نظرات في حديث (سبعة يظلهم الله)


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل، رب كل شيء ومليكه، فاطر السماوات والأرض اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يجزل لكم المثوبة وحسن الجزاء على حضوركم، وأستميح أخي المقدم جزاه الله خير الجزاء على قوله: إن لنا فضلاً عليكم، لا والله، بل الفضل لكم بعد الله جل وعلا، إن الفضل ليس للقائد على جنوده، بل الفضل للجنود الذين جعلوا منه قائداً، وإن الفضل ليس للمدرس وحده أو للعالم وحده على تلاميذه، بل لهم فضلٌ أن اجتمعوا حوله واجتمعوا له حتى جعلوا منه إماماً ومعلماً.

ونحن وإياكم في هذه المحاضرات لعل الله جل وعلا أن يجزل لنا ولكم المثوبة كما أسلفت، لولا حضوركم لما جئنا، ولولا إنصاتكم لما تكلمنا، فنسأل الله جل وعلا أن يجعل الكلام منا والسماع منكم، والمجيء منا والقدوم منكم خالصاً لوجهه الكريم، كما نسأل ألا يجعله هباءً منثوراً، نسأل الله ألا يجعل أعمالنا وإياكم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، نسأل الله جل وعلا ألا يجعل أعمالنا وإياكم كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف.

وأشكر لأخي فضيلة الشيخ/ عبد الله الصميعي إتاحة هذه الفرصة مع مندوب مركز الدعوة والإفتاء والإرشاد في هذه المنطقة لتنظيم هذه المحاضرة، فنحن وإياكم بأمس الحاجة إلى أن نجلس في بيوت الله، والله لو لم يكن من المحاضرات إلا أن تكتب ملائكة الحسنات لنا أنا مكثنا برهة من الزمن في بيوت الله جل وعلا، وغشيتنا الرحمة وحفتنا الملائكة ونزلت علينا السكينة، لكان في هذا خير عظيم، وإن كان هناك مزيد من فائدة أو علم أو حكمة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

أيها الأحبة في الله: أما موضوعنا فهو كما تفضل أخونا الشيخ هو نظرات في حديث عظيم جامع اتفق الشيخان على صحته "نظرات في حديث سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله" هذا الحديث رواه البخاري في مواضع عدة، ورواه الإمام مسلم ، ورواه بعض أهل السنن، ورواه الإمام أحمد، ورواه مالك في الموطأ، وشهرة هذا الحديث أعظم من أن يعرف أو أن يعنون، وحسبكم أن عليه تاج الوقار، وقد جاوز القنطرة، ورواه الشيخان رحمهما الله رحمة واسعة.

في البخاري: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يحيى عن عبيد الله، قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال -وفي رواية: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال- فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق -في رواية: بصدقة أخفاها- حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

في هذا الحديث العظيم فوائد شتى ومسائل منثورة، ولعلكم تستفيدون من هذا الحديث أكثر مما استفدته من خلال ما بحثت وطالعت (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب مبلغ أوعى من سامع).

أيها الأحبة في الله: قال العلماء: هل الثواب مخصوص لهؤلاء السبعة؟ أي: هل هؤلاء السبعة وحدهم هم الذين يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ أجاب ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه وسفره العظيم الجامع المانع فتح الباري حيث قال: والظاهر أنه لهؤلاء السبعة، وقيل: بل لغيرهم، وقال ابن حجر: وناظرت فلاناً -وسماه- في مجلس أحد الخلفاء، وكان يذكر أنه يحفظ صحيح مسلم، قلت له: هل تحفظ شيئاً يدل على أن غير هؤلاء السبعة يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ فقال: لا. فبينت له أن الإمام مسلماً رحمه الله روى في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).

وابن حجر رحمه الله قال عن نفسه: تتبعت مواضع شتى لمعرفة هل هذا الفضل مخصوص بهؤلاء السبعة، فوجدت هذا الفضل قد أعد لهم وأعد لغيرهم، منه ما هو في أحاديث صحاح، ومنه ما هو في أحاديث بعضها يقوي بعضاً، ومنه ما هو في أحاديث ضعيفة.

قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل ينظم هذا الفضائل التي من شأنها أن يكون فاعلها أو المختص بها من الذين في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله:

وقال النبي المصطفى إن سبعـةً     يظلهم الله الكريم بظله

محبٌ عفيفٌ ناشئٌ متصدقٌ     وباكٍ مصلٍ والإمام بعدله

قال ابن حجر : وزدت على هذه الأبيات ما قلت فيه:

وزد سبعةً إظلال غازٍ وعونـه     وإنظار ذي عسرٍ وتخفيف حمله

وإرفاق ذي غرمٍ وعون مكاتبٍ     وتاجر صدقٍ في المقال وفعله

أيها الأحبة: قال ابن حجر بنص كلامه: وقد تتبعت الأحاديث الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشر خصال، وقد انتقيت منها سبعة وردت بأسانيد جياد، ونظمتها تذييلاً على ما ذكر أبو شامة ، وهي التي سمعتموها آنفاً.

قال بعض أهل العلم: ونقله ابن حجر عن الكرماني ، وذكر الكرماني ما محصله أن الطاعة أو أن العبادات التي وردت في هذا الحديث إما أن تكون بين العبد وبين الرب، وإما أن تكون بين العبد وبين الخلق، فأما العبادات التي بين العبد وبين الرب فهي عبادة باللسان وهي عبادة الذكر، أو عبادة بالقلب وهي تعلق القلب بالمساجد، أو عبادة بالبدن هو بدن الناشئ في العبادة، وإما أن تكون تلك العبادة مرتبطة بين العبد وبين الخلق وهي في أمر عام في الإمام العادل، وفي أمر خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وذلك جلي في الصدقة، أو في البدن وهذا واضح في العفة.

علماء ألفوا في الخصال الموصلة إلى الظلال

أيها الأحبة في الله: ومن عظم شأن هذا الحديث صنف فيه علماء الإسلام والسلف الكرام مصنفات عدة، فقد ألف ابن حجر رحمه الله في هذا جزءاً سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال أي: إلى ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، وألف السيوطي رحمه الله رسالة أخبرني بها فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم القاضي في المحكمة الكبرى حيث سألته: هل هناك من ألف غير ابن حجر مصنفاً أو جزءاً في هذه الفضائل؟ فقال: نعم. فهناك السيوطي ألف رسالة بعنوان تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش وعليه مختصر بعنوان بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال .

ونبدأ في فقه الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ).

قال بعضهم: الظل هو المنعة والحفاوة والعز والتكريم، ولا شك أن المصير إلى هذا المعنى تأويل، ولا حاجة إلى التأويل في هذه المسألة، فظل كل شيء بحسبه، أما وقد آمنا أن لله عرشاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فإن لهذا العرش ظلاً كما هو لائق بهذا العرش العظيم، فهو ظل حقيقي، أما الكلام في كيفيته والكلام في طوله وعرضه، وهيئته وتفاصيله، فإنا لم نحط بالله علماً: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طـه:110].. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103].

