أمتي لا تنحرف [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا، تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود؛ الولود فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السقاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر : أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيرها.

يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه والوفاء له.

فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلّك، يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به!

قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وإذا قلنا إن الكلام هنا في سياق الذم، وبعض العلماء يجعله في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هذا أنه في سياق الذم، مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل وتضييع الحق، فما في شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، فيسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع، فأول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذا إنسان مخبول، إذ كيف يتكلم في قضية مقررة ومسلمة، وأن كل الناس تنادي بتحديد النسل، وكل الناس تعاني من الفقر والضيق و...

ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس، فهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا ومع شريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حد جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل!

ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً.. رويداً.. حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق.

وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة منهم أو إنتاج الصناعة، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، بحيث صار محب للغرب وما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر:

مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي

فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصدق قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فقوله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، بلغ حد تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى صارت الأم تجزع جزعاً شديداً إذا بان حملها، جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة.

لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تحصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، الانفجار السكاني الذي يوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن الإنسان الذي يتكلم في هذا الموضوع يكون مثل التلميذ الذكي! الذي يقطع سياق الكلام ومرة واحدة يقفز إلى موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وهذا التطرف وتحديد النسل كأنما هو درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات.

لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علماءه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في ذلك بالفعل! ونجح فعلاً في أن يوظف كثيراً من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ليس هذا أنه نجح في أن يسخرهم لخدمته بالفعل، بل الأعجب من ذلك أنه فشل فشلاً ذريعاً في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية.

فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين صاروا في ركابه، وراحوا يطلقون البخور لسحرة الألم، ويباركون جهودهم باسم الشريعة الإسلامية، وهذا هو مكمن الخطر، أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، فمن أعظم مقاصد النكاح تكثير النسل المسلم، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ فقال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم)، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما. وفي لفظ: (فإني مكاثر بكم الأنبياء). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً -أي: كان الرجل عقيماً- فقال له عمر : أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعلِمْها، ثم خيِّرها. يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله: إن غريزة الامتداد في الذرية والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه، والوفاء له، فتنجب للدنيا نبتةًَ كريمة تتعاهدها بالتربية والتهذيب، فتحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلِّك. يقول الدكتور الصباغ حفظة الله: ويكفي للممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة التي تبدأ بآدم وتنتهي به! قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وبعض العلماء يجعل هذا الحديث في سياق المدح، لكن على القول بأن المقصود بالسحر هنا الذم فهو مأخوذ من البيان والبلاغة في تزيين الباطل، وتضييع الحق، فلا شك أن هذا من أخطر أنواع السحر، وقد يسلط في هذا الزمان على المسلمين، وبعض الناس إذا حاورته في هذا الموضوع فأول ما يتبادر إلى ذهنه أنك إنسان مخبول؛ إذ كيف تتكلم في قضية مقررة ومسلمة، فكل الناس ينادون بتحديد النسل، وكل الناس يعانون من الفقر والضيق و...، ويوجد بيننا الآن من يقول بخلاف ما عليه الناس!! وهذا كله من تأثير هذا السحر المحرم الذي هو: تزييف الحق وإظهاره في صورة الباطل، فسحر البيان هو الذي تسلطه أجهزة الإعلام على عقولنا وقلوبنا؛ لتصوغ منه مفاهيم جديدة، وأموراً تتضاد مع ديننا وشريعتنا وعقولنا، بل ومع فطرتنا، ومما يدل على ذلك أن تأثير هذه الدعاية بلغ إلى حدٍّ جعل الناس يظنون أن من يتكلم في مثل هذه الأمور مخبول أو جاهل! ولو رجعنا إلى المجلات الإسلامية التي كانت تصدر في بدايات ظهور هذه الدعوة، حيث كان في الأمة بقية من الوعي وعدم التخدير بالإعلام، تجد هجوماً عنيفاً جداً بمنتهى القوة والصراحة من كافة علماء المسلمين، ابتداءً من شيخ الأزهر إلى الدعاة والعلماء والباحثين، فلو رجعنا إلى أعداد قديمة من مجلة الإسلام سوف نجد مثل هذه المقالات، حيث كان العلماء يواجهون هذه الدعوة بمنتهى العنف، ويكشفون أنها دعوة خبيثة يرعاها أعداء الإسلام لأمر يريدونه بهذه الأمة، ثم مر الوقت رويداً.. رويداً.. حتى استقرت في الأمة هذه السموم، وهضمتها وامتصّتها، وصارت تجري في جسدها مجرى الدم في العروق. وصار كثير من المسلمين ينظرون إلى الأمور بمنظار الغرب، وبمنظار الكفار الخبيثين، ولم نكتفِ في (عقدة الأجنبي) بأن استوردنا إنتاج الزراعة والصناعة منهم، وإنما أخذنا أيضاً نتاج أفكارهم ومقاصدهم الخبيثة بنا، وكثير من الناس مولعون بتقديس كل ما يأتي من جهة الغرب، فصاروا يحبون الغرب وكل ما يأتي به الغرب، كما قيل في الخمر: مضى بها ما مضى من عَقْل شاربها وفي الزجاجة باقٍ يطلب الباقي فإرضاء الغرب لم يقف عند حد، لكنه يضل خطوة وراء خطوة، ويستدرج الناس شيئاً فشيئاً، حتى ينخلعوا عن دينهم مصداق قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فقوله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. وقد بلغ تأثير الإعلام في نفوس الناس وفي فطرتهم إلى حد تنكس المشاعر الفطرية لدى الآباء والأمهات -كما أشرنا من قبل- حتى إن الأم إذا بان حملها جزعت جزعاً قد يوازي جزع الأم الحنونة التي ثكلت ولدها ليس لها ولد غيره، وربما سعت للتخلص من هذا القادم الجديد الذي يريد أن يحتل له مقعداً على مائدة الحياة. لقد تمكن الإعلام الذي يسمونه: الموجه -وهو موجه في الحقيقة- من تأصيل الشعور بالرعب والهلع ومن تأصيل الخوف من الانفجار السكاني وأنه شبح مخيف يهدد الحياة على وجه الأرض، ويوشك أن يقوض الأمة ويبقيها خراباً يباباً، سخرت كل أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة لاستنفار الناس كافة إلى الاقتناع والتسليم بحسمية تحديد النسل على أعلى المستويات، حتى أن كثيراً من الناس لا يكادون يتكلمون في موضوع ما إلا وقفزوا منه إلى الحديث عن موضوع تحديد النسل وأنه الوحش والغول الذي يهدد الأمة، وكأن هذه القضية درس لا بد أن يلقن للأمة، ولا بد لها أن تنفذ هذه التوجيهات. لقد سخرت جميع الجمعيات والهيئات الخيرية والمراقص من أجل خدمة هذا المبدأ! فلا يستغرب هذا المسلك العلماني من إعلام لا دين له، لكن الغريب أن يحاول توظيف الدين وتسخير علمائه من أجل أداء هذه المهمة، والأغرب أنه نجح في توظيف كثير من هؤلاء في خدمة هذه السياسات التي تنافي سياسات الإسلام والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، بينما فشل فشلاً ذريعاً في ذات الوقت في أن يستدرج واحداً من عُبّاد الصليب كي يؤلف مقالة أو يكتب كتاباً، أو يقوم بأي نوع من الدعاية لهذا المبدأ الكنسي الخطير، بل على العكس نجد الأنشطة في داخل الكنائس تحظر وتحرم وتجرم وتهدد من يقوم بتحديد النسل من هؤلاء النصارى، وتعليمات الأطباء النصارى ألا يشرعوا في تعقيم أي امرأة نصرانية. فهو نجح في استدراج بعض هؤلاء الشيوخ الذين ساروا في ركابه، وصاروا يباركون جهوده باسم الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطر أن كل هذا يتم باسم الإسلام! فلو تكلموا بغير اسم الشريعة لكان الخطب أهون، ولو أنهم سكتوا وما نطقوا لكان أسهل وأحسن، بل لو أنهم سطعوا بالحق إيماناً واحتساباً لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً!

