عرض كتاب الإتقان (23) - النوع الثامن والعشرون في معرفة الوقف والابتداء [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

فالمقصد هو بناء منهج في كيفية التفسير، وكيف كان التفسير عند السلف، وكذلك عند ابن جرير الطبري ، ومع الأسف نجد أننا بعدنا عن معرفة كلام السلف في أمور كثيرة، سواء في الأقوال أو في الأفعال، مع أنهم هم الأصل الذين نأخذ عنهم الشريعة؛ لأنهم هم نقلة الشريعة، ولما أقول: السلف أقصد بهم الطبقات الثلاث في التفسير: طبقة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين.

الكلام سيكون عن النوع الثامن والعشرين، قال: [ في معرفة الوقف والابتداء ]، وقد ذكر آثاراً تتعلق بالوقف والابتداء.

ثم ذكر فصلاً في أنواع الوقف، ولا زلنا في هذا الفصل الذي هو أنواع الوقف، وقد ذكر في أنواع الوقف كلام ابن الجزري في تقسيمه للوقف، وهو تقسيم منطقي؛ لأن ابن الجزري رحمه الله تعالى وهو من المحققين في علوم القراءة، ذكر أن أقسام الوقف غير منضبطة ولا منحصرة، وذكر أنه ينقسم إلى قسمين كليين: اختياري واضطراري.

وسنتكلم عن الوقف الذي له علاقة بالمعاني اختياري أو اضطراري، وذكر أن الاختياري قال: [ لأن الكلام إما أن يتم أو لا، فإن تم كان اختيارياً، وكونه تاماً لا يخلو إما أن لا يكون له تعلق بما بعده ألبتة، أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى فهو الوقف المسمى بالتام لتمامه، والمطلق يوقف عليه ويبتدأ بما بعده، ثم مثله بما تقدم في التام ].

السيوطي رحمه الله تعالى لم ينقل كلام ابن الجزري كاملاً هنا، و ابن الجزري أراد أن يعرف القارئ بسبب تقسيم العلماء وهو تقسيم جمهور العلماء الوقف إلى أربعة أقسام: الوقف التام، والكافي، والحسن، والقبيح.

وهؤلاء العلماء انطلقوا من أمرين: الأمر الأول: اللفظ. والأمر الثاني: المعنى. والكلام عن اللفظ والمعنى في عبارات علماء الوقف والابتداء مشكلة؛ لأن المعنى فيه إشكال من جهة، واللفظ فيه إشكال من جهة، ومن قرأها في كتب الوقف يظهر له أن المعنى على قسمين: معنى جملي، ومعنى سياقي، واللفظ أيضاً على قسمين: رابط إعرابي، ورابط لفظي غير إعرابي، يعني: ما يتحرى من كلام علماء الوقف والابتداء الذين قسموه إلى أربعة أقسام أن الوقف المبني على اللفظ والمعنى مرادهم بالمعنى أحياناً الجملي، وأحياناً السياقي، واللفظ الذي هو الرابط اللفظي إما أن يكون إعرابياً، وإما أن يكون غير إعرابي، وعليه يبنى تقسيم العلماء في ذلك.

الوقف التام

الوقف التام لا يتعلق بما بعده ألبتة، يعني: لا يتعلق لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى، فلو أخذنا مثالاً على ذلك في بداية سورة البقرة لما قال الله سبحانه وتعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، بعدها قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]، هل هناك ارتباط من جهة المعنى أو من جهة اللفظ بين ما قبل وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] وبداية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]؟ لا، لماذا؟ لأنه عند قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] ينتهي الكلام عن المؤمنين، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6] استئناف للحديث عن الكافرين، ففيه انقطاع تام، وهذا يسمى الوقف التام.

الوقف الكافي

الوقف الثاني: الوقف الكافي هو أن يرتبط بما قبله من جهة المعنى دون اللفظ، يعني دون الإعراب، إذاً الإعراب يكون تاماً، لكن يبقى في المعنى، وهذه الإشكالية التي نراها بعد قليل بين المعنى في التام والمعنى في الكافي ستورد لنا إشكالية نتكلم عنها بعد قليل، لما نأت إلى قول الله سبحانه وتعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، تجدون في المصحف وقف هنا، ثم قال: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، هل قوله سبحانه وتعالى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] جملة معطوفة أو مستأنفة؟ جملة تعتبر مستأنفة، لكن هل هي منقطعة عما قبلها من جهة المعنى؟ ننظر الآن لو تخيلنا أن داخلاً دخل الآن وسمعنا نقول: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] ألا يضع عنده سؤال: من هم؟ كذلك لاحظ لو قلنا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7]، الوقف على إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، الكلام من حيث هو تام، يعني: الجملة تامة إعراباً، لكن لما نقول: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] فهنا ضمير لكنه رابط لفظي غير إعرابي، فنقول: من هم؟ يعود إلى من؟ إلى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]، هذا نسميه الوقف الكافي.

