خطب ومحاضرات
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الأحبة: هذا الموضوع هو عن دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو موضوع هام؛ لأنه يتناول شريحة من شرائح المجتمع تملك إمكانات وقدرات لو سخرتها التسخير الشرعي الصحيح لحقق الله عز وجل على يديها الخير الكثير والنصر المبين لهذا الدين العظيم.
وقبل أن أبدأ بطرح هذا الموضوع أود أن أعطي فكرة عما يغيب عن أذهان الناس في هذا الزمان في معظم بقاع الأرض عن الغاية والهدف الذي من أجله خلقهم الله سبحانه وتعالى، وفي ظل غياب هذه الأهداف فقد الإنسان قيمته، وأصبح يعيش حياة بدون معنى؛ لأنه لا يدري لماذا يعيش، وحينما تضيع هذه الأهداف أيضاً يستغرق الإنسان في متع الحياة ولذائذها وشهواتها، ويقضي عمره ولم يشبع من هذه الشهوات.
لقد ظن قوم أن الهدف هو المتاع فتنافسوا عليه، وسقطوا بهذه الاهتمامات من كرامتهم التي أرادها الله عز وجل لهم، إذ أن من يعيش وهمه الشهوات إنما يعيش بعقليات البهائم التي لا هم لها إلا هذه الأمور، ولذا فالكفار مهما بلغوا من التقدم والرقي المادي إلا أن اهتماماتهم هي اهتمامات البهائم، يقول الله عز وجل فيهم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ [محمد:12] ويقول عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] ليتهم مثل الإنعام لكنهم أضل من البهائم والأنعام؛ لأن تفكيرهم مثل تفكير البهائم، أي إنسان منهم تسأله: لماذا تعيش ؟ فسيقول: لآكل، لأشرب، لأتمتع.
إن البهائم لو استطعنا الآن أن نتكلم معها وقلنا: ما هي اهتماماتها؟ ما هي آمالها في الحياة؟ لوجدنا نفس الاهتمامات مع فرق نوعي.
أي أن الإنسان باعتبار أنه إنسان عنده عقل وتفكير وقدرة على الإبداع والاختراع والإيجاد استطاع أن يطور نفسه، بحيث يسكن في ناطحات السحاب، ويسبح في الفضاء، ويطوع المادة لخدمة نفس الأهداف التي تهدف إليها البهائم.
وخسر الإنسان -حقيقةً- قيمته وكرامته التي أرادها الله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] بماذا كرمه الله؟ بهذا الدين العظيم.
وظن آخرون أن الله عز وجل خلق هذه الحياة عبثاً، وقد أبطل الله سبحانه وتعالى هذا الظن، وكذَّب هذا الزعم، وقال في كتابه الكريم: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116] تعالى الله عن العبث! لا إله إلا هو! ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] يعني: عبثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] يعني: عابثين لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18].
ثم إن الناظر والمتأمل في الكون وسماواته وأرضه وشمسه وقمره ونجومه وكواكبه وبحره وبره وأنهاره وأشجاره وما بث الله فيه من المخلوقات، ما فيها من الدقة والتدبير والحكمة والتقدير من أصغر جزء في المادة وهو الذرة إلى أعظم جزء في الدنيا وهي المجرة يشهد أنها خلقت كلها لحكمة.
إذاً: ما هي الحكمة التي خلق الله الناس من أجلها؟ وهل بإمكان الناس أن يعرفوها من عند أنفسهم؟ لا. مهما كان ذكاء الإنسان، ومهما كانت عبقريته لا يستطيع أن يعرف لماذا خلق.. لماذا؟ لأنه لم يخلق باختياره وإنما جيء به، لو أنه جاء باختياره لعرف لماذا جاء، لكن يجاء به من غير اختيار، لا يدري من الذي جاء به، وهل أُخذ رأيك -أيها الإنسان- يوم خُلقت، وهل أنت جئت باختيارك؟ لا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ [الإنسان:2] لماذا خلقك؟ أنت لا تعرف! فمن الذي يعرف؟ الذي خلقك، فاسأل الله لماذا خلقك؟
وأنا جئتكم الآن من مكة باختياري، ولذا لو سألني أحد في الطريق: إلى أين؟ لقلت: إني ذاهب إلى جدة، إلى الغرفة التجارية، لدرس أو محاضرة. لكن لو أنني خرجت من بيتي ووقفت عندي سيارة، ونزل منها رجال مسلحون متنكرون، وأداروا أكتافي ووضعوا القيد في يدي ورجلي، ووضعوني في سيارتهم، وذهبوا بي إلى الصحراء أو الجبال ورموني في حفرة أو كوخ، ويأتي شخص ويسألني: لماذا أنت هنا؟ ماذا أقول له؟ أقول له: لا أدري. لأني أُخذت، وكذلك أنت أيها الإنسان! لماذا جئت؟ لا تدري!
