشيئة, وهم الخلق الذين يخيرون؛ وهؤلاء كالإنس والجن والملائكة, والإنس والجن يخرجون عن أمر الله عز وجل بإذنه, والملائكة لا يعصون الله عز وجل ما أمرهم, إذ فطرهم الله عز وجل على طاعته سبحانه وتعالى.

النوع الثاني: خلق ليس لهم مشيئة؛ وذلك كالجمادات, من الأحجار، وكذلك أيضاً من التراب والمياه وغير ذلك, فإن الله سبحانه وتعالى يجريها بمشيئته من غير إرادة قائمة في ذاتها, وإنما هو بأمره وحده, ولهذا لا يجري عليها ثواب ولا عقاب, فلا تثاب هذه الجمادات؛ لأنها ليس لها اختيار وليس لها مشيئة, وإنما يثاب من له اختيار ومشيئة, وهم الإنس والجن؛ لوجود الاختيار فيهم, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30], وبمشيئتهم يثيبهم إن أطاعوه, ويعاقبهم إن شاء في معصيته إلا الشرك, فقد جعل الله عز وجل أمره مقضياً, إذ لا يغفره سبحانه وتعالى لفاعله إلا أن يتوب.

قال: (وخلق الملائكة جميعاً لطاعته, وجبلهم على عبادته), ومعنى جبلهم يعني: طبعهم وفطرهم على ذلك, إذ لا يخرجون عن أمره سبحانه وتعالى.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح السنة للإمام المزني [9] 2607 استماع
شرح السنة للإمام المزني [8] 2415 استماع
شرح السنة للإمام المزني [10] 1920 استماع
شرح السنة للإمام المزني [1] 1892 استماع
شرح السنة للإمام المزني [7] 1614 استماع
شرح السنة للإمام المزني [5] 1546 استماع
شرح السنة للإمام المزني [6] 1234 استماع
شرح السنة للإمام المزني [4] 977 استماع
شرح السنة للإمام المزني [2] 666 استماع