كيف نعمل للإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن جميع المسلمين يعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم لحكمة واضحة بينها في كتابه، وشرع لهم شرائع هذا الدين الذي هو خير شرائعه، وضمنه خير كتبه، وأرسل إليهم خير رسله، فشرفهم بذلك على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن هذه الأمة شهود عدول يوم القيامة، وإنه ما من نبي إلا يخاصم أمته في الملأ الأعلى، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. حتى إن نوحاً يخاصم أمته في الملأ الأعلى فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير! فيقول: مكثت فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً أدعوكم إلى الله. وهم ينكرون، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لنوح أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى).

إن أمة يستشهدها الله تعالى في الملأ الأعلى ويرتضيها شاهدة على عباده لا بد أن تتحقق فيها صفات العدالة المطلوبة، ولا يمكن أن يكون الشهود على الأولين والآخرين من المجروحين الفاسقين، لا يمكن أن يرتضى هذا عند الله سبحانه وتعالى الذي هو أحكم الحاكمين.

لذلك فإن المطلوب من هذه الأمة أن تكون على الحكمة التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تحقق هذه الصفات في نفسها، ويبدأ ذلك بمراعاة الفرد نفسه لتحقق هذه الصفات فيه، فقد علمت عبد الله فالزم، فالمؤمن الذي يحقق انتماءه لمحمد صلى الله عليه وسلم ويرجو أن يبعث تحت لوائه يوم القيامة، وأن ينادى باسم إمامه محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً[الإسراء:71] .

المؤمن الذي يرجو أن لا يدعى باسم إمام آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو أن يكون من أولئك الذين يعرفون يوم القيامة بالغرة والتحجيل الذين يبيض الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يكون من الشهود على الناس لا بد أن يحقق في نفسه صفات مشروطة لذلك، ولا يمكن أن يتكل على مجرد التمني والتظني، فليس الأمر بالتمني ولا بالتظني، لا يتحقق هذا الأمر إلا بالجد والاجتهاد، فما أكثر المدعين الذين ينادون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بالفضيحة، ويحل عليهم قول الله الحق: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً[الفرقان:23] .

ما أكثر الذين يدعون انتماءهم لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا ولكنهم سيذادون عن حوضه يوم القيامة كما تذاد الإبلات الضلل يضربون على وجوههم، فيقول: يا رب! أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فيقول: فسحقاً فسحقاً فسحقا.

الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أطوار هذه الأمة وما ستتحمله من المسؤولية، فأخبر أن خير القرون هم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء إذا قرأنا شيئاً من أخبارهم وسيرهم واطلعنا على بعض النماذج منهم عرفنا كيف حققوا هذه الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف حصل لهم الشرف بها وأيقنوا وآمنوا وجاهدوا واتبعوا، ولم يغيروا ولم يبدلوا، وساروا على المحجة البيضاء غير مرتابين ولا شاكين، فوصلوا واتصلوا بحبل الحق فاستمسكوا به على بصيرة ويقين، وكانوا الزمرة الأولى، ثم جاء بعدهم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهنا سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الراوي: ما أدري هل ذكر قرنين أو ثلاثة.

ثم إنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أنه قال: (يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدا؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزوا فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمداً؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم).

إن هؤلاء قد سلكوا هذا الطريق حين عرفوه والتزموا به، وبذلك فازوا، وقدموا لله سبحانه وتعالى ما أمرهم بأن يقدموه، ولم يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل تأدبوا بالأدب الحق ففازوا بذلك ونجحوا، ولكن وراءهم أقواما قد غيروا وبدلوا، ولم يستمسكوا بالطريق الذي سلكه هؤلاء فنجوا، وإنما اتكلوا على التظني والتمني، تجد أقواماً كباراً يزعمون أنهم من المتمسكين بالسنة، ولا يرضون أن ينسبوا إلا إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن حين تنظر إلى حياتهم وواقعهم، وحين تسألهم عن الفترة التي يقضونها في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله والبذل لله لا تجد شيئاً يذكر، وهنا ستعلم هل هم صادقون في دعواهم أو غير صادقين؟

إن سنة محمد صلى الله عليه وسلم واضحة، وكل شخص يعرف أنه صلى الله عليه وسلم مكث على هذه الأرض بعد بعثته ثلاثاً وعشرين سنة، وأن هذه المدة كان أكثرها في الجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله وإعلاء كلمة الله، وما عدا ذلك فوقت بسيط للحياة الطبيعية المعتادة، وهي أيضاً واجبات ينوي لها نية تصيرها مثل السابقات، فالذي يدعي التمسك بسنته عليه أن يراجع سنته وسيرته، وأن يقسم وقته حتى يرى الجزء الذي خصصه في مقابل الجزء الذي خصصه الرسول صلى الله عليه وسلم لإعلاء كلمة الله.

