الضعف والتراخي في حياة الملتزمين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة في الله: من أعظم ما يمن الله به على الإنسان نعمة الطاعة ونعمة الدين ونعمة الإيمان، ومن أعظم العقوبات التي يعاقب بها الإنسان حرمانه من هذه النعمة، ووقوعه في مصيبة المعصية، وفي مصيبة المخالفة، والناس يفهمون من النعمة أنها المال، والعافية، والمنصب، والولد والزوجة، والسيارة والعمارة كل هذه نعم، لكنها نعم تزول.

أما النعمة الحقيقية التي امتن الله بها على عباده المؤمنين فهي نعمة الإيمان، يقول عز وجل: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء:69] (أنعم الله عليهم) من هم؟ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] من بقي بعد هؤلاء؟ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ ما بقي بعدهم إلا كل فاسد وسيئ، والعياذ بالله! فينعم الله على النبيين بنعمة الدين برغم أنهم يعيشون ويموتون وهم في فقر حتى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، سيد البشر، وخير من وطئ الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من يدخل الجنة، وصاحب الشفاعة الكبرى يوم القيامة، عاش صلوات الله وسلامه عليه عيشة بسيطة لدرجة أنه ينام على الحصير، ويقوم وقد أثر الحصير على جنبه الشريف، وما شبع من طعام بر ثلاث ليال متوالية، ومات ودرعه مرهون في ثلاثين صاعاً من شعير، وتقول عائشة: [كان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت آل محمد نار. فقال عبد الله بن الزبير: فما طعامكم يا أماه؟ قالت: كان طعامنا الأسودان: التمر والماء] ومع هذا فهم في نعمة .. ليست نعمة البطون، فكم من الناس من بطنه ممتلئ لكن بالحرام .. ممتلئ بالربا، وكم من الناس جسمه سمين لكن إلى النار، يتسمن لجهنم، وكم في الناس من سيارته فارهة لكن تقوده إلى جهنم، وكم من الناس من عنده منصب لكن منصب سوف يورده إلى النار، والعياذ بالله!

فما هي النعمة الحقيقية؟ إنها نعمة الدين، والذي يبدل هذه النعمة يستحق العذاب، إذا جاء الدين والإيمان فأمسكه وتشبث به، أعظم من تشبث صاحب المال بماله، إذا أعطي شخص مليون ريال أو مليونين كتعويض في أرض أو في مزرعة أو في عمارة فماذا يصنع بها؟ تراه يستلمها في الصباح، فانظر إليه وهو يصلي الظهر، لا يعرف كم صلى، ولا يعرف كم يصلي في المغرب، وكم يصلي في العشاء، ولو سألته يقول: والله مدهوش .. لماذا؟ إنها مليونا ريال أين يذهب بها؟ فلا ينام الليل، لكن ما رأيكم لو أن شخصاً استلم مليوني ريال وعند باب البنك أو عند باب المؤسسة بدأ يمزقها ويرمي بها..ماذا يقال لهذا الإنسان؟! مجنون، فالناس عقلاء مع الدنيا، يعرفون قدر نعمة المال فلا يصرفون منه ولا يضيعون ريالاً إلا بحقه، ويعرفون قيمة النعم كلها ويقدرونها، لكن لا يعرف كثير من الناس قدر نعمة الإيمان، فإذا أعطاه الله الإيمان تراخى فيه وشتته، لا حفظه ولا نماه.. يقول الله فيه: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:211] إذا أعطاك الله نعمة الإيمان وبدلتها بعدما جاءتك النعمة وذقت طعم الإيمان فإن الله شديد العقاب.

وما أعظم من مصيبة الحرمان من الطاعة والخذلان بالمعصية يقول الله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].

صفات طالب الآخرة

طالب الآخرة كما يقول ابن القيم رحمه الله: طالب الدار الآخرة لا يستقيم له سيره، ولا يمكن أن يحصل على مقصوده إلا بأمرين رئيسيين:

الأمر الأول: حبس نفسه على طاعة الله.

والثاني: حبس نفسه عن معصية الله، فإن الطاعة فيها تعب وفيها مشقة، ولكن تحتاج إلى صبر، والمعصية لها طعم ولها ملذة، ولكنها ملغمة من الداخل بالحسرة والعذاب، ملغمة بالوعيد الشديد والعذاب الأكيد، وهي مزينة ومغلفة من الخارج بشيء ينطلي على أصحاب العقول السقيمة وأصحاب النفوس المريضة.

أما أهل الإيمان فإنهم ينظرون بعين البصيرة لا بعين الطبيعة؛ لأن عين البصيرة تريك السم قبل أن ترى ما عليه من حلاوة.

أما عين الطبيعة فإنها تنخدع ولا تنتبه إلا والإنسان في طباق جهنم، والعياذ بالله!

من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه

لا بد من حبسين: حبس على طاعة الله، وحبس عن معصية الله، وستعيش في هذين الحبسين في نوع من المعاناة والتعب، ولكن اصبر وصابر ورابط واتق الله لعلك تفلح..هذه وصية الله، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] تصبر على ماذا. على النوم، تصبر على الرز واللحم، على الأغاني والطرب؟ لا. بل تصبر على المر، أين المر؟ في معاناة الطاعات، كونك تقوم نصف الليل، تقوم آخر الليل لصلاة الفجر، كونك تخرج زكاة مالك، كونك تبر والديك، وتصل رحمك، وتدعو إلى الله، وتريق دمك في سبيل الله، تصبر على دين الله، وأيضاً تصبر عن المعصية، تصبر على المخالفة، تغض بصرك وقلبك يتقطع عن النظر، لكن تقول: والله لا أنظر لو يتقطع قلبي، تصد وتصون سمعك عن الأغاني وقلبك يتقطع على أغنية كنت قد عرفتها من الماضي وكنت تعيش معها لكن لما آمنت واستقمت والتزمت..والله لا أسمع، تصون وتحفظ بطنك عن الحرام ولو تأكل من الطين لكن لا تقدر أن تأكل الحرام، ريال حرام لا تستطيع أن تأكله (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

