عرض كتاب الإتقان (8) - النوع السابع - النوع الثامن معرفة آخر ما نزل [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:

فهذا المبحث، وهو معرفة أول ما نزل ومعرفة آخر ما نزل، وهو النوع الثامن فيه مسائل نعرضها سريعاً:

معنى الأولية والآخرية فيما نزل من القرآن

أولاً: ننظر إلى فكرة هذا المبحث الذي هو معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل.

فالأولية هنا على نوعين: الأولية المطلقة، وهي أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، والأولية النسبية، وهي أول ما نزل بالنسبة لنوع من الأحكام أو نوع من الآيات.

وأيضاً آخر ما نزل: عندنا الآخرية المطلقة، وعندنا أيضاً آخرية نسبية. فهذا ما يتعلق بقضية الأول والآخر.

فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

ثانياً: فوائد هذا المبحث: فلو أردنا أن نستقصي شيئاً من فوائد هذا المبحث، فما الذي يمكن أن يتحصل لنا من خلال دراسة أول ما نزل وآخر ما نزل؟

من فوائده معرفة الناسخ والمنسوخ؛ لأنه سيأتينا في سورة المائدة أنها آخر آية نزلت، فيكون كل ما فيها ناسخ، وهذا هو الأصل، ولا يمكن أن يرد فيها شيء منسوخ.

إذاً: يستفاد من هذا المبحث في باب الناسخ والمنسوخ.

وفائدة أخرى وهي التدرج في التشريع، وهي قريبة من فكرة الناسخ والمنسوخ. فما الفرق بين التدرج في التشريع والناسخ والمنسوخ؟ الفرق أن التدرج في التشريع ينزل حكم ثم يأتي متمم له، وهكذا.

أما النسخ فهو أنه ينسخ بالكلية.

وهناك فائدة أخرى يمكن أن نأخذها من قول عائشة : (إنه أول ما نزل من القرآن المفصل)، وهي معرفة الموضوعات المهمة في القرآن والتي بقيت في الفترة المدنية.

فالقرآن مشتمل على موضوعات متعددة، أول ما نزل من هذه الموضوعات -كما تقول عائشة - كان فيه ذكر الجنة والنار والذي استمر إلى العهد المدني، فمعرفة هذه الأولية -التي ذكرتها عائشة - يفيدنا في هذا الجانب، في معرفة الموضوعات المهمة أو التي اعتنى بها القرآن وبقيت من بداية نزوله إلى نهاية نزوله.

أقوال العلماء في أول ما نزل من القرآن

وقع الاتفاق على أن أول ما نزل على الإطلاق هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] الآيات الخمس الأولى منها نزلت في غار حراء، وهذا ثابت، ويكاد يكون عليه الإجماع، لولا ما روي عن جابر كما سيأتي.

وبعضهم قال: إن أول ما نزل سورة الفاتحة، وهذا قول فيه ضعف شديد جداً، والعجيب أن صاحب الكشاف يقول: إنه قول أكثر المفسرين.. وهذا فيه نظر، ولكن بعض من تعرض لأولية سورة الفاتحة قال: لعلهم يريدون أول ما نزل من جهة كونها سورة كاملة، وهذا كقيد أو ضابط يحتاج إلى دليل خاص به.

وقول آخر: أنه البسملة، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ذكر السيوطي من قال بهذا، ثم قال: [وعندي أن هذا لا يعد قولاً برأسه؛ فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق] وهذا كلام غير صحيح؛ لأن حديث نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لم يرد فيه إطلاقاً ذكر البسملة، فلهذا نقول: إن هذا القول مردود بقصة غار حراء، وأنها غير لازمة.

فيمكن أن تكون نزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] ونزلت سور ثم نزلت البسملة فيما بعد؛ لأن هذا ليس له علاقة بالسور؛ لأن البسملة إنما نزلت للفصل بين السور، ولما يكن هناك سور لما نزلت: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].

وعلى العموم فهذا ليس عليه دليل.

فإذاً: نزول الفاتحة ضعيف جداً، وقول صاحب الكشاف فيه غرابة شديدة، والبسملة أضعف منه. ويبقى عندنا إشكالية في المدثر.

فـأبو سلمة بن عبد الرحمن يقول: [(سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر! قلت: أو اقرأ باسم ربك؟ قال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري...)] إلى آخره. والحديث مشهور. وجابر مدني، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أن سورة المدثر هي أول ما نزل، وتتمة الرواية قال: [(فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي ثم نظرت إلى السماء فإذا هو -يعني: جبريل - فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2])]. فهذا الأثر يحتاج إلى دراسة خاصة، وقد جمعت روايات الإمام البخاري رحمه الله لهذا الأثر، ومن المهم معرفتها لكي نخلص إلى قضية إشكالية هذا الأثر، يعني: هل بالفعل جابر يرى أن المدثر هي أول ما نزل؟

ننظر، فهذه الرواية الأولى قال: [(وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي)]، وعبارة (وهو يحدث عن فترة الوحي) هذه زيادة ليست من كلام جابر .

قال: [(فقال في حديثه: بينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، قال: فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]...)] إلى آخره. فهذه الرواية نفهم منها أن الملك نزل من قبل؟

ورواية أخرى أيضاً أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثم فتر عني الوحي، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك)، فهذا فيه نص على فترة الوحي.

