سورة التوبة - الآية [123]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الخامس والخمسين في الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة التوبة، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123].

هذه الآية جاءت في خواتيم سورة التوبة، وسورة التوبة نزلت عقب غزوة تبوك، وغزوة تبوك كانت في أواخر السنة التاسعة، وهي آخر غزوة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولم يلق فيها قتالاً.

إشارة الآية إلى قرب موت النبي صلى الله عليه وسلم

وفي الآية يوجه الله عز وجل الخطاب للمؤمنين، ولا يوجهه للنبي الأمين عليه الصلاة والسلام. قال بعض المفسرين: وفي هذا إشارة إلى قرب انقضاء أجله الشريف صلوات الله وسلامه عليه. وتذييل الآية بقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] فيه تعزية للمؤمنين بأن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لا يستوجب أن يتخلى ربكم عندكم، ولا أن يسلمكم إلى عدوكم، بل هو سبحانه وتعالى ناصركم ومؤيدكم ما دمتم على التقوى.

وهذه الآية شبيهة بقول الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

معاني مفردات الآية

قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123]، (يلونكم) أي: يقربون منكم، أي: ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب من أعداء الدين والملة.

وقوله: مِنْ الْكُفَّارِ[التوبة:123]، (من) هاهنا بيانية، لبيان الجنس.

قال سبحانه: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123]، أي: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم منكم شدة عليهم، والغلظة الشدة حسية ومعنوية، وهي هاهنا مطلوبة مع الكفار كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، لكنها منفية بالنسبة للمؤمنين؛ ولذلك قال سبحانه: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

وقوله: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] قال الزمخشري في الكشاف: وذلك يجمع الجرأة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر.

قال سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، (اعلموا) أي: أيقنوا أن الله عز وجل عند قتالكم إياهم ناصركم عليهم، وهو سبحانه معكم إن اتقيتم الله وخفتموه فهو معكم، والمعية هاهنا معية النصر والتأييد كما في قوله سبحانه: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وكما في قول موسى عليه السلام لقومه لما قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فالمعية هنا معية النصر والتأييد.

المعنى الإجمالي للآية

والمعنى الإجمالي في هذه الآية: يقول الله عز وجل: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، يا أيها المؤمنون، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بعد منهم، ابدءوا بقتال الأقرب فالأقرب، والحكمة في ذلك ظاهرة: أن المسلمين لو اشتغلوا بقتال الأبعد مع وجود العدو الأقرب فلربما لو خرجوا لقتال الأبعد يخلفهم هذا الأقرب في أزاوجهم وذراريهم بسوء، ثم إن الأقرب هم أكثر اطلاعاً على حاله، أي: على ما عنده من سلاح، وعلى ما عنده من قوة، بخلاف الأبعد فإنهم أقل علماً به.

إذاً: إذا كان الابتداء بالأقرب في القتال مطلوب فكذلك في الدعوة؛ ولذلك أول ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله له: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، فقبل أن يبدأ بالأبعدين بدأ عليه الصلاة والسلام بقومه في قريش.

تطبيق النبي وصحابته ومن بعدهم لمنطوق هذه الآية

وهاهنا أيضاً بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال العرب الذين حادوا الله ورسوله، وأبوا أن يذعنوا لكلمة الله، ثم انتقل بعد ذلك إلى الأقرب وهم الروم؛ ولذلك غزوة مؤتة كانت مع الروم، وغزوة تبوك أيضاً كانت لمواجهة الروم.

وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بالأمر الصديق أبو بكر رضي الله عنه بعدما كان الإسلام في مكة والمدينة والطائف ونجد وتهامة وهجر واليمامة وخيبر وحضرموت وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ارتد المرتدون، ومنع الزكاة المانعون، فقام أبو بكر رضي الله عنه قومة الأسد الهصور فوطد الدعائم، وأرسى القواعد، وقاتل كل زائغ، وأقام الحجة على الناس. ورد شارد الدين رضي الله عنه.

ثم شرع في تجهيز الجيوش لغزو الروم عبدة الصلبان وغزو الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد كما يقول ابن كثير رحمه الله، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد، وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم لما توفي أبو بكر رضي الله عنه ولي الخلافة من بعده شهيد المحراب، عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فأتم الفتوح وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعداً وقرباً، ثم مات شهيداً بعدما عاش حميداً رضي الله عنه وأرضاه، فأجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان شهيد الدار، فكسا الإسلام رياسته حلة سابغة، وامتدت في سائر الأقاليم على العبادة حجة الله البالغة. وطبق هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ [التوبة:123].

ولم يزل الأئمة الصالحون والحكام الراشدون على هذا الهدي إلى أن تبدلت الدنيا، وتناكرت القلوب، واختلفت الأهواء، وصار كل حزب بما لديهم فرحين، وما زال أعداء الله عز وجل يستولون على أقاليم المسلمين واحداً بعد الآخر، وما زالوا ينتقصون الإسلام من أطرافه.

لكن هذه الآية باقية، كلما قام ملك أو حاكم يتقي الله عز وجل، ويتوكل على الله فإن الله عز وجل يفتح له ما شاء من البلاد، ويسترجع من أيدي الكفار ما يقدر الله عز وجل؛ ولذلك عندنا في التاريخ الملك الشهيد نور الدين زنكي عليه رحمة الله، وصلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، وكذلك ما كان من المظفر قطز و الظاهر بيبرس ، وغيرهم من الحكام الذين قاموا جهاداً في سبيل الله، فنصرهم الله عز وجل بما شاء.

وفي الآية يوجه الله عز وجل الخطاب للمؤمنين، ولا يوجهه للنبي الأمين عليه الصلاة والسلام. قال بعض المفسرين: وفي هذا إشارة إلى قرب انقضاء أجله الشريف صلوات الله وسلامه عليه. وتذييل الآية بقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123] فيه تعزية للمؤمنين بأن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لا يستوجب أن يتخلى ربكم عندكم، ولا أن يسلمكم إلى عدوكم، بل هو سبحانه وتعالى ناصركم ومؤيدكم ما دمتم على التقوى.

وهذه الآية شبيهة بقول الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].