اتق المحارم تكن أعبد الناس


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الأحبة في الله! هذه الظواهر الكونية المبثوثة في الآفاق والأنفس من ليل ونهار، وشمس وقمر، وسماء وأرض، وجبال وبحار، وإنسان وحيوان، وجماد ونبات.. على ماذا تدل؟ وماذا تعني؟

ما تفسيرها؟ وما حقيقتها؟ وما سر وجودها؟

لماذا جاءت أو خلقت؟ وأين النهاية بعد أن يؤدي الإنسان دوره على مسرحها؟

أيها الإخوة في الله! لا تفسير لظاهرة الحياة إلا أحد تفسيرين، ولا احتمال لمعناها إلا أحد احتمالين:

الاحتمال الأول: أن تكون هذه الحياة إنما خلقت عبثاً؛ ليس لها غاية، وليس من ورائها حكمة، وإنما هكذا وجدت، وهكذا وجد الإنسان نفسه يعيش كما تعيش البهائم، وينتهي كما تنتهي البهائم، ثم بعد الحياة ليس هناك حياة أخرى. هذا هو الاحتمال الأول.

الاحتمال الثاني: أن تكون لهذه الحياة أسرار، ويكون لها أهداف وحكمة، أي: لم تخلق عبثاً، وإنما لحكمة أرادها خالقها.

فأي الاحتمالين هو الصحيح؟

نحن لا نريد إجابة منبعثة من العاطفة، وإنما نريد إجابة مدعمة بالدليل النقلي الشرعي، وبالدليل العقلي الفكري؛ لأن من يناقش أو ربما يسأل لا يؤمن إلا بمنطقه وعقله، فلنأخذ كل احتمال ونناقشه لنرى مدى صحته أو بطلانه.

الاحتمال الأول: أن هذه الدنيا وهذه الحياة إنما خلقت عبثاً: وللأسف الشديد أن هذا الاحتمال يسير عليه ويتبناه معظم سكان الأرض في هذه الأزمنة، من العقلاء والكبار والمفكرين، يفسرون الحياة على أنها ليس لها هدف، وبعضهم يغالط نفسه فلا يفسر هذا التفسير بلسانه، ولكن واقعه وتطبيق حياته وأسلوب معيشته يدل على أنه لا يؤمن إلا بهذه الحياة، وأنه ليس له هدف بعد هذه الحياة.

وهذا الاحتمال باطل بالدليل الشرعي والنظر العقلي.

الأدلة الشرعية على أن الحياة لحكمة

أما الدليل الشرعي: فيقول عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] أفحسبتم؟ استفهام في صيغة الاستنكار، أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً؟! ومعنى هذا: أن الله ما خلقكم عبثاً أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] تعالى الله وتنزه وتقدس عن العبث! أيخلق هذه السماوات وما فيها من إحكام وتنظيم، ويخلق الكون بما فيه من تنظيم وتقدير وتدبير عبثاً من غير غاية ولا هدف؟! تعالى الله عن العبث.

ويقول عز وجل في آية أخرى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] أي: عبثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] فهذا الزعم أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً؛ لأنه زعم الكفار، فويل للذين كفروا من النار.

ومن الذي يقول هذه الكلمة؟ إنه الله! ويل لهم من هذه المقولة، فإنهم يصفون الله بالباطل، ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] أي: عبثاً لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18] تهديد آخر بالويل لهؤلاء الذين يصفون الله بأنه خلق السماوات والأرض عبثاً.

نعم. ثبت بالدليل الشرعي أن الله ما خلق السماوات والأرض والكون عبثاً، وإنما خلقها لحكمة.

الأدلة العقلية على أن الحياة لحكمة

ثم نأتي بالنظر العقلي فنجد ونشاهد ونلمس أن الإحكام والدقة والتنظيم والتقدير والتدبير يشمل الكون من أصغر جزء في المادة وهي الذرة إلى أعظم جزء في المادة وهي المجرة! كل شيء بتنظيم! وكل شيء محكم: ليل ونهار، أفلاك وشموس، أقمار وأنجم، أزهار وأشجار، أنهار وبحار، كل ما في الكون يشهد من أصغر جزء فيه إلى أكبر جزء بأن له خالقاً:

وفي كل شيء له آية     تدل على أنه الواحد

أولاً: هل يعقل أن يكون هذا التنظيم كله عبثاً وصدفة؟ وكما يقولون: قانون الصدفة: قانون يعمل ولكن في حدود.

