خطب ومحاضرات
عرض كتاب الإتقان (26) - النوع الثامن والعشرون في معرفة الوقف والابتداء [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
والتنبيه السادس يتعلق بقول لـأبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ، ذكر فيه رحمه الله تبديع الوقوف، وذهب إلى أن تقديم الموقوف عليه من القرآن بالتام والناقص والحسن والقبيح وتسميته بذلك بدعة، ومتعمد الوقوف على نحوه مبتدع، وهذا القول المحكي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قول فيه شذوذ لم يعتد به، بل جماهير أهل العلم على جواز هذا العمل، وقد رد عليه بعض العلماء مثل الحليمي في كتابه في شعب الإيمان.
التنبيه السادس: ذكر فيه مذاهب القراء في الوقف والابتداء، وهذا يحسن مراجعته، وقد أشار إليه ابن الجزري في النشر، يعني: المستحبات عند علماء القراءة الذين هم القراء السبعة، وآراؤهم في الوقف، فذكر مثلاً عن نافع أنه كان يراعي محاسنها بحسب المعنى، و ابن كثير و حمزة حيث ينقطع النفس، واستثنى ابن كثير وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7]، وَمَا يُشْعِرُكُمْ [الأنعام:109]، و إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، فتعمد الوقف عليها، و عاصم و الكسائي حيث تم الكلام، و أبو عامر يتعمد رءوس الآي ويقول: هي أحب إلي، فقد قال بعضهم: إن الوقف عليه سنة، وهذا يشير إلى حديث أم سلمة : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آيةً آية )، فيقرأ يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم يقف، ثم يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم يقف، إلى آخر السورة، وهذه المذاهب كما قلت لكم حكاها ابن الجزري عن هؤلاء الأئمة الذين هم أئمة القراءة.
أما التنبيه الثامن فذكر فيه اختلاف الآحاد بين المتقدمين والمتأخرين، وهذه طبيعة المصطلحات، وهذه قاعدة علمية يحسن بطالب العلم أن ينتبه لها، أن المصطلحات لا تثبت دائماً معنىً واحداً، فمثلاً إذا نظرنا عند المتأخرين سنجد أنهم ذكروا مصطلح الوقف، ومصطلح القطع، ومصطلح السكت، ومصطلح التمام أو التام، وكل مصطلح من هذه المصطلحات لهم فيها معنى، فالوقف عندهم هو الوقف المعروف في القراءة بنية الاستئناف، وأما القطع فهو قطع القراءة مطلقاً، مثل ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء، فقال: ( حسبك الآن )، فهذا قطع من غير إرادة استئناف القراءة، وأما السكت فهو معروف على مواطن سواءً عند حمزة أو ما هو موجود عند مثلاً حفص ما هو مشهور بالسكتات الخمس الموجودة عند حفص مع قوله: مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي [الحاقة:28-29].
وأما التمام أو التام فإنه قسيم في مصطلحات الوقف، أما عند السابقين فقد تطلق هذه ويراد بها شيء واحد وهو مكان الوقف.
فإذاً صار عندنا اختلاف في المصطلحات، وهذا الاختلاف لا يؤثر، وإنما المقصود أن ينتبه طالب العلم لمصطلحات القوم، وتغير هذه المصطلحات من جيل إلى جيل.
ذكر بعد ذلك ضوابط في الوقف، وهذه الضوابط مهمة، ويمكن أن تدخل ضمن ما يسمى بقواعد، ضوابط الوقف والابتداء، مثلاً قال: كل ما في القرآن من (الذي والذين) يجوز فيه الوصل بما قبله نعتاً، والقطع على أنه خبر إلا في سبعة مواضع، فإنه يتعين الابتداء بها. إذاً عندنا قاعدة في (الذي والذين) أنها تصلح للوقف على معنى، وتصلح للاستئناف على معنى، وتصلح للاستئناف على حسب المعنى والإعراب.
ومما ذكره في قوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ [البقرة:121] في البقرة، وأيضاً الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة:146] وأيضاً: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [البقرة:275]، ذكرنا ليتعين الابتداء بها؛ لأن وصلها بما قبلها يوهم خلاف المعنى، وذكر ما في الكشاف من قوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ [الناس:5]، أنه يجوز أن يقف القارئ على الموصوف فيبتدئ بالذي إن حملته على القطع بخلاف ما إذا جعلته صفةً، وهو داخل ضمن القاعدة الأولى التي ذكرها.
