هذا الحبيب يا محب 33


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

تأخر النبي في الهجرة إلى المدينة انتظاراً للإذن الإلهي واجتماع قريش لبحث شأنه

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان: [هجرة الحبيب الطيب محمد صلى الله عليه وسلم إلى طيبة الطيبة] فهيا بنا نعايش نبينا صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن [إنه بعد أن خرج المؤمنون من مكة أرسالاً] جماعة بعد أخرى [إلى المدينة مهاجرين] لأنهم لم يطيقوا الاضطهاد والتعذيب والتنكيل في مكة؛ فأذن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وهي الهجرة الثانية، أما الأولى فقد كانت إلى الحبشة [ولم يبق منهم إلا محبوس أو مفتون] والحبس يكون في البيت؛ لأنه ليس عندهم سجون، والمفتون هو: المعذب المضطهد، وما عدا هؤلاء خرجوا إلى المدينة [كان الحبيب صلى الله عليه وسلم في انتظار الإذن له من ربه عز وجل بالهجرة] كان ينتظر متى يأذن الله له في أن يهاجر من مكة إلى المدينة؛ إذ لا يمكن أن يخرج بدون إذن [وأبقى معه علياً لحاجته إليه] لم يأذن لـعلي ابن عمه في أن يهاجر؛ لأنه كان محتاجاً إليه. فهنيئاً لك يا ابن أبي طالب [وأما أبو بكر الصديق فإنه كثيراً ما كان يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة] ولم يأذن له [فيقول] له [لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً] أي: لا تعجل يا أبا بكر في الهجرة لعل الله يجعل لك صاحباً يصحبك في هجرتك [فيطمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصاحب] له [وفي هذه الأيام بالذات، كان رجال قريش يتخوفون منه صلى الله عليه وسلم أن يلتحق بدور الأنصار] بالمدينة [وهم ذوو شوكة ومنعة وقد لحق بهم المؤمنون، فقرروا] إذاً [عقد اجتماع لهم بدار الندوة] لاتخاذ قرار ينفعهم؛ لأنهم خافوا إذا هاجر والتحق بالمهاجرين في المدينة أن يكون له شوكة ومنعة ومن ثم تحدث الويلات، فما كان منهم إلا أن قرروا عقد اجتماع لهم بدار الندوة [يحضره أولو الرأي والمشهورة منهم للتفكير في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءوا دار الندوة] وجلسوا [وإذا بشيخ جليل عند بابها، فسألوه: من أنت؟ قال: شيخ من نجد] وأهل نجد أهل دهاء وبصيرة وسياسة [سمعت بما اتعدتم عليه] بمعنى: تواعدتم [فحضرت لأسمع ما تقولون، وعسى ألا تعدموا مني رأياً ونصحاً، فدخل معهم وقد ضم الاجتماع: أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن الحارث وكبار رجال قريش، ودارت المناقشة للبحث عن المخرج] فهم يتخوفون لو أن الرسول هاجر أن تكون له شوكة ثم يهاجمهم ويفتح بلادهم، وهذا الذي وقع [فقال بعضهم: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فإنا والله ما نأمنه من الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد] يعني: ضعوا سلسلة في رجليه واربطوه بها [وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله -يريدون حتى يموت في الحبس- وفي هذا يقول تعالى عنهم: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] أي: الموت، وهو معنى قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال:30]] وكيف يثبتونه؟ في الحبس بالسلاسل [أي: في الحديد محبوساً في دار حتى الموت.

وهنا قال الشيخ النجدي -وهو إبليس عليه لعنة الله- أتاهم في صورة شيخ جليل ليثقوا به فيما يقترحه عليهم] وفي الإمكان أن يرى المؤمن ملكاً، والجن كذلك، فإبليس جاء في صورة إنسان وتشكل في صورة آدمي من أفاضل الرجال ولا حرج، ولكنا -فقط- نخشى من التدجيل والتضليل فيقول شخص: أنا رأيت ملكاً يقال له كذا وكذا، ويبدأ الخبط والخلط، فإغلاق هذا الباب أولى منه.