ورواية أخرى عنده أيضاً في باب أول ما نزل من القرآن، قال: (سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن) يعني: يحيى بن أبي كثير يسأله، (فقال: يا أيها المدثر. قلت: يقولون: اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فلاحظ تلميذ جابر يحدث كما روى جابر . (قال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن ذلك وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت..) والحديث الذي ذكرناه قبل قليل عند السيوطي .

ورواية أخرى أيضاً: يحيى قال: (سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر. فقلت: أنبئت أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق. فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر. فقلت: أنبئت أنه اقرأ باسم ربك الذي خلق. فقال: لا أخبرك إلا بما أخبرني...) إلى أن قال: (فنظرت أمامي وخلفي وشمالي فإذا هو جالس على العرش بين السماء والأرض فأتيت خديجة ...) الحديث، وهي نفس الرواية كررها مرة أخرى.

وعندنا أيضاً رواية أخرى، قال: (سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي)، فإذاً: النص هنا على فترة الوحي، وكذلك الرواية التي بعدها، فكل هذه الروايات نلاحظ أن فيها إشكالية بالفعل، هذه الإشكالية التي وردت في حديث جابر أن هناك رواية من دون أن تذكر فترة الوحي، وهناك رواية تذكر فترة الوحي وتشير إلى أنه الملك الذي جاءه في غار حراء.

فإذاً: النص واضح جداً في أن هناك نزولاً قبل يا أيها المدثر، والآن جابر رضي الله عنه يرى أن أول ما نزل: المدثر.

ولو تتبعنا الإجابات التي ذكرها السيوطي فعندنا أول إجابة، [أحدها: أن السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ]. وهذا التخريج ضعيف؛ فليس هناك ما يدل على أن سورة المدثر نزلت كاملة، وليس هناك دليل في السؤال أصلاً على أن المراد نزول السورة كاملة، بل بالعكس؛ قال: (أول ما نزل من القرآن)، وما قال: أول سورة نزلت، فحتى نص الحديث لا يساعد على هذا، كما أنه لا يوجد دليل على هذا التوجيه، وكون سورة المدثر نزلت كاملة. فهذا الجواب الأول.

والجواب الثاني: [أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة لما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة]، وهذا أقوى الإجابات، فتكون أول آية نبئ بها: اقرأ، وأول آية أرسل بها: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1].

الجواب الثالث: [أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار وعبر بعضهم على هذا بقوله: أول ما نزل للنبوة اقرأ باسم ربك، وأول ما نزل للرسالة: يا أيها المدثر].

إذاً: هذه أولية مخصوصة، لكن السؤال الذي يرد: هل يفهم من الآثار التي ذكرناها أن جابراً عليه السلام يريد أولية مخصوصة وأن السؤال نزل لأولية مخصوصة؟

لا، ما يدل عليه، يعني: إذاً الأحاديث التي أوردها البخاري عن جابر لا تدل على أن السائل سأل عن أولية مخصوصة، ولا أن جابراً أراد أولية مخصوصة. فهذا يرد على الثاني والثالث.

قال: [رابعها: أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم، وهو ما وقع من التدثر الناشئ..] وهذا نفس القضية، يعني: أنه مجرد تخريج.

قال: [والخامس: أن جابراً استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة . قاله الكرماني . قال: وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير]، فمن خلال الأثر الذي ورد عندنا هل هناك إشكال عندما نقول: إن جابراً رضي الله عنه وهم لما ذكر أن أول ما نزل المدثر؟

لا. ما في إشكال، فهذا محتمل، وهو واضح جداً من الأثر. وكما قال فقد حدث بما علم.

إذاً: فنحن نقول: إن جابراً رضي الله عنه حدث بما علم، والملاحظ في كلام جابر رضي الله عنه لما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي)، أنه لما تكلم كأنه لم يكن على علم بالنزول بغار حراء؛ لأنه ما ورد عنده إشارة إلى ما نزل في غار حراء، لكن كون الملك نزل واضح عنده في الأثر؛ لأنه قال: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء) لكن هذا الملك هل نزل بشيء؟

لا توجد إشارة على ذلك، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم في هذا السياق عن أول ما نزل عليه، وإنما تكلم عن فترة الوحي وما وقع من نزول آية المدثر، ففهم منها جابر أنها هي أول ما نزل، فحكاه كما سمعه. وهذا هو الأصل، وهو المتوقع، وهو الممكن والمحتمل من البشر، أنه يكون سمع هذا على هذه الشاكلة وليس عنده علم بأوليات اقرأ. وهذا موجود عند الصحابة، فحينما يكون بينهم أي خلاف في مثل بعض القضايا المرتبطة بالسمع، فهذا يحدث بما سمع وهذا يحدث بما سمع.

فإذاً نقول: إن أولى ما يقال في هذا المقام هو أن يقال: أولاً: أن جابراً لم يكن على علم بما نزل بغار حراء، وإن كان في حديثه إشارة لنزول الملك في الغار.

ثانياً: أن جابراً حدث بما سمع، ولم يذكر له قبل سورة المدثر سورة أخرى نزلت، فحكم بذلك.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.