إن أول ما يتبادر إلى أذهان الناس إذا أثيرت قضية تحديد النسل هو موضوع الواقع الذي نعيشه الآن، وكيفية توفير الغذاء للناس مع ضيق الموارد وكثرة الزحام، والعجز عن الزواج، ومشكلات المواصلات، وقلة المال..، إلى آخر هذه الأشياء التي يخوّف الناس بها، ومن ثم نقول: إن هذه القضية لها ارتباط وثيق بالعقيدة، سواء في الألوهية أو في الربوبية على حدٍ سواء. وهم يحاولون أن يبرزوا الناس الذين يفتون لهم بما يريدون، والحق أن هؤلاء أناس سفهاء، ليس عندهم عقل، ولا يحسنون الأمور، وهذا نوع من الهوس حيث ينتقدون كلام من يعارضهم، ويأتون به في صور مضحكة تثير سخرية الناس، بحيث لا يبالون بمثل هذا الكلام، لكن ينبغي ألا نتأثر أبداً بمثل هذه الأساليب التي يصدّ بها الجهال عن دين الله عز وجل. إذا تدبرنا القرآن الكريم نجد أن كثيراً من السور تهتم بقضية الرزق، وتربط بينه وبين السلوك البشري، حيث يزيد عدد الآيات التي تتناول قضية الرزق في القرآن المجيد على مائتي آية، وكلّها تؤكد حقائق ثابتة مؤدّاها: أن الرزق من عند الله تعالى وحده، وهو مالك أسبابه لا شريك له في ذلك، وأن هذا الرزق مضمون عند الله عز وجل، لا يحتاج إلى شركات تأمين كاذبة مرابية ظالمة! ولا يحتاج لأي شيءٍ سوى أن يستجلب هذا الرزق من عند الله بطاعة الله تبارك وتعالى، والإنسان عليه فقط أن يكتسب، أما الرزق فأمره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وقضية الرزق هي قضية الصراع الطويل بين الأحياء، غير أن الله عز وجل لم يترك الإنسان ليهلك في هذا الصراع المرير، بل أنزل تبارك وتعالى تعاليم تقوّم سلوك الإنسان في مسألة الرزق، فمن مظاهر ذلك أن الله عز وجل أوجب على المسلمين الإنفاق، وفرض عليهم الزكاة، وأمرهم بالتعاون والتراحم والتكافل، مبيناً لهم أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وكذلك حرم الله تبارك وتعالى على الناس السلوك المالي المنحرف، كالربا، والكسب الحرام، والغّش، والاستغلال... إلخ. وبين الله عز وجل -مع هذا- أن الأولاد مصدر إضافي منفصل للرزق، فيجب على الإنسان أن يكون عنده يقين، فربما أن الرزق الذي يأتيك لا يأتيك لأجلك أنت؛ لأن ذنوبك ربما تحول دون وصول الرزق إليك، لكن الرزق يأتي لأولادك الضعفاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)، فالرزق يأتي لهؤلاء، وربما تكون ذنوبك قد حالت دون إتيان رزقك إليك، كما جاء في الأثر: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه). يقول الله تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، (( خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )) هذا في الفقر المتوقع، (( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )) وهذا ما كان يفعله أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون الأولاد خوف الفقر في المستقبل، ولما كان الفقر متوقعاً في المستقبل قال تعالى: (( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ )) فبدء برزق الغائبين قبل رزق الحاضرين؛ لأن رزقهم مضمون، وأما في الفقر الحاضر فقال تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] فهذا الفقر واقع وليس متوقعاً، (( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ )) فالسياق واضح تماماً في أن الإنسان لا يقتل ولده أبداً خشية أن ينفق ما معه، وإن من كبائر الذنوب: منع الحمل أو تقليل النسل بسبب الخوف من الفقر، أو الخوف من نقصان الرزق، فقد بطلت هذه المزاعم بهذه الآية: (( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ )) وبطلت دعوى أصحاب فكرة تقليل النسل الذين يزعمون أنّ إنجاب الأولاد يضيف عبئاً اقتصادياً على العائلة، وقد تصح دعواهم إذا كان الأبوان هما اللذان يخلقان الرزق! أو كان الأب هو الذي يخلق الرزق بحكم أنه هو عائل الأسرة! فإنه إذا كثر عليه الأولاد الذين يخلق لهم الرزق سوف يكون ذلك عبئاً شديداً عليه؛ لأنه بشر وطاقته محدودة!! لكن إذا كان الأب والأم والأولاد وكل من في الأرض فقراء إلى الله عز وجل، والله هو الذي يرزقهم، وهو الذي يضمن لهم ذلك بقوله: (( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ )) فكما انفرد بالخلق انفرد بالرزق، وكما أنه لا يخلق إلا الله فإنه لا يرزق إلا الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر:3] فهذا وجه ارتباط قضية الرزق بالعقيدة، أي: كما تعتقد أنه لا يخلق إلا الله فتعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له في ذلك أبداً. وضمن الله تبارك وتعالى الرزق لكل المخلوقات، يقول تبارك وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] من الذي يعطينا المطر؟ من الذي ينبت لنا من الأرض؟ من الذي يرزقنا الماء؟ يقولون: مصر هبة النيل! هذا شرك، وهل النيل يهب؟ بل النيل نفسه هبة من الله تبارك وتعالى، وهو في نفسه نعمة، فكيف نعبد النعمة ونترك وهّابها وهو الله عز وجل؟! فأمر الرزق مضمون بلا ريب، وأي شك في هذا فهو خلل في العقيدة، يقول عز وجل: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] ولو ذهبنا نستقصي ما استطعنا عليه من أنواع الأحياء وتفاصيل ضمان الرزق لها فسوف نعجب عجباً شديداً جداً، أنت نفسك أيها الإنسان! من ضمن لك رزقك وأنت في بطن أمك؟! وكذلك من الذي يرزق النملة في جحرها؟! ومن الذي جعل طريقة التعايش أو التطفل أو التكافل بين الحيوانات والكائنات الحية؟! هناك قصص كثيرة جداً إذا أردنا أن نذكرها بالتفصيل فإننا سنخرج عن الموضوع، لكن نكتفي بقول الله تبارك وتعالى: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فإذا كان يرزق الدابة فكيف بمن كرّمه؟! وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، ويقول عز وجل وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:52] أي: أنت غير مسئول عن رزقهم ولا عن عملهم، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]. ويقول عز وجل: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27]، ويقول تبارك وتعالى: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، فكل إنسان له رزق ونصيب مقدر من الله تبارك وتعالى، لكن الغربيين ونظراءهم من الكفار لا يوقنون بهذه المعاني ولن يستمعوا لها، ولن يحسّوا بمعناها، فلذلك تنحصر أفكارهم في الجوانب المادية المحسوسة، ومثل هذه العقائد لا ينعم بها إلا من نوّر الله قلبه بنور الوحي والتوكل عليه عز وجل، فحتى الأنفاس التي تتنفسها قد كتب الله لك عددها، فلا تنزل إلى الدنيا إلا ولك عدد محدد من الأنفاس سواء كان شهيقاً أم زفيراً، وسواء كان جزءاً أو جزيئاً من الأوكسجين أو الذرات التي سوف تدخل جسمك وتخرج منه: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، فالحقيقة أن الإنسان أول ما ينزل الأرض يبدأ العد التنازلي في هذا العدد الذي سطّره القلم منذ الأزل. وفي الحديث: (ثم يأتيه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات)، ومن هذه الكلمات التي تُكتب قبل أن تُخلق أنت: الرزق. وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن روح القُدُس نفث في رَوْعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) يعني: هونوا على أنفسكم، ولا تشتطوا في طلب الرزق، وقوله: (فإن روح القدس نفث في روعي): وهذه طريقة من طُرق الوحي، (أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) أي: لا يمكن أن يموت الإنسان قبل أن يأخذ رزقه الذي كتب الله له تبارك وتعالى، بل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله) فتخيل هذين الأمرين: كما أن عندك يقين أن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يُطرد ولا يؤجل، فكذلك إذا حضر رزقك فلا يمكن أبداً أن يحول أحد بينك وبين هذا الرزق، وفي الحديث: (المعونة تأتي على قدر المئونة)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، ألا هلك المرتابون الذين يُشكّكون في رزق الله تبارك وتعالى، (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي: تخرج في الصباح فارغة المعدة، (وتروح بطاناً) أي: حينما تعود قد امتلأت بالطعام والرزق، فمن الذي رزق هذه الطيور الضعيفة الهزيلة التي ليس لها عقل ولا إمكانية؟! من ذا الذي يرزقها إلا الله تبارك وتعالى.