يذكر أهل العلم أن رجلاً حج بيت الله الحرام من بلاد مصر في الزمن القديم قبل حوالي مائة سنة، وفي مكة انتهت مادته، وبحث عن عمل يقتات منه فلم يجد، ومرت عليه أيام وليال ما ذاق طعم العيش، حتى صفر جلده من الجوع، وخرج من بيت الله الحرام في ظهر يوم وإذا به يجد أمامه منديلاً أخضر ساقطاً في الأرض، ضالة، فحمله وفتحه وإذا بداخله عقد من اللؤلؤ ثمنه مائة ألف درهم -وهو يكاد يموت جوعاً- فربطه، وقال في نفسه: والله إن فرحتي به لا تعدل حزن صاحبه عليه. ثم أدخله في جيبه، وإذا بذلك الرجل يصيح على باب المسجد وفي الساحات المحيطة: من وجد منديلاً قال: تعال، كيف هو؟ قال: أخضر. قال: ما بداخله؟ قال: عقد لؤلؤ. قال: أهو هذا؟ قال: نعم. قال: خذه بارك الله لك. فقام ذاك وأخرج من جيبه ألف درهم وأعطاه قال: هذه مني لك هدية. قال: والله ما كنت لآخذها منك وقد رفضتها، ولكن لا آخذها إلا من الله. لا العقد ولا الألف وهو يكاد يموت جوعاً ..! وتركها لله. ومرت الأيام والليالي ووجد عملاً بسيطاً وحصل منه على دخل بسيط، ثم رحل إلى جدة وركب البحر وذهب إلى أرضه، وفي وسط البحر هاجت الريح وزمجرت، وتلاطمت الأمواج وتحطمت السفينة، وغرق كل من في السفينة، ونجّى الله هذا الرجل على خشبة تشبث بها وهو يذكر الله بالليل والنهار، وجلس في البحر أياماً، ثم قذفته الأمواج على شاطئ البحر وجلس يمشي، ثم دخل قرية من القرى فوجد فيها قوماً فيهم دين وفيهم خير -وكان صاحب علم عنده قرآن وعنده دين- فجلس عندهم أياماً، ثم قدموه فصلى بهم، ثم أحبوه وألفوه فعرضوا عليه أن يقيم عندهم فوافق على الإقامة عندهم، وعقد لهم الحلقات والدروس في الصباح وفي المساء للأطفال والكبار، وبعد فترة قالوا له: يا شيخ! أنت أصبحت واحداً منا، نريد أن نزوجك فهل تقبل؟ قال: نعم. ولكن ليس عندي شيء. قالوا: كل شيء موجود: البيت موجود، والمهر موجود، والزوجة موجودة، لكن عليك أن توافق. قال: موافق، بارك الله فيكم. فوافق، وبعد صلاة العشاء عقد في المسجد على الزواج ثم دخل بيته -بيت الزواج المهيأ- وحينما دخل البيت ودخل غرفة النوم وإذا بتلك الفتاة الجميلة التي ليس لها مثيل تقف أمامه، وإذا في صدرها ذلك العقد الذي رآه في مكة ، عقد اللؤلؤ معلق في رقبتها! فلما رآه رجع قال: أين أبو البنت؟ قالوا: موجود، فجاء وسلم عليه، وقد مرت سنين، قال: يا شيخ .. أسألك بالله أنت حججت؟ قال: نعم. قال: حصل لك شيء في الحج؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: أنا رجل ثري وعندي مال ولا أملك في هذه الدنيا إلا هذه البنت، وحججت بيت الله الحرام وأخذت لها هدية هذا العقد، وبعد ذلك وقع مني على باب الحرم وبحثت عنه، وبعدها لقيته عند شخص من أهل الخير الله يذكره بالخير ويجزيه عني خيراً، ورده لي وأعطيته ألف درهم فرفضه، وبعد ذلك عقدت العزم ونذرت أني إن لقيته زوجته بهذه البنت، ولكن انتظرت ولم ألقه فزوجتها بك أنت، ولو لقيته قبلك لزوجته قبلك. قال: أنا ذلك الرجل، تذكره وإذا به يعرفه فتسالما وتعانقا، وقال: أنا ذلك الرجل. (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .

الصبر على طاعة الله وعن معصية الله

فالصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله حبسين، تحبس نفسك، ولا تزال في المعاناة والحبس إلى أن تموت، وعند الموت يطلق قيدك، وتخرج من حبسك، وترى منزلك من الجنة، ويقال لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]؛ لأن الناس إذا قيدوا أنفسهم في الدنيا بطاعة الله أطلق الله لهم العنان في الجنة يسرحون ويمرحون، ويتنعمون بكل ما لذ وطاب.

أما الذي انفلت هنا، وأعرض عن القيد الرباني، وعبد شهوته، يعيش على مزاجه وهواه.. هذا خاسر حقاً، ينام كما يشاء، ويأكل ما يشاء، وينكح ما يشاء، ويتصرف كما يشاء، وليس لله عليه أمر ولا نهي، لا يعرف لله أمراً، ولا يتقيد ولا يقف لله عند نهي، ولكن سوف يقبض عليه عند الموت، فالناس عند الموت رجلان: رجل مطلق ومفكوك من القيد وداخل الجنة وهو المؤمن.

ورجل موثوق مقبوض عليه ومدخل إلى النار وهو الفاجر والعياذ بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة تقول له: (يا أيتها النفس الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب) ويقول الله: كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:11-13] وقبلها يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة:10] أين المفر؟ ما لك مفر من الله؛ لأن الله يمنعك من كل شيء ولا يمنعك من الله شيء.

وجدير بالعاقل -كما قلت لكم- إذا أنعم الله عليه بنعمة الإيمان أن يصبر عليها ولو أن فيها معاناة؛ لأن زماننا هذا، زمن المشقة في المحافظة على الدين (يأتي على الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر) الذي يقبض على الجمرة لا يضحك، ولا ينام، الذي يقبض على الجمر تتقطع يداه، تراه يبكي، يتلوى، لكن لا يفكها أبداً، لا يفك دينه، ولو تقطع، ولو حرق، ولو تفتت لا يمكن أبداً .. لماذا؟ لقد ذاق طعم الإيمان، والحديث في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان منها وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وفي مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).

ولكن نرى ونلمس ونلاحظ ضعفاً وتراخياً وفتوراً، بل تراجعاً وانهزاماً، بل رأينا سقوطاً وردة في صفوف قوم ساروا على الطريق ثم ما رابطوا، وما صبروا ولا صابروا، وما اتقوا الله حتى يفلحوا، وإنما رأوا المسافة بعيدة، وهم ضعاف، والعقبة كئود، وهم هزال، والثمن غال وهم بخلاء، فرجعوا عن طريق الله وباعوا أنفسهم للشيطان، صعب عليهم الصعود في عقبات الإيمان، وسهل عليهم التردي في دركات الكفر والنفاق والمعاصي والشهوات والملذات، ولكن غاب عن أذهانهم عاقبة تلك وعاقبة تلك، عاقبة الصعود: الجنة، وعاقبة الهبوط: النار قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] زكاها: رفعها إلى فوق وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أنزلها إلى تحت، النزول سهل والطلوع صعب، لكن تالية الطلوع عزة، ترون الآن الذي يدرس ست سنوات ابتدائي وست سنوات ثانوي، وثلاث أو أربع جامعة، وبعدها ماجستير، وبعدها دكتوراه، وبعدها يتعب ويعاني لكن تراه وقد صار في منصب، وفي مرتبة عالية ومكانة سامقة.

وذاك الذي ترك الدراسة من أول ابتدائي عندما دخل وضربوه قال: والله ليس لي حاجة في هذه الدروس، أريد أن أبقى مع أهلي، وهذا مسكين جلس يعاني من آلام الجهل والذل إلى أن يموت .. فالمؤمن يصبر، يصبر على المر والذي أمر منه حتى يلقى الله، وذاك الذي نزل وما صبر سوف يلعق المرارة، يلعقها في النار؛ لأنه ما صبر على طاعة بسيطة، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة برجل من أقل أهل النار عذاباً من له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ويعيش في ضحضاح من النار -وهو أبو طالب - ولا يرى أن في النار أشد عذاباً منه) وفعلاً يا أخي! والله ما نتحمل كوب الشاي الحار، والله ما نتحمل حرارة الجو إلا بمكيف، ما نتحمل حرارة أي شيء، لأننا ضعفاء، إن أجسامكم على النار لا تقوى قال: (فيؤتى بالرجل فيقال له: أتود أن تفتدي مما أنت فيه من العذاب بملء الأرض ذهباً؟ قال: نعم يا رب) لو أن له مثل الأرض وملء الأرض بجبالها وصحاريها وعماراتها ذهباً أحمر لو كان له ذلك لفدى بها نفسه من النار. (قال الله عز وجل له: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وتطيعني ولا تعصيني) فهل هذا أسهل أو ملء الأرض ذهباً؟ إن طاعة الله أسهل، لكن يحرم المخذول من هذا العمل والعياذ بالله فيندم ندامة ليس بعدها ندامة.