إننا جميعاً نعلم أن الله غني عنا، وأنه هو الغني الحميد، وأنه إنما أرسل إلينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم امتحاناً لنا، وأنه غني عن جهادنا، وغني عما نبذله من أموال، وأخبر أنه لا يسألنا أموالنا فقال: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ[محمد:37] ، ولكنه يحضنا على أن نقدم خيراً لأنفسنا، وحينئذ فإنه سيحفظه لنا حتى نناله في وقت الحاجة إليه، (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، الظالم إنما يظلم نفسه، والمطيع المتقي إنما يقدم ذلك لنفسه، فالله غني عن كل ذلك، والله سبحانه وتعالى حين أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين لم يجعله بدار هوان، ولم ينزله إلى هذه الأرض ليتخذ ظهريا، وإنما أنزله وتعهد بأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، وأن لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا دخله هذا الدين، وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، تعهد بذلك الله سبحانه وتعالى وهو الذي لا يخلف الميعاد، فقطار الدين منطلق، والالتحاق بركبه مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وما علينا إلا أن نبادر ونسارع، فالله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المسابقة والمسارعة، فقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران:133-134] ، إن الملتحق بهذا الركب إنما يقدم لنفسه، وإنما يتشرف هو، ولن يشرف هذا الدين ولن يزيده شيئا، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منكم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).

المؤمن حين يسأل: كيف أعمل للإسلام؟ بعد قناعته بهذا الدين وإيمانه به وشهادته أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإيمانه باليوم الآخر والبعث بعد الموت فإن عليه أن يوجه هذا السؤال إلى نفسه، وحينئذ سيرى أن الله لم يدعه في مظنة ولا مهلكة، بل أرسل إليه رسولاً خاتماً للرسل، وأتاه بشريعة واضحة، وبين له معالمها لأقواله وأفعاله وتقريراته، ولم يكلف إلا بما يطيق، ولن يسأل إلا عما قامت عليه الحجة فيه، وكل ما لم يبلغه فإنه لم تقم عليه الحجة به، فإنه لن يُسأل إلا عما كان معلوماً من الدين بالضرورة لا يعذر أحد بجهله.

لهذا فإن من انتمى إلى هذا الدين فأول واجب عليه أن يحقق انتماءه له، وأن يعلم أن هذا الانتماء قناعة، وأن القناعة أيا كانت مقتضية للعمل، فالذي يقتنع بأن عليه أن يكون عالماً ولكن لا يذهب إلى العلماء ولا إلى الكتب، وإنما يستقر في دويرة أهله، أو يذهب إلى الأسواق، أو إلى محلات بعيدة عن العلم لم يعمل من أجل قناعته، وبذلك لا تتحقق قناعته أبدا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في السنة لـابن أبي عاصم- أنه قال: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم)، فلا يمكن أن تتحقق هذه الأمنية حينئذ، وكذلك الذي يقتنع بأن عليه أن يكون من التجار الكبار ومن الأغنياء المشار إليهم عليه أن يبكر بكور الطير إلى الأسواق، فيصفق فيها كما يصفق الناس، فإن نام في وقت الصبيحة واستقر في بيته ولم يعمل من أجل قناعته فإن قناعته لاغية، وإن من اقتنع بأنه قد جاء إلى هذه الدنيا لحكمة واضحة، وقامت عليه حجة بالغة، وأنه سيموت ويخرج من هذه الدنيا ويتركها وراء ظهره، وسيبعث من قبره، وسيوقف بين يدي الباري سبحانه وتعالى، ويسأل قبل ذلك في قبره فيقال: من ربك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل عليه أن يحقق وأن يعمل من أجل قناعته هذه حتى تكون قناعة واقعية، فما أكثر المتمنين الذين يتمنون على الله الأماني، ويزعمون أنهم من الذين ستكون لهم الغرفات يوم القيامة، ما أكثر الذين لا يرضون إلا بالفردوس الأعلى من الجنة، ولا يرضون إلا بمجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولكن حين ننظر إلى الذين يقدمون من أجل ذلك أعمالاً جساما ويخلصون في ذلك لله نجدهم قلة قليلة من هؤلاء.

فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن المشركين وعن اليهود أنهم يودون أن يعطوا يوم القيامة براءة من النار، وأن يؤتوا صحفا منشرة، وأن يدخلوا الفردوس الأعلى من الجنة، ولكن الله سبحانه وتعالى رد عليهم هذه الأمنية وأخبر أنها كاذبة.

والمشكلة أن كثيرا من المؤمنين يسلكون طريق اليهود والمشركين في ذلك، فيتمنون على الله الأماني ولا يقدمون شيئا، تجد المؤمن الذي أنعم الله عليه بالإيمان، وتربى في بيت مؤمن بين أبوين مؤمنين، وتعلم من دين الله أو أمكنه أن يتعلم على الأقل، وأنعم الله عليه بتمام جوارحه وقوة بدنه وتمام عقله وتفكيره، وكان في مجتمع فيه من يقتدى به وفيه من يستفاد منه، وتجده يبلغ الثلاثين من عمره أو الأربعين لم تبق له حجة على الله، ولم يقدم شيئا يذكر لدين الله، تمضي هذه السنون هباءً منثورا، ويا ليتها كانت هباءً منثورا، بل تكون حجة على أصحابها، وهي حجة لله عليهم، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .

فيا ليت هذه السنوات التي مضت تمضي بما فيها من خيرٍ وشر، وتذهب بكل ما فيها، ويكون الشخص كأنما ولد من جديد، لكن المشكلة أنها تنقضي أيامها وتبقى تبعاتها، ولذلك كان كثير من السلف يقولون في دعائهم: اللهم إنا نعوذ بك من ذنوبٍ ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها. تنقطع اللذات وتبقى التبعات، ويمضي العمر على هذا والشخص يؤمل زيادةً في العمر حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100] ، فحينئذٍ تنقطع الآمال، ويندم الشخص على ما فرط في جنب الله حين لا ينفع الندم.

فأنت -يا عبد الله!- في هذه الدنيا قد مكن لك فيها، وفتح لك كثير من المجالات، وأنعم الله عليك بكثير ٍمن النعم، وعلمت الخير أو أمكنك تعلمه، فلماذا لا تستفيد من كل هذه المجالات؟! إلى متى وأنت تغدو وتؤمل غيباً لا يتمناه إلا العاجزون؟!

كثير من الذين يحبون نصرة الدين ويسعون لإعلاء كلمة الله يقولون نحن نرجو الوقت الذي ينزل فيه المسيح عيسى بن مريم فنجاهد معه، أو يخرج جيش المهدي ونجاهد معهم!! وما هذا الأمل الطويل الذي يوصلك بأزمانٍ قد لا تصلها أنت ولا ذريتك من بعدك؟! إنك لم تكلف بأن تنتظر هؤلاء، إنما كلفت بأن تنجي نفسك من عذاب الله، وأن تقدم شيئاً لدين الله، ولن تكلف إلا بما تطيقه وتستطيعه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً[الطلاق:7] ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة:286] .

إن العمل لهذا الدين ليس مثل الأعمال الدنيوية التي يمكن أن يقدم فيها الشخص منافع لبعض الناس أو يرفع عنهم أضراراً دون أن يستشيرهم؛ لأنه يعلم أنهم بحاجةٍ إلى هذه المنافع وفي خشية من هذه المضار، فالله سبحانه وتعالى يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، لا يمكن أن تقدم نفعاً لله تعالى ولا أن ترفع عنه ضررا، إنما تنفع نفسك أو تضرها (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).

نحن اليوم في زمان الغربة، وفي زمان ضعف الدين وتراجعه، ولم يأتنا هذا من جهالةٍ، بل أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق بذلك، وأخبرنا أن هذا الزمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وأخبرنا بهذه الفتن التي تموج كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا.

وأخبرنا أن هذه الأزمان تكثر فيها الفتن وتنتشر، ويكثر فيها الهرج، ويرفع فيها العلم ويكثر الجهل، كل ذلك أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه أخبرنا عن الاستمساك فيها وما ينجي منها، فأخبرنا أن النجاة بهذا الحبل المتين المستقيم الذي هو حبل الله، من استمسك به عصم، ألا وهو القرآن الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42] .

وهذه السنة المبينة للقرآن التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين بها القرآن أتم بيان، فمن استمسك بهما عصم، ومن تركهما قصم الله ظهره، وانهوى على وجهه في النار، لذلك فإن الذي يتوقف عن العمل لنصرة الدين رجاء هذه الآمال الكاذبة مغرور ويخشى عليه من الخذلان، يخشى عليه من الخذلان حين يطيل الأمل ويتبعه، وتُمنيه النفس الأماني فينقاد لها، ويأتيه الشيطان كي يدعوه إلى بنيات الطريق ويقول له: وتكونوا من بعدها قوماً صالحين. حينئذٍ يغتر بأعماله التي يقوم بها، وينسى ما كلف به، وينسى ما أسلف وما فرط فيه من جنب الله فيما مضى من عمره، فيا ليت هؤلاء انتبهوا قبل أن يقعوا في الهاوية، وقبل أن توصد عليهم النار الحامية، يا ليت هؤلاء انتبهوا وأدركوا أن بقية العمر ما لها ثمن، ولذلك يقول الحكماء: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره.

كل شخصٍ منا يعلم أن ما مضى من عمره قد ضيع، وأن بقيته لا يدرى متى تنقضي، فعمر ضيع أوله جدير بأن يحفظ آخره، فعلى الشخص حينئذٍ أن يحقق عهده مع الله الذي أخذه عليه، وأن يبدأ بنفسه ويحاول الإنطلاق بما أتاه الله من قوة، ويعلم أن الحرب القائمة سنة كونية وذات تاريخ طويل مستمر، فمنذ بعث أول رسولٍ إلى أهل الأرض وهذه الحرب قائمة بين الحق والباطل، يكون للباطل فيها بعض الصولات ولكنه يضمحل في النهاية، ويورث الله الأرض عباده المؤمنين المتقين، وبعدها تأتي صولة أخرى للباطل ثم يضمحل، وهكذا دواليك.