عبادة الله هي الحكمة من خلق الإنس والجن
فالأنبياء والرسل كل رسالاتهم تبين لماذا خلقك الله، يقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ويقول عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] والحصر بين (ما) و(إلا) يفيد أن الغرض هو العبادة فقط، ما خلَقَنا الله لنأكل ونشرب ونتوظف ونبني ونتزوج.. بل لنعبد الله فقط، ولا يعني هذا أننا لا نأكل ولا نشرب ولا نتزوج أو نتوظف.. لا، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وندرس ونتوظف ونبني ونسكن لنعبد الله، كل هذه إنما هي وظائف جانبية أو هامشية مساعدة تُسخر لخدمة الغرض الأساسي وهو العبادة، لكن -وللأسف الشديد- انشغل الناس بالأهداف المساعدة عن الهدف الأساسي الذي من أجله خلق الله الإنسان.
وأذكر أنني كنت قبل سنوات مسافراً من أبها إلى مكة عبر طريق الساحل، ثم وقفت أتزود بالوقود من إحدى المحطات، وبينما أنا أقف وإذ بي أحس بالسيارة ترقص! فنظرت فإذا تسجيلات غنائية ينبعث منها موسيقى غربية يسمونها (الديسكو) عبر سماعات من أضخم ما يكون ترج الأرض رجاً، وإذا بسيارتي ترقص وأنا أرقص، فأطفأت السيارة ونزلت وقصدته، فلما رآني خفض صوت الموسيقى، وأنا أرى الأشرطة تتراقص على الرفوف من قوة الصوت، فلما دخلت سلمت عليه ورد علي، قلت له: يا أخي! يقول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا [الذاريات:56] وسكتُّ! فقال: لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] قلت: أأنت متأكد؟ قال: نعم. قلت: إلا ليعبدون أو إلا ليلعبون؟ قال: أستغفر الله يا شيخ! إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. قلت: أسألك بالله لو كان هكذا كما تفعل أنت يكون إلا ليعبدون أو يلعبون؟ فسكت. قلت: أخبرني؟ قال: لا والله -يا شيخ- يلعبون. قلت: ليتك تلعب بمفردك، إنك تلعب وتجعل الأمة تلعب، ما من شريط يباع من دكانك هذا إلا وعليك إثمه إلى يوم القيامة، إن الله خلق الناس للعبادة وأنتم جعلتموهم يلعبون ولا يعبدون الله. قال: حسناً، وماذا أصنع يا شيخ؟ قلت: يا أخي غيِّر هذا النشاط، مجالات الرزق كثيرة، أما وجدت إلا هذا المجال الخبيث الذي يضر دينك وعقيدتك، تصرف الناس عن الله، وتقطع الطريق بين العباد وبين خالقهم، وتنشر الباطل؟! قال: إن شاء الله. وذهبت وتركته.
ومرت سنوات وأتيت في مناسبة أخرى، وتعمدت أن أقف عند تلك المحطة لأرى أتلك البذرة نفعت أو لم تنفع؟ ووقفت ونزلت إلى الدكان، وإذا ببقالة وإذا بالرجل نفسه، فسلمت عليه، ولم يعرفني، قلت: يا أخي الكريم! يقول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا [الذريات:56] وسكتُّ! قال: هو أنت؟ قلت: هو أنا، ويقبل عليَّ ويسلم عليَّ، ويقول: جزاك الله خيراً يا شيخ! والله من ذلك اليوم ما بعت شريطاً واحداً، وقد خلف الله علي برزق وبركة وأمن وراحة في قلبي، من قبل كنا -والله- بالفعل نطرب ونسمع الأغاني ونكسب، لكن هنا شيء مثل النار في قلبي لست راضياً عنه -يعرف أن هذا العمل سيء وأنه سوف يُسأل عنه إذا مات- لكن الآن قلبي مستريح مطمئن، لا أبيع إلا الحلال ولا أمشي إلا في حلال. قلتُ: الحمد لله.