قال: [وهو الذي صرخ بأعلى العقبة منذ أشهر قائلاً:] ليلة المعاهدة، صرخ بأعلى صوته: وقال [يا أهل الجباجب] والمراد من الجباجب جبال مكة [هل لكم في مذمم والصباة؟] والصباة: جمع صابٍ، والمذمم يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، وحاشا وكلا، فوالله ما هو بمذمم، بل هو محمود، ولكنه العدو [ورد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( هذا أزب العقبة، والله لأفرغن لك أي عدو الله ). جاء اليوم لينتقم] من الرسول صلى الله عليه وسلم [فقال لا والله ما هذا لكم برأي] يعني: رأي الحبس في الحديد وفي البيت حتى الموت ليس برأي، فبالإمكان أن يأتي شخص ليفكه ويطلق سراحه، قال: [والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوا على أمركم، ما هذا لكم برأي فانظروا غيره. فتشاوروا، ثم قال بعضهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا] وهذه نظرية أخرى [فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب، قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم بالرأي! ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على عقول الرجال بما يأتي به، دبروا فيه أمراً غير هذا] وهو صائب أو مصيب [فقال أبو جهل : والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه أبداً، قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟] وهذه كنيته: أبا الحكم [قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه] وأبو جهل ذبحه عبد الله بن مسعود في بدر [ويتفرق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فيرضون منا بالعقل] أي: بالدية [فنعقله لهم، أي: ندفع ديته لهم، وهنا قال الشيخ النجدي (إبليس): هذا الرأي الذي لا رأي غيره] وافق على الإعدام [فأجمعوا عليه] أي: على القتل [ونفذوا خطتهم، وقد أوحى تعالى بذلك إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر] صلى الله عليه وسلم [ابن عمه علياً بأن ينام على فراشه ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، وأعلمه أنه لا يناله ما يكره إن شاء الله تعالى] وأتى الشبيبة على الباب صف من هنا وآخر من هناك والسيوف في أيديهم، وهم ينظرون من شقوق الباب فيجدون علياً نائماً فيقولون: ما زال نائماً [ثم أخذ حفنة من تراب وخرج وهو يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، فأعمى الله أبصارهم] وهذه الآية يذكر بعض أهل التفسير أنها مجربة، فمن أراد أن ينفر أو يهرب من أعدائه عليه أن يقرأ هذه الآية فلا يشاهدونه أو يعمون عنه أو يغفلون، على شرط: أن لا تكون لصاً هارباً بأموال الناس، ولكن تكون ولياً ربانياً وأحاط بك ظالمون، فإذا قرأت هذه الآية عموا عنك فلا يبصرونك لولاية الله تعالى لك، قال الله عز وجل: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:1-9] أي: غطيناهم فلا يبصرون.

خروج النبي من بيته وتخليفه لعلي بن أبي طالب في فراشه

قال: [فخرج من بين أيديهم ووضع التراب على رءوسهم وهم لا يشعرون، وانصرف صلى الله عليه وسلم حيث أراد، وبعد ساعة أتاهم آتٍ فقال لهم:

ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمداً، فقال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم، ثم ما ترك رجلاً منكم إلا وضع التراب على رأسه، وانطلق لحاجته، فوضع كل واحد منهم يده على رأسه فإذا التراب عليه، فجعلوا يتطلعون من خلال شقوق الباب فيرون علياً على الفراش متغطياً ببرد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش، فلما رأوه قالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا وانصرفوا. أما الحبيب صلى الله عليه وسلم فلنترك لـعائشة أم المؤمنين تقص علينا تحركه نحو هجرته] والذين يكرهون عائشة يتمزقون الآن من الكرب والهم. زدهم يا رب هماً وكرباً! [فقد قالت] رضي الله عنها [كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخطئ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار -إما بكرة وإما عشية- حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة فإنه أتانا بالهاجرة، وساعة كان لا يأتينا فيها] وسط النهار [فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت إلا أمر حدث، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس صلى الله عليه وسلم] عليه؛ لأنه ليس هناك كراسي ولكن أسرة [وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء ] والتي تقول هذا هي عائشة حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج من عندك] حتى لا يسمعوا الحديث وينقلونه [فقال: يا رسول الله إنما هما بنتاي] أي: عائشة وأسماء ليس غير هذا [وما ذاك فداك أبي وأمي؟ فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة] استفهم أبو بكر : ما ذاك -فداك أبي وأمي- حتى تقول: أخرج من معك؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أذن لي في الخروج، أي: من مكة، والهجرة إلى المدينة [فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة] وتحقق الأمل! إن أحدنا عندما يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام يكاد يطير في السماء، وهي رؤية منامية، فكيف بالواقع؟ [قالت عائشة : والله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ] قالت: ما كنت أعرف أن إنساناً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي منه؛ ولهذا في الدعاء: أقر الله عينيك بدموع الفرح [ثم قال أبو بكر : يا نبي الله! إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا] أبو بكر والرسول صلى الله عليه وسلم [عبد الله بن أريقط من بني الديل] وهو خريت (جغرافي) يعرف الجزيرة شبراً شبراً ويعرف الطرق [وكان مشركاً ليدلهما على الطريق، فدفعا إليه الراحلتين يرعاهما لميعاد خروجهما من مكة إلى المدينة] ويستقبلهما بهما.

الاستراتيجيات المتبعة في حادثة الهجرة للتعمية على كفار قريش

قال: [ولما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج عهد إلى علي بن أبي طالب أن يتخلف بعده بمكة ليؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، إذ كان الناس يضعون عنده ودائعهم مما يخافون عليه، وذلك لما رأوا من أمانته وصدقه] صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك وهم كفار.

قال: [وأتى أبا بكر فخرج معه من خوخة له] كان في داخل البيت مخرج آخر تعمية على أعين الخصوم [في ظهر بيته، فعمدا إلى غار ثور] وجبل ثور معروف [وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره] يتحسس ما يقوله الناس [ثم يأتيهما مساء بما كان في ذلك اليوم من الخبر] وكل هذا من باب الحيطة والأخذ بالأسباب، فالرسول سياسي حكيم ولا عجب! [كما أمر أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه] خادمه [أن يرعى غنمه نهاراً ثم يُريحها عليهما مساء؛ ليسقيهما من لبنها، وإذا جاءهما عبد الله أو أخته أسماء بطعام أتبع عامر أثرهما بالغنم فعفى أثرهما] عندما يأتي أسماء أو عبد الله بالطعام يتبعهما ابن فهيرة بالغنم حتى بغطي آثار أقدامهم ومشيهم [وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ثلاثة أيام] بذلك الغار، والغار موجود إلى الآن.

خروج المشركين في طلب النبي وصاحبه

[وطلبهما المشركون طيلة الثلاثة الأيام] كانوا يقلبون الحجارة بحثاً على النبي صلى الله عليه وسلم [ومن آيات النبوة] الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم [أن العنكبوت نسجت على الغار، والحمامة عششت وباضت؛ تعمية على الطالبين من المشركين] وبعضهم يقول: هذا الأثر ضعيف، ولم يضعف؟ أمستحيل يا هذا! قالوا: هذا لا يتلاءم مع الواقع! وأيام محنة إبراهيم أما جاءت الوزغة تنفخ وسائر الحيوانات كانت تطفئ النار؟ فليس هناك غرابة أبداً [ولما مضت ثلاثة أيام وسكن الناس عنهما وأيسوا من العثور عليهما، أتاهما من استأجراه بالراحلتين، وكانت أسماء قد جاءت بطعام في سفرة، ونسيت أن تجعل له عصاماً] من حبل أو شيء [وأرادت أن تعلق السفرة بالبعير] ليبقى فيها الطعام [فلم تستطع ذلك، فشقت نطاقها نصفين فعلقت السفرة بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر، فمن ثم لقبت بـذات النطاقين ] من أجل هذا لقبوها بـذات النطاقين ، ولم تكن جامعية، ووالله ما كانت تعرف القراءة ولا الكتابة، فكيف عرفت هذا الكمال؟! إن الاستمداد من السماء أولى.