فالكلام في تفصيل هذه المسألة هو كالكلام في الاستواء، الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، والصفة معلومة والكيفية مجهولة، وهذا خير طريق يسلم به العبد في إثبات صفات الله جل وعلا، أن تثبت لله ما أثبته لنفسه كما قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] وأن تنفي عن الله ما نفاه الله عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وما من لفظ لم يرد في الشرع له اعتبار أو إلغاء أو نفي أو إثبات، فعلامة الدهر وإمامه، وأحد أئمة العلم في هذا الزمان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين قد قال: وأما الصفات التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات، فإن السلامة أن يتوقف في لفظها وأن يفصل في معناها، فيقال: إن كان المعنى يدل على كمال يليق بالله أثبتناه لله، وإن كان المعنى يدل على نقص ينزه الله عنه، فإننا ننزه الله عنه، ودليلنا على ذلك الشمس المشرقة والآية المحرقة لشبهات المعاندين ألا وهي قول الله جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].

وهذه لفتة مهمة في هذا الحديث أيها الأحبة: أن نحرص على معرفة منهج السلف رضوان الله عليهم في إثبات العقائد، وخاصة فيما يتعلق بالأسماء والصفات.

نعود إلى الموضوع، ممن ألفوا في الخصال الموجبة لظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام السخاوي وهو من تلاميذ ابن حجر، ألف رسالة بعنوان الاحتفال في جمع أولي الظلال قال: ظفرت بأربع عشرة خصلة زيادة على ما جمعه شيخي أي: ابن حجر، وهذا مما أفادنا به فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن قاسم متع الله به وحفظه، ولا عيب ولا حرج أن يسند الإنسان الفضل والعلم إلى من تعلمه منه

وقل فلان جزاه الله صالحةً          علمنيه ودع ذا الكبر والحسد

أيها الأحبة في الله: ومن عظم شأن هذا الحديث صنف فيه علماء الإسلام والسلف الكرام مصنفات عدة، فقد ألف ابن حجر رحمه الله في هذا جزءاً سماه معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال أي: إلى ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، وألف السيوطي رحمه الله رسالة أخبرني بها فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم القاضي في المحكمة الكبرى حيث سألته: هل هناك من ألف غير ابن حجر مصنفاً أو جزءاً في هذه الفضائل؟ فقال: نعم. فهناك السيوطي ألف رسالة بعنوان تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش وعليه مختصر بعنوان بزوغ الهلال في الخصال الموجبة للظلال .

ونبدأ في فقه الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ).

قال بعضهم: الظل هو المنعة والحفاوة والعز والتكريم، ولا شك أن المصير إلى هذا المعنى تأويل، ولا حاجة إلى التأويل في هذه المسألة، فظل كل شيء بحسبه، أما وقد آمنا أن لله عرشاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فإن لهذا العرش ظلاً كما هو لائق بهذا العرش العظيم، فهو ظل حقيقي، أما الكلام في كيفيته والكلام في طوله وعرضه، وهيئته وتفاصيله، فإنا لم نحط بالله علماً: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طـه:110].. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103].

فالكلام في تفصيل هذه المسألة هو كالكلام في الاستواء، الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، والصفة معلومة والكيفية مجهولة، وهذا خير طريق يسلم به العبد في إثبات صفات الله جل وعلا، أن تثبت لله ما أثبته لنفسه كما قال سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180] وأن تنفي عن الله ما نفاه الله عن نفسه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وما من لفظ لم يرد في الشرع له اعتبار أو إلغاء أو نفي أو إثبات، فعلامة الدهر وإمامه، وأحد أئمة العلم في هذا الزمان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين قد قال: وأما الصفات التي لم يرد فيها نفي ولا إثبات، فإن السلامة أن يتوقف في لفظها وأن يفصل في معناها، فيقال: إن كان المعنى يدل على كمال يليق بالله أثبتناه لله، وإن كان المعنى يدل على نقص ينزه الله عنه، فإننا ننزه الله عنه، ودليلنا على ذلك الشمس المشرقة والآية المحرقة لشبهات المعاندين ألا وهي قول الله جل وعلا: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].

وهذه لفتة مهمة في هذا الحديث أيها الأحبة: أن نحرص على معرفة منهج السلف رضوان الله عليهم في إثبات العقائد، وخاصة فيما يتعلق بالأسماء والصفات.

نعود إلى الموضوع، ممن ألفوا في الخصال الموجبة لظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام السخاوي وهو من تلاميذ ابن حجر، ألف رسالة بعنوان الاحتفال في جمع أولي الظلال قال: ظفرت بأربع عشرة خصلة زيادة على ما جمعه شيخي أي: ابن حجر، وهذا مما أفادنا به فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن قاسم متع الله به وحفظه، ولا عيب ولا حرج أن يسند الإنسان الفضل والعلم إلى من تعلمه منه

وقل فلان جزاه الله صالحةً          علمنيه ودع ذا الكبر والحسد

أما الخصال التي وردت في هذا الحديث، فأولها: إمام عادل.

وهل تدخل المرأة في هذه الخصلة؟ قال ابن حجر : لا تدخل المرأة، لأن المرأة لا تلي الإمامة العظمى، وقال بعضهم: قد تكون المرأة من أهل هذه الخصلة إذا كانت ذات عيال وعدلت بين أبنائها في المعاملة.

الحاصل أن الإمام العادل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، وأين الإمام العادل؟ الإمام العادل هو الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط، والإمام العادل هو الذي ما يلي شيئاً من أمور المسلمين إلا وينتهج منتهى العدل فيه، والإمام العادل هو الذي يجعل القوي الأمين في خير مكان يناسبه، والإمام العادل هو من إذا رأى في المسلمين كفؤاً ومن رأى في المسلمين أهلاً أن يولى ولاه ولو كان بعيداً أو قريباً، ولو كان نسيباً أو وضيعاً؛ لأن مصلحة المؤمنين تتعلق بهذا الأمر.

لماذا كان الإمام العادل من الذين خصوا بهذه المنقبة؟ لأن الإمامة فيها السلطة والقدرة، وكثيرٌ ممن يلون السلطات ويقدرون على رقاب الناس، يقع منهم الظلم والعدوان والبغي وأكل أموال الناس بالباطل، ولذلك لما كان الإمام والياً وقادراً ومتنفذاً ومتسلطاً وتحت يده ما يشاء من أموال الناس، وما يشاء من الجند والعسكر الذين يأتمرون بأمره فيما يشاء في رعيته أو في من دونه، كان عدله منقبة عظيمة؛ لأن من ترك شيئاً وهو يعجز عنه لا فضل له في ذلك، حينما تقول: هذا رجل ضعيف لا يظلم، فإن كونه متصفاً بعدم الظلم، أو كون هذا الضعيف عادلاً ليست بمنقبة؛ لأنه ضعيف لم يلِ رقاب أحد ولم يلِ أموال أحد حتى يعدل أو لا يعدل أو حتى يظلم أو لا يظلم، ولكن الذي ولي شيئاً وتحت يده المال والسلطان والقوة والجند والعسكر حينئذٍ يكون عدله منقبة ويكون لعدله مزية.