شمولية العبادة لجزئيات الحياة
هذا المفهوم للعبادة حملته الرسل، ولا تأتي أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، قال عز وجل: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] وقال: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] وقال: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] هؤلاء الرسل يُرسلون إلى الأمم، وكلما انقرضت رسالة وخلت الأرض من الهدى بعث الله رسولاً بنفس المبدأ والمنهج، المنهج واحد: وهو دعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتوحيده، وإن اختلفت الشرائع من رسالة إلى رسالة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الرسالة واحدة وهي التوحيد، والشرائع مختلفة لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] إلى أن ختم الله عز وجل الرسالات برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وليس بعده نبي، قال: رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ومن ضمن عقيدة المسلم أن يؤمن بأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد أن هناك نبياً يبعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لأنه كَذَّب ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
أيها الإخوة! لقد كانت وظيفة الأنبياء والرسل من أولهم إلى آخرهم بيان الحكمة التي من أجلها خلق الله الناس، ما جاء نبي يدعو الناس إلى الإيمان بوجود الله؛ فإن وجود الله مما استقر في فِطَرِ الناس، فقد فَطَرَ الله الناس على الإيمان بوجوده، يقول الله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] إن الله حينما خلق الإنسان فطره على الإيمان به، ولهذا (كل مولود يولد على الفطرة) فطرة الإسلام، لكن المسخ والتغيير يأتي من المؤثرات، وعَبَّر الحديث بقوله: (فأبواه) لأن التأثير الأكبر إنما هو للأبوين، لكن اليوم لم يعد الأبوان فقط، بل الأبوان وشياطين كثر يؤثرون في حياة الناس.
فالأنبياء والرسل كل رسالاتهم تبين لماذا خلقك الله، يقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ويقول عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] والحصر بين (ما) و(إلا) يفيد أن الغرض هو العبادة فقط، ما خلَقَنا الله لنأكل ونشرب ونتوظف ونبني ونتزوج.. بل لنعبد الله فقط، ولا يعني هذا أننا لا نأكل ولا نشرب ولا نتزوج أو نتوظف.. لا، نحن نأكل ونشرب ونتزوج وندرس ونتوظف ونبني ونسكن لنعبد الله، كل هذه إنما هي وظائف جانبية أو هامشية مساعدة تُسخر لخدمة الغرض الأساسي وهو العبادة، لكن -وللأسف الشديد- انشغل الناس بالأهداف المساعدة عن الهدف الأساسي الذي من أجله خلق الله الإنسان.
وأذكر أنني كنت قبل سنوات مسافراً من أبها إلى مكة عبر طريق الساحل، ثم وقفت أتزود بالوقود من إحدى المحطات، وبينما أنا أقف وإذ بي أحس بالسيارة ترقص! فنظرت فإذا تسجيلات غنائية ينبعث منها موسيقى غربية يسمونها (الديسكو) عبر سماعات من أضخم ما يكون ترج الأرض رجاً، وإذا بسيارتي ترقص وأنا أرقص، فأطفأت السيارة ونزلت وقصدته، فلما رآني خفض صوت الموسيقى، وأنا أرى الأشرطة تتراقص على الرفوف من قوة الصوت، فلما دخلت سلمت عليه ورد علي، قلت له: يا أخي! يقول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا [الذاريات:56] وسكتُّ! فقال: لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] قلت: أأنت متأكد؟ قال: نعم. قلت: إلا ليعبدون أو إلا ليلعبون؟ قال: أستغفر الله يا شيخ! إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. قلت: أسألك بالله لو كان هكذا كما تفعل أنت يكون إلا ليعبدون أو يلعبون؟ فسكت. قلت: أخبرني؟ قال: لا والله -يا شيخ- يلعبون. قلت: ليتك تلعب بمفردك، إنك تلعب وتجعل الأمة تلعب، ما من شريط يباع من دكانك هذا إلا وعليك إثمه إلى يوم القيامة، إن الله خلق الناس للعبادة وأنتم جعلتموهم يلعبون ولا يعبدون الله. قال: حسناً، وماذا أصنع يا شيخ؟ قلت: يا أخي غيِّر هذا النشاط، مجالات الرزق كثيرة، أما وجدت إلا هذا المجال الخبيث الذي يضر دينك وعقيدتك، تصرف الناس عن الله، وتقطع الطريق بين العباد وبين خالقهم، وتنشر الباطل؟! قال: إن شاء الله. وذهبت وتركته.