إن الحرب قائمة على ساقها، ونازعة بأشدها، ونحن نشهدها في مختلف مجالات الحياة، نشهدها في مجال الاعتقاد، وفي مجال العمل، وفي مجال الاقتصاد، وفي مجال السياسة، وفي مجال الثقافة، وفي غير ذلك من المجالات، وفي بناء البيوت والمجال الاجتماعي الحرب شعواء على دين الله، وقبل ذلك نُبِذَ فيها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في كثير ٍمن المجتمعات الإسلامية -إلا من عصم الله- وراء الظهور، وفي مجال الثقافة والعلم أصبح الناس يرجعون إلى مراجع مخالفةٍ لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويقدمونها على كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الحرب على الإسلام في مجال التحاكم والتشريع

وفي مجال التشريع والتحاكم يرجع الناس إلى قوانين هي من وضع أقوامٍ لو نظر إلى مصالحهم الدنيوية وكيف يتصرفون فيها لرأيت أنهم من أسفه الناس، ومع ذلك يوكل إليهم التشريع للأمم، كل واحدٍ منهم لا يحسن القيام على نفسه، ولا على ما أودعه الله وما جعل تحت يده من أهله وأولاده وماله، ومع ذلك يأتي بقوانين يضعها لتطبق على عباد الله في أرض الله، إن هؤلاء السفهاء الذين يشرعون للناس أحكاماً غير شرع الله سبحانه وتعالى إنما يتلقون ذلك من قبل شياطينهم وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121] ، وإنهم بذلك حين شرعوا هذه القوانين ونصبوها في الأرض ودعوا الناس إليها بل أجبروهم على التحاكم إليها وترك كتاب الله ظهرياً وراء ظهورهم سيكون عليهم إثمهم وإثم من لحقهم واتبعهم على ذلك المنهج.

إن جهالة المسلمين اليوم بكثيرٍ من شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعيش الكبير منهم عمره كاملاً ويموت، بل قد تموت الأجيال المتلاحقة، فتجد أربعة أجيال وخمسة من المسلمين في قطرٍ واحد، وهذه الأجيال الخمسة لم يشهد الواحد منها حداً مقاماً على الأرض، ولم يشهد التحاكم الواقعي إلى دين الله تعالى في حياته، خمسة أجيال متلاحقة!! إن هؤلاء حين انصرفوا عن منهج الله ستكون عليهم آثام هذه الأجيال بكاملها، وهذه الآثام ليست تابعةً لدول، فهذه المؤسسات التي يسميها الناس الدول أو الشركات أو المجالس أو الإدارات لا تبعث يوم القيامة، إنما يبعث الأفراد، والمسئولية يوم القيامة فردية، في الدنيا يقال: فلان من قتله؟ فيقال: قتلته الدولة الفلانية. أو يقال: المال الفلاني من أخذه؟ فيقال: أخذته الدولة أو المؤسسة الفلانية، أو المحكمة الفلانية. لكن يوم القيامة المسئولية محددة، وفلان هو المسئول عن هذا بعينه، لا يبعث يوم القيامة أحد رئيساً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا قاضياً، يبعثون يوم القيامة عباداً سواسية، كل شخصٍ منهم يتحمل أوزاره على عنقه، وهو المسئول عنها وعن كل من عمل بها.

فلا تظن أن هذه المؤسسات التي تشاهدها باقية أو أنها دائمة، وانظر إلى القبور تخبرك بالحق الذي لا غبار عليه ولا مرية فيه، وانظر إلى القبور التي يستوي فيها الحاكمون والمحكومون، يأتي الدود والرمل على كل ما هنالك، فيذهب كل ذلك للملة والتراب والمهلة، وهو بعد ذلك سيبعث ويسأل عن أعماله.

وترى كثيراً من الذين كانوا صناديد في هذه الأرض وأذلوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها بسلطانهم وقد أصبحوا لا تدرى جثثهم في أي مكان من الأرض استقرت، وتجد الفقراء المساكين يمشون على قبورهم وهم لا يشعرون، أين الجبابرة الذين أخرجوا إبراهيم من كوثا؟! وأين نمرود الذي رمى به في النار؟ وأين الفراعنة الأقوياء؟ وأين القياصرة والكياسرة؟ كل هؤلاء إذا سألت عن قبورهم لا تجد من يخبرك عنها، وتجد أن كثيراً منهم حين عاد إلى الأرض التي منها بدأ أصبحت ذراته في هذا التراب يمشي عليها الفقراء والمعبّدون الخادمون، وأصبحت رفاتهم مزارع للفقراء، ما هي إلا مدة يسيرة تعود فيها الأمور وتحول كما كانت، ولكن بني الإنسان يغترون بهذه المدة اليسيرة، فحين يجلس شخص على كرسيٍ ما يتوقع أنه دائم على ذلك وأنه لا يتحرك، حينئذ يطغى ويبغي ويفعل ما سولت له نفسه، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً[الإسراء:7] ، لكن هذا منقطع زائل، ويبقى بعده الحجة لله على عباده، والمسائلة بين يديه والعرض عليه، فحينئذٍ إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.