يقول أحد العقلاء: لو أن رجلاً على سطح بيت وضع تحت السطح لوحاً خشبياً، وقذف من يده بمائة إبرة خياطة، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر على رأسها، ألا يمكن أن يحصل هذا؟ نعم يحصل بالصدفة، ثم بعد ذلك أتى بألف إبرة ثانية ورماها مرة ثانية على هذا اللوح الخشبي، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر الألف في خرق الإبرة الواقفة تلك، هذا ممكن وصدفة، ولكن متى؟ قالوا: إذا قذف عشرة ملايين إبرة يمكن أن تأتي واحدة في خرق تلك الإبرة التي وقفت سابقاً، قالوا: ثم جاء ورمى بعد ذلك بألفين، وجاءت واحدة ووقعت في خرق الإبرة الثانية الواقفة تلك، قالوا: هذا مستحيل، مستحيل أن تصل المسألة إلى هذا الكلام، الصدفة لها حدود، وغير مطردة!

ومثال آخر: حروف المطبعة التي تصف في المطابع، طبعاً يأتي الذي يصف الحروف فيأتي ويضع (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء والسين والميم ولفظ الجلالة من أجل أن يطبعها بعد ذلك، ويدخلها في القالب وتنطبع، فلو جاء آخر وقال: أنا سأعمل كتاباً، وأتى بالحروف من غير صف بل خبطها وأدخلها المطبعة، وأصبحت لوحة مكتوبة، يقول: يمكن أن يأتي مع الصدفة كلمة مكونة من أربعة حروف! يمكن أن تأتي كملة: سعيد، صدفة يأتي السين مع العين والياء والدال، لكن هل ممكن أن يأتي سعيد بن مسفر بالصدفة في هذه الحروف؟ قالوا: مستحيل، حسناً.. يأتي سعيد بن مسفر بن مفرح القحطاني ؟ قالوا: هذا لا يمكن.

حسناً.. هل يمكن أن تطبع لك المطبعة بهذا الصف الفوضوي العشوائي صفحةً مطبوعةً بموضوع معين، وبرقم معين، وبأفكار متسلسلة، وبتنظيم معين، هل يمكن هذا؟ طبعاً مستحيل!!

ثانياً: هذا الكون البديع وهذا التنظيم المتقن، ولا نذهب بعيداً بل الإنسان نفسه، يقول الله عز وجل فيه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] الذي خلقك وقدرك وأعطاك هذه الهيئة وهذا القدر من الإحكام والتنظيم في كل جزئية من جزئياتك، أيكون هذا الخلق عبثاً وصدفة؟ لا. هذا الرأس لوحده الذي جعله الله عز وجل قمة الجسد وركب فيه جميع الحواس: العينان في المقدمة، والأذنان في الجانبين، والأنف والفم في وسط الوجه، فالعينان تفرزان مادة ملحية، والأذنان مادة صمغية مُرَّة، والأنف تفرز مادة مخاطية، والفم يفرز مادة لعابية، من ملّح هذه، وأمرّ هذه وحلى هذه؟ والمصدر واحد؟!! ولماذا هذا ملح وهذا مر وهذا حلو؟

الملح؛ لأن العين شحمة ولو لم يوجد الملح لتعفنت ولظهر فيها الدود! وهذه الأذن جعل الله فيها مرارة؛ لأنها مفتوحة، ولو لم تكن هذه المادة الصمغية المرة موجودة لدخلت فيها الحشرات وأنت نائم، فقد تأتي الصراصير والجرذان والقمل وتملأ مسامعك، لكن الله جعل هذه المادة حتى تهرب أي حشرة تقترب من أذنك، وهذا الفم جعل الله فيه غدداً لعابية تفرز هذا اللعاب الذي هو أحلى من العسل! من حلَّاه؟ ثم لماذا يفرز هذه المادة؟ من أجل المساعدة على عملية تحضير الطعام وتجهيزه للجسم، ثم خلق الله في هذا الفم ورشة مصغرة لتجهيز الطعام، ومكونة من عدة آلات: آلات تقطع وأخرى تخرق وتطحن؛ الثنايا تقطع، والأنياب تخرق، والأضراس تطحن، وجعل الله فوق الضرس ضرساً وفوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، وبعد ذلك قدم الفك من أجل أن يقطع مثل المقص؛ لا بد أن يركب في الآخر؛ لأنه لو كان فوق بعض ما قطع، وجعل بين الأسنان جهازاً مثل (الكريك) يقلب الطعام وهو اللسان، وبعد ذلك يجهز الطعام ثم يمضغ ثم ينزل.