وهذا يذكرنا بما أفاض فيه العلامة الشيخ/ محمد بن عثيمين في رسائل في العقيدة حيث قال: والقاعدة الثانية في مسألة الصفات: نفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم مع إثبات كمال ضده؛ لأن الإنسان قد ينفى عنه الصفة وليس نفي الصفة عنه مدحاً أو كمالاً في جانبه، قال: لماذا؟ لأنه ربما نفيت الصفة عنه لعجزه أو لعدم قابليته أو لامتناع ذلك عليه، كأن تقول: هذا عمود لا يظلم، فكونك تنفي الظلم عن هذا العمود ليس ثناءً عليه وليست منقبةً له؛ لأن العمود لا يمكن أن يصدر منه عدل ولا ظلم، ولكن حينما تقول لمن هو قادر على البطش ومن هو جبار وقوي، ومن بيده المال والسلطة، تقول: هذا قادر ولكنه لا يظلم، حينئذٍ يكون نفي صفة الظلم عنه كمالاً في جانبه.

ولهذا نقول: ننفي ما نفى الله عن نفسه مع ثبوت كمال ضده، فإذا نفينا عن الله صفة الظلم، فإننا نثبت لله كمال ضدها وهو كمال العدل، ومنه قول الشاعر:

قبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ     ولا يظلمون الناس حبة خردل

فإن هذه ليست مديحة لهذه القبيلة، وليست منة أو مزية لهذا القبيلة، لأنها قبيلة صغيرة، فقوله: لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل، قوله هذا فيهم ليس مدحاً لأنهم عاجزون وضعفاء.

ثم بعد ذلك الإمام العادل من يتفقد رعيته، والإمام العادل من يخشى الله فيهم، والإمام العادل من يراقب الله في كل ما يأتي ويذر، وللإمام على رعيته حقوق: أن يدعى له بظهر الغيب، وأن يدعى له بصلاح البطانة، وأن يدعى له بالسداد في القول والفعل، وأن يدعى له بحسن النية والفعل والمقصد، وأن يحرص على جمع شمل الأمة حوله، وعدم تشجيع الخارجين والبغاة ومن يريدون باستقرار بيضة الأمة انكساراً أو تشتتاً، هذا من حقوق الإمام العادل، إذ أن الإمام العادل له حقوق وعليه واجبات.

أما الثاني في أولئك الثلة الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: فشاب نشأ في عبادة ربه، أو شاب نشأ في عبادة الله جل وعلا، وفي بعض الروايات: (شاب نشأ في عبادة ربه حتى توفي على ذلك) وفي حديث آخر: (شاب نشأ في عبادة ربه أفنى نشاطه وشبابه في عبادة الله جل وعلا) وهذا شرط مهمٌ حينما يحصل الإنسان فضيلة من الفضائل وعد الشارع عليها بثواب جزيل، فإن من شرط نيل هذا الفضل أن يثبت عليها وألا يأتي بما يناقضها كما يقول شيخ الإسلام/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة رحمه الله لما ذكر باباً في فضل لا إله إلا الله: (من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه دخل الجنة) وفي حديث أبي هريرة لما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك إلا أدخله الله الجنة) قال الشيخ سليمان: فهذه الأحاديث التي جاءت في فضل لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال:

أولها: الثبات على لا إله إلا الله حتى يلقى الله بها، الثبات على كلمة التوحيد، كلمة الإخلاص والشهادة بالوحدانية والرسالة حتى يلقى الله جل وعلا بها.

الأمر الثاني: ألا يأتي بما يناقضها، وما أكثر الذين يقولون: لا إله إلا الله، وبعضهم يناقضها في كل صباح، أو في كل أسبوع، أو في كل شهر، أو في كل سنة، أو في عمره مرة، عجباً لأولئك الذين يرددون لا إله إلا الله ويصدق فيهم قول الله جل وعلا: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

إن من الناس من يعتقد أنه موحد، وإذا قلبت أمره، وجدت في حقيقة أفعاله ما يخرجه من الملة، فمن ذلك استهزاؤه بالدين، ومن ذلك استهزاؤه بالسنن، ومن ذلك تضايقه أو تبرمه وكراهيته لما شرع الله وشرع رسوله، حتى وإن كان هذا الأمر المشروع بالنسبة له من الأمور التي يفعلها ويطبقها، فإن من فعل عبادة وهو يكرهها متبرماً منها متضجراً من فعلها، فإن هذا لا يقبل منه، بل هذا مظنة كفر وخروج عن الملة كما قال إمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب : ومن نواقض التوحيد أن يكره العبد شيئاً جاء به الله أو جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدل بقول الله جل وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9].

ومن نواقض التوحيد أيضاً: كل فعل أو قول يفضي إلى الشرك سواءً كان جلياً أو كان خفياً، أو كان ذبحاً أو استعانة أو استغاثة أو اعتقاداً بأن الله جل وعلا معه من تصرف له شيء من العبادة أو معه من يدبر الكون، أو كما فعلت الجهمية والمعطلة الذين نفوا عن الله صفاته وجعلوا إلهاً من العدم سموه إلهاً، ونفوا عنه كل الصفات، وأولئك كما قال الإمام:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في     عشرٍ من العلماء في الأزمان والأوطان

واللالكائي الإمام حكاه عنـه     بل حكاه عنهم الطبراني

إن أولئك وإن اجتهدوا في العبادة، لكنهم يمرقون في مسائل الصفات إلى حد الخروج بها عما لا يليق بالله جل وعلا من التعطيل أو الإغراق في التشبيه، فأولئك ممن أتوا بنواقض التوحيد ولا حول ولا قوة إلا بالله!