ومرت سنوات وأتيت في مناسبة أخرى، وتعمدت أن أقف عند تلك المحطة لأرى أتلك البذرة نفعت أو لم تنفع؟ ووقفت ونزلت إلى الدكان، وإذا ببقالة وإذا بالرجل نفسه، فسلمت عليه، ولم يعرفني، قلت: يا أخي الكريم! يقول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا [الذريات:56] وسكتُّ! قال: هو أنت؟ قلت: هو أنا، ويقبل عليَّ ويسلم عليَّ، ويقول: جزاك الله خيراً يا شيخ! والله من ذلك اليوم ما بعت شريطاً واحداً، وقد خلف الله علي برزق وبركة وأمن وراحة في قلبي، من قبل كنا -والله- بالفعل نطرب ونسمع الأغاني ونكسب، لكن هنا شيء مثل النار في قلبي لست راضياً عنه -يعرف أن هذا العمل سيء وأنه سوف يُسأل عنه إذا مات- لكن الآن قلبي مستريح مطمئن، لا أبيع إلا الحلال ولا أمشي إلا في حلال. قلتُ: الحمد لله.
تأمل لم خلق الله الناس؟ أليس للعبادة؟ بلى، ولكن بمفهومها الشرعي الواسع الشامل الذي ينظم كل جزئية من جزئيات حياتك، ليست العبادة -أيها الإخوة- محصورة فيما يفهمه الناس أنها الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، هذه أركان العبادة وأسس الدين، لكن العبادة كما يعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية : (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة). أفعالك تتحول كلها عبادات، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الأذى عن الطريق صدقة -وإن كان عمل البلدية!- وجعل تبسمك في وجه أخيك صدقة، بل أعظم من هذا، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في يوم من الأيام: (وفي بضع أحدكم صدقة) فتعجب الصحابة! كانوا يظنون أن الصدقات تكون في الجهاد والإنفاق في سبيل الله، كيف يأتي الرجل زوجته ويكون له بذلك أجر من الله عز وجل؟! قالوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال : أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). هذا الدين عظيم يتيح لك الفرصة للدخول على الله من كل ميدان.
هذا المفهوم للعبادة حملته الرسل، ولا تأتي أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، قال عز وجل: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] وقال: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] وقال: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165] هؤلاء الرسل يُرسلون إلى الأمم، وكلما انقرضت رسالة وخلت الأرض من الهدى بعث الله رسولاً بنفس المبدأ والمنهج، المنهج واحد: وهو دعوة الناس إلى عبادة الله وحده وتوحيده، وإن اختلفت الشرائع من رسالة إلى رسالة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الرسالة واحدة وهي التوحيد، والشرائع مختلفة لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48] إلى أن ختم الله عز وجل الرسالات برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وليس بعده نبي، قال: رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] ومن ضمن عقيدة المسلم أن يؤمن بأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد أن هناك نبياً يبعث بعد محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لأنه كَذَّب ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
كان الأنبياء عليهم السلام يدعون إلى دين الله، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فهو خاتم الأنبياء وبعد ذلك أتاه الموت، كما قال الله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ... [الأنبياء:34-35] هل بقاء الدين واستمراريته مرهون ببقاء النبي صلى الله عليه وسلم؟ لو كان ذلك لما اختاره الله إلى جواره ولما مات؛ من أجل أن يستمر الدين، لكن الله قضى أن يموت محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تبقى الرسالة إلى يوم القيامة.
والأجيال التي تأتي من يدعوها إلى الله؟ لم يعد هناك رسول يُبعث، والرسول الخاتم مات، فلم يجعل الله سبحانه وتعالى مسئولية الدعوة في هذه الأمة على الرسول فقط وإنما عليه وعلى كل من تبعه إلى يوم القيامة، قال الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا [يوسف:108] أنا وحدي فقط، لا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] إذاً ليس لك خيار في المسألة، ما دمت اتبعت الرسول فيلزمك أن تكون داعية شئت أم أبيت، ولم يكن أحد -أيها الإخوة- من الصحابة يفهم أن بإمكانه أن يعيش مسلماً دون أن يكون داعية إلى الله.