ضعف المسلمين لا يجوز أن يولد الهزيمة في العمل للإسلام

إن كثيراً من الناس حين يطرح هذا السؤال -وهو: كيف نعمل للإسلام- ينطلق من نظرة عجلى ضيقة فيقول: نحن اليوم في أمة الإسلام ونراها وهي أضعف الأمم وأذلها، وأبعدها عن النهج الصحيح، حتى في أمور الدنيا تكون في مؤخرة الركب دائماً، ولا يوزن لها أي ميزان، وقد انتشر فيها من أنواع المخالفات والمعاصي ما لا يمكن عده فضلاً عن إصلاحه، وتأتي الهزيمة من هذا الوجه! فيقول الشخص كيف أعمل وأنا في هذا السيل الجارف؟! فيجد نفسه مضطراً بأن يسير في اتجاه السير، وبذلك يخسر نفسه؛ لأنه ليس مثل أولئك الهالكين الذين لم يرفعوا رؤوسهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك قد حددوا طريقهم وساروا فيها عن قناعةٍ، وهم الذين اتخذوا القرار بأن يضلوا سواء السبيل، ولكن هذا المسكين قد انجرف في السيول الجارفة دون أن يتخذ قراراً بذلك، بل هو تابع سيكون مستضعفاً في الدنيا مستضعفاً في الآخرة، ولذلك في خصومتهم مع الذين استكبروا يوم القيامة نجد هؤلاء المستضعفين يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[سبأ:31] .

ولكن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، فهؤلاء الذين ساروا مع هذا السيل في اتجاهه قد خسروا أنفسهم وقامت عليهم الحجة بقناعتهم، فلذلك غووا وضلوا عن سواء السبيل، فلم ينالوا حظاً في الدنيا ولا حظاً في الآخرة.

وفي مجال التشريع والتحاكم يرجع الناس إلى قوانين هي من وضع أقوامٍ لو نظر إلى مصالحهم الدنيوية وكيف يتصرفون فيها لرأيت أنهم من أسفه الناس، ومع ذلك يوكل إليهم التشريع للأمم، كل واحدٍ منهم لا يحسن القيام على نفسه، ولا على ما أودعه الله وما جعل تحت يده من أهله وأولاده وماله، ومع ذلك يأتي بقوانين يضعها لتطبق على عباد الله في أرض الله، إن هؤلاء السفهاء الذين يشرعون للناس أحكاماً غير شرع الله سبحانه وتعالى إنما يتلقون ذلك من قبل شياطينهم وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[الأنعام:121] ، وإنهم بذلك حين شرعوا هذه القوانين ونصبوها في الأرض ودعوا الناس إليها بل أجبروهم على التحاكم إليها وترك كتاب الله ظهرياً وراء ظهورهم سيكون عليهم إثمهم وإثم من لحقهم واتبعهم على ذلك المنهج.

إن جهالة المسلمين اليوم بكثيرٍ من شرع الله سبحانه وتعالى، وأن يعيش الكبير منهم عمره كاملاً ويموت، بل قد تموت الأجيال المتلاحقة، فتجد أربعة أجيال وخمسة من المسلمين في قطرٍ واحد، وهذه الأجيال الخمسة لم يشهد الواحد منها حداً مقاماً على الأرض، ولم يشهد التحاكم الواقعي إلى دين الله تعالى في حياته، خمسة أجيال متلاحقة!! إن هؤلاء حين انصرفوا عن منهج الله ستكون عليهم آثام هذه الأجيال بكاملها، وهذه الآثام ليست تابعةً لدول، فهذه المؤسسات التي يسميها الناس الدول أو الشركات أو المجالس أو الإدارات لا تبعث يوم القيامة، إنما يبعث الأفراد، والمسئولية يوم القيامة فردية، في الدنيا يقال: فلان من قتله؟ فيقال: قتلته الدولة الفلانية. أو يقال: المال الفلاني من أخذه؟ فيقال: أخذته الدولة أو المؤسسة الفلانية، أو المحكمة الفلانية. لكن يوم القيامة المسئولية محددة، وفلان هو المسئول عن هذا بعينه، لا يبعث يوم القيامة أحد رئيساً ولا وزيراً ولا حاكماً ولا قاضياً، يبعثون يوم القيامة عباداً سواسية، كل شخصٍ منهم يتحمل أوزاره على عنقه، وهو المسئول عنها وعن كل من عمل بها.