نعود إلى أصل موضوعنا: شاب نشأ في عبادة ربه، أين الشباب الذين ينشئون في عبادة ربهم؟ أين الشباب الذين يقدمون مرضاة الله على أهواء أنفسهم؟ أين الشاب الذي إذا وقف أمامه داعيان: داعي الهدى وداعي الردى، داعي الفضيلة وداعي الرذيلة، داعي الغواية وداعي الهداية، داعي الاستقامة وداعي الانحراف، قدم داعي الهدى والهداية والاستقامة وما يرضي الله جل وعلا على ما يخالفه؟

إن كثيراً من شبابنا، إن كثيراً من أحبابناً -نحبهم وندعو لهم بظهر الغيب سراً وعلناً، جهاراً ونهاراً وإعلاناً وإسراراً- ولكننا نعلم -أسأل الله أن يهديهم- أن الواحد منهم إذا خلا بمحارم الله ارتكبها وانتهكها، ونعلم من بعضهم أن الواحد منهم حينما تعرض له شهوة ذاتية أو شهوة شخصية قدم شهواته على ما كان يدعيه أو يقوله بلسانه ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ولماذا ذكر الشاب في هؤلاء السبعة؟ لأنه شاب يملك القوة، قوة الفكر وقوة البدن وقوة الغرائز وقوة الحواس، واجتماع هذه القوى مظنة إلى سيره واتجاهه إلى المعصية، فكان من هذا الشاب الذي يعجب ربنا منه ليس له صبوة، يوم أن يكبح جماح نفسه ويوم أن يقهر عنان شهواته، ويوم أن يقود نفسه إلى مرضاة الله جل وعلا، وما يرى من منكر أو فتنة أو دعاية إلى ضلالة أو دعوة إلى انحراف يقول: إني أخاف الله، ويذكر ربه ويقول: معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، يوم أن ينشأ في طاعة الله فلا يرى إلا حلالاً، ولا يسمع إلا حلالاً طيباً، ولا يقرأ إلا كلاماً نافعاً، ولا يمشي إلا إلى حلق الذكر ورياض الجنة، ولا يمد يده إلا بما ينفع ويشفع، ولا يقبض بيده إلا ما كان طيب المطعم، ولا يفكر إلا كيف يزيد من إيمانه، كيف يرفع مستوى إخلاصه، كيف يصل إلى درجات المؤمنين، كيف يبلغ درجات المحسنين، كيف يبلغ درجات الموقنين، كيف يكون من المخلَصين والمخلِصين، يفكر بهذا، أو يفكر كيف يصلح أمه، كيف يصلح زوجته، أو يصلح ابنته، أو أخواته، كيف يدعو والديه أو كيف يدعو جيرانه أو زملاءه في المدرسة.

هذه همومه وهذه أفكاره وهذه اتجاهاته، ليس شاباً همه أن ينتصر الهلال على النصر، أو الاتفاق على الوحدة أو الأهلي على الزمالك أو غيرها من سائر اهتمامات كثير من شبابنا، ليس شاباً يتمنى أن تفوز دولته أو بلاده في دوري الأربعة أو في كأس العالم، ولكنه لا يهمه أن يذبح المسلمون في آسام أو في سنيقار أو في سيريلانكا أو في كمبوديا أو في الصين أو في أي مكان من الأماكن.

من شبابنا من هذه همومه: أن تصل بلاده إلى دوري الأربعة، ولكنه لا يهتم أن تصل أمته إلى أرقى درجات التوجيه والقيادة والريادة في هذا العالم المعاصر، من شبابنا من همومه أن يصل مستوى المسرح الوطني والأغنية الوطنية إلى مستوى منافس للأغنية الخليجية أو الأغنية الغربية أو الفلكلور الغربي ونحو ذلك، لكنه لم يهتم كيف ينقذ إخوانه الضائعين في ماخور البغاء وفي مواقع الرذيلة ومنحدر المخدرات، وفي أوكار الفواحش والزنا واللواط.

إن من الشباب من لا تفكير له إلا في كل سافل من الفكر وكل ساقط من الهمة وكل رديء من الأمان، فأولئك كيف نرجو أن نرفع بهم رأساً؟ شباب هذه اهتماماتهم، اهتمام الواحد منهم أن يملك سيارة مكشوفة، اهتمام الواحد منهم أن يجد صديقة لا تخونه، اهتمام الواحد منهم أن يجد عشيقة لا تفارقه، أبمثل هؤلاء تحرر فلسطين ؟ أبمثل هؤلاء تحرر أفغانستان ؟ أبمثل هؤلاء ننقذ بنات المسلمين في سجون أرتيريا اللواتي هن حبالى من الزنا، وقد أنجبن ما لا يقل عن ألفي طفل من السفاح والزنا؟ أمثل هؤلاء الشباب نرجو أن تعود أسبانيا إلى سيطرة الإسلام؟

أمثل هؤلاء الشباب ممن نرجو أن يرتفع مستوى الإعلام ليكون إسلامياً على مرضاة الله؟ أن يرتفع مستوى الاقتصاد لتكون المعاملات وعوامل الإنتاج وحركة المال والسياسات النقدية والتجارة الدولية لتكون على أوسع وأحدث نمط وأكثر الأنظمة تقدماً على مرضاة الله جل وعلا؟

نريد شباباً نشئوا في طاعة الله، يفكرون في هموم الإسلام، يفكرون في هموم المسلمين، كيف يدير الإسلام إعلاما، كيف يدير الإسلام اقتصاداً، كيف يدير الإسلام سياسة، كيف يدير الإسلام تعليماً، كيف يدير الإسلام تربية وشباباً، كيف يدير الإسلام هذه الأمور على نحو يحقق مرضاة الله جل وعلا، من نشأ في طاعة الله فهنيئاً له أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

وكما قلت: خص الشباب لأنهم مظنة الشهوة واجتماع الغرائز والنشاط.

علمت يا مجاشع بن مسعدة

أن الشباب والفراغ والجدة     مفسدة للمرء أي مفسدة

يا للشباب المرح التصابي     روائح الجنة بالشباب

الشباب قوة فإما أن تكون قوة بناء، وإما أن تكون قوة هدم، إما أن يكون الشباب قوة عمار وإما أن يكونوا قوة دمار، أين الشباب الذين ننتظرهم بكل مجال وبكل صعيد أن يكونوا على هذا المستوى؟

وثالث الثلة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ قلبه معلق بالمساجد، في إحدى الروايات: (ورجل قلبه معلق بالمساجد من حبها) وقيل معلق: أي من العلاقة وهي شدة الحب، والمعنى: أنه طويل ملازمة المسجد يبكر إلى المسجد بعد الأذان أو قبل الأذان ويمكث في المسجد بعد الصلاة، يعتكف في المسجد، يحضر دروس العلم، يحضر المحاضرات .. يحضر الندوات .. يحضر الحلقات، يجعل جلوسه في المسجد جلوس طمأنينة وجلوس ارتياح، قلبه غير معلق بالملاعب، وغير معلق بالأرصفة، ولا بصالات التزلج، وغير معلق بأمور الرذيلة، ولا بالإسفاف والإغراق في المباحات أو في أمور اللهو، بل شاب قلبه معلق بالمساجد.

وما أقل الذين تتعلق قلوبهم ببيوت الله جل وعلا.

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً     فقد صاروا أقل من القليل

حال المؤمن -أيها الأخوة- أن يكون في المسجد كالسمكة في الماء، وأما المنحرف الفاسق فانظر إليه حينما يدخل المسجد كأنه ضب في الماء، المؤمن كالسمكة في الماء وأما المنحرف الفاسق فكأنه الضب يتقلب بعكرته في الماء، يريد الخروج من المسجد من أول وهلة يسلم الإمام.