نعى الله عز وجل وشدد النكير على من يقتلون أولادهم خشية الإملاق، يقول عز وجل: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ [الأنعام:137] أي: من التردّي والهلاك، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:137] وقال تبارك وتعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]، قال بعض العلماء في تفسير قوله عز وجل: وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الأنعام:140]: إن الرزق يشمل الطعام والشراب، كما يشمل الذرية، فيقول في هذه الآية: الذين حرّموا على أنفسهم نعمة التناسل وإنجاب الذرية، ويقول عز وجل: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9]، وقال عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31] وقال أيضاً: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151]. قد يقول بعض الناس: إن تحديد النسل ليس قتلاً للنسل. فنقول: لكنه يتفق مع القتل في الباعث عليه، والذي أنكره الله على هؤلاء المشركين في الجاهلية هو أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الإملاق، وهذا واضح، فاتّحد الباعث عند هؤلاء وعند أولئك، قال عليه الصلاة والسلام حينما ذكر بعض الكبائر: (وأن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) فالعلة هنا: خشية أن يجلس معه ابنه على المائدة ويشاركه في الطعام!

فيعني إذا أفضنا من الكلام في قضية الرزق كما سيأتي إن شاء الله فلا نبالي بكلام هؤلاء الذين يهوشون، وإذا رجعنا إلى أولي العلم وأولي الخبرة في المجالات الدنيوية أو الاقتصادية أو الشرعية في هذا الأمر فسوف ندرك أننا في الحقيقة كنا ضحية لكثير من التضليل السحري الذي تأثرنا به، وهو السحر الإعلامي، والمشكلة هي عدم التوازن بين الموارد والطاقات، وبين عدد السكان والاحتياجات، نعم هي مشكلة، لكنهم أفهمونا وأوقعوا في شعورنا أنه لا حل إلا هذا الحل، في حين أن الحلول كثيرة جداً سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات، كما سنبين إن شاء الله تعالى.

بل إن المعروف في علم الاقتصاد أن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، والإنسان، ورأس المال.

وأعظم هذه العوامل هو: الإنسان، نعم، فالنسل هو في حد ذاته ثروة من أعظم الثروات، ويكفي أن كثرة النسل هو أحد العوامل التي تحسب بها الأمة في عداد الأمم الكبرى أو القوى الكبرى.

فيصبح حالنا ونحن نهرب من مواجهة هذه المشاكل كمثل من بيده كنز من ذهب، وهو لا يستطيع أن يصنع من هذا الكنز نقداً ولا حُلياً ولا شيئاً مما ينفع الناس! فماذا يفعل؟ يلقي هذا الكنز في البحر ليتخلص من أعباء تصنيعه أو الانتفاع به!

مثل المقدار المستغل من الأراضي في مصر، فإنه يبلغ 7%، مع أن مصر عبارة عن واحة في وسط صحراء كبرى، ولو تم توزيع أرض مصر على سكانها لبلغ نصيب كل فرد كيلو متر مربع، وهذا معدل غير موجود في أغلب بلاد العالم.

ونحن الآن نتكلم عن النسل، في حين أنك تجد التصريحات التي تعلن عن اهتزاز اقتصاد البلد عند حصول خلل في تحويلات المصريين العاملين في الخارج، أليس هذا نسلاً؟! أم أن هؤلاء خشب وجمادات؟! فهؤلاء هم بشر، وهذه ثروة من أعظم الثروات التي تخدم الاقتصاد، وهي تحويلات المصريين الذين هاجروا وعملوا في الخارج، فلو تأملنا الحقيقة فإننا سنجد أن أرض الله ليست ضيقة، بل ما زالت واسعة كما قال الله: أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [النساء:97]، فالعقول هي الضيقة، كما قال الشاعر:

لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ

فلو أن إنساناً عنده ثوب قصير لا يستر كل أعضاء بدنه، فهل من التعقل أن يهذب هذا الجسد ويقطعه كما تُقطَّع أغصان الشجر؟! أم أن من العقل أن يفكر في زيادة حجم الثوب إلى أن يتناسب مع هذا البدن؟! هذا هو الحل المنطقي.