يسير كثير من الناس في الطريق، ثم يتساقطون ويتراجعون ويضعفون، وخوفاً من أن يكون هذا الضعف موتاً فسنتحدث عن هذا الموضوع وقد سبقنا إليه كثير من أهل العلم، فقد تحدث عنه شيخ الإسلام ابن تيمية كظاهرة مرضية يتعرض لها المسلم، وتكلم عنه الشيخ ابن القيم رحمه الله في مجمع كتبه، وتكلم عنه في هذا الزمن اثنان من العلماء الأول: الدكتور محمد بن نوح في كتاب له اسمه: (آفات على الطريق ) والشيخ الآخر هو عالم من الكويت اسمه الشيخ جاسم بن مهلهل في كتاب له اسمه: (الفتور صوره وأسبابه وعلاجه ) وقد أجادا في عرض الموضوع، وقد اقتبست بعض العناصر من هذين الكتابين ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وأضفت عليها ما فتح الله به عليَّ؛ من أجل التحذير والتنبيه لإخواننا المؤمنين المسلمين الذين فتح الله قلوبهم وشرح صدورهم ونور أبصارهم، ودلهم على الطريق، فعليهم أن يتمسكوا بالطريق ولا يرجعوا ولا يتراخوا ولا يضعفوا ولا يتركوا التمسك بالطريق حتى يقفوا عند باب الجنة، ويقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] هناك يقولون: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

طالب الآخرة كما يقول ابن القيم رحمه الله: طالب الدار الآخرة لا يستقيم له سيره، ولا يمكن أن يحصل على مقصوده إلا بأمرين رئيسيين:

الأمر الأول: حبس نفسه على طاعة الله.

والثاني: حبس نفسه عن معصية الله، فإن الطاعة فيها تعب وفيها مشقة، ولكن تحتاج إلى صبر، والمعصية لها طعم ولها ملذة، ولكنها ملغمة من الداخل بالحسرة والعذاب، ملغمة بالوعيد الشديد والعذاب الأكيد، وهي مزينة ومغلفة من الخارج بشيء ينطلي على أصحاب العقول السقيمة وأصحاب النفوس المريضة.

أما أهل الإيمان فإنهم ينظرون بعين البصيرة لا بعين الطبيعة؛ لأن عين البصيرة تريك السم قبل أن ترى ما عليه من حلاوة.

أما عين الطبيعة فإنها تنخدع ولا تنتبه إلا والإنسان في طباق جهنم، والعياذ بالله!

لا بد من حبسين: حبس على طاعة الله، وحبس عن معصية الله، وستعيش في هذين الحبسين في نوع من المعاناة والتعب، ولكن اصبر وصابر ورابط واتق الله لعلك تفلح..هذه وصية الله، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] تصبر على ماذا. على النوم، تصبر على الرز واللحم، على الأغاني والطرب؟ لا. بل تصبر على المر، أين المر؟ في معاناة الطاعات، كونك تقوم نصف الليل، تقوم آخر الليل لصلاة الفجر، كونك تخرج زكاة مالك، كونك تبر والديك، وتصل رحمك، وتدعو إلى الله، وتريق دمك في سبيل الله، تصبر على دين الله، وأيضاً تصبر عن المعصية، تصبر على المخالفة، تغض بصرك وقلبك يتقطع عن النظر، لكن تقول: والله لا أنظر لو يتقطع قلبي، تصد وتصون سمعك عن الأغاني وقلبك يتقطع على أغنية كنت قد عرفتها من الماضي وكنت تعيش معها لكن لما آمنت واستقمت والتزمت..والله لا أسمع، تصون وتحفظ بطنك عن الحرام ولو تأكل من الطين لكن لا تقدر أن تأكل الحرام، ريال حرام لا تستطيع أن تأكله (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

يذكر أهل العلم أن رجلاً حج بيت الله الحرام من بلاد مصر في الزمن القديم قبل حوالي مائة سنة، وفي مكة انتهت مادته، وبحث عن عمل يقتات منه فلم يجد، ومرت عليه أيام وليال ما ذاق طعم العيش، حتى صفر جلده من الجوع، وخرج من بيت الله الحرام في ظهر يوم وإذا به يجد أمامه منديلاً أخضر ساقطاً في الأرض، ضالة، فحمله وفتحه وإذا بداخله عقد من اللؤلؤ ثمنه مائة ألف درهم -وهو يكاد يموت جوعاً- فربطه، وقال في نفسه: والله إن فرحتي به لا تعدل حزن صاحبه عليه. ثم أدخله في جيبه، وإذا بذلك الرجل يصيح على باب المسجد وفي الساحات المحيطة: من وجد منديلاً قال: تعال، كيف هو؟ قال: أخضر. قال: ما بداخله؟ قال: عقد لؤلؤ. قال: أهو هذا؟ قال: نعم. قال: خذه بارك الله لك. فقام ذاك وأخرج من جيبه ألف درهم وأعطاه قال: هذه مني لك هدية. قال: والله ما كنت لآخذها منك وقد رفضتها، ولكن لا آخذها إلا من الله. لا العقد ولا الألف وهو يكاد يموت جوعاً ..! وتركها لله. ومرت الأيام والليالي ووجد عملاً بسيطاً وحصل منه على دخل بسيط، ثم رحل إلى جدة وركب البحر وذهب إلى أرضه، وفي وسط البحر هاجت الريح وزمجرت، وتلاطمت الأمواج وتحطمت السفينة، وغرق كل من في السفينة، ونجّى الله هذا الرجل على خشبة تشبث بها وهو يذكر الله بالليل والنهار، وجلس في البحر أياماً، ثم قذفته الأمواج على شاطئ البحر وجلس يمشي، ثم دخل قرية من القرى فوجد فيها قوماً فيهم دين وفيهم خير -وكان صاحب علم عنده قرآن وعنده دين- فجلس عندهم أياماً، ثم قدموه فصلى بهم، ثم أحبوه وألفوه فعرضوا عليه أن يقيم عندهم فوافق على الإقامة عندهم، وعقد لهم الحلقات والدروس في الصباح وفي المساء للأطفال والكبار، وبعد فترة قالوا له: يا شيخ! أنت أصبحت واحداً منا، نريد أن نزوجك فهل تقبل؟ قال: نعم. ولكن ليس عندي شيء. قالوا: كل شيء موجود: البيت موجود، والمهر موجود، والزوجة موجودة، لكن عليك أن توافق. قال: موافق، بارك الله فيكم. فوافق، وبعد صلاة العشاء عقد في المسجد على الزواج ثم دخل بيته -بيت الزواج المهيأ- وحينما دخل البيت ودخل غرفة النوم وإذا بتلك الفتاة الجميلة التي ليس لها مثيل تقف أمامه، وإذا في صدرها ذلك العقد الذي رآه في مكة ، عقد اللؤلؤ معلق في رقبتها! فلما رآه رجع قال: أين أبو البنت؟ قالوا: موجود، فجاء وسلم عليه، وقد مرت سنين، قال: يا شيخ .. أسألك بالله أنت حججت؟ قال: نعم. قال: حصل لك شيء في الحج؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: أنا رجل ثري وعندي مال ولا أملك في هذه الدنيا إلا هذه البنت، وحججت بيت الله الحرام وأخذت لها هدية هذا العقد، وبعد ذلك وقع مني على باب الحرم وبحثت عنه، وبعدها لقيته عند شخص من أهل الخير الله يذكره بالخير ويجزيه عني خيراً، ورده لي وأعطيته ألف درهم فرفضه، وبعد ذلك عقدت العزم ونذرت أني إن لقيته زوجته بهذه البنت، ولكن انتظرت ولم ألقه فزوجتها بك أنت، ولو لقيته قبلك لزوجته قبلك. قال: أنا ذلك الرجل، تذكره وإذا به يعرفه فتسالما وتعانقا، وقال: أنا ذلك الرجل. (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .

فالصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله حبسين، تحبس نفسك، ولا تزال في المعاناة والحبس إلى أن تموت، وعند الموت يطلق قيدك، وتخرج من حبسك، وترى منزلك من الجنة، ويقال لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]؛ لأن الناس إذا قيدوا أنفسهم في الدنيا بطاعة الله أطلق الله لهم العنان في الجنة يسرحون ويمرحون، ويتنعمون بكل ما لذ وطاب.

أما الذي انفلت هنا، وأعرض عن القيد الرباني، وعبد شهوته، يعيش على مزاجه وهواه.. هذا خاسر حقاً، ينام كما يشاء، ويأكل ما يشاء، وينكح ما يشاء، ويتصرف كما يشاء، وليس لله عليه أمر ولا نهي، لا يعرف لله أمراً، ولا يتقيد ولا يقف لله عند نهي، ولكن سوف يقبض عليه عند الموت، فالناس عند الموت رجلان: رجل مطلق ومفكوك من القيد وداخل الجنة وهو المؤمن.

ورجل موثوق مقبوض عليه ومدخل إلى النار وهو الفاجر والعياذ بالله! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة تقول له: (يا أيتها النفس الخبيثة -كانت في الجسد الخبيث- اخرجي إلى سخط من الله وغضب) ويقول الله: كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:11-13] وقبلها يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ [القيامة:10] أين المفر؟ ما لك مفر من الله؛ لأن الله يمنعك من كل شيء ولا يمنعك من الله شيء.

وجدير بالعاقل -كما قلت لكم- إذا أنعم الله عليه بنعمة الإيمان أن يصبر عليها ولو أن فيها معاناة؛ لأن زماننا هذا، زمن المشقة في المحافظة على الدين (يأتي على الناس زمان يكون فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر) الذي يقبض على الجمرة لا يضحك، ولا ينام، الذي يقبض على الجمر تتقطع يداه، تراه يبكي، يتلوى، لكن لا يفكها أبداً، لا يفك دينه، ولو تقطع، ولو حرق، ولو تفتت لا يمكن أبداً .. لماذا؟ لقد ذاق طعم الإيمان، والحديث في الصحيحين: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان منها وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وفي مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).

ولكن نرى ونلمس ونلاحظ ضعفاً وتراخياً وفتوراً، بل تراجعاً وانهزاماً، بل رأينا سقوطاً وردة في صفوف قوم ساروا على الطريق ثم ما رابطوا، وما صبروا ولا صابروا، وما اتقوا الله حتى يفلحوا، وإنما رأوا المسافة بعيدة، وهم ضعاف، والعقبة كئود، وهم هزال، والثمن غال وهم بخلاء، فرجعوا عن طريق الله وباعوا أنفسهم للشيطان، صعب عليهم الصعود في عقبات الإيمان، وسهل عليهم التردي في دركات الكفر والنفاق والمعاصي والشهوات والملذات، ولكن غاب عن أذهانهم عاقبة تلك وعاقبة تلك، عاقبة الصعود: الجنة، وعاقبة الهبوط: النار قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] زكاها: رفعها إلى فوق وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10] أنزلها إلى تحت، النزول سهل والطلوع صعب، لكن تالية الطلوع عزة، ترون الآن الذي يدرس ست سنوات ابتدائي وست سنوات ثانوي، وثلاث أو أربع جامعة، وبعدها ماجستير، وبعدها دكتوراه، وبعدها يتعب ويعاني لكن تراه وقد صار في منصب، وفي مرتبة عالية ومكانة سامقة.

وذاك الذي ترك الدراسة من أول ابتدائي عندما دخل وضربوه قال: والله ليس لي حاجة في هذه الدروس، أريد أن أبقى مع أهلي، وهذا مسكين جلس يعاني من آلام الجهل والذل إلى أن يموت .. فالمؤمن يصبر، يصبر على المر والذي أمر منه حتى يلقى الله، وذاك الذي نزل وما صبر سوف يلعق المرارة، يلعقها في النار؛ لأنه ما صبر على طاعة بسيطة، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة برجل من أقل أهل النار عذاباً من له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ويعيش في ضحضاح من النار -وهو أبو طالب - ولا يرى أن في النار أشد عذاباً منه) وفعلاً يا أخي! والله ما نتحمل كوب الشاي الحار، والله ما نتحمل حرارة الجو إلا بمكيف، ما نتحمل حرارة أي شيء، لأننا ضعفاء، إن أجسامكم على النار لا تقوى قال: (فيؤتى بالرجل فيقال له: أتود أن تفتدي مما أنت فيه من العذاب بملء الأرض ذهباً؟ قال: نعم يا رب) لو أن له مثل الأرض وملء الأرض بجبالها وصحاريها وعماراتها ذهباً أحمر لو كان له ذلك لفدى بها نفسه من النار. (قال الله عز وجل له: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وتطيعني ولا تعصيني) فهل هذا أسهل أو ملء الأرض ذهباً؟ إن طاعة الله أسهل، لكن يحرم المخذول من هذا العمل والعياذ بالله فيندم ندامة ليس بعدها ندامة.

يسير كثير من الناس في الطريق، ثم يتساقطون ويتراجعون ويضعفون، وخوفاً من أن يكون هذا الضعف موتاً فسنتحدث عن هذا الموضوع وقد سبقنا إليه كثير من أهل العلم، فقد تحدث عنه شيخ الإسلام ابن تيمية كظاهرة مرضية يتعرض لها المسلم، وتكلم عنه الشيخ ابن القيم رحمه الله في مجمع كتبه، وتكلم عنه في هذا الزمن اثنان من العلماء الأول: الدكتور محمد بن نوح في كتاب له اسمه: (آفات على الطريق ) والشيخ الآخر هو عالم من الكويت اسمه الشيخ جاسم بن مهلهل في كتاب له اسمه: (الفتور صوره وأسبابه وعلاجه ) وقد أجادا في عرض الموضوع، وقد اقتبست بعض العناصر من هذين الكتابين ومن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ، وأضفت عليها ما فتح الله به عليَّ؛ من أجل التحذير والتنبيه لإخواننا المؤمنين المسلمين الذين فتح الله قلوبهم وشرح صدورهم ونور أبصارهم، ودلهم على الطريق، فعليهم أن يتمسكوا بالطريق ولا يرجعوا ولا يتراخوا ولا يضعفوا ولا يتركوا التمسك بالطريق حتى يقفوا عند باب الجنة، ويقال لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] هناك يقولون: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

إن اختياري لهذا الموضوع نابع من حديث في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه).