قال: [ولما كان المشركون يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر -وهما في الغار- سمع أبو بكر قرع نعال الطالبين، فخاف حزناً وقال: يا رسول الله! لو يرفع أحدهم قدمه لرآنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما با لك يا أبا بكر ! باثنين الله ثالثهما؟ ). وفي ذلك نزلت آية سورة التوبة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]] وهذه نزلت في غزوة تبوك لما تخلف من تخلف، قال الله عز وجل: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40] متى؟ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:40] أي: من مكة، ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40] لا ثالث لهما، إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] ومن صاحبه هذا؟ إنه الصديق ! والضلال يقولون: أبو بكر كافر، ما هذا العمى والضلال؟ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] قالوا: لن نسأل، دعنا ندخل جهنم! قلنا: ادخلوها.

إن المؤمن الصادق في إيمانه إذا قيل له في معتقده شيء رحل إلى الشرق والغرب ليتأكد من صحة عقيدته وسلامتها أو بطلانها وفسادها، لا يتعصب ويقول: مذهبنا، أو قومنا! ووالله إنه لأمر عجب، فهذا أبو بكر نزل فيه قرآن: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ [التوبة:40] فكيف نقول: كفر؟! وكيف نقبل من قول من يقول بهذا، وأين عقله؟!

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان: [هجرة الحبيب الطيب محمد صلى الله عليه وسلم إلى طيبة الطيبة] فهيا بنا نعايش نبينا صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن [إنه بعد أن خرج المؤمنون من مكة أرسالاً] جماعة بعد أخرى [إلى المدينة مهاجرين] لأنهم لم يطيقوا الاضطهاد والتعذيب والتنكيل في مكة؛ فأذن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وهي الهجرة الثانية، أما الأولى فقد كانت إلى الحبشة [ولم يبق منهم إلا محبوس أو مفتون] والحبس يكون في البيت؛ لأنه ليس عندهم سجون، والمفتون هو: المعذب المضطهد، وما عدا هؤلاء خرجوا إلى المدينة [كان الحبيب صلى الله عليه وسلم في انتظار الإذن له من ربه عز وجل بالهجرة] كان ينتظر متى يأذن الله له في أن يهاجر من مكة إلى المدينة؛ إذ لا يمكن أن يخرج بدون إذن [وأبقى معه علياً لحاجته إليه] لم يأذن لـعلي ابن عمه في أن يهاجر؛ لأنه كان محتاجاً إليه. فهنيئاً لك يا ابن أبي طالب [وأما أبو بكر الصديق فإنه كثيراً ما كان يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة] ولم يأذن له [فيقول] له [لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً] أي: لا تعجل يا أبا بكر في الهجرة لعل الله يجعل لك صاحباً يصحبك في هجرتك [فيطمع أبو بكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصاحب] له [وفي هذه الأيام بالذات، كان رجال قريش يتخوفون منه صلى الله عليه وسلم أن يلتحق بدور الأنصار] بالمدينة [وهم ذوو شوكة ومنعة وقد لحق بهم المؤمنون، فقرروا] إذاً [عقد اجتماع لهم بدار الندوة] لاتخاذ قرار ينفعهم؛ لأنهم خافوا إذا هاجر والتحق بالمهاجرين في المدينة أن يكون له شوكة ومنعة ومن ثم تحدث الويلات، فما كان منهم إلا أن قرروا عقد اجتماع لهم بدار الندوة [يحضره أولو الرأي والمشهورة منهم للتفكير في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءوا دار الندوة] وجلسوا [وإذا بشيخ جليل عند بابها، فسألوه: من أنت؟ قال: شيخ من نجد] وأهل نجد أهل دهاء وبصيرة وسياسة [سمعت بما اتعدتم عليه] بمعنى: تواعدتم [فحضرت لأسمع ما تقولون، وعسى ألا تعدموا مني رأياً ونصحاً، فدخل معهم وقد ضم الاجتماع: أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن الحارث وكبار رجال قريش، ودارت المناقشة للبحث عن المخرج] فهم يتخوفون لو أن الرسول هاجر أن تكون له شوكة ثم يهاجمهم ويفتح بلادهم، وهذا الذي وقع [فقال بعضهم: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فإنا والله ما نأمنه من الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد] يعني: ضعوا سلسلة في رجليه واربطوه بها [وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله -يريدون حتى يموت في الحبس- وفي هذا يقول تعالى عنهم: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] أي: الموت، وهو معنى قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال:30]] وكيف يثبتونه؟ في الحبس بالسلاسل [أي: في الحديد محبوساً في دار حتى الموت.