فدعاة تحديد النسل لم يفكروا في الخوف على الأمهات، ولا فعلوا ذلك من أجل الحرص على سلامة الأم، بل هم يحاولوا أن يأتوا إلى الناس من الباب الذي يقنعهم، فيقولون: صحتك وسلامتك وكذا.. وكذا..، ويبالغون في وصف هذه الأشياء، فهم لا يريدون الحرص على حياة الأم أو صحتها، ولا دفع الضرر عنها، بل كل الجهود والأموال مبذولة من أجل الناحية الاقتصادية، زاعمين أن كثرة الإنجاب تورثهم الفقر، وجعلوا من أنفسهم قوامين على الفقر والغنى والكسب والارتزاق، ولا هَمّ لهم إلا عمل الإحصاءات وتقسيم الأرزاق، وليس هذا في الحاضر فقط، بل على مدى المستقبل البعيد، فيحسبون بطريقة تلك الساعة التي أهدتها لهم أمريكا: كم يكون عدد سكان مصر في عام (2000م) مثلاً؟ ثم يقسمون ما يكون من الرزق على كل فرد فيكون نصيب الفرد كذا وكذا!! أفلا يتذكرون قوله عز وجل: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] فهذا فعل من أفعال الربوبية، ويقول الله عز وجل: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، فخزائن الله ليست بأيدينا ولا بيد أحد من البشر، إنما هي يد العزيز الوهاب ذي الطَّول والإنعام، فجهدهم هذا جهد موزور لا أجر فيه؛ لأنه جهد ينافي مقاصد الشريعة، ويزيّن للناس ما منعه الشرع، وهذا من الإثم ومن الوزر.

يقول تبارك وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، فقوله: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا يعني: من الله رزقها، قد تكفل الله به وضمنه لها.

يقول الرازي في تفسير هذه الآية: ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لأطباق السموات والأرضين، وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها؟!

روي أن موسى عليه السلام -عند نزول الوحي عليه- تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت، فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها!

فهذه القصة من الإسرائيليات التي قد تصح أو لا تصح، لكن ما كان منها لا يصادم شريعتنا فلا بأس من حكايته، فتأمل كيف تعيش وجد هذه الدودة التي هي كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.

وقد يكون هذا من كلام القصاصين وهو مذكور في التفسير الكبير للرازي، لكن معناه طيب وجميل، حتى لو لم يحصل هذا، فإن الله عز وجل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ويسمع كلامها تبارك وتعالى ويرزقها، وهي تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني، سبحانه وتعالى.

وقال القرطبي رحمه الله: قيل لبعضهم من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتي بالطحين، والذي شدق الأشداق -يعني جوانب الفم- هو خالق الأرزاق.

وقيل لـأبي أسيد : من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر، إن الله يرزق الكلب، أفلا يرزق أبا أسيد؟

وقيل لـحاتم الأصم : من أين تأكل؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنما له إلا السماء؟ يا هذا الأرض له، والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد:

وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسرِ

تكفّلَ بالأرزاق للخلق كلهمْ وللضّبّ في البيداء والحوت في البحرِ

يقول: ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب، مع العلم أنه سبحانه المسبب لها، فليتوكل على الله، ولا ينافي الأخذ بأسباب هذا التوكل، ففي الخبر: (أعقلها وتوكل)، ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة السبب، فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة لسبب أصلاً، يقول ابن أذينة :

لقد علمت وما الإسراف من خُلُقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه فيعييني تطّلبه ولو أقمت أتاني لا يعنّيني

وأنشد أيضاً:

مَثَل الرزق الذي تطلبه مَثَل الظلّ الذي يمشي معكْ

أنت لا تدركه متّبعاً وإذا ولّيتَ عنه تبعكْ

مثل الظل، أي: خيال الإنسان على الأرض.

يقول الله تبارك وتعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] يخاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهله هم أهل بيته، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية يذهب عند الفجر إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وينادي: (الصلاة).

فهنا يأمره تعالى وأمته أن يوجهوا هممهم إلى خدمة آخرتهم، بالالتزام بطاعة الله تعالى، فلا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم، فإذا شُغلوا بطاعة الله أتتهم الدنيا راغمة: لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا [طه:132] يعني: لنفسك ولمن تلزمك نفقتهم، فالكل قد تكفل الله برزقه، فلا تشغل نفسك لأمر الرزق، وأقبل على طاعة الله تعالى.

وقال أبو السعود: أُمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهل بيته أو التابعين لهم من أُمّته بالصلاة بعد ما أُمر هو به، ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتم بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة.

وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا يعني: وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش، لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا يعني: لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أن ترزق أهلك نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى .

وقال ابن كثير : لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحسب كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57] * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك)، وفي الحديث الآخر: (من أصبح والآخرة همّه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه فرّق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له) ويقول عز وجل: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] ويقول عز وجل: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ [الشورى:19] فقوله: لَطِيفٌ أي: حفيّ بهم، أو بارّ بهم، أو لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] وقال عز وجل: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23].

قوله: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ : قد يقصد بالسماء هنا: المطر؛ لأنه ينزل من جهة العلو، ويكون المعنى: وفي المطر رزقكم؛ لأنه سبب للإنبات في الأرض، يرتزق منه الإنسان والحيوان في الغالب، أو يكون المقصود بالسماء: حقيقة السماء، ويكون المعنى عند ذلك: وعند الله تعالى في السماء تقدير أرزاقكم حسب ما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ.

قوله: وَمَا تُوعَدُونَ معطوف على: رزقكم، فيكون المعنى: في اللوح المحفوظ -الذي هو في السماء- تقدير أرزاقكم وكل ما توعدون به من خير أو شر في دنياكم وأخراكم.

وقوله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ : هذا قَسَم يؤكد أن الرزق وما وعد الله به عباده مضمون عند الله في كتاب، وهو في أم الكتاب لا يتغير ولا يتبدل، ولا يزيد ولا ينقص، بل لا بد أن يصيب كل مخلوق ما كتب له من الرزق.

وإذا تأملت التوكيد في هذه الآية: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] فالقَسَم في حد ذاته توكيد، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ حلف وقسم، ثم أتى بالمقسم عليه، وهو جملة أسمية مُصدّره بحرف التوكيد: إِنَّهُ لَحَقٌّ يعني: هو حق، واللام أيضاً هنا للتوكيد.