فيستقبل هذا الطعام قناة اسمها المريء: والمريء يوصل إلى المعدة، وبجانب هذه القناة قناة أخرى اسمها البلعوم.

المريء قناة عضلية، والبلعوم قناة غضروفية مفتوحة باستمرار؛ لأنها تقوم بإيصال الهواء إلى الرئتين، أما تلك فتوصل الطعام إلى المعدة فهي عضلية تسمح بنزول الطعام ولا تسمح بخروجه؛ من حين أن تنزل اللقمة تقوم تلك العضلة بعصرها إلى أن تنزلها إلى المعدة، ولولا وجود هذه العضلة لاحتجت مع كل لقمة إلى سيخ من حديد حتى تصل إلى بطنك، وإلا فمن سيقوم بإنزالها؟!

وبين الماسورتين: ماسورة المريء وماسورة البلعوم، لحمة صغيرة يسمونها في الطب: لسان المزمار، ويسميها الناس باللسان العامي: اللهى أو الطراع. وظيفتها أنها تتلقى إشارات من المخ إذا دخل الطعام بأن تقفل قصبة الهواء، وإذا تكلم تقفل قصبة الطعام؛ لأنه لو تكلم الإنسان وهو يأكل أو يشرب ودخلت حبة من الأرز أو قطرة من الماء في قصبة الهواء لمات الإنسان، وهو الذي نسميه الآن شرقه، بعض الناس يتكلم وهو يأكل، فيصدر أمر من المخ إلى هذا أن انفتح وإلى هذا أن انفتح فيبقى الجندي مسكين لا يدري من يفتح، هذا أم هذا؟ فتسقط حبة في قصبة الهواء، فماذا يحصل؟ هل يموت الإنسان من أجل غلطة بسيطة؟ لا. تصدر الأوامر إلى القوات التي في القصبة أن هناك جسماً غريباً فاطردوه، فيقوم الإنسان يتنحنح، حتى يخرج هذه الحبة، وتبدأ عينه تغرورق بالدمع ماذا هناك؟! يقول: كدت أموت من أجل حبة أو قطرة.

هذا هو الإنسان! أليس هذا إحكام أيها الإخوة؟!

ولن نذهب بعيداً في الكون ولكن فقط في الإنسان، ولهذا أكثر الناس إيماناً هم العلماء والأطباء؛ لأنهم يرون أجهزة سمعية وبصرية وتنفسية وتناسلية ودموية.. وأجهزة لا يعلمها إلا الله.

فيك أيها الإنسان جهازان مركبان في الظهر وهما الكليتان، ومهمتها تصفية الدم، فهي مثل الصفاية التي تصفي البنزين في السيارة، في كل كلية ثلاثة ملايين وحدة تنقية، وقد خلق الله تعالى اثنتين، رغم أن الواحد يعيش بواحدة، لكن الله تعالى خلق اثنتين حتى إذا تعطلت واحدة تبقى معك واحدة ثانية، أو يكون لك حبيب ويصير عنده فشل كلوي فتعطيه واحدة.

وما كان الناس يميزون هذا في الماضي، وبعد ذلك خلق الله تعالى رئتين وعينين وأذنين.

وجعل الله من كل عضو نافع اثنين ومن كل عضو ضار واحداً، كاللسان كم لساناً مع الإنسان؟ لسان واحد، وليت الإنسان يسلم من لسانه، فكيف لو كان معك لسانان، والفرج واحد! فكيف لو كان معك فرجان؟!