بل كان الرجل منهم يسْلم ويأخذ حديثاً أو حديثين أو آية أو آيتين ويرجع مباشرةً إلى قومه داعية، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان هناك مجموعة من الجن من وادي نصيبين في اليمن فمروا فصرفهم الله عز وجل لحضور القرآن وسماعه، وذكر الله القصة في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف:29] دعاة من أول ليلة يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] لماذا؟ حتى يستمر هذا الدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك دعوة مضادة يقوم بها اليهود والنصارى لمسخ الإسلام وعودة الناس إلى الكفر، كما قال الله عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى [البقرة:120] و(لن) هنا: الأبدية وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] ليس حتى تترك دينك فقط. لا. هم سيجعلونك تخرج من دينك كخطوة أولى، والخطوة الثانية هي أن تصير مثلهم، ويقول عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] فالدعوة المضادة مستمرة من اليهود والنصارى وأعداء الدين والملل، وأبناء الإسلام لا يدعون، إذاً كيف يبقى هذا الدين؟
حتى يبقى هذا الدين باعتباره الدين الذي أراده الله، ولأنه ليس هناك دين غير الإسلام قال جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] .. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]؛ جعل الله سبحانه وتعالى مسئولية هذا الدين على كل مسلم.
أولويات في الدعوة إلى الله
ففي ظل الاتحاد السوفيتي المنهار والذي مارست فيه الشيوعية صنوفاً متعددة من القمع في سبيل إبعاد الناس عن عقيدتهم، فسدت الشيوعية وانهارت وبقي الإسلام في صدور أولئك الرجال، وما استطاعت أن تسيطر عليهم أو تمنعهم من الإسلام.. لماذا؟ لأنه عقيدة.
هذه مسئوليتك: أن تدعو نفسك إلى الله، لا تدعو الناس كلهم، أولاً ادعُ نفسك فقط، ولو أن المسلمين دعوا إلى الله بهذا القدر فقط لعم الخير، أي: لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله؛ لما احتجنا إلى كل هذه الجهود التي تبذل الآن في دعوة المسلمين ولوفرناها لدعوة غير المسلمين. إن العلماء والدعاة والعاملين في الدعوة يركزون الآن جهودهم كلها لدعوة المسلمين.. لماذا؟ لأنهم يقولون: إن المسلمين الآن يخرجون من الدين، أنت عندما تكون طبيباً وتجد شخصاً ميتاً وآخر مريضاً، من تعالج المريض أو الميت؟ تعالج المريض؛ لأن الآخر ميت، فالأمة الإسلامية الآن فيها مرض، ولهذا الدعاة كلهم متوجهون لاستعادة الحياة فيها.
لقد ضاع الجهد وصرف في المسلمين على حساب دعوة غير المسلمين، لكن لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله، وأقامها على صراط الله المستقيم، وألزمها عقيدة صافية، وعبادة خالصة، وسلوكاً مستقيماً، وتعاملاً سليماً، وحياة طاهرة نظيفة في نفسه، ثم انتقل بهذا الدين الذي حمله إلى أسرته ومحيطه الضيق، هل يوجد أحد يستطيع أن يقول: لا أستطيع أن أربي زوجتي على الدين؟ من الذي يدخل معك في بيتك ويقول لك: لا تقل لها: صلِّ؟! هذه مسئوليتك، ثم انتقل إلى أولادك وبناتك وأقم أسرة مسلمة، فإذا نشأ مع الأسرة المسلمة مسلم ومسلمة، وتكوّن المجتمع المسلم من اللبنات التي هي الأسر الصالحة، ومع هذا المجتمع مجتمع ثانٍ، وانتصر الدين، وظهر دين الله في الأرض، فإذا رأى الكفار الإسلام ممثلاً في حياة الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، لكن حينما يتخلى الإنسان عن هذه المسئولية ويقول: هذا ليس عملي، هذا على الدعاة والمشايخ، أما أنا فليس عليَّ شيء. حتى نفسك ألا تدعوها؟ فكيف تكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى؟!!
لذا -أيها الإخوة- لا بد من الإحساس والشعور بهذه المسئولية؛ لأن الدعوة وظيفة هذه الأمة، والدعوة مسئوليتنا، والسائل لنا هو الله، والإجابة عنها صعبة، والنتيجة: إما إلى الجنة وإما إلى النار.