وقوله: مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ، واختار النطق على توكيد الرزق وضمانه لدى الخالق جل وعلا؛ لأنه سالم مما يشبهه، يقول بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.

يقول بعض العلماء: إن في هذه التوكيدات الكثيرة في موضوعٍ تكفّل الله تعالى به لا بد وأن يكون ذلك لسرٍّ من الأسرار، وذلك السر هو ما في النفس البشرية من جحود ونكران وتخوف وتشكك في هذه المسألة بالذات، والله تعالى عليم بخبايا النفوس، فلما علم ما في نفوس البشر من التخوف والتشكك أكد لهم ذلك بكل هذه التأكيدات، ليذهب من نفوسهم ذلك الخوف والشك، فسبحان الذي يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير.

يقول الإمام القرطبي رحمه الله: قال الحسن : بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه، قال الله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات:23]) ، وقال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابي جلف جافٍ على قعود له، متقلد سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي ؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن -فانظر ذكاء الأصمعي كيف فتح له باب العلم حتى يستوضح ويستزيد ويستفيض- فقال الأعرابي: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ علي منه شيئاً، فقرأت: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1] * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:2] * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:3] * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4] إلى قوله تبارك وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ فقال: يا أصمعي ! حسبك، ثم قام إلى ناقته، فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل، وولّى نحو البادية وهو يقول: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22].

وهذا من شدة تدبره واستحضاره للآية، إذ أنه أنفق هذه الناقة لوجه الله، وذبحها وأطعم بها الناس، وهو واثق أن رزقه سوف يزيد بذلك ولا ينقص؛ لأجل الضمان عند الله، وهذا المعنى جاء في حديث صحيح، حيث حلف النبي عليه السلام أيضاً على شيء ربما بعض الناس لو سمعته من غيره فلن يتقبله، قال: (ثلاث أحلف عليهن: ما نقص مال من صدقة أبداً)، فلا يمكن أبداً أن ينقص المال بسبب الصدقات، وبعض الناس قد يتصور العكس من ذلك، لكن نقول له: قد حلف على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] بقوله: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبد بعفو إلا عزاً).

يقول الأصمعي فمقتُّ نفسي ولُمْتها.

أي: لأنه تسبب في أن هذا الرجل ذبح الناقة ووزعها، أو أنه استنقص نفسه أمام هذا الأعرابي، وشعر بأنه أقل منه يقيناً والله أعلم.

يقول: ثم حججتُ مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفتُّ فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفّر -أي: هزيل الجسم مصفر اللون- فسلّم عليّ وأخذ بيدي، وقال: اتلُ علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام، فقرأتُ: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1] حتى وصلتُ إلى قوله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعد الرحمن حقاً -أي: أن الله أخلف عليه وبارك له في رزقه بعدما نحر تلك الناقة- ثم قال: وهل غير هذا؟ -أي: عندك شيء آخر من كلام الله؟- قلتُ: نعم، يقول الله تبارك الله وتعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23]، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدّقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟! فقالها ثلاثاً، ثم خرجت بها نفسه.

وقال يزيد بن مرثد : إن رجلاً جاع بمكان ليس فيه شيء، فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني به فأتني به. فشبع وروي من غير طعام ولا شراب.

وفي الحديث: (لو أن أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت)، وروي أن قوماً من الأعراب زرعوا زرعاً فأطالته جائحة -أي: أصابته مصيبة أو جائحة، إما رياح أو حريق أو نحوها- فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية، فقالت: مالي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم؟! هو ربُّنا، والعالم بنا، رزقنا عليه، يأتينا به حيث شاء، ثم أنشأت هذه الأعرابية تقول:

لو كان في صخرة في البحر راسيةٍ صمّا مُلَمْلَمِةٍ مُلْسٍ نواحيها

رزقاً لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيها

أو كان بين الطباق السبع مسلكها لسهّل الله في المرقى مراقيها

حتى تنال الذي في اللوح خُطّ لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيها

وفي قصة الرجل الفقير الذي أراد أن يتزوج ولم يكن يملك شيئاً، كما في الحديث، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يزوجه هذه المرأة الواهبة، فقال له: (أصدقها)، أي: أدفع لها الصداق، فلم يجد الرجل شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألتمس ولو خاتماً من حديد)، فلم يكن يملك حتى خاتماً من حديد، فقال: أعطيها إزاري، قال: (ما تصنع بإزارك؟ إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك).

فتأمل كيف أنه لا يملك سوى الإزار الذي يستر ما بين السرة والركبة، هذا هو رأس ماله فقط، فقال في آخر الحديث: (زوجتكها بما معك من القرآن)، الشاهد: أنه لو كان الفقر حائلاً دون النكاح لكان عذراً لهذا الرجل، ومع ذلك زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم.

نعود فنسأل أنفسنا سؤالاً آخر يحسم هذه القضية، وهو: من هو المنظم الحقيقي للنسل البشري؟ أو: من هو المنظم الحقيقي لهذه الكُتَل الهائلة من البشر؟

الجواب: ابتداءً نقول: لا أحد يأتي أبداً إلى هذه الدنيا باختياره وإرادته، بل ولا حتى باختيار أبيه وأمه، فمن الذي ينظم كل هذا؟ بل وأضعاف أضعافه؟!

إنه الله الواحد الأحد، ليس الأب، ولا الأم، ولا الطبيب ولا الحكومة، وليس لأحد أبداً أن يتدخل في هذا النظام الذي لا يدبره إلا الله عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، فالقدرة الإلهية وحدها هي التي تقوم بالتنظيم الحقيقي للنسل الإنساني.

وأما الدلائل والبراهين التي يقدمها أنصار دعوة تحديد النسل على أساس علم الاقتصاد، فهي في الحقيقة لا تتطلب تنظيم أفراد الأسرة، بل تتطلب تنظيم سكان الدولة، بمعنى: أن هذه البراهين قد تقتضي أن تقدر بكل دقة ما في الدولة من وسائل المعيشة ومن موارد الرزق، ومن جانب آخر: أن نرى ماذا يمكن أن يبلغه عدد السكان ونسبته بالنسبة للوفاة؟ فهذا التوازن لا يمكن أن يتم إلا بأحد طريقين:

الأول القضاء على دائرة الزوج والأسرة، وتحويل الرجال والنساء رسميين للدولة، ينتجون وفق تخطيط مرسوم لهذا الغرض، ثم إذا وصلنا لهذا الغرض يفصل بينهما إذا تحقق هذا الهدف المنشود.

الثاني: أن يتم التناسل كما يتم في تربية الجواميس والبقر، بوجود مصارف معينه مثل مصارف الدم التي يتم فيها هذا التعاون مع بني البشر.

وكلا الطريقتين مرفوضة عند ذوي الفطرة السليمة، ولذلك فهم مضطرون في الحقيقة إلى أن يلوّنوا الكلام وينوعوا الأساليب التي يسلكونها، فيظهرون الفرار من خطة تنظيم سكان الدولة إلى خطة مقنعة هي: تنظيم أفراد الأسرة.

فبدل أن ينشئوا هذه المعامل التي يريدون جعل الناس فيها كالجواميس والأبقار لتحديد العدد الذي يريدونه، يأتون فيقنعون الناس أن يحولوا كل بيت إلى معمل لتحديد النسل، وتبقى البيوت هي المعامل التي يولّد فيها الأطفال، لكنهم يبذلون كل الجهد من أجل استرضاء هذه المعامل الصغيرة؛ كي تحد من إنتاجها من تلقاء نفسها، وهذا الاسترضاء يتم بإحدى وسيلتين:

الوسيلة الأولى: مناشدة الأفراد باسم مصلحتهم الشخصية، بأن يحافظوا على مستوى معيشتهم، بخفض عدد الأطفال لكي يتحسن مستقبلهم، ويوهموا الناس أن شبح الفقر سوف ينتشر لكثرة إنجاب الأطفال.

نقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى خلق الأولاد بأفواه ليأكلوا بها، ولكنه خلقهم أيضاً بأيدٍ وعقول وإمكانات يمكن أن تكون طاقات عظيمة في هذا الوجود، لكن التركيز عندهم يكون على الاستهلاك في فترة الحضانة بالنسبة للصغار، ولكن هذه حضانة اقتصادية، ولا ننسى أبداً أن العامل الأساسي في عوامل الإنتاج هو الإنسان، وهو ثروة عظيمة جداً كما يقول العقلاء من كل الأمم، حتى أن أيزن هاور وقد كان رئيساً لأمريكا سنة (59) تقريباً، كان يقول: لن أسمح بدخول خطة تحديد النسل ما دمت على قيد الحياة، أو ما دمت في البيت الأبيض!!

لماذا يقول هذا الكلام؟!

لأنهم يعرفون أن كثرة النسل من أسباب القوة بالنسبة لأي أمة تنظر للمستقبل، فهم يدخلون للناس من مدخل المصلحة الشخصية؛ لأنهم لو خاطبوا الناس بالقومية والوطنية والدعاوى العامة فلن يستجيب الناس لها، فأغلب الناس قلّما يفرضون الحظر على أنفسهم بأنفسهم باسم المصلحة الاجتماعية، لكنهم يناشدونهم باسم مصلحتهم الشخصية كي يحافظوا على مستوى المعيشة بخفض عدد الأطفال حتى يتحسن مستقبلهم، ويحافظوا على الرفاهية الذاتية، وتكون النتيجة: أن الناس يستجيبون لهذا، ويسترسلون في الحد من الإنجاب؛ لهذا الغرض الشخصي، دون اعتبار المعدل المطلوب للإنجاب.

إن رواد دعوة تحديد النسل يزعمون أن سياستهم هذه تهدف إلى إيجاد التوازن بين الموارد وبين عدد السكان، فهم يحاولون إقناع الناس عن طريق المصلحة الشخصية، مع أن المصلحة الشخصية قد تستمر ثم يحصل التصادم مع المصلحة الكلية، وتظهر مع الوقت مشكلة عكسية، وهي قلّة النسل، فيختل التوازن بصورة عكسية، وهذا بالضبط ما حصل في فرنسا، وهي أول دولة شجعت وتبنّت حركة تحديد النسل، فهبط عدد المواليد بالنسبة للوفيات، فذاقت وبال هذه الخطة الخرقاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية في صورة هزائم متوالية ومنكرة قصمت ظهرها، وقضت على عظمتها السياسية قضاء ملموساً، فصارت فرنسا عبرة لمن أعتبر. والآن في الغرب يحرضون الشعوب بكل الوسائل على أن ينجبوا أولاداً، حتى في ألمانيا يعطون مكافآت وإغراءات بالمال تفوق الوصف للمواطنين لكي ينجبوا، فيقول الشعب الألماني: الحكومة تغرينا حتى ننجب! فيعاندون الحكومة، ويكرهون أن ينجبوا أطفالاً. أما فيما يتعلق بالمسلمين فعلى خلاف ذلك، فتأمل! الوسيلة الأخرى التي يتم بها استرضاء الناس هي: نشر المعلومات عن وسائل منع الحمل على أوسع نطاق، بحيث تكون في متناول الجمهور رجالاً ونساء. الأهداف التي على أساسها انتشرت دعوة تحديد النسل في أوربا هي المشاكل الاجتماعية والمدنية؛ لأن الحضارة الغربية قامت على أساس المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وعلى أساس الاختلاط المطلق بينهما، والرغبة في التخلص والتملص من تبعية هذه الإباحية التي يعيشونه، فهذا من مقتضيات نظامهم! أنهم يريدون التمتع بالدنيا والراحة وعدم تحمل تبعة الزواج من الأولاد وغير ذلك. أما في بلاد المسلمين فالأهداف التي يرمي إليها الغرب من وراء نشر هذه الحركة هي أهداف سياسية بحتة، لا علاقة لها بالاقتصاد، وإن كانت مستترة تحت هذا الثوب، فقد كان الناس في القديم حينما يساورهم القلق من مشكلة زيادة الأولاد يعالجون هذه الأمر بطريقة الوأد كما كان يحدث في الجاهلية، أو بقتل الأولاد أو الإجهاض ونحو ذلك، لكن الإنسان في هذا الزمان فلسف الأمر، واستطاع أن يعبر عنه تعبيراً يتواءم مع القواعد الحسابية والهندسية. فزعم الإنسان المعاصر وهو مالتوس صاحب النظرية التي على أساسها قامت الدعوة إلى تحديد النسل، قال: إن زيادة السكان تتم على صورة متوالية هندسية، يعني: 2 ، 4 ، 8 ، 16 ، 32 ، 64 ، 128 ، 256 ، ...إلخ. هذا بالنسبة لزيادة عدد السكان، لكن لا تزيد وسائل الرزق مهما اخترعوا لزيادة هذه الوسائل إلا على صورة متوالية حسابية، يعني: 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 . فإذا ظل عدد السكان يتضاعف دونما حاجز، فسيصل إلى ضعفيه بعد كل خمسة وعشرين سنة، أو يصل من واحد إلى مائتين وستة وخمسين بعد قرنين، بينما لا تزيد وسائل الرزق خلال هذه المدة إلا إلى تسعة، وخلال ثلاثة قرون يكون عدد السكان بالنسبة لموارد الرزق (4096 : 13)، وكأن الله وكّل إليهم رزق من في السماوات ومن في الأرض! سبحان الله عمّا يصفون. فيحاول الإنسان في هذا العصر قتل الأولاد أحياناً والإجهاض أحياناً، لكن الوسيلة المتوفرة في ظل التقدم العلمي هي: منع الحمل، وأحياناً: التعقيم الدائم! تحت مُسمّيات: التحديد، أو التنظيم، أو غير ذلك، فهل هذا الخوف في محله؟! وهل زيادة السكان تقتصر على عدد موارد الرزق؟! في الحقيقة والواقع أنه لم يحصل زيادة في النسل السكاني في أي مرحلة من مراحل التاريخ بتلك النسبة التي هي متوالية هندسية، ولا أتى على الإنسانية حين من الدهر كانت النسبة فيه بين عدد السكان وموارد الرزق كما يدّعون، ولو حصل ذلك لكان النسل الإنساني قد انقرض والله أعلم، ولَما كنا وجدنا أنفسنا اليوم على وجه الأرض.