على أية حال إن التعلق بالمساجد أمر لا يستطيع الإنسان أن يصفه تمام الوصف، ولكن يدركه تمام الإدراك إذا عود نفسه وجاهدها ودربها على المكث والجلوس في المسجد؛ فبكر إليه وجلس فيه وجعل المسجد جزءاً رئيسياً من يومه وحياته.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده     ولا الصبابة إلا من يداريها

الرابع من الثلة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.

وفي هذا بيان حقيقة المحبة مع الدوام عليها، محبة صادقة خالصة، محبة نشأت لله فتدوم لوجه الله، ومن أحبك لشيء أبغضك عند فقده، ومن لقيك بشيء فارقك عند فقده، فمن أحبك لدنياك كرهك لفقرك، ومن أحبك لوظيفتك فارقك لعزلك، ومن أحبك لمنصبك فارقك عند تغير أحوالك، إذاً فانظر من تحب، وانظر أولئك الذين جمعت أرقامهم وأسماءهم في دليل هاتفك، أسألك: هل استطعت أن تخرج عشرة من هؤلاء تعدهم للنوائب؟ هل تستطيع أن تجمع من مجموع من عرفت وخالطت وجالست وصادقت وخاللت وتعرفت.. هل تستطيع أن تخرج من هؤلاء خمسة أو عشرة؟ لا والله، أصبح الصديق الوفي في هذا الزمان أشد ندرة من الغول والعنقاء، بل أصبح من عجائب الدنيا السبع أن تجد اثنين على وفاء صادق.

وما أكثر الذين يدعون المحبة! ما أكثر من تلقاه فيقول: أخي، إني أحبك في الله، ولكن لو طلبنا برهان المحبة لوجدناها دعوى.

والدعاوى إن لم يقيموا عليها     بينات أصحابها أدعياء

من لوازم المحبة

إن من حقيقة الحب في الله: أن تحفظ عرض أخيك في غيبته، ألا تغتابه، ألا تنم عنه، ألا ترضى فيه بمكروه، ألا يشذب أو يجرح أو ينشر جلده بكل ساقط ورديء في المجلس وأنت ساكت، إن من الحب في الله أن تكون داعياً له بظهر الغيب، وهذه المحبة يؤجر الإنسان عليها يوم أن يحققها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ -عجيب سؤال البدو! عجيب سؤال الأعراب! عجيب سؤال أهل البادية! قال الصحابة: كنا نفرح إذا جاء أعرابي إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسأل العجائب، وهذا ليس بغريب- جاء الأعرابي ذلك البدوي رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ -هذا جواب الحكيم: أن تصرف السائل إلى إجابة تنفعه- قال صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟ فقال: يا رسول الله! ما أعددت كثير عمل، ولكني أحب الله ورسوله ويوم أن قال (أحب) هو يعني هذه الكلمة، ويعرف أبعاد هذه المحبة ويعرف حقيقتها.

جهد الصبابة أن تكون كما أرى     عين مسهدة وقلب يخفق

أرق على أرق ومثلي يأرق

عين مسهدة تدعو لإخوانك بظهر الغيب، تتذكر إخوانك في الله، إذا نأوا دعوت لهم بالحفظ، وإذا دنوا دعوت لهم بدوام اجتماع الشمل، قلبك يخفقك عليهم حباً وشوقاً إليهم، هذه المحبة حينما تكون لله، فإنها تزداد حينما ترى من أخيك زيادة في الطاعة، دليل الحب في الله إذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت تحب في الله أو لا تحب في الله، وهل دعواك صادقة أنك تحب فلان بن فلان في الله ولله، انظر إلى نفسك فإذا رأيته يزداد في العبادة ازداد حبك له، فهذا دليل المحبة الصادقة في الله، وإذا رأيت انحسار العبادة عنه وضعفه وكسله وابتعاده عن العبادة قلَّتْ محبتك له، فهذا دليل محبتك الصادقة لله وفي الله، لما كانت لله زادت محبتك يوم ازداد في طاعة الله وقلَّتْ محبتك يوم قلت أو انحسرت أو انقطعت عبادته لوجه الله جل وعلا.

أما المحبة التي تزعم في هذا الزمان وهي محبة الجسوم والرسوم، ومحبة الصور والوجوه، وانسجام الناس لأهواء أو لعرق خفي في النفوس لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ويدعي بعضهم محبةً في الله الله أعلم بصدقها فتلك محبة المرضى، تلك محبة السقم، تلك محبة البلاء، تلك محبة بداية الانحراف.

فما في الأرض أشقى من محبٍ     وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكياً في كل وقتٍ     مخافة فرقةٍ أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم     ويبكي إن دنوا حذر الفراق

هذه محبة الجسوم والرسوم، أما الحب في الله، فإذا فارقت أخاك وقد قتل شهيداً في سبيل الله ازداد حبك له، وتطايرت شوقاً أن تقتل في سبيل الله كما قتل، وإذا سبقك إلى عبادة أو إلى حفظ قرآن أو إلى وعي السنة أو إلى الدعوة إلى الله، تطاير قلبك فرحاً أن أخاك بلغ هذه المنزلة وأدرك هذه المنقبة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] وكما في الحديث: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء بمجالسهم من الله يوم القيامة، أما إنهم ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكن يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، قال الصحابة: من هم يا رسول الله؟ قال: المتحابون في الله) والحب في الله عبادة عظيمة.

والله -يا معاشر المؤمنين! يا معاشر الطيبين! يا معاشر الأكرمين!- إنا نحبكم في الله، ونسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في الجنة، وإننا ما نذكر عملاً نرجو أن نلقى الله به إلا توحيده وحده لا شريك له عسى ربنا أن يسلم لنا توحيدنا ما غيرنا وما أشركنا وما بدلنا، ثم محبتكم لله وفي الله ودليلنا وبرهاننا وبينتنا على ذلك أننا نفرح يوم أن قيل فلان بن فلان استقام، أو فلان الذي استقام حسنت استقامته، أو فلان نبشرك أنه حفظ القرآن، أو فلان دعا إلى الله ووفقه الله، أصبح نشيطاً في حيه، أصبح داعية بين زملائه، هدى الله زملاءه في العمل على يده، نفع الله به بين زملائه والموظفين من حوله، حينئذٍ نفرح ونعلم أن فرحنا به دليل محبتنا لله وفي الله.