فلا تظن أن هذه المؤسسات التي تشاهدها باقية أو أنها دائمة، وانظر إلى القبور تخبرك بالحق الذي لا غبار عليه ولا مرية فيه، وانظر إلى القبور التي يستوي فيها الحاكمون والمحكومون، يأتي الدود والرمل على كل ما هنالك، فيذهب كل ذلك للملة والتراب والمهلة، وهو بعد ذلك سيبعث ويسأل عن أعماله.

وترى كثيراً من الذين كانوا صناديد في هذه الأرض وأذلوا الناس في مشارق الأرض ومغاربها بسلطانهم وقد أصبحوا لا تدرى جثثهم في أي مكان من الأرض استقرت، وتجد الفقراء المساكين يمشون على قبورهم وهم لا يشعرون، أين الجبابرة الذين أخرجوا إبراهيم من كوثا؟! وأين نمرود الذي رمى به في النار؟ وأين الفراعنة الأقوياء؟ وأين القياصرة والكياسرة؟ كل هؤلاء إذا سألت عن قبورهم لا تجد من يخبرك عنها، وتجد أن كثيراً منهم حين عاد إلى الأرض التي منها بدأ أصبحت ذراته في هذا التراب يمشي عليها الفقراء والمعبّدون الخادمون، وأصبحت رفاتهم مزارع للفقراء، ما هي إلا مدة يسيرة تعود فيها الأمور وتحول كما كانت، ولكن بني الإنسان يغترون بهذه المدة اليسيرة، فحين يجلس شخص على كرسيٍ ما يتوقع أنه دائم على ذلك وأنه لا يتحرك، حينئذ يطغى ويبغي ويفعل ما سولت له نفسه، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بذلك: وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً[الإسراء:7] ، لكن هذا منقطع زائل، ويبقى بعده الحجة لله على عباده، والمسائلة بين يديه والعرض عليه، فحينئذٍ إما إلى جنةٍ وإما إلى نار.

إن كثيراً من الناس حين يطرح هذا السؤال -وهو: كيف نعمل للإسلام- ينطلق من نظرة عجلى ضيقة فيقول: نحن اليوم في أمة الإسلام ونراها وهي أضعف الأمم وأذلها، وأبعدها عن النهج الصحيح، حتى في أمور الدنيا تكون في مؤخرة الركب دائماً، ولا يوزن لها أي ميزان، وقد انتشر فيها من أنواع المخالفات والمعاصي ما لا يمكن عده فضلاً عن إصلاحه، وتأتي الهزيمة من هذا الوجه! فيقول الشخص كيف أعمل وأنا في هذا السيل الجارف؟! فيجد نفسه مضطراً بأن يسير في اتجاه السير، وبذلك يخسر نفسه؛ لأنه ليس مثل أولئك الهالكين الذين لم يرفعوا رؤوسهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك قد حددوا طريقهم وساروا فيها عن قناعةٍ، وهم الذين اتخذوا القرار بأن يضلوا سواء السبيل، ولكن هذا المسكين قد انجرف في السيول الجارفة دون أن يتخذ قراراً بذلك، بل هو تابع سيكون مستضعفاً في الدنيا مستضعفاً في الآخرة، ولذلك في خصومتهم مع الذين استكبروا يوم القيامة نجد هؤلاء المستضعفين يشكونهم إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ[سبأ:31] .

ولكن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئا، فهؤلاء الذين ساروا مع هذا السيل في اتجاهه قد خسروا أنفسهم وقامت عليهم الحجة بقناعتهم، فلذلك غووا وضلوا عن سواء السبيل، فلم ينالوا حظاً في الدنيا ولا حظاً في الآخرة.

نجد كثيراً من الناس يقول: إن مسئولية إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه مسئولية شاقة ينبغي أن يتحملها الرؤساء والقادة والعلماء فقط، وأما من عداهم من الناس فما عليهم إلا السمع والطاعة وهز الرؤوس إلى الأمام لكل من قام. وهم رعاع وهمج يرعون كما ترعى البهائم، وهذا معناه أنهم يعلمون أنه لا خير فيهم؛ إذ لو كان فيهم خير لعلموا أن هذا لا يمكن أن يقدموه حجةً بين يدي الله سبحانه وتعالى في العرض عليه، ولعلموا بأن مسئوليتهم لا تقف عند هذا الحد، وأن المسئولية شاملة عامة، فليس الغزو لدين الله تعالى والتخريب فيه خاصاً بالمجال السياسي أو العلمي فقط حتى يُعدل فيه باللائمة على السياسة والقادة أو على العلماء، بل الفساد سائد وسائر في جميع المجالات، وأنت -يا عبد الله- آلة من الآلات فحاول أن تُستغل في خير، حاول أن يكون لك جزء بسيط من الإصلاح، ولا تحتقر ذلك الجزء؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[التوبة:120-121] .