ثم ذكر القاعدة الثانية من الضوابط في الوقف على المستثنى منه دون المستثنى، إن كان منقطعاً، وذكر المذاهب فيه، الذي هو بمعنى لكن، إذا كان الاستثناء بمعنى لكن، هل يجوز الابتداء به أم لا؟ فذكر الجواز مطلقاً، قال: لأنه في معنى مبتدأ حذف خبره للدلالة عليه، أو المنع مطلقاً، أو التفصيل وذلك عند بعض العلماء، والمقصد من ذلك أن الوقف على المستثنى دون المستثنى منه الأصل عدم الوقف عليه إلا إذا كان الاستثناء منقطعاً ففيه تفصيل.
والقاعدة الثالثة التي ذكرها: الوقف على جملة النداء، قال: جائز كما نقل ابن الحاجب عن المحققين لأنها مستقلة، وما بعدها جملة أخرى، وإن كانت الأولى تتعلق بها، وهذا صحيح؛ لأن جملة النداء من دلائل انقطاع الكلام عما قبله، مثل (يا أيها الذين آمنوا) وغيرها فهي تدل على تمام الانقطاع، مثلاً في قوله سبحانه وتعالى في الآية التي طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ابن مسعود أن يقف عندها عند قوله سبحانه وتعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41]، فقال له: ( حسبك الآن )، فقطع القراءة، مع أن قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] متصل اتصالاً واضحاً من جهة المعنى، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم القطع قبل تمام المعنى.
بعدها قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فإذا نظرنا إلى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] مع ما قبلها وجدنا أن بينهما تمام انقطاع، وهو من علامات الوقف التام، يعني: الابتداء بالنداء من علامات الوقف التام.
ثم ذكر أيضاً كل ما في القرآن من القول لا يجوز الوقف عليه؛ لأن ما بعده حكاية، وذكره الجويني في تفسيره.
ثم ذكر قاعدة (كلا) وفيها كلام طويل، وهي مختلف فيها بحسب اختلاف المعنى، هل (كلا) بمعنى الردع والزجر كما يقال: بمعنى الرد؟ فإن كانت بمعنى الرد فهذه يجوز الوقف عليها، وإن كانت (كلا) بمعنى الابتداء والتنبيه مثل ألا، فهذه لا يجوز الوقف عليها، والذي يدل على وجود هذين المعنيين أننا نجد مثلاً قوله سبحانه وتعالى: كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19] هذا رد، أو قوله سبحانه وتعالى: كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ [المدثر:54]؛ لأنه مرتبط بما قبله، فيحسن في مثل هذا أن يقال: كلا؛ لأنها بمعنى النفي المطلق، ثم تقول: لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، أما لما نقول: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:1-4]، هذه الآيات الخمس الأولى التي نزلت عن النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق، بعدها قال: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6]، هل سبق (كلا) ما يستحق أن يرد؟ هل فيما قبل (كلا) شيء من الخطأ في القول أو الفعل؟ لا، فدل على أن (كلا) في هذا الموطن إنما هي بمعنى الابتداء، وما دامت بمعنى الابتداء فلا يحسن الوقف عليها، كأنها بمعنى كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى [العلق:6] ألا إن الإنسان ليطغى، كما يقول أبو حاتم السجستاني في تفسير (كلا)، أو لو فسرت بمعنىً آخر لكنها في النهاية تدل على الابتداء.
إذاً (كلا) بين مقامين: أنه يجوز الوقف عليها إذا كانت بمعنى الرد، وثانياً أنه لا يجوز الوقف عليها إذا كانت بمعنى الابتداء.
طبعاً تفسير (كلا) قلنا: ابتدائية على أي تفسير من التفسيرات التي ذكرها العلماء، بعضهم قال: ألا على أنها من التنبيه، أو حقاً كلها في النهاية بمعنى الابتداء.
وهنا قاعدة متعلقة بالوقف على أواخر الكلم، فذكر عن ابن الجزري ضابطاً، قال: [ كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده ]. وهذا الكلام من الإمام المحقق رحمه الله فيه نظر، لأن هناك نوعاً من أنواع الوقف يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، وهو الوقف الحسن، وقلنا: الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده، والإمام ابن الجزري يقول: [ كل ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده ] وهذا ليس بدقيق؛ لأنه ينخرم في الوقف الحسن.