التزاور بين المتحابين في الله

ولا يخفاكم حديث الرجل الذي سافر إلى أخٍ في الله يزوره، انظر يا أخي! تخرج من بيتك، تحرك سيارتك، تمشي ثمانين كيلو متراً أو مائة أو مائتين، فتطرق الباب على أحد إخوانك في الله تزوره في مدينة الخرج أو في عفيف أو الدلم أو في أحد ضواحي شتير أو في القصيم أو في المنطقة الشرقية أو في أبها أو في وادي الدواسر أو في حوطة بني تميم أو في الحريف أو في أي مكان تذهب إليه وتزوره وتجلس معه ساعة أو ساعة إلا ربع لا يحركك من بيتك إلا حبه في الله ولله، ومن ثم تعود من جديد، هذا من الحب في الله، كما في الحديث: (إن رجلاً زار أخاً له في الله، خرج خروجاً بعيداً لزيارة أخ له في الله، فأرسل الله على مدرجته ملكاً -أي: جعل الله ملكاً على طريق هذا الذي ذهب يزور أخاه في الله- وكان هذا الملك على صورة رجل، فقال للزائر: أين طلبك؟ أو ما حاجتك؟ قال: أزور أخي في الله، قال: وهل لك من حاجة تربها؟ قال: لا والله إلا أني أحببته في الله، فقال الملك: إني رسول الله إليك، إن الله أحبك كما أحببته فيه) هنا تظهر المحبة في الله وتظهر الأخوة في الله يوم أن يدعوك إخوانك في الله إلى أمر من الخير فتستجيب، يوم أن يزجروك عن أمر من الشر فتنـزجر وترعوي، هذه من دلائل الحب في الله والبغض في الله.

والمحبة في الله شأنها عظيم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أولئك.

إن من حقيقة الحب في الله: أن تحفظ عرض أخيك في غيبته، ألا تغتابه، ألا تنم عنه، ألا ترضى فيه بمكروه، ألا يشذب أو يجرح أو ينشر جلده بكل ساقط ورديء في المجلس وأنت ساكت، إن من الحب في الله أن تكون داعياً له بظهر الغيب، وهذه المحبة يؤجر الإنسان عليها يوم أن يحققها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ -عجيب سؤال البدو! عجيب سؤال الأعراب! عجيب سؤال أهل البادية! قال الصحابة: كنا نفرح إذا جاء أعرابي إلى مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسأل العجائب، وهذا ليس بغريب- جاء الأعرابي ذلك البدوي رضي الله عنه، قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ -هذا جواب الحكيم: أن تصرف السائل إلى إجابة تنفعه- قال صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟ فقال: يا رسول الله! ما أعددت كثير عمل، ولكني أحب الله ورسوله ويوم أن قال (أحب) هو يعني هذه الكلمة، ويعرف أبعاد هذه المحبة ويعرف حقيقتها.

جهد الصبابة أن تكون كما أرى     عين مسهدة وقلب يخفق

أرق على أرق ومثلي يأرق

عين مسهدة تدعو لإخوانك بظهر الغيب، تتذكر إخوانك في الله، إذا نأوا دعوت لهم بالحفظ، وإذا دنوا دعوت لهم بدوام اجتماع الشمل، قلبك يخفقك عليهم حباً وشوقاً إليهم، هذه المحبة حينما تكون لله، فإنها تزداد حينما ترى من أخيك زيادة في الطاعة، دليل الحب في الله إذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت تحب في الله أو لا تحب في الله، وهل دعواك صادقة أنك تحب فلان بن فلان في الله ولله، انظر إلى نفسك فإذا رأيته يزداد في العبادة ازداد حبك له، فهذا دليل المحبة الصادقة في الله، وإذا رأيت انحسار العبادة عنه وضعفه وكسله وابتعاده عن العبادة قلَّتْ محبتك له، فهذا دليل محبتك الصادقة لله وفي الله، لما كانت لله زادت محبتك يوم ازداد في طاعة الله وقلَّتْ محبتك يوم قلت أو انحسرت أو انقطعت عبادته لوجه الله جل وعلا.

أما المحبة التي تزعم في هذا الزمان وهي محبة الجسوم والرسوم، ومحبة الصور والوجوه، وانسجام الناس لأهواء أو لعرق خفي في النفوس لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ويدعي بعضهم محبةً في الله الله أعلم بصدقها فتلك محبة المرضى، تلك محبة السقم، تلك محبة البلاء، تلك محبة بداية الانحراف.

فما في الأرض أشقى من محبٍ     وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكياً في كل وقتٍ     مخافة فرقةٍ أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم     ويبكي إن دنوا حذر الفراق

هذه محبة الجسوم والرسوم، أما الحب في الله، فإذا فارقت أخاك وقد قتل شهيداً في سبيل الله ازداد حبك له، وتطايرت شوقاً أن تقتل في سبيل الله كما قتل، وإذا سبقك إلى عبادة أو إلى حفظ قرآن أو إلى وعي السنة أو إلى الدعوة إلى الله، تطاير قلبك فرحاً أن أخاك بلغ هذه المنزلة وأدرك هذه المنقبة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] وكما في الحديث: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء بمجالسهم من الله يوم القيامة، أما إنهم ليسوا بأنبياء ولا شهداء، ولكن يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، قال الصحابة: من هم يا رسول الله؟ قال: المتحابون في الله) والحب في الله عبادة عظيمة.

والله -يا معاشر المؤمنين! يا معاشر الطيبين! يا معاشر الأكرمين!- إنا نحبكم في الله، ونسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في الجنة، وإننا ما نذكر عملاً نرجو أن نلقى الله به إلا توحيده وحده لا شريك له عسى ربنا أن يسلم لنا توحيدنا ما غيرنا وما أشركنا وما بدلنا، ثم محبتكم لله وفي الله ودليلنا وبرهاننا وبينتنا على ذلك أننا نفرح يوم أن قيل فلان بن فلان استقام، أو فلان الذي استقام حسنت استقامته، أو فلان نبشرك أنه حفظ القرآن، أو فلان دعا إلى الله ووفقه الله، أصبح نشيطاً في حيه، أصبح داعية بين زملائه، هدى الله زملاءه في العمل على يده، نفع الله به بين زملائه والموظفين من حوله، حينئذٍ نفرح ونعلم أن فرحنا به دليل محبتنا لله وفي الله.

ولا يخفاكم حديث الرجل الذي سافر إلى أخٍ في الله يزوره، انظر يا أخي! تخرج من بيتك، تحرك سيارتك، تمشي ثمانين كيلو متراً أو مائة أو مائتين، فتطرق الباب على أحد إخوانك في الله تزوره في مدينة الخرج أو في عفيف أو الدلم أو في أحد ضواحي شتير أو في القصيم أو في المنطقة الشرقية أو في أبها أو في وادي الدواسر أو في حوطة بني تميم أو في الحريف أو في أي مكان تذهب إليه وتزوره وتجلس معه ساعة أو ساعة إلا ربع لا يحركك من بيتك إلا حبه في الله ولله، ومن ثم تعود من جديد، هذا من الحب في الله، كما في الحديث: (إن رجلاً زار أخاً له في الله، خرج خروجاً بعيداً لزيارة أخ له في الله، فأرسل الله على مدرجته ملكاً -أي: جعل الله ملكاً على طريق هذا الذي ذهب يزور أخاه في الله- وكان هذا الملك على صورة رجل، فقال للزائر: أين طلبك؟ أو ما حاجتك؟ قال: أزور أخي في الله، قال: وهل لك من حاجة تربها؟ قال: لا والله إلا أني أحببته في الله، فقال الملك: إني رسول الله إليك، إن الله أحبك كما أحببته فيه) هنا تظهر المحبة في الله وتظهر الأخوة في الله يوم أن يدعوك إخوانك في الله إلى أمر من الخير فتستجيب، يوم أن يزجروك عن أمر من الشر فتنـزجر وترعوي، هذه من دلائل الحب في الله والبغض في الله.