الأذنان اثنتان فإذا تعطلت إذن فالأخرى تعمل، بعض الناس عنده أذن لا تسمع، ولا يسمع إلا بواحدة، وتملك عينين فإذا عميت واحدة ترى بالثانية، ويدين إذا قطعت واحدة تستعمل الثانية، وعندك رجلان ورئتان وكليتان .. وهكذا، إلا عضو واحد نافع وجعله الله واحداً وليس اثنين وهو القلب، قال الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4] لماذا؟ لأن القلب ملك الجوارح، ولا يمكن أن يكون في البلد الواحد ملكان، وإذا كان معك قلبان أحدهما يريد يذهب ليداوم، والآخر يريد أن ينام، من تطيع؟ لا يوجد إلا قلب واحد يعمل، رغم أنه نافع، لكنه قلب يعمل لا يمرض! وقد ترون كل الأعضاء تمرض وتتضرر لكن أقل الأعضاء مرضاً أو تعرضاً للأمراض هو القلب، وإلا فهو يعمل عملاً مضنياً، فهو مضخة تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسد، وتعطي هذا الضخ حركة في كل دقيقة ثمانين مرة، فتصور جهاز يشتغل مدى حياتك ولا يتعطل ..! أربعة وعشرين ساعة يعمل وأنت نائم وقائم وجالس وتمشي.. ثم جعل الله عضلة القلب عضلة لا إرادية، -أي: تشتغل بدون اختيارك- ولو أن الله جعل عضلة القلب إرادية بحيث إنه من أراد أن يعيش فليشغل قلبه، ومن أراد ألا يعيش فليوقفه، أكان الناس يشتغلون بغير قلوبهم؟!! لن يبقى أحد إلا وهو مشغول بعملية ضخ قلبه، حتى لو جاء لينام، يقول لامرأته: تعالي وحركي قلبي، أنا أريد أن أنام قليلاً، وانتبهي لا تغفلي فأنا سأموت إذا غفلت، فتنشغل بضخ الدم في قلبه قليلاً، ثم تقول له: تعال. أنا أريد أن أنام تعال حرك قلبي! لكنك نائم وهي نائمة والقلب ينبض، ثمانين ضخة في كل دقيقة وهو ينبض، يضخ الدماء ليذهب بها إلى الجسد، هذه جزئية ولمحة بسيطة من قدرة الله في خلقك أيها الإنسان.

نعم أيكون هذا الخلق عبثاً؟!! لا.

فبطل -أيها الإخوة- بالنظر العقلي كما بطل بالدليل الشرعي أن الإنسان والكون والحياة خلقت عبثاً، ولم يبق لنا إلا الاحتمال الثاني، وهو: أن الله خلق الكون والحياة والإنسان لحكمة، ولم يدع الله الناس في تيه، بل وضح لهم الحكمة، فإنه أعلم بما خلق، يقول الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] هو الذي خلق الإنسان، فأعرف الناس بالصنعة صانعها.

فخالقك وصانعك هو الله، وهو الذي صنعك ويدري لماذا صنعك، فبين لنا في كتابه في سورة الذاريات وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهذا هو الغرض، وهذه هي الحكمة، لا يوجد حكمة من وراء خلق الناس إلا هذه الحكمة؛ لأنها محصورة بين (ما) و(إلا) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما: نافيه أم مثبتة؟ تقول: نافية: ما في المسجد إلا زيد، يعني: لا تجد معه عمرو، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني: لا يوجد عمل لهم غير العبادة، لكن ما هو مفهوم العبادة في الإسلام أيها الإخوة؟

أما الدليل الشرعي: فيقول عز وجل: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] أفحسبتم؟ استفهام في صيغة الاستنكار، أي: أتظنون أن الله خلقكم عبثاً؟! ومعنى هذا: أن الله ما خلقكم عبثاً أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] تعالى الله وتنزه وتقدس عن العبث! أيخلق هذه السماوات وما فيها من إحكام وتنظيم، ويخلق الكون بما فيه من تنظيم وتقدير وتدبير عبثاً من غير غاية ولا هدف؟! تعالى الله عن العبث.

ويقول عز وجل في آية أخرى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً [ص:27] أي: عبثاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] فهذا الزعم أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً؛ لأنه زعم الكفار، فويل للذين كفروا من النار.

ومن الذي يقول هذه الكلمة؟ إنه الله! ويل لهم من هذه المقولة، فإنهم يصفون الله بالباطل، ويقول عز وجل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ [الأنبياء:16] أي: عبثاً لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:17-18] تهديد آخر بالويل لهؤلاء الذين يصفون الله بأنه خلق السماوات والأرض عبثاً.