هذا كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمونه صاحب الوضوح والكلمة الصادقة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأمنه على السر، وهذا الرجل هو الذي جاء بالخبر أيام ليلة الأحزاب، لما تحزب المشركون قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم) فسكتوا جميعاً؛ لأن الضعف البشري ينتاب كل إنسان، والظروف التي كانت تحيط بالصحابة تلك الليلة ظروف صعبة لا تتحملها الجبال: خوف، وفقر، وبرد، ومطر، ورياح عاتية، وجوع، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم وله الجنة) فلم يقم أحد، وهم كلهم يريدون الجنة لكنهم لا يستطيعون القيام، فقواهم انتهت، وإمكانياتهم البشرية تعطلت، لا يستطيع أحد أن يقوم، يقول: (فكررها فما قام أحد، فقال: قم يا حذيفة ) اختار الرسول لهذه المهمة الصعبة حذيفة ، يقول: (والله لو لا أنه نص علي ما قمت) لكن قد قال: قم، ما بقي لي إلا أن أقوم. يقول: (فقمت، فدعا لي، قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه يقول: فأذهب الله ما بي من الجوع، وأذهب الله ما بي من البرد، وأذهب الله ما بي من الخوف، فذهبت) والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف الرجال ويعرف من يختار (يقول: فجئت، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهم وأتني بخبرهم ولا تحدث شيئاً، فذهبت في الليل، ودخلت في صفوف المشركين، ولما دخلت لاحت لي فرصة لقتل أبي سفيان ولكن تذكرت قول الرسول: لا تحدث شيئاً فما فعلت شيئاً، فلما جلسنا قام أبو سفيان وألقى خطبة فيهم وقال: ليعرف كل صاحبه فإن المجالس مدخولة). يقول لهم: كل منكم ينظر من بجانبه، من هو، لئلا يكون هناك غريب يسمع كلامنا، ويأخذ أخبارنا، فماذا صنع حذيفة؟ قال للذي بجانبه: من أنت؟ من أجل ألا يقول له ذلك: من أنت؟ قال: (أتغدى به قبل أن يتعشاني) انظروا كيف الذكاء، فقام أبو سفيان وخطب فيهم وقال: هلك الخف والكراع والحافر. الخف: يعني الإبل، والكراع: يعني الغنم، والحافر: يعني الخيول، يقول: والرياح عاتية، والقدور مقلوبة، والأمطار شديدة، والخلخلة قد حصلت بعدما تخلى اليهود وتخلى بعض القبائل عنهم، ما أرى إلا أن نرحل، فأشار عليهم بهذا الرأي فوافقوا ورحلوا، ورجع حذيفة بن اليمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليخبره بخبر رحيلهم وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25] قال الله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:26].

هذا حذيفة يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. فقلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال: فاعتزل تلك الفرق كلها لو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) من هذا الحديث ومن سؤال حذيفة عن الشر نتكلم عن هذا من أجل الذي في نفسه ضعف يقوي نفسه، ومن كان قوياً فأسأل الله أن يقويه حتى يلقى الله.

الضعف أيها الإخوة! والهزال -الهزال الديني- داء ومرض خطير جداً على المسلم؛ لأنه يخشى عليه أن يموت من ورائه؛ يموت إيمانه، وإذا تساهل به ولم يسع إلى علاجه أدى به إلى الانتكاس والانحراف والضلال، ومن الضروري أن يحرص المسلم على الثبات؛ لأنه مهم أن تهتدي ولكن أهم من الهداية أن تثبت..لماذا؟ لأنك كلما سرت في طريق الإيمان شرح الله صدرك ونور بصيرتك، وحبب إليك الإيمان، وزينه في قلبك، وجعلك من الراشدين، وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، واكتسبت خبرة وتجربة في طريق الإيمان، فكيف يجوز لك أن ترجع عن الطريق؟ هذا خطأ، فكلما مشى الإنسان في طريق زادت رغبته فيه، أما رجوعك هذا فهو معارض للمعقول، فليس معقولاً أن ترجع وقد ذقت طعم الإيمان وسرت في طريق الإيمان.

يقول الله عز وجل وهو يأمر المؤمن بالثبات والأمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عام للأمة كلها: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] ويخبر الله عز وجل أن عباده يقولون: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] هذه دعوتهم، و(رحمة): يعني ثبات إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما أثر عنه في السنن : (يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك وعلى دينك).

وكان يقول في دعائه -وهو في السنن أيضاً-: (اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك).

وفي الترمذي حديث حسن يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله. قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه إلى عمل صالح ثم يقبضه عليه) هذا معنى استعماله، أن الله يسددك على الدين، ثم يثبتك عليه حتى تموت وأنت على العمل الصالح؛ لأن العبرة بالخواتيم.

ولما مرض عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -مرض الموت- بكى رضي الله عنه، قيل له: [ما يبكيك؟ قال: والله ما أبكي إلا أن الموت قد أتاني على فترة وكنت أود أن يأتيني في حال اجتهاد] قال: جاءني وأنا متعب وكنت أود أنه جاءني يوم أنا في أحسن درجات الإيمان وأحسن درجات الجد والاجتهاد والجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، لكن نود أن يفهم الناس شيئاً وهو: أنه من الطبيعي في حياة البشر أن يحصل ضعف، ويحصل نوع من الكسل والفتور؛ لأن الإنسان لا يبقى على درجة واحدة، فالإنسان جهاز عجيب فما هو مكينة تضبطه على معيار واحد .. لا. وما سمي الإنسان إنساناً إلا لنسيانه، ولا القلب إلا أنه يتقلب، وإن هذه القلوب لها إقبال ولها إدبار، وصعود وهبوط، ومد وجزر، تقوى وتضعف .. هذه حالات القلوب.

ولهذا جاء في الحديث -والحديث في مسند أحمد - يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة) كل عمل تسير فيه له قوة، وحرارة، ورغبة، فأنت عندما تبدأ في الوظيفة تبدأ بنشاط ولكن بعد شهرين أو ثلاثة يضعف ذلك النشاط.

إذا اشتريت سيارة فإنك تحبها، وكل يوم وأنت تنظر إليها، وتمسحها في الغداة والعشي، وبعضهم ينفخ المفتاح قبل أن يدخله في المغلقة، من أجل ألا يكون عليه غبار، وينظفها، ولكن بعد شهرين أو ثلاثة تكون وسخة؛ لأنه ليس لديه وقت ليمسحها.

وإذا تزوج شخص لا تسأله عن أيام الزواج، لكن بعد أسبوع أو أسبوعين إذ بالمشاكل قائمة .. فكل عمل في الدنيا له شرة، وله حدة، وله قوة (ولكل شرة فترة) وهذا حديث في مسند أحمد (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) يعني: هناك مستوى أدنى، السنة المستوى الأدنى فيها، والسنة المستوى الأعلى فيها وأنت بين المستويين تصعد إلى المستوى الأعلى في السنة، وإياك أن تطلع، لأنك إذا طلعت قفزت من المستوى الأعلى في الدين، وتنزل إلى المستوى الأدنى في السنة، ولكن لا تنزل، فإذا نزلت خرجت من الدين، وأن تتراوح حينما تنشط وتأتي بالفرائض، وتأتي بالرواتب، وتأتي بالنوافل، وتأتي بقيام الليل، تأتي بركعتي الضحى، وإذا ضعفت مرة تخليت عن ركعتي الظهر، وإذا ضعفت مرة كسلت عن قيام الليل، لكن لا يمكن أن تترك الرواتب ولا الفرائض؛ لأنها آخر خطوط الدفاع عندك، آخر خط للدفاع عندك الفريضة والراتبة، بعدها انتبه! إذا تركت الفريضة والراتبة كفرت، وإذا تركت الراتبة ضعفت وهزلت؛ لأنه من ترك الراتبة فإنه يوشك أن يترك الفريضة، فكثير من الناس الآن يصلي الفرائض ثم يخرج .. ماذا بك؟ قال: يا شيخ! قد صليت المكتوبات. حسناً وهذه من الذي سنها؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال: (عليكم بسنتي) إن هذه هي خط الدفاع من أجل أن تأتي يوم القيامة إذا حوسبت ونقصت فرائضك قال الله: انظروا هل لعبدي من نوافل، هل تضمن أنك صليت العشاء أربع ركعات وما وسوست فيها لحظة واحدة؟ لا. فقد لا يحسب لك إلا ركعة واحدة وثلاث ركعات في الخلاء، ويمكن أن لك اثنتين واثنتين في البيت، فاجعل لك رواتب، فأنت إذا نزلت في مستوى فإنك لا تغادر هذا المستوى إلى النزول إذ ليس من المعقول أن تكون فترتك إلى غير ذلك.