وهنا قال الشيخ النجدي -وهو إبليس عليه لعنة الله- أتاهم في صورة شيخ جليل ليثقوا به فيما يقترحه عليهم] وفي الإمكان أن يرى المؤمن ملكاً، والجن كذلك، فإبليس جاء في صورة إنسان وتشكل في صورة آدمي من أفاضل الرجال ولا حرج، ولكنا -فقط- نخشى من التدجيل والتضليل فيقول شخص: أنا رأيت ملكاً يقال له كذا وكذا، ويبدأ الخبط والخلط، فإغلاق هذا الباب أولى منه.

قال: [وهو الذي صرخ بأعلى العقبة منذ أشهر قائلاً:] ليلة المعاهدة، صرخ بأعلى صوته: وقال [يا أهل الجباجب] والمراد من الجباجب جبال مكة [هل لكم في مذمم والصباة؟] والصباة: جمع صابٍ، والمذمم يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، وحاشا وكلا، فوالله ما هو بمذمم، بل هو محمود، ولكنه العدو [ورد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ( هذا أزب العقبة، والله لأفرغن لك أي عدو الله ). جاء اليوم لينتقم] من الرسول صلى الله عليه وسلم [فقال لا والله ما هذا لكم برأي] يعني: رأي الحبس في الحديد وفي البيت حتى الموت ليس برأي، فبالإمكان أن يأتي شخص ليفكه ويطلق سراحه، قال: [والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوا على أمركم، ما هذا لكم برأي فانظروا غيره. فتشاوروا، ثم قال بعضهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا] وهذه نظرية أخرى [فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب، قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم بالرأي! ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على عقول الرجال بما يأتي به، دبروا فيه أمراً غير هذا] وهو صائب أو مصيب [فقال أبو جهل : والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه أبداً، قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟] وهذه كنيته: أبا الحكم [قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه] وأبو جهل ذبحه عبد الله بن مسعود في بدر [ويتفرق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فيرضون منا بالعقل] أي: بالدية [فنعقله لهم، أي: ندفع ديته لهم، وهنا قال الشيخ النجدي (إبليس): هذا الرأي الذي لا رأي غيره] وافق على الإعدام [فأجمعوا عليه] أي: على القتل [ونفذوا خطتهم، وقد أوحى تعالى بذلك إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر] صلى الله عليه وسلم [ابن عمه علياً بأن ينام على فراشه ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، وأعلمه أنه لا يناله ما يكره إن شاء الله تعالى] وأتى الشبيبة على الباب صف من هنا وآخر من هناك والسيوف في أيديهم، وهم ينظرون من شقوق الباب فيجدون علياً نائماً فيقولون: ما زال نائماً [ثم أخذ حفنة من تراب وخرج وهو يقرأ: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، إلى قوله: فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، فأعمى الله أبصارهم] وهذه الآية يذكر بعض أهل التفسير أنها مجربة، فمن أراد أن ينفر أو يهرب من أعدائه عليه أن يقرأ هذه الآية فلا يشاهدونه أو يعمون عنه أو يغفلون، على شرط: أن لا تكون لصاً هارباً بأموال الناس، ولكن تكون ولياً ربانياً وأحاط بك ظالمون، فإذا قرأت هذه الآية عموا عنك فلا يبصرونك لولاية الله تعالى لك، قال الله عز وجل: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:1-9] أي: غطيناهم فلا يبصرون.