نعم. ثبت بالدليل الشرعي أن الله ما خلق السماوات والأرض والكون عبثاً، وإنما خلقها لحكمة.

ثم نأتي بالنظر العقلي فنجد ونشاهد ونلمس أن الإحكام والدقة والتنظيم والتقدير والتدبير يشمل الكون من أصغر جزء في المادة وهي الذرة إلى أعظم جزء في المادة وهي المجرة! كل شيء بتنظيم! وكل شيء محكم: ليل ونهار، أفلاك وشموس، أقمار وأنجم، أزهار وأشجار، أنهار وبحار، كل ما في الكون يشهد من أصغر جزء فيه إلى أكبر جزء بأن له خالقاً:

وفي كل شيء له آية     تدل على أنه الواحد

أولاً: هل يعقل أن يكون هذا التنظيم كله عبثاً وصدفة؟ وكما يقولون: قانون الصدفة: قانون يعمل ولكن في حدود.

يقول أحد العقلاء: لو أن رجلاً على سطح بيت وضع تحت السطح لوحاً خشبياً، وقذف من يده بمائة إبرة خياطة، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر على رأسها، ألا يمكن أن يحصل هذا؟ نعم يحصل بالصدفة، ثم بعد ذلك أتى بألف إبرة ثانية ورماها مرة ثانية على هذا اللوح الخشبي، فصدفة وقعت إبرة من هذه الإبر الألف في خرق الإبرة الواقفة تلك، هذا ممكن وصدفة، ولكن متى؟ قالوا: إذا قذف عشرة ملايين إبرة يمكن أن تأتي واحدة في خرق تلك الإبرة التي وقفت سابقاً، قالوا: ثم جاء ورمى بعد ذلك بألفين، وجاءت واحدة ووقعت في خرق الإبرة الثانية الواقفة تلك، قالوا: هذا مستحيل، مستحيل أن تصل المسألة إلى هذا الكلام، الصدفة لها حدود، وغير مطردة!

ومثال آخر: حروف المطبعة التي تصف في المطابع، طبعاً يأتي الذي يصف الحروف فيأتي ويضع (بسم الله الرحمن الرحيم) الباء والسين والميم ولفظ الجلالة من أجل أن يطبعها بعد ذلك، ويدخلها في القالب وتنطبع، فلو جاء آخر وقال: أنا سأعمل كتاباً، وأتى بالحروف من غير صف بل خبطها وأدخلها المطبعة، وأصبحت لوحة مكتوبة، يقول: يمكن أن يأتي مع الصدفة كلمة مكونة من أربعة حروف! يمكن أن تأتي كملة: سعيد، صدفة يأتي السين مع العين والياء والدال، لكن هل ممكن أن يأتي سعيد بن مسفر بالصدفة في هذه الحروف؟ قالوا: مستحيل، حسناً.. يأتي سعيد بن مسفر بن مفرح القحطاني ؟ قالوا: هذا لا يمكن.

حسناً.. هل يمكن أن تطبع لك المطبعة بهذا الصف الفوضوي العشوائي صفحةً مطبوعةً بموضوع معين، وبرقم معين، وبأفكار متسلسلة، وبتنظيم معين، هل يمكن هذا؟ طبعاً مستحيل!!

ثانياً: هذا الكون البديع وهذا التنظيم المتقن، ولا نذهب بعيداً بل الإنسان نفسه، يقول الله عز وجل فيه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] الذي خلقك وقدرك وأعطاك هذه الهيئة وهذا القدر من الإحكام والتنظيم في كل جزئية من جزئياتك، أيكون هذا الخلق عبثاً وصدفة؟ لا. هذا الرأس لوحده الذي جعله الله عز وجل قمة الجسد وركب فيه جميع الحواس: العينان في المقدمة، والأذنان في الجانبين، والأنف والفم في وسط الوجه، فالعينان تفرزان مادة ملحية، والأذنان مادة صمغية مُرَّة، والأنف تفرز مادة مخاطية، والفم يفرز مادة لعابية، من ملّح هذه، وأمرّ هذه وحلى هذه؟ والمصدر واحد؟!! ولماذا هذا ملح وهذا مر وهذا حلو؟