روى مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسيدي -هذا كاتب الوحي، غير حنظلة بن عامر الأسدي غسيل الملائكة، شهيد يوم أحد .

أما هذا فاسمه حنظلة بن الربيع الأسيدي ، وهو كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في مسلم - يقول: خرجت يوماً فلقيت أبا بكر الصديق فقلت له: يا أبا بكر! نافق حنظلة ، نافق حنظلة ، قال: وما ذاك؟ قال: نكون مع رسول الله يحدثنا بالجنة والنار حتى لكأننا نراها رأي العين، فإذا خرجنا منه عاسفنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنكون على وضع آخر غير الوضع الأول! فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -وكان عنده إيمان مثل الجبال ما قال: إنك معقد .. لا- قال: وأنا والله مثلك، هيا إلى رسول الله، فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبراه قال: (يا حنظلة! لو أنكم تبقون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة ) يعني: يرتفع إيمانك إلى أعلى درجات؛ لأن تكون من الملائكة بحيث تصافحك الملائكة في الطرقات، وينزل إلى أن تكون محافظاً على الطاعات، محافظاً على الفرائض، لكن مبتعداً عن المعاصي وعن الكبائر والمنكرات .. هذا معنى الضعف والتراخي البسيط الذي هو من طبيعة البشر.

قد تنشط في الصوم فتصوم أياماً، لكن تأتي عليك فترة من الفترات فتقول: والله ما استطعت أن أصوم، لكن الفريضة لا تتركها، قد تنشط في النفقات والزكاة والإخراج والإعطاء، لكن يأتي يوم من الأيام ليست عندك شيء فلا تنفقه، ولكن لا يمكن أن تترك الزكاة إذا كان عندك نصابها وتحققت عندك شروطها.

فقد تنشط في قراءة القرآن فتقرأ في كل يوم عشرة أجزاء، بعد كل فريضة جزئين، وفي اليوم الواحد عشرة أجزاء، يعني في الثلاثة أيام تختم القرآن، لكن يأتيك شغل، ويأتيك ضعف، وسيأتيك فتور فتقرأ في كل يوم جزءاً واحداً، بمعنى أنك في الحد الأدنى؛ لأن الذي لا يختم في كل يوم جزءاً هاجر للقرآن الكريم، أريد من إخواننا أن يعلموا هذا المستوى، لا بد أن تختم في كل يوم جزءاً بمعنى أنك تختم القرآن في كل شهر مرة؛ لأنه من مرت عليه ثلاثون ليلة وما ختم فيها كتاب الله فهو هاجر لكتاب الله عز وجل، وهذا ليس صعباً، بل هو سهل جداً تأخذه في ثلث ساعة أو في نصف ساعة مع التدبر والتأمل والتجويد، لكن الشيطان يضيع أوقاتنا -والعياذ بالله- حتى نخرج من أربع وعشرين ساعة وما قرأنا فيها جزءاً من كتاب الله عز وجل ثم نقول: لم تقسوا قلوبنا؟ تقسوا قلوبنا لأننا أعرضنا عن مادتها وحياتها وعن سبب لينها وهو كتاب الله تبارك وتعالى.

لعل سائلاً يسأل ويقول: ما مظاهر الضعف؟ نريد أشكاله؟ كيف أعرف أنني ضعيف أو لا؟

مظاهره كثيرة من ضمن ذلك:-

سوء الترتيب في أولويات العمل في الدين

من مظاهر الضعف: سوء الترتيب في أولويات العمل في الدين، فترى الواحد يتحرز تحرزاً كبيراً من النجاسة، ولكنه لا يتحرز من الغيبة والنميمة والبهتان، إذا شعر بأن جزئية بسيطة من النجاسة في ثوبه جاءه قلق وهذا طيب، لكن تراه يجلس في المجلس من حين يجلس إلى أن يقوم وهو يغتاب ويأكل ويبهت وخصوصاً في العلماء؛ فبعض طلبة العلم هداهم الله مجالسهم مشرحة فيها لحوم العلماء، وهذا من أكبر الأخطاء على من ينال من العلماء؛ لأن العالم أو الداعية بشر يمكن أن يخطئ والخطأ يرد عليه، ولكن إذا أخطأ بعد اجتهاد فله أجر، وإذا أصاب بعد اجتهاد فله أجران، ولكن أنت يوم أن أردت أن تشرح لحمه وأن تأكل عرضه حصل عليك الإثم؛ لأن لحوم العلماء مسمومة، ودماؤهم مصونة، وعادة الله في الذين ينالون منهم معلومة.

فأنت عندما لا تتحرز من البسيط ثم تقع في الكبير، هذا يدل على ضعف في إيمانك، هذه ظاهرة تدل على أن عندك ضعفاً، إذ لو أن عندك قوة في دينك وإيمانك ما تحرزت من الصغير ووقعت في الكبير، بل حرصت على عدم الوقوع في الكبير أولاً والصغير ثانياً.

وتراه يكثر من الصدقة لكن أمواله في البنوك..في الربا، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، يقول الناظم:

أمطعمة الأيتام من كسب فرجها     لك الويل لا تزني ولا تتصدقي

أمواله حرام ويبني مسجداً .. أمواله حرام ويتصدق على الفقراء والمساكين.

يا أخي: الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ريال حلال تنفقه والله إنه أعظم عند الله من مليون حرام؛ لأن الله يقبل منك الريال الحلال ويربيه كما يربي أحدنا فلوة حتى يكون كالجبل.