كانت الكرة الأرضية موجودة قبل هذا الإنسان، وكانت عليه كل الأسباب التي تحفظ حياته، والإنسان ما خلق فيها شيئاً بنفسه، بل كل ما فعل أنه اكتشف ما كان مخبوءاً في بطنها، أو مبثوثاً على وجهها بجهده وذكاءه بعد هداية الله وتوفيقه، يقول الله عز وجل: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9] * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10] فالله قد قدّر فيها أقواتها، وهيأها الله لنا قبل أن نخلق، فالرزق مخبوء في الأرض، وما هذه القفرة التي قَفَزت بها مثلاً دول الخليج البترولية عنا ببعيد.

فالأرض ما زالت ثرواتها كامنة، فيها الطاقات والأرزاق بما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقد كان حال هذه البلاد كما يعلم من يطالع تاريخ الخليج قبل اكتشاف البترول، يعلم أنهم كانوا بما على حالة من الضنك والفقر الشديد جداً، فهذا الرزق المخبوء الذي خبأه الله لهم في الأرض، ثم أخرجه لهم هو نعمة من فضله تبارك وتعالى، وهذا الرزق ما كان يخطر ببال مالتوس ولا غيره، وهو يقول: متوالية هندسية! ومتوالية حسابية! لكن الله يعلمه، فهو الذي يخرج الخبء في السموات والأرض سبحانه وتعالى.

فالإنسان ليس له أي دور في خلق هذه الأسباب، ولا تعيين مواضعها، ومعرفة مقدارها، وساعات ظهورها، كما يقول عز وجل: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى:27] ينزل الله الرزق بحكمة، وكل ما يصلح الناس ينزله الله عز وجل، فالذي خلقه وأخرجه من العدم إلى عالم الوجود هو الذي قدر تقديراً محكماً ما سيحتاج إليه هذا الإنسان لحفظ حياته فوق هذه الأرض، وأودعها وسائل الرزق قبل أن يدب عليها الإنسان نفسه، يعني: الكون خُلق قبل أن نأتي نحن، وعلى قدر ما زاد من أفراد النسل البشري وما زاد من جهوده لحفظ حياته كانت تتكشف له خزائن لا تعد ولا تحصى من موارد الرزق، فالحقيقة على عكس الكلام مالتوس وغيره، حيث كان التناسب بين عدد السكان ومصادر الرزق تناسب طردي، يعني: كلما زاد عدد السكان كلما زادت مصادر الرزق، وهذه هي الحقيقة، حتى أننا نلاحظها على نطاق بعض الأفراد، حيث تجد بعض الناس عنده من الأولاد عدد كبير، فتجد رزقه -سبحان الله!- يأتيه على قدر هذا العدد، فالبركة تكفي هذا العدد، فإذا تزوج أولاده أو سافر بعضهم أو نقص العدد بصورة أو بأخرى أو ماتوا مثلاً فربما تلاحظ أن الرزق يمكن أن يقل على قدر العدد الموجود، فهذا يحسه الإنسان ويراه، فكلما توهم الإنسان أنه وضع يده على كل أسباب الرزق إذا بالله عز وجل يكشف له من الأسباب ما لم يخطر له على بال.

فالإنسان منذ آلاف السنين كان يرى البخار يرتفع من القدر التي تغلي، لكنه لم يخطر بباله أن هذا البخار سيفتح أمامه في النصف الأخير من القرن الثامن عشر ميداناً واسعاً جداً للرزق في الطاقة البخارية، وكان يرى النفط ويرى فيه خاصية الاحتراق لكنه لم يتوقع يوماً أن عيوناً لا حصر لها من آبار البترول يوشك أن تتفجر على هذه الأرض وتبرز إلى الوجود، حتى خرجت بعد ذلك صناعة السيارات والطائرات، وحصل الانقلاب الهائل في عالم الاقتصاد وموارد الرزق، وكذلك الطاقة الكهربائية قلبت الموازين وزادت في مصادر الرزق، والذرّة التي كانوا منذ قرون يناقشون إمكانية: هل تتفتت الذرة أم لا؟ وإذا بنا في هذا القرن نجد الذرة تتفتت لتخرج من خزانتها طاقة هائلة جداً لم يكن يتخيلها الإنسان.

أيضاً مما ينبغي أن نتذكره دائماً: أن زيادة عدد السكان لا يعني فقط -كما يشوّش هؤلاء المرجفون- زيادة الأفواه الآكلة، بل هو في نفس الوقت يعني زيادة عدد الأيدي العاملة والمنتجة، وكما أشرنا بموجب علم الاقتصاد فإن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، ورأس المال، والإنسان، والإنسان أهم وأكبر هذه العوامل، لكن المتعصبين لدعوة تحديد النسل والمتطرفين يصرّون على أنهم لا يرون في الإنسان إلا عاملاً استهلاكياً فقط!!

نقول لهم: حتى الإنسان الضعيف الذي يكون عنده أولاد كُثُر فإنه بمرور فترة الحضانة الاقتصادية هذه سوف يصبح هؤلاء الأولاد منتجين، وهم الذين يرعون آبائهم في الكبر، وينفقون عليهم، ويرعون أشقائهم الصغار.

فهي في الحقيقة ليست أنفساً استهلاكية فقط كما يصور القوم، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، وكما يقولون: الحاجة أم الاختراع، فزيادة السكان تحسن لمزيد من دواعي العمل وحوافزه، فإذا زاد السكان حصل البحث والسعي وراء مصادر الرزق، فيحصل تعمير أكثر لهذه الأرض، وسوف يبحث الإنسان عن رزق في الأراضي البكر، ويستصلح الأراضي البور، ويبحث عنه في أعماق البحار وفي المناجم، وإلا لو قنع الإنسان بالموجود لتبلد وكسل.

يقول الله تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] فلا بد أن نكون على يقين من هذه الحقائق، فالارتباط بين النسل والرزق هي قضية عقائدية أولاً قبل أن تكون مخططاً لإبادة المسلمين، وذلك لتعلقه بالربوبية والألوهية.