الملح؛ لأن العين شحمة ولو لم يوجد الملح لتعفنت ولظهر فيها الدود! وهذه الأذن جعل الله فيها مرارة؛ لأنها مفتوحة، ولو لم تكن هذه المادة الصمغية المرة موجودة لدخلت فيها الحشرات وأنت نائم، فقد تأتي الصراصير والجرذان والقمل وتملأ مسامعك، لكن الله جعل هذه المادة حتى تهرب أي حشرة تقترب من أذنك، وهذا الفم جعل الله فيه غدداً لعابية تفرز هذا اللعاب الذي هو أحلى من العسل! من حلَّاه؟ ثم لماذا يفرز هذه المادة؟ من أجل المساعدة على عملية تحضير الطعام وتجهيزه للجسم، ثم خلق الله في هذا الفم ورشة مصغرة لتجهيز الطعام، ومكونة من عدة آلات: آلات تقطع وأخرى تخرق وتطحن؛ الثنايا تقطع، والأنياب تخرق، والأضراس تطحن، وجعل الله فوق الضرس ضرساً وفوق الثنية ثنية، وفوق الناب ناباً، وبعد ذلك قدم الفك من أجل أن يقطع مثل المقص؛ لا بد أن يركب في الآخر؛ لأنه لو كان فوق بعض ما قطع، وجعل بين الأسنان جهازاً مثل (الكريك) يقلب الطعام وهو اللسان، وبعد ذلك يجهز الطعام ثم يمضغ ثم ينزل.

فيستقبل هذا الطعام قناة اسمها المريء: والمريء يوصل إلى المعدة، وبجانب هذه القناة قناة أخرى اسمها البلعوم.

المريء قناة عضلية، والبلعوم قناة غضروفية مفتوحة باستمرار؛ لأنها تقوم بإيصال الهواء إلى الرئتين، أما تلك فتوصل الطعام إلى المعدة فهي عضلية تسمح بنزول الطعام ولا تسمح بخروجه؛ من حين أن تنزل اللقمة تقوم تلك العضلة بعصرها إلى أن تنزلها إلى المعدة، ولولا وجود هذه العضلة لاحتجت مع كل لقمة إلى سيخ من حديد حتى تصل إلى بطنك، وإلا فمن سيقوم بإنزالها؟!

وبين الماسورتين: ماسورة المريء وماسورة البلعوم، لحمة صغيرة يسمونها في الطب: لسان المزمار، ويسميها الناس باللسان العامي: اللهى أو الطراع. وظيفتها أنها تتلقى إشارات من المخ إذا دخل الطعام بأن تقفل قصبة الهواء، وإذا تكلم تقفل قصبة الطعام؛ لأنه لو تكلم الإنسان وهو يأكل أو يشرب ودخلت حبة من الأرز أو قطرة من الماء في قصبة الهواء لمات الإنسان، وهو الذي نسميه الآن شرقه، بعض الناس يتكلم وهو يأكل، فيصدر أمر من المخ إلى هذا أن انفتح وإلى هذا أن انفتح فيبقى الجندي مسكين لا يدري من يفتح، هذا أم هذا؟ فتسقط حبة في قصبة الهواء، فماذا يحصل؟ هل يموت الإنسان من أجل غلطة بسيطة؟ لا. تصدر الأوامر إلى القوات التي في القصبة أن هناك جسماً غريباً فاطردوه، فيقوم الإنسان يتنحنح، حتى يخرج هذه الحبة، وتبدأ عينه تغرورق بالدمع ماذا هناك؟! يقول: كدت أموت من أجل حبة أو قطرة.

هذا هو الإنسان! أليس هذا إحكام أيها الإخوة؟!

ولن نذهب بعيداً في الكون ولكن فقط في الإنسان، ولهذا أكثر الناس إيماناً هم العلماء والأطباء؛ لأنهم يرون أجهزة سمعية وبصرية وتنفسية وتناسلية ودموية.. وأجهزة لا يعلمها إلا الله.

فيك أيها الإنسان جهازان مركبان في الظهر وهما الكليتان، ومهمتها تصفية الدم، فهي مثل الصفاية التي تصفي البنزين في السيارة، في كل كلية ثلاثة ملايين وحدة تنقية، وقد خلق الله تعالى اثنتين، رغم أن الواحد يعيش بواحدة، لكن الله تعالى خلق اثنتين حتى إذا تعطلت واحدة تبقى معك واحدة ثانية، أو يكون لك حبيب ويصير عنده فشل كلوي فتعطيه واحدة.