وأما الحرام فإن الله يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

أيضاً: تجده يتصدق ولكن لا يبالي بتحليل لقمة العيش في عمله الوظيفي، يجيء الساعة التاسعة والنصف ويخرج الساعة الواحدة، يضيع ساعتين من الدوام في أولها وساعة ونصف في آخر الدوام.. ماذا بك؟ قال: ما عندي عمل!! هذا مسكين، هذا أكل راتباً حراماً، فلابد أن تحضر في أول دقيقة وتنصرف في آخر دقيقة إذا كنت تخاف الله، ولا تتذرع بأنه ما عندك عمل، فإن هذه الوظيفة مرابطة إن كان عندك عمل فاعمل، وإن كان ليس عندك عمل فاستعد للعمل، أما أن تتذرع بأنه ليس عندك عمل لا. فأنت مستأجر سبع ساعات، أجير عند الدولة، تأخذ راتبها في آخر الشهر، إلا إذا كنت تتأخر وتأتي آخر الشهر تحسب ساعات العمل وتقول: هذه لي والباقي لكم. لكن من الذي يعملها الآن؟؟ لو خصموا عليه عشرة ريالات أرغى وأزبد وأقام الدنيا وأقعدها، لكن كل يوم يخصم ساعتين أو ثلاث من الدوام ويضيعها من مصالح المسلمين، والذي ترونه الآن من تراكم المعاملات وضياع حقوق الناس كلها بسبب عدم قيام الموظفين بالدوام الرسمي، والله لو أن الموظفين يحضرون أول الدوام وينصرفون آخره، ما تتأخر معاملة عند شخص يوماً واحداً، لكن بعض المعاملات تقعد في مكتب الموظف أسبوعاً أو شهراً أو شهرين .. لماذا؟ لأنه يأتي متأخراً، وبعدما يأتي يقول: هات الشاي يا ولد، ثم يأتون إليه بالفطور نصف ساعة فطور وكلام! وبعدها يقرأ الجرائد وبعدها قال: أذن الظهر، وخرج يصلي، وبعد صلاة الظهر يأتي المراجعون قال: يا جماعة بعد الظهر ماذا تريدوني أن أعمل؟ أنا مكينة؟! أنا تعبت يا جماعة، تعالوا غداً، ويؤخر معاملات الناس، لكن لو جاء مبكراً هل يظل جالساً إلى أن يأتيه النوم؟ لا. أنا أعرف بعض الموظفين الطيبين يعملون سبع ساعات تماماً، سبعة ونص وهو على الطاولة يقول: والله إني أفرح بالمراجع إذا جاء، وأفرح بالسكرتير عندما يأتيني بالمعاملات، وأفرح بالكاتب الوارد عندما يحضر المعاملات، لماذا؟ يقول: من أجل أن أتسلى على الأقل، فأقرؤها من أساسها، أقرأ الورقة الأولى والثانية والشروحات ودورة المعاملة وأخرج بنتيجة وأعطيه إجراء ولا تعود عليَّ، لكن ذاك الذي يمررها لا يقرأ آخر كلمة ويقول: لإجراء اللازم. وبعض الموظفين يكون مسئولاً أو مديراً أو رئيس قسم يقول للسكرتير: اشرحها من عندك، واعطني أوقع فيها، والله ما درس فيها ولا شيء .. لماذا هذا؟ لأنه ما صرف وقت دوامه في خدمة المسلمين وبالتالي ترتب على هذا أكله للحرام، وتراه ينفق ويتصدق..وهذا من ضعف دينه، إذ لو أن في دينه صلابة وقوة لحرص على أن تكون لقمة عيشه حلالاً.

وأيضاً ترى بعض الناس يتهجد طوال الليل لكن ينام عن صلاة الفجر، يقوم مثلاً الساعة الثالثة والنصف أو الرابعة ويصلي، فإذا بقي على الفجر نصف ساعة جاءه الشيطان قال: باقي نصف ساعة نم قليلاً، ونام ومنها إلى الساعة السادسة والنصف أو السابعة .. هذا مسكين والله لو صلى الدهر كله وما صلى الفجر في المسجد فما له من عمله إلا الخيبة؛ لأن صلاة الفجر في المسجد علامة الإيمان، وعدم الصلاة للفجر في المسجد علامة النفاق والحديث في الصحيحين تعرفونه: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاتي العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) وتراه يبالغ في رفع ثوبه وتقصيره ولكن لا يهتم بنظافة عينه، ثوبه قصير لكن عينه خربة ينظر إلى النساء، هذا أيضاً هزيل في دينه، إذا رأى امرأة نظر إليها ويعرف أن الله عز وجل يراه.

وتراه يبالغ في تسريح لحيته وتنظيفها ولا يهتم بتنظيف قلبه من الحقد والحسد والغيظ والغضب والأمراض الخطيرة التي تحرق الدين والإيمان، يغضب على فلان، ويحسد فلاناً ويسب فلاناً.

يا أخي! اللحية هذه مظهر من مظاهر الرجولة وسنة من سنن النبوة لكنها يتبعها أشياء أخرى، يتبعها أشياء في القلب، فإذا تممت باطنك بصلاح ظاهرك كان أفضل، لكن إذا كان الظاهر صالحاً والباطن سيئاً -والعياذ بالله- هذا يدل على أنه ما عرف الحقيقة، وأنه هزيل في إيمانه، وضعيف في دينه؛ وبالتالي يخشى عليه إذ لا تغني عنه هذه المظاهر شيئاً.

ومثل هؤلاء مثل إخوة يوسف عليه السلام لما رجعوا بعدما رموا أخاهم يوسف في الجب رجعوا إلى مصر ، وكانت تمر إبلهم في المزارع، والمزارع من هنا ومن هنا، وعندهم دقة لا يريدون الجمل أن يأكل من المزرعة فكانوا يكممون أفواه الإبل -نسميها فدامة- وهي قطعة من الخيش من أجل ألا يأكل.. لماذا؟ قال: حرام يأكل من هذا! وقذف يوسف في الجب حرام أم حلال؟! ومثل بعض الذين قتلوا الحسين كانوا يسألون ويستفتون عن حكم دم البعوضة ولا يستفتون عن حكم دم الحسين وإراقته..هذا من سوء الترتيب في العمل الإسلامي.

الجدل والمراء والتعصب للرأي

أيضاً: من صوره: الحوار والجدل والمراء والنقاش والتعصب، إذا وجدت إنساناً وهو جالس في مجلس من المجالس وهو طالب علم وجالس يتحفز إذا تكلم كأنه يضارب، ما بقي إلا أن يأخذ العصا ويضرب به فاعلم أنه مسكين ضعيف..لماذا؟ لأن الحوار والنقاش إذا كان لله فإنه يكون -أولاً- بحثاً عن الحق لا انتصاراً للنفس؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى الناس بها إذا وجدها، إذا ضاع عليك بعير ولقيه شخص لك ماذا تقول له؟ تقول له: جزاك الله خيراً أو تقول له: مالك ولبعيري؟ كان عليك أن تتركه.

شخص تباحثت أنت وهو فجاء الحق على لسانه ماذا تقول؟ تقول: جزاك الله خيراً، إنني أبحث والله عن الحق وما دام أنك وجدته قبلي الله يجزيك الخير، أنا أبحث عن الحق، والحق ضالتي، أنا أبحث عنها. لكن إذا كان النقاش لغير الله تولدت الحساسات، وتولدت الخصومات، وتحفز الواحد، وانتفخت أوداجه، وبرزت عيونه، وارتفع صوته وقام، وما بقي إلا أن يضارب، تقول له: بالدليل يقول: لا. هذه الآية الكريمة معناها كذا. هذا الحديث. قال: ما هو بصحيح، قال العلماء فيه غير ذلك؛ لأن هدفه الانتصار لنفسه لا الانتصار للحق.

وما موقفك أنت من هذا؟ إذا وجدت مجلساً مثل هذا فقم، وقل السلام عليكم، يقول المسلم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55] وبعد ذلك: هناك ثواب لك، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا كفيل ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً) والمجادلة يقول الله فيها: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ويقول: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] بالتي هي أفضل ليس بالمضاربة، والشافعي يقول: ما ناقشني عالم إلا غلبته، ولا ناقشني جاهل إلا غلبني. قالوا: كيف؟ قال: العالم يناقشني بالدليل فأغلبه بالدليل، والجاهل يناقشني بالصميل وما عندي صميل؛ لأن ذلك لا يريد أن يغلبك غصباً .. فهذا من أسباب الضعف أن ترى الحوارات، وإذا رأيت واحداً ما بقي إلا أن يفتري على الله أوقفه؛ لأن الله عز وجل نهى عن سب آلهة الكفار رغم أن سبها طاعة لله، لكن حتى لا يسب الكفار إله النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] فأنت لا توصلها مع هذا إلى درجة تجعله يمكن أن يكفر فيرد آية أو حديثاً، وإنما قل: شكراً، جزاك الله خيراً وأنت على حق، ونسأل الله أن يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، وقم.