فالله عز وجل يضمن لعبادة -برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم- مقومات الحياة دون تفريق، وأما أنت فلست تعرف روحك الذي في بدنك، ولا تفهم سرها، وكذلك قلبك الذي يدق وينبض بطريقة لا إرادية وأنت مستيقظ أو نائم، أين المولد الذي يولّد فيه الحركة؟! من الذي يحفظ لك هذا القلب وكل وظائف الجسم التي تعمل فتبقى مقومات الحياة إلى أجل يعلم الله مداه؟!

أما من ناحية أعمال الربوبية: فمعنى الربوبية التربية وتوفير مقومات الحياة، فمن الذي يؤمن لنا الهواء الذي نتنفسه؟! الماء الذي نشربه؟! الشمس التي هي عامل مهم جداً في استقامة حياتنا؟! استقرار الأرض التي إذا خرج منها الإنسان إلى الفضاء فإنه يراها معلّقة مثل الكرة في الفضاء؟! من الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا؟!

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41]، ليس إلا الله عز وجل، فلا تقلقوا على أرزاق الناس، وليس بأيديكم مفاتيح الرزق، بل هي بيد الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ [الحجر:19] فظاهرة التوازن -كما سنبين إن شاء الله- من الضوابط التي ضبط الله بها هذا الخلق، هناك توازن بين المخلوقات، وبه تستقيم الأمور، تأمل مثلاً: ظاهرة العلامة بين الأنهار والبحار، منذ أن خالق الله عز وجل الأنهار ووصلها بالبحار فالظاهرة مستمرة، وهي: أن الأنهار تصب في البحار، لا الأنهار جفّت ولا البحار امتلأت!! من الذي يزن ذلك؟! هو الله تبارك وتعالى، من الذي ينظم نسل الأسماك في الماء، والطيور في الهواء، والحيوانات على الأرض؟! لو أن الوحوش تكاثرت بحيث صارت أضعافاً مضاعفة أكثر من بني الآدميين لأهلكتهم، فمن نظم نسلها؟! هل هناك هيئة تنظيم أسرة المستقبل عن الأسود والوحوش والنمور؟! لا، إنما يدبّرها الله، هذا ليس إلينا نحن، ولا إلى أسرة المستقبل المظلم، والله أعلم.

فالذي يحتاج إليه الإنسان هو الخبز وليس أقراص منع الحمل، هذا تصرف سلبي في مواجهة المشاكل، والمفروض أن الإنسان يخرج ما عنده من الطاقة، ويستفرغ وسعه في البحث عن مصادر الرزق، لكنهم يقلقون أنفسهم، ويفكرون عن ما سيحدث بعد خمسين سنة.. بعد ألف سنة كيف سيكون شكل مصر ومستقبلها ومستواها!! لكننا الذي نعلمه جيداً بعد مائة سنة هو أننا سنموت جميعاً، وأما قضية الأرزاق هذه فليست إلينا.

يذكر علماء الاقتصاد الإسلاميون أن هناك خلافاً جوهرياً بين الاقتصاد الإسلامي وطريقة التعامل مع هذا الوجود، باعتبار أنه ينبثق وينطلق من منطلق إيماني بالغيب والرزق، وبين الاقتصادي المادي أو الاقتصادي السياسي، فعلماء الاقتصاد الغربي يقررون أن الندرة أصل من أصول الخلق، أما الإسلاميون فيقولون: الندرة ليست أصلاً من أصول الخلق، لكن الندرة -وهي قلة موارد الرزق- مجرد ظاهرة يكون لها أسباب وعوامل، كأن يعزف الإنسان عن أن يستفيد بما في الأرض من خير، أو أنه قاصر عن الإحاطة والتنظيم إلى مستويات كافية بحيث لا يستطيع أن يستوعب ما خلقه الله للجنس البشري من رزق، فالأشجار كثيرة في الأرض، لكن الإنسان عاجز عن أن يقطع هذه الأشجار ويهذبها كي يستفيد منها، كذلك عند الإنسان ميل إلى التقليل من التضحية والشقاء في سبيل كسب العيش، فإذا استطاع الإنسان أن يقعد عن طلب الرزق نهائياً، وفي نفس الوقت يتنعم بكل ما يرى، فهو لا يتردد في ذلك، فهذا أيضاً من عوامل الندرة.

يتلف الناس أيضاً كثيراً مما ينتجونه بأسلحة الدمار، وأدوات التخريب المعروفة كالأسلحة وغير ذلك، والحروب الباغية والظالمة، هذه كلها من أسباب وعوامل حصول هذه الندرة، فهي تتلف جانباً كبيراً من المنتج، ويأتي إلى جانب ذلك التظالم الذي يكون بين الناس في قسمة الأرزاق وعدم العدل في ذلك، حتى يصل الأمر إلى حد الإتلاف. وبعض عوامل الندرة تحصل مثلاً في بلاد متقدمة مثل أمريكا، فهم أحياناً من أجل أن يحافظوا على سعر القمح، ويكون الناتج والمحصول كبيراً جداً، فمن أجل أن يحافظ الرأسماليون على السعر، فإنهم يأخذون هذه الكمية ويلقونها في البحر؛ من أجل تقليل العرض والطلب! فيقلل المعروض حتى يزداد الطلب عليه ويحصل كساد في السوق، فيلقونه في المحيط لأجل هذا!!.

فالاقتصاد الإسلامي يقرر أن الأصل في الخلق هو الوفرة وليس الندرة؛ إيماناً ويقيناً بأن تقدير العزيز الحكيم القاهر فوق عبادة يقتضي ذلك، فتقدير الله عز وجل لما يحتاج إليه الناس لا يمكن أن يجيء مقصراً عما يلزم، بل هو كافٍ ويزيد. يقول عز وجل: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9] * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، هناك في هذا الخلق ضوابط ومقاييس دقيقة، والموضوع لا يمشي سبهللاً، بل هناك ضوابط وقوانين وسنن تحكم هذا الوجود، ونحن نعرف تصور الغربيين لقضية الإلوهية، فإنهم إذا تكرموا وأقرّوا أن هناك إله، فهم يزعمون أن هذا الإله خلق العالم فحركه ثم تركه، وانتهى كل شيء!!

أما نحن فإيماناً بالله عز وجل ومعرفتنا بصفات الله هي على النقيض تماماً من كلامهم، فالله عز وجل لا يترك خلقه هملاً: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فكل شيء في هذه الدنيا وفي هذا الوجود يجري ويسري حسب قوانين تحكم كل شيء فيه، فالكوكب الذي نعيش فيه لم يخلق دون هذه القوانين المحكمة، وقد ثبت بالمشاهدة وبالبحوث العلمية جيلاً بعد جيل أن هذه الضوابط شاملة وثابتة، ومن أهم هذه الضوابط: التوازن، والوفرة، وغير ذلك.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2395 استماع