استغلال الأموال في الدعوة إلى الله
لقد مارس سلفنا وسلفكم التجار هذا، ونصر الله بهم الدين، وتعرفون الأمثلة:
خديجة رضي الله عنها سخرت أموالها لخدمة الدعوة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضي الله عنه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال كمال
عثمان رضي الله عنه تاجر الصحابة في غزوة العسرة، جاءت تجارته من الشام بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، محملة بالسمن والدقيق، في زمن مجاعة، وكانت الأرض مثل الرماد، وسمي ذلك العام بعام الرمادة، انحبس المطر حتى أصبحت الأرض مثل الرماد، ولا يوجد هناك إلا ما يأتي من السماء، والناس في شدة وضيق، ولما جاءت القافلة بثلاثمائة بعير قام التجار كلهم في المدينة من أجل أن يكسبوا، فأعطوه في الدينار ديناراً -أي: مكسب (100%)- قال: أُعطيتُ أكثر. فأعطي ديناران في الدينار -أي: (200%)- قال: أُعطيتُ أكثر. ويعرفون أنه صادق لا يكذب، ليس مثل بعض التجار يقول: أُعطيتُ أكثر. وهو كاذب، إذا قال هذا الكلام وجاءه ربح أكثر بناءً على كلمته فدخله حرام (100%)؛ لأن ذاك صدقه! مثلاً: يقال للبائع: السيارة هذه بكم؟ قال: أُعطيتُ فيها ثلاثين ألفاً. ولم يعطَ ذلك المبلغ، إذاً لماذا تريد أن تزيد في السعر، ليعطيك فرقاً فيعطيك واحداً وثلاثين ألفاً، لأنك افترضت ثلاثين كذباً، إذاً هذا الدخل حرام.
أما عثمان فصادق - ذو النورين الذي تستحي منه الملائكة رضي الله عنه وأرضاه- قال: أعطيت أكثر. حتى وصلت إلى خمسة -أي: (500%)- قال: أُعطيتُ أكثر. فاجتمع التجار كلهم، قالوا: من الذي أعطاه؟ نحن كلنا تجار المدينة، هل هناك أحد جاء من السماء؟ لا يوجد إلا نحن، والرجل لا يكذب، ثم جاءوا إليه وقالوا: قد تشاورنا ولم نجد أحداً أعطاك أكثر مما أعطيناك، فمن أعطاك؟ قال: أعطاني الله، أعطاني في الدينار عشرة دنانير إلى أضعاف كثيرة، قال: هي في سبيل الله. فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة بعير محملة قال فيه: (ما ضر
أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه لما سمع قول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] قال: [ربنا يستقرضنا؟ قال: اقرأ بقية الآية فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]] الله غني، لا يستقرض منك لأنه فقير، لكن من أجل أن يزيد ويضاعف لك الأجر.
وأبو طلحة لما نزل قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قال: يا رسول الله أحب مالي بيرحاء -وهو بستان في المدينة - أشهدك أنها لله عز وجل، قال: (بخٍ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح!).
وهكذا استمرت -أيها الإخوة- أيادي الدعوة والخير تنتقل، بل دخل دين الإسلام عن طريق التجار إلى دول مثل: إندونيسيا، وماليزيا، وتايلاند، وسنغافورة، فهذه البلاد فيها مئات الملايين من المسلمين، لم تفتح بلادهم عنوة ولا بالسيف وإنما بالتجار المسلمين الذين كانوا يحملون هَمَّ الدعوة، انتقلوا بالتجارة ومعهم الإسلام فدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، دعوا إلى الله بألسنتهم وبفعلهم وتطبيقهم، فدخلت تلك الدول في دين الله.
أيها الإخوة! كلنا سنسأل عن التوحيد وقضايا الإيمان؛ وهذا الدين هل بلغنا؟ وماذا عملنا له؟ لأنه مسئوليتنا، من نتوقع أن يقوم بهذا الدور غيرنا؟ وليس معنى هذا أن يكون الداعية خطيباً على المنابر فحسب .. لا، فالدعوة لها أساليب وطرق ومجالات كثيرة، منها ما لا يعذر فيه الإنسان: وهي دعوة الإنسان لنفسه إلى الله، هل يُعذر أحد في هذا؟ هل يقول: أنا لا أقدر أن أدعو نفسي إلى الله؟ لا.
ففي ظل الاتحاد السوفيتي المنهار والذي مارست فيه الشيوعية صنوفاً متعددة من القمع في سبيل إبعاد الناس عن عقيدتهم، فسدت الشيوعية وانهارت وبقي الإسلام في صدور أولئك الرجال، وما استطاعت أن تسيطر عليهم أو تمنعهم من الإسلام.. لماذا؟ لأنه عقيدة.
هذه مسئوليتك: أن تدعو نفسك إلى الله، لا تدعو الناس كلهم، أولاً ادعُ نفسك فقط، ولو أن المسلمين دعوا إلى الله بهذا القدر فقط لعم الخير، أي: لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله؛ لما احتجنا إلى كل هذه الجهود التي تبذل الآن في دعوة المسلمين ولوفرناها لدعوة غير المسلمين. إن العلماء والدعاة والعاملين في الدعوة يركزون الآن جهودهم كلها لدعوة المسلمين.. لماذا؟ لأنهم يقولون: إن المسلمين الآن يخرجون من الدين، أنت عندما تكون طبيباً وتجد شخصاً ميتاً وآخر مريضاً، من تعالج المريض أو الميت؟ تعالج المريض؛ لأن الآخر ميت، فالأمة الإسلامية الآن فيها مرض، ولهذا الدعاة كلهم متوجهون لاستعادة الحياة فيها.