إنك حين تصلح نفسك وتجعل منها نموذجاً صالحاً ملتزماً بشرع الله تعالى مسارعاً إلى الخير محققاً لزومية اتباع رسول صلى الله عليه وسلم تكون قد انتصرت على نفسك، وكان ذلك إرشاداً لمن سواك، وضرب مثلٍ لهم ليقتفوا أثرك، وحين تعجز عن هذا فلا تعجز عن أن تكف الشر وأن تقتصر على أن لا تكون آلةً تستغل في الشر، فما أكثر الذين يستغلون من حيث لا يشعرون، ما أكثر الذين يقادون بأزمتهم إلى الشر من حيث لا يشعرون فيستغلون في معصية الله سبحانه وتعالى، تستغل أوقاتهم بالمعصية ويسخرون لها، وتستغل أموالهم في المعصية وتؤخذ منهم لذلك، أو يؤدونها طائعةً بها أنفسهم.

ولو أن رئيساً أو جباراً من أهل الأرض أخبر قوماً أنه سيزورهم، فهل ترى أن تجارهم وأغنيائهم سيبخلون فيما يقدمون في ضيافته من المال؟ سيقدمون له كثيراً من الأموال التي لو عرضت عليه من قبل لما رضي بإفساد هذا المال الكثير في هذه اللحظات القليلة؛ لأن إفساده سيعود بالضرر عليه هو، لكن لو أنهم سمعوا قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ[التوبة:111] فهل ترى أنهم سيقدمون العشر فقط من هذه المبالغ التي يقدمونها في سبيل وجهاء الدنيا وطواغيتها؟

إنه مع الأسف قلّ من ينظر هذه النظرة، وقل من يوجه هذا السؤال إلى نفسه، ولذلك ليس هذا فقط مختصاً بالجانب المالي، بل حين ننظر إلى الوقت ونجد أن عمر الإنسان في الواقع إنما هو أربع وعشرون ساعة فتقسيمه لها إذا راجع نفسه وحاسبها وهو على فراشه حين ينام، وسأل نفسه: كم أنفقتُ من هذه الأربع والعشرين ساعة في مرضات الله سيجد أن ذلك قليل جداً، وأنه كان بالإمكان أن يكون كل ما أنفق في سبيل الله، فإن ذهب يلتمس درهماً للمعاش فلو أخلص النية لله لكان ذلك في سبيل الله؛ حيث أدى حقاً واجباً عليه من نفقةٍ أهلٍ أو قضاء دينٍ أو خدمةٍ أياً كانت، فلو أخلص في ذلك لله لكان إنفاقاً في سبيل الله، وإن جلس وقتاً مع صديقٍ له أو أخ في الله فلو نوى لذلك وقصد به الخير وجعله من التزاور في ذات الله لكان ذلك في سبيل الله، ولكن المشكلة أن الناس سفهاء في الأوقات رغم رشدهم في الأموال، الأوقات تمضي دون حساب، والأموال تحاسب بالدوانق.

كذلك فإن الشخص عندما يقوم على تربية أهل بيته، ويجد نفسه مسئولاً عن زوجةٍ وأولادٍ وإخوةٍ صغارٍ وجيرانٍ، وقد يكون له أثر في بعض الأحيان حتى على قبيلةٍ بكاملها، فيجد أنه كان بالإمكان أن يصلح، وأن يعلم أن هؤلاء رعية له، وهم خصومه يوم القيامة، وعليه أن يربيهم أحسن تربية، وأن يدعوهم إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه وتعالى، وأن يحببه إليهم، وأن يسعى على الأقل أن لا يتخذوه سبيلاً إلى المخالفة والمعصية، وما أزال أذكر رجلاً من التجار الذين نحسبهم -والله حسيبهم- من أهل الخير والصلاح، ففي سنة ستٍ وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد قام أولاده مع نهضة الجهل والشيوعية التي سادت في بعض ولاياتنا الداخلية، ولكن هذا الرجل الغيور دعا أولاده فقال: اخلعوا الملابس التي تلبسونها والنعال التي تتخذونها وكل ما لديكم، فهو من مالي وكسبي، وأنا الذي بذلت فيه عرق جبيني، ولا يمكن أن يحاسبني الله عليه وأنتم تتصرفون فيه في معصية الله.

فكان هذا الموقف شجاعاً، ومع ذلك لم ينقصه شيئاً في المجتمع ولا عند الناس، وكان في مرضات الله سبحانه وتعالى، ولذلك هدى الله به بعض أولاده للخير، وما زالت فيهم لمسة تربيته إلى وقتنا هذا.

