سبتة؛ شاهد على المهزلة - حميد بن خيبش
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
حين تطرح أوروبا نفسها كجنة للمُثل والقِيَم الإنسانية، وكـ راعٍ للمواثيق الدولية التي تكفل حرية الإنسان وكرامته فإن الذهول يعترينا أمام حرصها الشديد على مصادمة حقائق الجغرافيا ومعطيات التاريخ، وتقديمها للمكاسب والمصالح على واجب الالتزام بما تعلنه.
وها هي ذي سبتة المغربية شاهد على مفارقة أقرب إلى الهزل، حين تزعم دولة أن لها كامل الحق في السيطرة على مدينة يشهد التاريخ أنها أقدم من الدولة نفسها!
لقد أدرك ملوك النصارى أن اجتثاث الحكم الإسلامي في الأندلس لن يتأتّى إلا من خلال الاستيلاء على حاضرة سبتة بالنظر لموقعها الاستراتيجي كمعبر حيوي صوب شبه الجزيرة الأيبيرية، مما سيحول دون وصول النجدة من المغرب ويدفع مسلمي الأندلس إلى الاستسلام.
وهو ما يؤكده الباحث المغربي الدكتور محمد المساري بقوله: "إن الانقضاض على الشواطئ المغربية كان جزءًا من تطور (سياسي - عسكري) شهدته شبه الجزيرة الأيبيرية المتطلعة إلى تصفية الوجود العربي، وكان العمل الحاسم في هذا التطور هو توحيد مملكتي قشتالة وأراغون، ومواصلة الضغط على بني الأحمر المتدهورين، والتقارب مع البرتغال والتصدي للمغرب بوصفه المصدر الحقيقي لكل الاحتمالات المضادة للمساعي المبذولة لتوحيد شبه الجزيرة وإقامة دولة مسيحية قوية"[1]، فتمكن البرتغاليون من احتلالها يوم الأربعاء 21 غشت 1415م، وتمَّت السيطرة على باقي نقط العبور صوب الأندلس فتساقطت الحواضر الإسلامية بها كأوراق الخريف حتى انطفأت جذوة الحكم الإسلامي بسقوط غرناطة في الثاني من يناير عام 1492م.
وبعد ما يناهز قرنين وربع؛ بسطت إسبانيا نفوذها على مدينة سبتة بموجب الاتفاقية الإسبانية البرتغالية (1074هـ/ 1663م) التي اعترفت ضمنها البرتغال بهذا النفوذ وألحقت المدينة رسميًا بإسبانيا سنة 1750م" (عبد العزيز بن عبد الله؛ سبتة ومليلية معقلان مغربيان أماميان على البحر الأبيض المتوسط، مطبعة النجاح الجديدة، ص: [11]).
ونظرًا للمكانة التي تتمتع بها مدينة سبتة في الوجدان المغربي والإسلامي باعتبارها مركزًا للإشعاع الثقافي والديني؛ فإن إصرار المغاربة على استعادتها لم يفتر حتى خلال الفترة التي عانى فيها المغرب من التمزق الداخلي وتوالي الاضطرابات المفتعلة.
لقد ضرب المغاربة أكثر من 116 حِصارًا دام أحدها 33 سنة خلال حكم السلطان المولى إسماعيل، بِدءًا من سنة 1694م، كما تعرَّضت القوات المحتلة لأكثر من 130 هجومًا ناهيك عن المواجهة الدائمة مع الزوايا والقبائل المجاورة التي كانت تندلع بشراسة كلما ضعفت السلطة المركزية خصوصًا أواخر عهد المرينيين والوطاسيين.
وهذا إن دلَّ على شيء؛ فإنما يدلُّ على الروح الجهادية العالية التي لم تنضب، وعلى رفض المغاربة الرضوخ للاحتلال الأجنبي خصوصًا وأن احتلال سبتة كان أول هزيمة يتلقونها على أرضهم!
ورغم أن القرن العشرين قد شهد تصفية كل مظاهر الاحتلال في العالم، ودافعت الشعوب المغلوبة عن حقها في تقرير مصيرها، إلا أن إسبانيا واصلت احتلالها للمدينة بالتواطؤ المُعلَن والخفي، وانتهاج سبيل المراوغات الخسيسة التي تُمكنها من الاحتفاظ بسبتة، ومنها إدراج سبتة، ومليلية المحتلة ضمن نطاق الاستقلال الذاتي الخاضع لمراقبة الكورتيس[2]، وبالتالي تمتين ارتباط المدينتين بإسبانيا.
