القصص
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
التاريخ العالمي
للكاتب الفرنسي أناتول فرانس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الكرداني
عندما خلف الأمير الشاب (سمير) أباه على عرش العجم، أستدعى جل علماء مملكته، ثم قال لهم في نبرة جادة مؤثرة:
- إن أستاذي - الدكتور سعيد - علمني أن السلطان يتورط في أقل ما يمكن من الخطأ، وإذا ما توخى في تصريف شئونه وإبرام أموره، أن يستهدي مثَل الماضي وأن يستلهم عبر التاريخ؛ ولهذا. فإني قد أرتأريت - بعد تدبر - أن أكلفكم بمهمة جليلة الشأن خطير، هي أن تتوفروا على إعداد دراسة شاملة في تاريخ الشعوب.
وبخاصة روادها وقادتها.
.
فما قولكم أيها السادة الأماثل في هذا التكليف الخطير؟!. فتبادل العلماء النظر، ثم أنهى واحد منهم إلى الأمير - بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن زملائه - أستعدادهم للاضطلاع بهذا العمل الجليل.! فما إن آبوا إلى دورهم، حتى شرع كل منهم يكتل جهوده ويشحذ ملكاته توطئة للقيام بإخراج هذا (التاريخ العالمي) الجامع.
وبعد عشرين سنة انقضت في كد متلاحق وكفاح موصول، عاد أعضاء (الأكاديمية) إلى الملك في قافلة تتألف من أثني عشرة جملاً مثقلة ظهورها بأجزاء هذا السفر العظيم! وتقدم (سكرتير الأكاديمية) من الملك، ثم أنشأ يتحدث في هذه الكلمات: - إن أعضاء (الأكاديمية) الموقرين، ليشرفهم أن يضعوا عند درجات عرشكم المكين، هذا المؤلف الفذ، الذي يضم تاريخ الشعوب والرجال، والذي لم يكن ليخرج إلى نور الوجود، لولا التفات جلالتكم إلى ضرورة التأليف في موضوعه؛ ولقد خرج هذا التاريخ العالمي - يا مولاي - مستم الحلقات، مستكمل الفصول، فليس من المغالاة أن نقول: إنه سفر - في بابه - فريد! - إنني لعاجز - بحق - عن التنويه بالجهد الذي استنفذتموه يا سادة! ولكن.
ألا ترون معي أن رعاية شئون حكومتي، تقتضيني ألا أتشاغل عنها بالانقطاع لاستظهار مثل هذا التاريخ الكبير؟!. ومن ناحية أخرى.
ألا ترون معي أنني - بعد انسلاخ هذه السنوات الطويلات التي كنتم اثناءها تعلمون - قد بلغت (منتصف طريق الحياة) على حد تعبير أحد الشعراء الفارسيين! وبافتراض أنني كنت من المعمرين، فإن ذلك لا ينفي استحالة قراءة سفر بالغ الضخامة كهذا السفر الجليل! ولا احسبني قد جانبت الصواب، حين قدرت - للوهلة الأولى التي استعرضت فيها عيناي أجزاء هذا الكتاب - أن مصيره القبوع كالجثة الهامدة في خزانة كتبي! لهذه الأسباب متآزرة - وددت لو تكرمتم بمحاولة اختصاره، مستهدفين أن تجعلوه في مقداره في مضاهاة الحياة البشرية القصيرة! فأشتغل العلماء - عشرين سنة أخرى - بالتضييق - قدر الطاقة - من مشتملات الكتاب الضخم.
الهائل الحجم، نزولاً منهم على رغبة الملك؛ واذ حققوا ما أراد، توجهوا إليه - للمرة الثانية - في قافلة صغيرة من ثلاثة جمال، محملة أسنمتها بألف وخمسمائة جزء من السفر العظيم! وقال (سكرتير الأكاديمية): هذا هو يا مولاي عملنا الجديد، نقدمه بين يديكم الساعة، ونحن على بينة من أن هذا الاختصار، لم يمس قط جوهر الكتاب، ولم يهبط قط بمستواه. فأجاب الملك: - هذا بديع.
ولكن، يؤسفني، ويحز في نفسي أن أصارحكم القول باستحالة قراءة هذا التاريخ الجامع بالرغم من هذا الاقتضاب.
ذلك أنني قد هرمت، وغدا مما يهبط شيخوختي ويوهن من أنسجة بدني، أن يفرغ ذهني الكيل للجهود الكبيرة، فعسى ألا أكون قد كلفتكم شططاً لو رجوتكم - للمرة الثانية - أن توجزوا.
وتمعنوا في الإيجاز، وأن تجعلوا بالكم إلى تركيز المباحث وحذف العقول! لم يسع هؤلاء الرجال المثابرين إلا الإذعان، فاشتغلوا - للمرة الثالثة - بإخراج السفر الكبير، إخراجاً جديداً، وسلخوا في ذلك عشر سنوات، هبط بعدها عدد أجزائه إلى الخمسمائة. وقال (السكرتير مبتهجاً): - أعتقد يا مولاي أننا قد نجحنا - هذه المرة - في مهمتنا فقال الملك مبتسماً: - لا يبتعثن في قلبك اليأس أيها السيد أعتقادي عكس ما تظن - إنني اليوم في خريف العمر أبهذا العالم الجليل، فإذا، رغبت إليك - للمرة الأخيرة - أن تنصرف وزملائك إلى معاونتي في تحقيق أمنيتي في مراجعة تاريخ عظماء الرجال قبل أن يداهمني الموت، فعسى أن تنهضوا بتكرار المحاولة غير آسفين ولا قانطين! وإني لفي الانتظار.! تجرمت خمس سنوات، عاد بعدها (سكرتير الأكاديمية) إلى قصر الملك.
كان قد هده الكبر وقوست ظهره السنون؛ وكان - وهو يرقى سلاليم القصر - يضم إلى صدره - بذراعين معروقتين واهنتين - سفراً كبيراً ضخماً! ولقيه أمين الملك، فصاح به في نبرة لهيفة.
حزينة: حث الخطى أيها الشيخ؛ إن الملك يحتضر.
.! كان الملك يرقد على فراش الموت، في رعاية أملاكه، يعالج آخر سكراته؛ فسيستدار في إعياء، ونظر بعينين خبأ فيهما بريق الحياة.
إلى العالم وسفره الضخم، ثم غمغم في تثاقل وصدره يموج بالتنهدات: هأنذا أموت، دون أن ألم بتاريخ الرجال! فسكت العالم برهة، إجلالاً لرهبة الموت، ثم رفع رأسه في بطء وعيناه مخلتان بالدمع، ليقول للملك المحتضر.
آخر ما صك أذنيه من كلمات: - ايها الملك لقد ناشدتنا - غير مرة - أن نجمل لك تاريخ الرجال الأبطال الذي قضوا كما تقضي أنمت الساعة.
ألا فأعلم - أيها الملك العظيم - أن تاريخ هؤلاء الأبطال ليوجزون في هذه الكلمات: لقد ولدوا، وتألموا، ثم ماتوا! عبد العزيز الكرداني