والمحبة في الله شأنها عظيم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أولئك.

والخامس -أيها الأحبة- من الثلة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وفي رواية: رجل دعته امرأة إلى نفسها، وفي أخرى: فعرضت نفسها عليه، أي: دعته إلى الفاحشة، قال بعضهم: دعته إلى زواجها، فأبى خشية أن يشتغل بها عن العبادة، أو أبى خشية أن يكون قبوله من الزواج بها سبباً أو طريقاً إلى فعل معصية وفاحشة، وهذا تأويل بعيد، والظاهر الواضح والجلي من الحديث أنه رجل دعته امرأة ذات منصب إلى نفسها، دعته إلى الفاحشة، فقال: إني أخاف الله.

وتدخل المرأة في هذا الباب: لو أن رجلاً ذا منصب وجمال دعاها إلى نفسه فأغراها بالمال، وامتنعت من ذلك، وقالت: إني أخاف الله، قال ابن حجر : فهي تدخل في ظل عرش الله، فهي من السبعة الذين يكونون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.

وقفة مع قصة يوسف وامرأة العزيز

أيها الأحبة في الله: إن هذه المسألة من أخطر المسائل ألا وهي فتنة النساء، وإن كثيراً من الناس ربما يصمد أمام المدفعية وربما يصمد أمام الرشاش، وربما يصمد أمام القنابل الدبابات ويصبر على حمم الطائرات ودويها، ولكنه لا يصمد دقائق أمام امرأة ذات منصب أو ذات جمال أو جمعت بين الأمرين جميعاً؛ لأن فتنة النساء عظيمة.

في صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه ضمنت له الجنة) أي: من حفظ فرجه وحفظ لسانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفيل وضمين وزعيم له بالجنة بإذن الله جل وعلا، ولا تخفاكم قصة يوسف عليه السلام لما غلقت الأبواب امرأة العزيز وقالت: هيت لك، قال: معاذ الله، تذكر ربه، وذكر نعم الله عليه، وذكر ما أنعم الله به عليه فاستعاذ بالله، ومن استعاذ بالله فقد نجا، ومن لجأ إلى الله فقد عصم، ومن توكل على الله فقد كفي، قال: معاذ الله، ولما هددته وبلغ التهديد منه مبلغاً حتى طاردته، ودخل العزيز ذات مرة ورأى شيئاً من الريبة، وألفيا سيدها لدى الباب، فانقلبت عليه فاتهمته بالفاحشة: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] ماذا قال يوسف الذي هو حرٌ قد بيع رقيقاً، وعزيزٌ قد أصبح طريداً شريداً، وأصبح خادماً في بيت السلطان: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف:26] وظهر البرهان الحسي، البرهان القريب: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26] لأنه إذا شق القميص من الأمام من القبل فمعناه أن يوسف عليه السلام -وحاشاه ذلك- أراد أن يندفع إليها فدافعته فانشق قميصه من ذلك: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:27] أي: أن يوسف هو يهرب وهي تلحقه وتجذبه بقميصه فيتشقق قميصه من هذا: فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:28-29] قيل: إن هذا كان قبل إسلام العزيز وإلا فلا يعقل أن رجلاً يجيب على مثل هذا الموقف الذي فيه من خروج امرأته عن حدود العفة والطهارة والحياء وحفظ الفراش وحفظ النفس بهذا الكلام: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29].

لما بلغ الأمر منها مبلغاً وتحدث صويحباتها ونساء المدينة: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:30-31] حتى تبين أنها لا تلام في باطلها الذي همت به وإن كانت في الحقيقة قد أسرفت على نفسها بهذا الفعل: أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:31-32] هل انتهى الأمر؟ لا: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] إما أن يفعل الفاحشة، إما أن يختار الرذيلة، إما أن يجيء إلى الفراش، إما أن يأتي إلى علبة الليل، إما أن تطفأ الأنوار ويحصل الستر وإما أن يسجن.

فماذا قال عليه السلام وهو شابٌ .. حدثٌ .. صغيرٌ .. في قوة شبابه .. ضعيفٌ أمام زوجة الملك .. في قصرها .. في دلالها .. في جمالها .. في أبهتها .. في سلطانها .. بين وصيفاتها وخدمها وحشمها، تدعوه وتهدده، فماذا يقول؟: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] هل منا من قال ذلك؟ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33].

أين شباب الأسواق العقارية وأسواق الشعلة، وأسواق العامة الذي الواحد منهم يخرج وقد ملأ جيبه بعشرات الأرقام من رقم هاتفه وهاتف أصدقائه ويمشي ويوزع، حتى أن بعضهم يحتال في استخدام بعض الأساليب كي يلصق الرقم بعباءة الفتاة ولا حول ولا قوة إلا بالله!

أحد الشباب أحضر لي بطاقة صغيرة مكتوب عليها: نرجو ممن يطلع على هذه البطاقة مساعدة حاملها أو الاتصال بجمعية العشاق والمحبوبين والمجروحين، وفي القلب الاسم: عاشق محتار، مكان اللقاء: أول وهلة حصلت، وأسئلة سخيفة، بكلام لا يليق ذكره، وعبارات عجباً لشباب يحملونها! وصدق من قال: إن الشباب في هذا الزمان، أو إن بعض الشباب في هذا الزمان حتى لا نظلم البقية إذ فيهم خير عظيم، حتى بعض الذين عندهم بعض المعاصي نظن ببعضهم خيراً كثيراً؛ لأن الكثير من الشباب حتى وإن كان في معصية لكن فيه رجولة، لا يتخنث إلى هذا الحد، لا ينهار برجولته إلى هذا الحد، ولعل رجولته وحياءه وعفته التي انبثقت من صلاته وحرصه على العبادة تقوده إلى استكمال ما نقص من نفسه من السنة أو الاستقامة على ما يرضي الله جل وعلا.

أقول أيها الإخوة: إن بعض الشباب هم حقيقة ذكور وليسوا رجالاً، هم ذكور وليسوا رجالاً، وقد قالتها امرأة في مجمع من اللقاءات أو في مكان لما سئلت امرأةٌ من النساء عن قول الله جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] وهي في بلاد ليس للرجل فيها منزلة أو مكانة، فقالت وأجابت جواباً صحيحاً: الله جل وعلا قال: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ [النساء:34] ولم يقل الذكور قوامون على النساء، لأن الرجولة أمر يتعدى الذكورة، الرجولة وصف كامل بما فيه من الشمم والإباء والحياء والغيرة والخشية والانقياد والاستجابة لأمر الله جل وعلا.