وانخرط الاتحاد الأوروبي في لعبة دعم الاحتلال الإسباني من خلال الإسهام بالقروض والبرامج الاقتصادية في إنعاش المدينة، وتغليب الروح الصليبية على صوت المنطق الدولي (عبد العزيز بن عبد الله؛ سبتة ومليلية معقلان مغربيان أماميان على البحر الأبيض المتوسط، مطبعة النجاح الجديدة، ص: [19]).
كانت سبتة قبل الاحتلال البرتغالي ثم الإسباني حاضرة من حواضر الفكر والثقافة في العالم الإسلامي، وأنجبت جمًّا غفيرًا من العلماء والأدباء الذين أسهموا في إعلاء الصرح الحضاري المغربي كالقاضي عِياض الذي طبقت شهرته الآفاق في مجال الدراسات الحديثية، واقترنت سبتة بذكره في المشرق حتى قيل: "لولا عِياض لما ذُكِر المغرب"، والرحالة العالم ابن رشيد السبتي صاحب المؤلف القيم "ملء العيبة"، والعالم الجغرافي الشريف الإدريسي، والشاعر المفلق مالك بن المرحل الذي خلد سبتة في رائعته:
سلام على سبتة المغرب *** أخية مكة أو يثرب
أما الوضع الاقتصادي والعمراني فإن المجال يضيق بعَرَض الأمثلة عن الريادة التي بلغتها سبتة، ومضاهاتها لعواصم الشرق الإسلامي آنذاك، وقد رسم ابن القاسم الأنصاري في مؤلفه (اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار) صورة رائعة للازدهار الذي بلغته المدينة في كافة الميادين.
إلا أن الاحتلال عمد فور استيلائه على المدينة إلى طمس هويتها الإسلامية، وأمعن في تدمير معالمها الحضارية، وإحالتها إلى ثكنةٍ عسكريةٍ ووكرٍ للقراصنة وعتاة المجرمين.
واليوم؛ تسعى إسبانيا جاهدة لإضفاء الطابع الأيبيري على سبتة، وحمل أبنائها على الرضوخ للأمر الواقع إما ترغيبًا من خلال حفزهم لحمل الجنسية الإسبانية مقابل وعود بالشغل والإعفاء من الضرائب التجارية، أو ترهيبًا من خلال التضييق على المساجد والكتاتيب القرآنية، وعرقلة أي مبادرة تروم المطالبة بإعادة المدينة إلى حظيرة الوطن.
وإذا كانت لعبة شد الحبل على المستوى الرسمي لم تتوقف، وتكشف حجم التعنت الذي تُبديه إسبانيا حيال أية إثارة لهذا الملف، والتواطؤ المخزي للمنتظم الدولي فإن فعاليات المجتمع المدني مُطالبة بتجاوز الصيغ الانفعالية صوب اعتماد مقاربة شاملة تبرز الحقوق السيادية للمغرب على جزء من أراضيه، وتسترشد في الآن نفسه بالتجارب الدولية التي نجحت في القضاء على الاحتلال وِفق منهجية عقلانية "تجربة هونغ كونغ".
كما أن الوفاء لذكرى الأبطال الذين قضوا دِفاعًا عن سبتة يستلزم نفض الغبار عن الذاكرة المغربية والإسلامية عمومًا من خلال تعريف الأجيال الشابة بالملاحم الكبرى التي خاضتها الأمة في سبيل عقيدتها وحضارتها.
إن الحديث عن الغد المشترك وعلاقات الجوار البناءة يفقد دلالته أمام مواصلة الاعتداء على السيادة والكرامة، ومهما بلغ الحذق في صوغ المغالطات فإن الكفة لا تلبث أن ترجح لصالح الشرعية وحقائق الجغرافيا والتاريخ، ولو بعد حين.
ــــــــــــــــــ
[1]- (محمد العربي المساري؛ أسباب احتلال سبتة، محاضرات جمعية الثقافة الإسلامية، تطوان 1979م، ص: [71]).
[2]- (البرلمان الإسباني ابتدأ العمل به في العصر الوسيط وكان عبارة عن مجلس استشاري يضم الأمراء الإقطاعيين المقربين من الملك)