لقد ضاع الجهد وصرف في المسلمين على حساب دعوة غير المسلمين، لكن لو أن كل مسلم دعا نفسه إلى الله، وأقامها على صراط الله المستقيم، وألزمها عقيدة صافية، وعبادة خالصة، وسلوكاً مستقيماً، وتعاملاً سليماً، وحياة طاهرة نظيفة في نفسه، ثم انتقل بهذا الدين الذي حمله إلى أسرته ومحيطه الضيق، هل يوجد أحد يستطيع أن يقول: لا أستطيع أن أربي زوجتي على الدين؟ من الذي يدخل معك في بيتك ويقول لك: لا تقل لها: صلِّ؟! هذه مسئوليتك، ثم انتقل إلى أولادك وبناتك وأقم أسرة مسلمة، فإذا نشأ مع الأسرة المسلمة مسلم ومسلمة، وتكوّن المجتمع المسلم من اللبنات التي هي الأسر الصالحة، ومع هذا المجتمع مجتمع ثانٍ، وانتصر الدين، وظهر دين الله في الأرض، فإذا رأى الكفار الإسلام ممثلاً في حياة الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، لكن حينما يتخلى الإنسان عن هذه المسئولية ويقول: هذا ليس عملي، هذا على الدعاة والمشايخ، أما أنا فليس عليَّ شيء. حتى نفسك ألا تدعوها؟ فكيف تكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى؟!!
لذا -أيها الإخوة- لا بد من الإحساس والشعور بهذه المسئولية؛ لأن الدعوة وظيفة هذه الأمة، والدعوة مسئوليتنا، والسائل لنا هو الله، والإجابة عنها صعبة، والنتيجة: إما إلى الجنة وإما إلى النار.
هذه الدعوة -أيها الإخوة- يجب أن يمارسها المسلم من خلال وضعه الذي يعيشه، فالطبيب والمهندس والضابط والموظف والمرأة والمزارع بإمكانهم أن يكونوا دعاة إلى الله، لكن أبرز الناس قدرة على الدعوة إلى الله بالمال هو التاجر وذلك لأن عنده إمكانية.
لقد مارس سلفنا وسلفكم التجار هذا، ونصر الله بهم الدين، وتعرفون الأمثلة:
خديجة رضي الله عنها سخرت أموالها لخدمة الدعوة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضي الله عنه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال كمال
عثمان رضي الله عنه تاجر الصحابة في غزوة العسرة، جاءت تجارته من الشام بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، محملة بالسمن والدقيق، في زمن مجاعة، وكانت الأرض مثل الرماد، وسمي ذلك العام بعام الرمادة، انحبس المطر حتى أصبحت الأرض مثل الرماد، ولا يوجد هناك إلا ما يأتي من السماء، والناس في شدة وضيق، ولما جاءت القافلة بثلاثمائة بعير قام التجار كلهم في المدينة من أجل أن يكسبوا، فأعطوه في الدينار ديناراً -أي: مكسب (100%)- قال: أُعطيتُ أكثر. فأعطي ديناران في الدينار -أي: (200%)- قال: أُعطيتُ أكثر. ويعرفون أنه صادق لا يكذب، ليس مثل بعض التجار يقول: أُعطيتُ أكثر. وهو كاذب، إذا قال هذا الكلام وجاءه ربح أكثر بناءً على كلمته فدخله حرام (100%)؛ لأن ذاك صدقه! مثلاً: يقال للبائع: السيارة هذه بكم؟ قال: أُعطيتُ فيها ثلاثين ألفاً. ولم يعطَ ذلك المبلغ، إذاً لماذا تريد أن تزيد في السعر، ليعطيك فرقاً فيعطيك واحداً وثلاثين ألفاً، لأنك افترضت ثلاثين كذباً، إذاً هذا الدخل حرام.