إننا بحاجةٍ إلى أن تكون لدينا هذه الجراءة، فالذي يعاهد الله سبحانه وتعالى على أن يكون جندياً من الجنود لا بد أن يعلم أن الجندية لا بد أن تمر بكثير ٍمن التدريب، فهل تظنُّ أن شخصاً يمكن أن يكون عقيداً دون أن يمر بكثيرٍ من التدريبات، وأن يكون خادماً لكثير ٍمن الجنود والضباط؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لا بد قبل هذا أن يبذل كثيراً من المجاهدة وأن يمر بكثير ٍمن المراحل، ونحن نعلم أن أول الفكرة آخر العمل، فالذي يفكر في نصرة دين الله وهو في بيته أول فكرةٍ تدور في خلده وخاطره هو أن يرجع الناس جميعاً إلى دين الله أفواجاً، وأن يقيموا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يطبقوا القرآن ويتحاكموا إليه ويلغوا كل القوانين ويدوسوها بأقدامهم، وأن يعلوا راية الجهاد في سبيل الله وتنطلق تحتها الصائفة والشاتية، ولكن هذا هو غاية لا بد قبلها من كثيرٍ من الوسائل والخطوات التي تأتي بالتدريج، فقد لا تعيش أنت إلى ذلك الزمان، ولكن اجعل ما بقي من عمرك في سبيل الله، حاول أن يكون عمرك أنت إعداداً لأجيالٍ من أولادك وأولاد غيرك يسلكون هذا الطريق لعلهم يصلون إلى هناك وإلى ما ترغب فيه، حاول أن تكون مصلحاً إصلاحاً بسيطاً جداً في أسرةٍ خاصة، فهذا البيت من بيوت المسلمين حاول أن تجنبه الآثام والمعاصي الكبار كبائر الإثم والفواحش، حاول أن يكون هذا البيت يتلى فيه كتاب الله، وحاول أن يقام فيه دين الله، وأن يكون فيه الآمر واحداً ويكون البقية مأمورين، وأن يحاولوا الالتزام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه، حاول أن يتقيدوا بالأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكونوا جميعاً من ذوي النفوس الشفافة المقبلة على الخير التي ليست لديها عبيّة الجاهلية ولا دعاويها ولا تفاخرها بالآباء، وحاول أن تخرج لنا أهل بيتٍ يمكن أن يخرج من أصلابهم قوم يحققون هذه الأمنية التي تتمناها، إذا تجاوزت هذا وكنت سيداً مطاعاً أو كان مشاراً إليك بالبنان فاجعل من بيوت قبيلتك أو بيوت المجتمع التي تؤثر فيه بيوتاً مثل بيتك، فأصلح هذه البيوت حتى تكون نموذجاً في هذا المجتمع، فكيفما تكونوا يولَّ عليكم، فإذا وجدنا من كل أربعين بيتٍ بيتاً واحداً يشع منه نور القرآن، ويستمسك أهله بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويلتزمون في العقائد والعبادات والأخلاق والآداب بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإنه سيرفع بهم البلاء عن الأمة.

إن ما نجده ونعيشه من هذه الأخطار والابتعاد عن هذا الشرع هو بلاء أصبنا به بسبب ذنوبنا، وإننا إذا أقلعنا عن هذه الذنوب وعدنا فسيرفع الله عنا هذا الوباء، ولذلك قال أحد الدعاة المشاهير: أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم يقمها الله في بلادكم.

فإذا بدأ الشخص بنفسه وبيته، ولم يسر مع الهالكين الغاوين، وحاول أن يكبح نفسه وأن يلتزم بالحق وأن يعض عليه بالنواجذ، وأن لا يتصرف تصرفاً إلا وهو يعد الجواب عنه بين يدي الله تعالى، وحاول أن يكون مصلحاً لكل من له عليه أمر أو يمكن أن يؤثر فيه فإن المجتمع سيصلح بكامله، ويرفع عنه هذا العقاب الذي قد ساده، إذا وجدنا من يربي أولاده على أن يكونوا من حملة كتاب الله في صباهم، ومن المحبين لسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومن الراغبين في السؤال عما يجهلون من الدين، ومن الذين يتحلون بالأخلاق الإسلامية الحميدة، ومن الذين يحبون هذه المساجد التي يشع منها هذا النور وتنطلق منها هذه الدعوة فإننا نكون حينئذٍ قد تحقق لدينا كسب كبير، وعملنا للإسلام عملاً جاداً، وبهذا تخرج الحشود من المسلمين وكل شخص منها عاقد العزم على أن يأتينا بأفرادٍ، فإذا مات لم نخسر مكانه في المسجد، فننظر إلى مكانه في الصف الأول أو في صفٍ من الصفوف فنجد من يخلفه فيه من ولده، سواءٌ أكان ولداً طينياً أم ولداً دينياً، فالطيني ولده لصلبه، والديني من أثر فيه ودعاه إلى الحق، وهداه بما تحمله من الهداية وبما آتاه الله تعالى من العلم، وبذلك يزداد العدد ويكثر السواد، وتحصل الهيبة المطلوبة في نصرة الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يأمر المسلمين أن يُخرجوا إلى صلاة العيد العواتقَ والحيَّضَ ورباتِ الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ويشهدن دعوة المؤمنين كان بهذا يرشد إلى أهمية اجتماع المسلمين واحتشادهم في حشدٍ عظيم يغيظ أعداء الله ويحقق نصرة دين الله تعالى ويعلي كلمته.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع