الفتور في الطاعة من معاصي الإنسان أم من أمراض الزمان
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الفتور في الطاعة من معاصي الإنسان أم من أمراض الزمان
رأيتُ أن أخُوض غِمَارَ هذه المشكلةِ التي تَعترينا جميعًا على فترات، تطُول عند البعض منا، وتقصُر عند البعض الآخر؛ خاصةً ونحن على أعتاب الشهر الكريم المبارك، الذي نبدأ فيه بأرواح تُلامِسُ السَّحابَ، وهِمَمٍ تُدافِع الجبال، وقلوبٍ محترقة شوقًا لِبلوغ العَنان؛ المساجدُ مملوءةٌ بالقائمين والعاكفين والرُّكَّع السُّجُود، والمواصلاتُ تَعِجُّ بآلاف القارئين للقرآن، والمتحرِّين ألا يقَع أحدُهم في حرام، ولو كان نظرةً عابرة تجرح صيامَه.
ثُم ما يلبث الأمرُ أن يخِفَّ، فيضيعُ ثلثُ المسجد، وتتحوَّل المصاحفُ إلى أذكار وأورادٍ خفيفة، ثم نتراخَى أكثرَ وأكثر.
ونتساءل ونتحسَّر، وتُسمع مَصمصاتُ الشِّفَاهِ على قُوَانا الدينية التي تتضاءلُ وتَضيع، ويتدخَّلُ الوُعَّاظُ لقول كلمتهم، ويُرجِعون ذلك لِضَعْف الوازِع الدينيِّ وكثرةِ الذُّنوب، وعمومِ البَلْوى التي حلَّتْ بالإنسانية كلِّها.
غيرَ أنَّ الأمْرَ ليس على هذا النحْوِ فحَسْبُ؛ بلْ نَوَدُّ الوقوفَ على تفصيلات الأمْر كلِّه؛ إنَّ هناك أكثرَ مِن جانبٍ يجب أنْ نتوخَّاه للرجوع إلى أوْجِ عزِّنا التعبُّديِّ:
أولًا: الاستعانةُ بالله تعالى؛ إذْ بدُونِه لا يملِك المرءُ لنفسِه هِدَاية للتعبُّد؛ يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
ثانيا: العزيمة القوية والاستعداد للطاعات؛ تقول السيدة عائشة عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا دَخل العشْرُ أحْيا الليلَ وأيقظَ أهلَه، وجَدَّ، وشدَّ المِئْزَرَ)).
ثالثًا وهو بيت القَصِيد في مَقالِنا: وجودُ منهجٍ في العبادة:
يُصيبنا جميعًا هذا الفتورُ المعهود مِن الرَّتابة اليومية التي اعتدْناها، وكثيرًا ما نتغافل عن هذه الرتابة، ونحاول كسْرَ قواعدِه ونتمرَّد عليه؛ ولا يبقي الحِفاظ على هذه الرتابة إلا لضرورةٍ مُلِحَّة يَصعُب التغافلُ عنها؛ فترْك العمل يؤثِّر سلبًا على الدَّخْل والعيش، وتركُ العبادة يؤثِّر قطعًا على الحساب ودخول الجَنَّة؛ ولذا يبقي المرء هذه الرتابة، سواءٌ في العبادة أو غيرها مُرْغَمًا؛ لكنْ ينْتابُه هذا التراخي.
ولن يزولَ هذا التراخي إلا إذا تحوَّل الأمرُ إلى منهج ومشروع مخطَّطٍ له؛ بمعنى أنَّك إذا حوَّلْتَ هذه العبادةَ إلى خُطَّةِ مشروعٍ، به أهدافٌ فرعية أو جزئية؛ بمعنى أنْ تَقْسِم عبادتَك في رمضانَ أو غيرِه إلى مراحلَ تَنتظر لكلِّ مرحلةٍ نتيجةً ما، وثمرةً تَذُوق حلاوتَها، وتطْمَح بَعْدها لهدفٍ أسمى، وتضعُ لذلك خُطَّةً زمَنية، وتقسِم جدولك إلى ثوابتَ ومتغيراتٍ؛ ستجد حلاوةَ ذلك كلِّه وثمرتَه في آنٍ معًا، ويكون على النحو التالي:
1- وضعُ هدفٍ عامٍّ وأهداف فرعيةٍ:
أنت تريد أن تكون حافظًا للقرآن، ومحافظًا على الصلاة في المسجد، وتاركًا للمعاصي قدْرَ المستطاع؛ لتصِل إلى درجة تكُون فيها حبيبًا لله، يمنَعُك ويحميك من المعاصي، ويصْرِف عنك الأذى والشرور، ثم تفوز بالجَنَّة؛ ولذلك أنت تحتاج إلى خطوات أو أهداف فرعية للوصول إلى لهدف الأكبر.
من هذه الأهدافِ: أن يكون لك وِرْدٌ قرآنيٌّ تحافظ على قراءته ثم حِفْظِه، أنْ تأخذ حظَّك من الحديث الشريف وحفْظه، أن يكون لك لحظةُ وِصالٍ تشعُر فيها بقُربك مِن حبيبك الأعلى، وقُرب مناجاتك له؛ ولذلك ننتقل إلى النقطة الثانية.