نعود إلى صلب موضوعنا، فهذا يوسف عليه السلام لما دعته وهددته: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] هذا من حصل له مثل هذا أو من ابتعد عن موقف كهذا، فهو من الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

قصة محمد المسكي

ومن الأمور التي سطرها التاريخ أن شاباً وسيماً يقال له: محمد المسكي كان هذا الشاب يأكل من طعام يده، يصنع المراوح التي تعمل باليد، وكان يدور في الأزقة والأسواق ويبيع مراوحه هذه ويأكل من كسب يده، فرأته امرأة وكانت ذات مالٍ فأعجبت به، وترصدت له عند الباب، فلما مر جوار بابها، قالت: هل عندك مراوح غير هذه؟ قال: نعم. فأرخت له الستر أو فتحت له الباب، وقالت: ادخل لأرى، فلما دخل وكان منصرفاً عنها يظن أنها سترى ما في يده من المراوح، ثم يبيعها أو لا تشتري إن أبت، ثم يخرج، فما دخل قليلاً إلا وجذبته وأدخلته دهليز بيتها وأغلقت الباب دونها ودونه، وقالت: إما أن تفعل بي الفاحشة وإما أصيحن بك بين الناس إن فلان بن فلان اقتحم بيتي وتسور داري ودخل وأراد أن يفعل بي الفاحشة، فأصبح في محنة عظيمة، إن فعل الفاحشة أصبح ممن زنوا، والزنا شأنه خبيث وخطير، والله سماه سوء السبيل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] فيه فحش وفيه سوء السبيل، وإن فضح نفسه فهو في مصيبة عظيمة، فقلب النظر وأدار الفكر، فقال: حسناً: أريد الحمام، فلما خلت بينه وبين الحمام، دخل المكان الذي هو (الحش) وليس الحمام آنذاك كحماماتنا واسعة، بعض الحمامات الآن تعتبر صالة أو حجرة طعام بالنسبة لبعض البيوت، بعض الحمامات تبلع (6×5) بعض الحمامات (10×8) صحيح والله، دخلت بيتاً ذات يوم فرأيت حماماً أكبر من مجلسنا، فعجبت من هذا عجباً عظيماً، قلت: سبحان الله! هل الرجل ينام في هذا المكان؟! أن الحمام آنذاك هو (حش) توضع فيه القذارة والعذرة، مكان كالحفرة يوضع فيه الغائط -وأجل الله بيته والملائكة والسامعين أجمعين- فما كان منه إلا أن نزع الغطاء عن الحش وبيت الغائط، ثم أخذ يغرف من الغائط ويمسح على رأسه وثيابه وأجزاء بدنه، فلما ملأ بدنه بهذا خرج إليها وناداها، فلما رأته بهذه الصورة أخذت تسبه وتشتمه وطردته من بيتها.

انظروا إلى هذا الشاب الذي يدعى إلى الزنا فيأبى ولا يريد الفضيحة على نفسه، فهدي إلى هذه الفكرة الذكية، واختار أن يلطخ نفسه وبدنه بالبول والغائط حفاظاً ألا يطأ مكاناً حرمه الله عليه، ألا يلمس جسداً حرمه الله عليه، ألا يقول كلاماً يحاسب عليه، فلما خرج من بيتها أخذ يدعو ربه أن تصرف الأبصار عنه حتى بلغ بيته وغير ملابسه واغتسل مما هو فيه من النجاسة فما هي إلا لحظات حتى فاح المسك من جميع أجزاء بدنه! أكرمه الله جل وعلا، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] لقد أحسن العمل فجاءه حسن الجزاء، أصبح ما يحل محلاً إلا والمسك يفوح من طريقه، حتى أصبح معروفاً أن فلان بن فلان مر من هذا الطريق بدليل رائحة المسك، وفلان بن فلان في ذلك المسجد بدليل رائحة المسك، وسمي محمد المسكي نسبة إلى هذه الكرامة التي أكرمه الله جل وعلا بها.

الزنا وعواقبه

أين شبابنا الآن في هذا الزمان؟ لعلهم يكفون عنا ويكفون عن بيوت المسلمين أصواتهم وألسنتهم التي تشبه نقيق الضفادع، التي تشبه صوت الغربان، وبعضهم يتكسر بصوته ويظن أنه بهذا يضع الحبال للفتيات لعله أن يأسر فتاة بصوته المميز، مسكين والله هذا! وبعض الفتيات من الضالات المضلات -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ربما تسلطن على بعض الشباب واتصلن عليه، تتصل الفتاة على الشاب، وتريد أن توقعه في الفحشاء، ضاع الحياء وضاعت الفضيلة في بعض البيوت التي اشتغلت واشتهرت وامتلأت بالأفلام، أفلام الفيديو والأفلام الخليعة، والرقص مع المطربين والمطربات، والمصارعات النسائية... إلى آخر ما نسمع وما يقال عن أفلام فيها من كل ما يزعج البصر ويقلق السمع ويخبث الفؤاد ويكدر العقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

وقد أحسن بعض الشباب لما قال لي: إن فتاة اتصلت بي ذات مرة وكانت منحرفة، قال: إنها اتصلت بي وقالت: ألم تسمع صوتي قبل هذا اليوم؟ قال: نعم.

سمعت صوتاً قريباً من صوتك في الحمام أو في الغسالة أو في السيفون، قال: فما كان منها إلا أن أغلقت السماعة وقد استحت على وجهها، وجزاه الله خيراً على هذا الجواب، إن من الناس من لا يرده إلا مثل هذه الأساليب ولا حول ولا قوة إلا بالله!

والذي أنصح به عامة: إن من ابتلي بمثل هؤلاء الذين يتسلطون على هاتفه:

إذا نطق السفيه فلا تجبه     فخير من إجابته السكوت

السكوت خير جواب للسفيه.

صبراً على فعل السفيه     فإن صبرك قاتله

كالنار تأكل نفسهـا     إن لم تجد ما تؤكله

وكن -يا أخي الكريم- حريصاً على حفظ بيتك بحفظ نفسك.

إن الزنا دين فإن أقرضته     كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

من يزنِ يزن به ولو بجداره          إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

من يزنِ في بيتٍ بألفي درهـم     في بيته يزنى بغير الدرهم

يزنى بالمجان ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الحاصل أن من ترك هذا الأمر خشية لله، ومن ترك ذلك لأجل الله ولوجه الله، ترك مواقع الريبة ومحادثة الفتيات، وإن عرض عليه الأمر، أو عرض على الفتاة أمر الرذيلة، تركت ذلك لوجه الله جل وعلا، فإنه يؤجر أجراً عظيماً.

ومن المؤسف أن في بعض الأماكن تأتي الفتاة بسائقها وتطرق الباب على الشاب ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد علمت بشيء من هذا، وحمدت الله أن حفظ ذلك الشاب الذي تسلطت عليه شيطانة من شياطين الإنس حتى طرقت عليه الباب وأرادت أن توقع به أو تأخذه معها أو أن تواقعه في بيته ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فمن حفظ نفسه ومن أراد ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فحري به أن يبعد نفسه عن مواطن الريبة: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].