الوقف الحسن

الوقف الثالث: الوقف الحسن، والوقف الحسن هو الذي يرتبط بما قبله من جهة اللفظ مع تمامه هو في ذاته، ولهذا عبروا عنه بقولهم: يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، مثلاً: لما نقول: (الحمد لله)، هذه الجملة من حيث هي تامة أو غير تامة؟ تامة، لكن لو ابتدأت وقلت: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، البدء بهذه الجملة ناقص أو تام؟ ناقص؛ لأن (لله رب العالمين) مرتبطة من جهة الإعراب بقوله: (الحمد لله)، إذاً يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة الإعراب، وهذا نسميه الوقف الحسن، ولما نقول: (الحمد لله) تكون جملة تامة، لكن البدء بـ (لله رب العالمين) ناقص؛ لأنها مرتبطة بما قبلها من جهة الإعراب، هذا هو الوقف الحسن.

الوقف القبيح

الوقف الرابع: الوقف القبيح وهذا الوقف له صورتان:

الصورة الأولى: أن يوقف على ما لم يتم من جهة الإعراب، مثل لما نقول: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا [البقرة:25] ثم نقف، هل تمت الجملة؟ ما تمت، ناقصة، هذا نقص في الإعراب.

الصورة الثانية: أن يدخل في حكم الجملة ما ليس منها فيختل المعنى من هذه الجهة، مثلاً قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36]، ثم نقف هنا، هل هذا الوقف على (الموتى) صحيح؟ غير صحيح لماذا؟ لأنه ألحق الموتى بالسماع، وهو قد نفي عنهم ذلك، إنما خص السماع بالذين يستجيبون، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]، فلما نقول: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36]، جعلنا الموتى أيضاً يستجيبون وهم قد نفي عنهم ذلك.

مثال على الوقف والابتداء وارتباطه بالمعنى الجملي والسياقي

عندنا الآن مثال يضربه علماء الوقف والابتداء لكي تتبين إشكالية المعنى في قضية الجملي والسياقي، في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] هنا وقف، ثم قال: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، هل الوقف على وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34] تام أو كافي؟

هناك قولان للتفسير في قوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، قيل: إنه من تمام كلام بلقيس ، وقيل: إنه من الله سبحانه وتعالى تأكيد لكلامها، سواءً جعلناه من كلام بلقيس أو من كلام الله ابتداءً، هل يختلف حكم الوقف أو لا يختلف؟ عند علماء الوقف والابتداء يقولون: إذا كان من تمام كلام بلقيس يكون الوقف كافياً، وإذا كان استئنافاً من الله سبحانه وتعالى، يعني كلام مبتدئ تأكيداً فإنه يكون تاماً، لكن ما هو الإشكال الذي يقع هنا إذا قلنا: بأنه تام، لو قلنا ابتداءً: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، ألا تشعر هذه الجملة بارتباطها بما قبلها؟

ونحن في الوقف الكافي وضعنا قاعدة: أنه إذا ارتبطت بما قبلها من جهة الروابط اللفظية غير الإعرابية فهي من دلالات الوقف الكافي، وعندنا من الروابط الواو في قوله: يَفْعَلُونَ [النمل:34]، يعني: من هم؟ لكن ما الذي جعل من قال بالتمام يقول بالتمام؟ إذا كان من كلام الله وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، ماذا نظر؟ من قال بالتمام نظر إلى السياق وإلا إلى الجملة؟

نظر إلى الجملة، لماذا؟ لأنه يرى أن قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، هذا من كلام بلقيس فسماه تاماً لانتهاء كلام بلقيس ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34] من كلام الله، فجعل هو تاماً من هذه الجهة، هذا نظر جملي، فإذاً هو نظر لما حكم بانقطاع المعنى حكم بالنظر الجملي. لكن بالنظر السياقي يكون تاماً أو كافياً؟ نقول: يكون كافياً، ولهذا اختلف النظر بين العلماء بسبب اضطراب المعنى بين التمام الجملي والتمام السياقي.

فإذا قرأتم في كتب الوقف الابتداء ورأيتم خلافاً بين العلماء، بين الوقف التام والكافي بموطن معين، فانتبهوا لهذه القضية التي هي التمام الجملي والتمام السياقي. والتمام السياقي طويل أمره، لكن في الغالب يكون عند انتهاء القصص، مثل لما قلنا: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، انتهى الكلام عن المؤمنين، ثم ابتدأ بالكلام عن الكافرين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة:6]، ولما انتهى من الكلام عن الكافرين في آيتين قال بعد ذلك: وَمِنْ النَّاسِ [البقرة:8]، هذا نسميها وقوف تامة سياقية وجملية.

فإذاً نقول: كل تمام سياقي فإنه يتضمن التمام الجملي، وليس كل تمام جملي متضمناً للتمام السياقي.

هذه إشارة سريعة جداً لما أشار إليه السيوطي رحمه الله تعالى فيما يتعلق بقضية مصطلحات الوقف.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.