أما عثمان فصادق - ذو النورين الذي تستحي منه الملائكة رضي الله عنه وأرضاه- قال: أعطيت أكثر. حتى وصلت إلى خمسة -أي: (500%)- قال: أُعطيتُ أكثر. فاجتمع التجار كلهم، قالوا: من الذي أعطاه؟ نحن كلنا تجار المدينة، هل هناك أحد جاء من السماء؟ لا يوجد إلا نحن، والرجل لا يكذب، ثم جاءوا إليه وقالوا: قد تشاورنا ولم نجد أحداً أعطاك أكثر مما أعطيناك، فمن أعطاك؟ قال: أعطاني الله، أعطاني في الدينار عشرة دنانير إلى أضعاف كثيرة، قال: هي في سبيل الله. فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة بعير محملة قال فيه: (ما ضر
أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه لما سمع قول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة:245] قال: [ربنا يستقرضنا؟ قال: اقرأ بقية الآية فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]] الله غني، لا يستقرض منك لأنه فقير، لكن من أجل أن يزيد ويضاعف لك الأجر.
وأبو طلحة لما نزل قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قال: يا رسول الله أحب مالي بيرحاء -وهو بستان في المدينة - أشهدك أنها لله عز وجل، قال: (بخٍ! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح! ذاك مال رابح!).
وهكذا استمرت -أيها الإخوة- أيادي الدعوة والخير تنتقل، بل دخل دين الإسلام عن طريق التجار إلى دول مثل: إندونيسيا، وماليزيا، وتايلاند، وسنغافورة، فهذه البلاد فيها مئات الملايين من المسلمين، لم تفتح بلادهم عنوة ولا بالسيف وإنما بالتجار المسلمين الذين كانوا يحملون هَمَّ الدعوة، انتقلوا بالتجارة ومعهم الإسلام فدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، دعوا إلى الله بألسنتهم وبفعلهم وتطبيقهم، فدخلت تلك الدول في دين الله.
أيها الإخوة: بالإمكان أن يمارس رجال الأعمال في هذا الزمان نفس الدور الذي مارسه أسلافهم في الزمان الأول، وأن يصدروا هذا الدين للعالم كله يوم أن يحملوا هَمَّ هذا الدين؛ وحتى يقوموا بهذا الدور لا بد من مراعاة بعض الأمور:
الشعور بالمسئولية
وهذا يحصل إذا بدأ الإنسان يفكر فيه ، لكن إذا لم تحصل عنده فكرة أصلاً أنه مسئول عن الدين كيف يهتم؟!
التخطيط السليم
نحن نعرف -والحمد لله- أن التجار الأثرياء يقومون بجهود طيبة خيرية، لكن معظمها إغاثي، أو عمل خيري في بناء مساجد، أو مساعدات في الملاجئ أو في أي شيء، لكن هذا كله ليس كالعمل الدعوي؛ لأنه صدقة جارية! أنت إذا عملت عملاً ينقطع أجره ليس كعملٍ يجري أجره دائماً، والذي يجري دائماً هو الدعوة؛ ففي الحديث المتفق عليه يقول عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعَم) فإذا سخرت مالك لدعوة غير المسلمين وأسلم واحدٌ منهم بسببك هذا في ميزانك يوم القيامة، تبعث يوم القيامة مبعث الأنبياء، لأنه جاء في الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) فإذا جئت وأنت معك واحد أسلم على يديك بمالك تُبعث مبعث الأنبياء، وتكون سلسلة من الخير مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنت في قبرك والحسنات تأتيك، خصوصاً إذا أوقفت شيئاً من مالك للعمل الدعوي؛ لأن هذا التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا اختزنت شيئاً من مالك كعمارة أو كأرض كبيرة توقفها ليكون دخلها وريعها للدعوة إلى الله تكون أنت في قبرك والملايين من الحسنات تأتيك، وإلى متى؟ إلى أبد الآبدين.
هذا الأمان الرابح، وهذا العمل العظيم يأتي عن طريق التخطيط والاستشارة للجهات التي تهتم بهذا الجانب والتي سوف نذكرها إن شاء الله.
التهيئة النفسية للاهتمام بقضايا الدعوة
استغلال الطاقات البشرية عن طريق الأموال
استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
كيف تنال محبة الله؟ | 2929 استماع |
اتق المحارم تكن أعبد الناس | 2927 استماع |
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً | 2805 استماع |
أمن وإيمان | 2677 استماع |
حال الناس في القبور | 2676 استماع |
توجيهات للمرأة المسلمة | 2604 استماع |
فرصة الرجوع إلى الله | 2572 استماع |
النهر الجاري | 2476 استماع |
مرحباً شهر الصيام | 2402 استماع |
الشباب والرجولة | 2364 استماع |