الترف العلمي

من مظاهر الضعف الديني: المراء والجدل العقيم والترف العلمي، فما هو الترف العلمي؟ أن يملأ الإنسان مجلسه بالأشياء التي لا تنفعه، شخص يسأل ويقول: هل الملائكة ترى الله؟ قلت: يا أخي! ليس هذا من شأنك ترى الله أو ما ترى الله، هل تتعبد إلى الله بهذا؟! شخص من الناس سألني قال: هل خلقت الجبال قبل الأرض أو الأرض قبل الجبال؟ قلت: كم أركان الإسلام؟ قال: لا أدري؟ قلت: اسألني هذا السؤال يا أخي! أما الجبال قبل أو الأرض كلها من آيات الله، والله تعالى لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فهذا من الترف العلمي: أن يخوض الناس في قضايا لا تنفعهم، يسمونه العلم الفضلة، الذي العلم يكون به لا ينفع والجهل به لا يضر، لماذا تتعلمه؟ تعلم ما ينفعك في دينك وآخرتك إذا كنت من أهل الإيمان القوي إن شاء الله.

التجاوز والتبذير في المباحات

أيضاً: من مظاهر الضعف: الإسراف والإغراق والتجاوز والتبذير في المباحات، فلا يكفيه ثوب بستين ريالاً، لابد من ثوب بثلاثمائة، ولا يكفيه (كوت) يأخذه من البالات بخمسة عشر أو بعشرين بل يريد (كوتاً) بأربعمائة..لماذا؟ قال: تفصيل!! وبدل أن يأخذ أحذية بخمسة وعشرين أو بثلاثين يأخذ أحذية بأربعمائة.. لماذا؟ قال: هذا لماع. لا يا أخي! يجب أن تتواضع وأن تكون معتدلاً، لا نقول لك أن تلبس كيساً .. بل البس ثوباً أبيض، والبس غترة حسنة، والبس ملابس طيبة لكن كن معتدلاً، والزيادة التي عندك صرفها وأرسلها إلى إخوانك الذين يموتون جوعاً.

تذكر الصحف اليوم أن المجاهدين في شمال أفغانستان يبيعون أسلحتهم ليشتروا طعاماً لأبنائهم، ونحن نرمي الطعام في الزبالات، الله أكبر..!

تموت الأسد في الغابات جوعاً     ولحم الضأن تأكله الكلاب

الكلاب الآن لا تأكل الرز إلا مطبوخاً ولا تقول شكراً لا نريد، الكلاب شبعت والأسود في غابات الأفغان تموت جوعاً ويبيع الواحد سلاحه من أجل ألا تموت زوجته وأطفاله .. أين نحن -أيها الإخوان- من إخواننا؟! ألا إنا لله وإنا إليه راجعون..! هنا وهناك عليكم بالتبرع والمساهمة لإخواننا -أيها الإخوة- لا نغفل عن إخواننا؛ لأننا إن غفلنا برهنا على أننا لسنا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى (المؤمن للمؤمن كالبيان يشد بعضه بعضاً) كيف -يا أخي- تنام، وكيف تشبع، وكيف يضيمك بطنك من الأكل، وأخوك يموت من الجوع ويبيع سلاحه من أجل أن يعشي ابنته أو ولده؟! هناك مائتا طفل يموتون يومياً من الجوع! ونحن نموت من الشبع، تفقعت بطوننا! لا إله إلا الله.. فالإسراف والإغراق في المباحات كلها مظاهر بعض الناس اليوم يهتم بشكله ويمكث أمام المرآة ساعة، يتزين ويجمل نفسه. يا أخي!! والله لو تمكث تتزين فإن جمالك ليس هو بهذا الشكل، جمالك في مروءتك وفي دينك وقوتك ويقينك وزهدك وورعك، أنتم ترون بعض العلماء الآن مثل الشيخ عبد العزيز بن باز -الله يمتعنا بحياته- لا يهتم بشكله، ثوبه قد رأيتموه، وغترته، وبشته، لكن ما رأيكم فيه؟ لا أحد يراه إلا يمتلئ قلبه حباً في الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأن المظهر ليس كل شيء، وعلى الإنسان أن يهتم بمظهره ولكن في حدود المعقول، بحيث لا يصبح المظهر شغله الشاغل، فلا تسرف ولا تكثر ولا تغرق في المباحات.

قسوة القلب وتحجره

أيضاً من مظاهر الضعف والتراخي: قسوة القلب وتحجره، وعدم تأثره بالقرآن، وعدم تأثره بالموت، وعدم زيارته للقبور..هذا ضعف من القلب، يقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].

وعلامة لين القلب أو قسوته الطاعات، فالذي يقوم بالطاعات ويترك المعاصي هذا قلبه لين، والذي قلبه متحجر يؤثر تحجر قلبه في الطاعات فلا يأتي بها، ويؤثر تحجر قلبه في المعاصي فيمارسها.

عدم الجدية في تلقي أمر الله

أيضاً من مظاهر الضعف والتراخي: عدم الجدية في تلقي أمر الله، فينهار إيمانه ويتآكل .. لماذا؟ لا يأخذ الأمر بجدية، فيسمع المؤذن ويقوم يصلي، لكن ليس جدياً أن هذا أمر الله، وأن هذه فريضة الله ويقوم بسرعة، يسمع أن العادة السرية حرام بأدلة من الكتاب والسنة لكن ما هو جدي في رفضها وإنما تجده مرة يترك ومرة يقع، ما عنده قوة، يسمع أن النظر إلى المحرمات حرام ولكنه ينظر، يسمع أن الأغاني حرام ولكن يحاول أن يسمع، ما هو جدي، إذ يجب أن تأخذ الدين بقوة؛ لأن الله يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] هذا دين ثمنه الجنة، وليس بلعب، لا تأخذه وأنت تمشي وتعرج..لا، بل خذه بقوة، يقول الله: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ [الأعراف:145] يجب أن تبادر إلى ترك ما هو حرام .. مثل الأغاني فتقول: لا أسمعها، ولا أنظر إلى ما حرم الله، وسأبادر إلى الصلاة في المسجد .. هذا معنى القوة في الدين، لكن الضعف والتذبذب والتراخي هذا يجعلك ترتج، والمرجوج دائماً سهل أنك ترمي به، وإذا جئت إلى شخص ثابت فإنك تراه ثابتاً، والشيطان واقف لك بالمرصاد، فإن رآك ثابتاً رجع، وإن رآك متذبذباً جعلك تسقط وإذا بك في جهنم ولا حول ولا قوة إلا بالله!

هذه بعض مظاهر الضعف.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2930 استماع
كيف تنال محبة الله؟ 2929 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2805 استماع
أمن وإيمان 2678 استماع
حال الناس في القبور 2676 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2605 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2572 استماع
النهر الجاري 2478 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2468 استماع
مرحباً شهر الصيام 2403 استماع