2- وضْع خطة زمنية، وانتظار النتائج:
ومثالُه ما يدعو إليه الرسولُ الكريم في قوله: ((مَن أَدْرَك تكبيرةَ الإحرامِ أربعين يومًا كانت له براءة مِن النار، وبراءة من النفاق)).
الحديثُ حدَّد لك النتيجةَ المتوقَّعةَ والخطَّةَ الزمنية؛ فماذا بعدَ ذلك؟ بعدَها لا يمكنك تحديدُه الآنَ لأنَّك ببساطةً لستَ مؤهَّلًا لرؤية ما هو فوق ذلك؛ مَن استطاع المثابرةَ على ذلك يستطيعُ تلَمُّسَ طريقِه بنفْحَةٍ عُلْيا لا يدركها إلَّا مَن وصل إليها؛ لكنْ ليس أقلَّ مِن أن أرتضِيَ برؤيتيَ القاصرةِ فأحدِّدَ طموحاتٍ مَا صغرَى؛ أنت تريد حفظ القرآن، والقرآن 30 جزءًا؛ لتكُنْ بدايتُك في رمضانَ وهو شهرٌ كامل (زمنٌ محدَّد) أنتظر بَعده أن أحفظ جزءًا أو أكثر أو أقل، وهي حصيلة تلك المرحلة.
3- اختر أسلوبَ العمل والعبادة المناسبة:
كلٌّ مِنا يحبُّ عبادةً معيَّنةً يتقرَّب بها إلى الله تعالى، لِتَكُن مُنْطَلَقَه الذي يبدأ منه؛ مِنَّا مَن يُحبُّ الصلاة ويشعُر ببَرْدها على قلبه، في الوقت الذي لا تزال غيرُها من العبادات ثقيلةً عليه؛ فلْيبدأْ بها فهي مَدْخَلُه وطريقُه، ومنا مَن يحب مساعدة الناس إمَّا بالمال أو الجهد أو النصح أو قضاء حوائجهم من خلال عملِه؛ فليبدأ به، ولْيخترْ كلٌّ منا مِن هذه اللحظة مَا سيبدأُ به وينتظر نتيجتَه في وقتٍ ما.
وكذلك الأمْر بالنسبة لأسلوب العبادة؛ فمنا مَن هو صبور ويملِك القدرة على مجاهدة نفسه؛ فلا مانع أن يبدأ بأعمال قليلة، ولكنها تصبح دائمة؛ يقول رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهؤلاء: ((أحبُّ الأعمال إلى الله أَدْوَمُها وإنْ قلَّ))، ومنا من ليس صبورًا، ولكنَّ حماستَه قويةٌ يستطيع في لحظاتها أنْ يصنع الكثير، فليغتنمْ هذه اللحظاتِ الحماسيةِ لعبادةٍ ما، وليغتنمْ منها ما يستطيع؛ لأنه في غيرها مِن الأوقات سيتراخى، ولكن لِيحرصْ على أن لا يكون التراخي ترْكًا كاملًا؛ بل مراحلَ عمَلٍ أقلَّ مِن مرحلة الحماسة؛ يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اغْتَنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحَّتَك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك)).
4- قاعدة الثوابت والمتغيرات:
بعدَ كلِّ مرحلةٍ من المراحل يتكون لديك مجموعةٌ من الثوابت، ويتمُّ ترشيحُ عددٍ جديد من المتغيرات، بدلًا من المتغيرات السابقة، وإليك مثالًا بسيطًا فيما يلي:
في المرحلة الأولى: لِنفرضْ أنَّه ليس لديك ثوابت:
الثوابت
المتغيرات
1- المحافظة على الصلاة.
2- قراءة صفحة من القرآن يوميًّا.
3- الحفاظ على الصيام قدْر الإمكان.
في المرحلة الثانية: أصبَحَتِ المتغيراتُ ثوابتَ وحلَّ محلَّها غيرُها:
الثوابت
المتغيرات
1- المحافظة على الصلاة.
2- قراءة صفحة يوميًّا.
3- الحِفاظ على الصيام قدْرَ الإمكان.
1- الصلاة في المسجد.
2- الحفاظ على السُّنن.
3- حفْظ آيتين يوميًّا.
في المرحلة الثالثة: زادت الثوابتُ مع اختلافٍ في كيفيتها، وحلَّت أخرى محلَّ المتغيرات:
الثوابت
المتغيرات
1- المحافظة على الصلاةِ في المسجد والسُّننِ.
2- حفْظ صفحة يوميًّا.
3- النُّصْح لغيري بالحفاظ على الصيام قدرَ الإمكان.
1- حفظ حديث.
2- مساعدة أحدٍ من الناس.
وكما ترى فإن المسألة يسيرةٌ على مَن يسَّر الله عليه وكان عنده هدفٌ ونتائجُ ومراحلُ مدروسةٌ.
وأخيرًا:
ألا تستحِقُّ عبادتُك ودينُك أن تكون مشروعًا جديرًا بالدراسة؟!