ما بعد ذلك ذكر كيفية الوقف على أواخر الكلم، وذكر [ أن الوقف في كلام العرب أوجه متعددة، والمستعمل عند أئمة القراءة تسعة: السكون، والروم، والإشمام، والإبدال، والنقل، والإدغام، والحذف، والإثبات، والإلحاق ]، ثم ذكر لها أمثلة، لكن المشهور هي الثلاثة الأولى: السكون، والروم، والإشمام. السكون عندما تقف تقول: الحمد لله رب العالمين، هذا سكون محض. والروم يأتي مع المجرور، يعني: مع حركة الجر الكسرة، وكذلك مع المضموم التي هي الضمة، فهنا يأتي الروم الذي هو الإتيان بجزء من الحركة، ولا يلزمنا هنا الاختلاف في مقدار هذا الجزء، بل يكفي الإتيان بجزء، مثلاً لو قال: (الرحمن الرحيم) فقط، فهذا يكفي، ولا شك أن علماء القراءة لهم تحريرات في مقدار الحركة، ولكن نقول: نكتفي نحن بأن المراد بها جزء الحركة، أو (نستعين)، إشارة إلى الضم، يعني بجزء من الحركة، ما نقول: (نستعين) يعني: أن تكون ضمة كاملة.
أما الإشمام فهو الإتيان بصفة الحركة ولا يكون إلا مع المضموم، يعني: مع حركة الضم فقط، وهو إشارة إلى صفة الضم، فتقول: (نستعين) هكذا إشارة إلى الضم. وعندنا كلمة مهمة في القرآن بالنسبة للقراء وهي (تأمنا) فيها وجهان، وأيضاً هناك خلاف في أين يقع الروم أو الإشمام؟ فإن قرأناها بالإدغام على من قرأ من العشرة بالإدغام تكون إدغاماً محضاً (تأمنا)، أما إن قرأنا بالروم نقول: (تأمنا) سريعاً هكذا، إشارة إلى الضم، أو نقول: تأمنا، ويلاحظ هنا في الإشمام أنه إذا أتى الإشمام لا يؤثر على صوت النون، فإذا أثر على صوت النون تعرف أن الإشمام عندك خطأ؛ لأن الإشمام هو تام بالصفة، (تأمنا) فقط إشارة إلى الضم، هكذا قرئت (تأمنا)، طبعاً أصعبها هو الروم هو أصعب هذه الأوجه الثلاثة، وهذا لم يرد إلا في كلمة (تأمنا)، وهناك حاجة إلى التنبيه عليها؛ لأنها في قراءة حفص ، أما الروم والإشمام عند القراء فهذا بابه واسع.
الثالث عند أحد العشرة اللي هو الإدغام الكامل المحض.
طبعاً هناك فائدة مهمة أحب أن تنتبهوا لها: أن بعض الناس تراه يسأل ويتساءل يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ كذا؟ نقول أصلاً: هذه الطريقة من القراءة من الكلام قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي محكية عن العرب.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
عرض كتاب الإتقان (45) - النوع الخامس والأربعون في عامه وخاصه | 3938 استماع |
عرض كتاب الإتقان (77) - النوع السادس والسبعون في مرسوم الخط وآداب كتابته [1] | 3816 استماع |
عرض كتاب الإتقان (47) - النوع السابع والأربعون في ناسخه ومنسوخه | 3597 استماع |
عرض كتاب الإتقان (79) - النوع السابع والسبعون في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفه والحاجة إليه | 3588 استماع |
عرض كتاب الإتقان (69) - النوع السابع والستون في أقسام القرآن | 3545 استماع |
عرض كتاب الإتقان (49) - النوع التاسع والأربعون في مطلقه ومقيده | 3540 استماع |
عرض كتاب الإتقان (74) - النوع الثالث والسبعون في أفضل القرآن وفاضله | 3482 استماع |
عرض كتاب الإتقان (34) - النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه [1] | 3480 استماع |
عرض كتاب الإتقان (7) - النوع الرابع - النوع الخامس - النوع السادس | 3444 استماع |
عرض كتاب الإتقان (53) - النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته | 3422 استماع |