وما كان الناس يميزون هذا في الماضي، وبعد ذلك خلق الله تعالى رئتين وعينين وأذنين.

وجعل الله من كل عضو نافع اثنين ومن كل عضو ضار واحداً، كاللسان كم لساناً مع الإنسان؟ لسان واحد، وليت الإنسان يسلم من لسانه، فكيف لو كان معك لسانان، والفرج واحد! فكيف لو كان معك فرجان؟!

الأذنان اثنتان فإذا تعطلت إذن فالأخرى تعمل، بعض الناس عنده أذن لا تسمع، ولا يسمع إلا بواحدة، وتملك عينين فإذا عميت واحدة ترى بالثانية، ويدين إذا قطعت واحدة تستعمل الثانية، وعندك رجلان ورئتان وكليتان .. وهكذا، إلا عضو واحد نافع وجعله الله واحداً وليس اثنين وهو القلب، قال الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4] لماذا؟ لأن القلب ملك الجوارح، ولا يمكن أن يكون في البلد الواحد ملكان، وإذا كان معك قلبان أحدهما يريد يذهب ليداوم، والآخر يريد أن ينام، من تطيع؟ لا يوجد إلا قلب واحد يعمل، رغم أنه نافع، لكنه قلب يعمل لا يمرض! وقد ترون كل الأعضاء تمرض وتتضرر لكن أقل الأعضاء مرضاً أو تعرضاً للأمراض هو القلب، وإلا فهو يعمل عملاً مضنياً، فهو مضخة تضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسد، وتعطي هذا الضخ حركة في كل دقيقة ثمانين مرة، فتصور جهاز يشتغل مدى حياتك ولا يتعطل ..! أربعة وعشرين ساعة يعمل وأنت نائم وقائم وجالس وتمشي.. ثم جعل الله عضلة القلب عضلة لا إرادية، -أي: تشتغل بدون اختيارك- ولو أن الله جعل عضلة القلب إرادية بحيث إنه من أراد أن يعيش فليشغل قلبه، ومن أراد ألا يعيش فليوقفه، أكان الناس يشتغلون بغير قلوبهم؟!! لن يبقى أحد إلا وهو مشغول بعملية ضخ قلبه، حتى لو جاء لينام، يقول لامرأته: تعالي وحركي قلبي، أنا أريد أن أنام قليلاً، وانتبهي لا تغفلي فأنا سأموت إذا غفلت، فتنشغل بضخ الدم في قلبه قليلاً، ثم تقول له: تعال. أنا أريد أن أنام تعال حرك قلبي! لكنك نائم وهي نائمة والقلب ينبض، ثمانين ضخة في كل دقيقة وهو ينبض، يضخ الدماء ليذهب بها إلى الجسد، هذه جزئية ولمحة بسيطة من قدرة الله في خلقك أيها الإنسان.

نعم أيكون هذا الخلق عبثاً؟!! لا.

فبطل -أيها الإخوة- بالنظر العقلي كما بطل بالدليل الشرعي أن الإنسان والكون والحياة خلقت عبثاً، ولم يبق لنا إلا الاحتمال الثاني، وهو: أن الله خلق الكون والحياة والإنسان لحكمة، ولم يدع الله الناس في تيه، بل وضح لهم الحكمة، فإنه أعلم بما خلق، يقول الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] هو الذي خلق الإنسان، فأعرف الناس بالصنعة صانعها.

فخالقك وصانعك هو الله، وهو الذي صنعك ويدري لماذا صنعك، فبين لنا في كتابه في سورة الذاريات وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فهذا هو الغرض، وهذه هي الحكمة، لا يوجد حكمة من وراء خلق الناس إلا هذه الحكمة؛ لأنها محصورة بين (ما) و(إلا) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما: نافيه أم مثبتة؟ تقول: نافية: ما في المسجد إلا زيد، يعني: لا تجد معه عمرو، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني: لا يوجد عمل لهم غير العبادة، لكن ما هو مفهوم العبادة في الإسلام أيها الإخوة؟

مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع يشمل كل الحياة، فليس مفهوماً مقصوراً على الشعائر فقط، فالشعائر التعبدية هي أساس العبادة، لكن كل ما في الكون عبادة كما يعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في كتابه العبودية يقول:

العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

فكل عمل يحبه الله ويرضاه فهو عبادة، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم تبسمك في وجه أخيك صدقة، وهذه عملية ليس لها علاقة بالدين، لكن جعلها الإسلام عبادة، فإذا لم يكن عندك عبادة كثيرة فاخرج إلى الشارع، وعندما تلقى مسلماً قل له: السلام عليكم، كيف حالك يا أخي؟ صبحك الله بالخير.. تسجل حسنات، لماذا؟ قالوا: لأنك بالابتسامة والسلام تزرع في قلب المسلم الأمن والطمأنينة فتنشر الحب والود في المسلمين، ولا يظهر الدين إلا في أرض الحب، يقول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، ثم قال: أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

وإفشاء السلام من أعظم القربات عند الله عندما تخرج بهذه النية: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام).

بل جعل الإسلام شيئاً من الشهوات واللذائذ النفسية طاعة وعبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (وفي بضع أحدكم صدقة -يعني: إذا جئت أهلك فإنها صدقة- فاستغرب الصحابة وقالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).

بل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وهذه هي عملية البلدية في تنظيف الشوارع، ولكن الإسلام يدعوك -أيها المسلم- أن تساهم في نظافة الشارع؛ لأن الشارع ملك الجميع، فلا يجوز لك أن تلوثه، بل يجب عليك إذا رأيت شيئاً من الأذى أن ترفعه، ولهذا ورد حديث في الصحيحين : (الإيمان بضع وستون -وفي رواية: بضع وسبعون- شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان) هذه العبادة بمفهومها الشامل.

اتقاء المحارم أعلى درجات العبادة

هناك من يعبد الله في أعلى الدرجات، أي: يوجد رجل عابد ويوجد رجل أعبد، وأعبد هنا صيغة تفضيل، تقول: فلان كريم وفلان أكرم، فلان شجاع وذاك أشجع، فكذلك العبادة، فلان عابد وفلان أعبد.

كيف تكون أعبد الناس؟

دلك النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح كلمه وجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ في السنن قال صلى الله عليه وسلم -والعنوان طرف من حديث-: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).

فيا من تريد أن تكون عابداً اتق المحارم؛ لتكن أعبد الناس!

وطبيعي عندما تكون أعبد الناس فإنك تكون أفضل الناس، وتنجو في الدنيا والآخرة، لماذا؟ لأنك أعبد الناس. وصيغة (أفضل) جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين؛ عندما أراد بعض الصحابة أن يتعلم عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى أهله وسألوا عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وليست بقليلة فقد كان صلى الله عليه وسلم أعبد الناس، ولكن الصحابة من شدة الإقبال على الله كأنهم رأوا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فنحن لم يغفر لنا! إذن نزيد؟ فقال أحدهم: أما أنا فلا أنام الليل أبداً. يقول: الليل هذا لا ننام فيه؛ الليل للنوم ولكن نجعله للعبادة وللوقوف بين يدي الله جل وعلا، وقال الآخر: وأنا لا أفطر الدهر أبداً، وهذا الحديث يبين أن قدرات الناس تختلف؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يقوم في الليل حتى ركعة واحدة ولكنه يستطيع أن يصوم، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم يوماً واحداً ولكنه يستطيع أن يصلي، وبعضهم لا يستطيع أن يصوم أو يصلي ويستطيع أن يتصدق، وبعضهم لا يستطيع أن يتصدق ولكنه يستطيع أن يقرأ القرآن، ولهذا الله سبحانه وتعالى عدد مسارات العمل الصالح ليجد كل مسلم طريقاً إلى الله، قال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء أبداً، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر جمع الناس، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأعلمكم بالله، وأطوعكم لله، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

فأعبد الناس على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت -أيها المسلم- إذا أردت أن تكون من أعبد الناس فعليك بشيء واحد وهو: اتقاء المحارم.

فليس أعبد الناس من يكثر الصلاة، أو الصدقة، أو الصيام، أو الحج والعمرة، أو يعلِّم الناس الخير ويدعو إلى الله، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحب في الله ويبغض في الله، ويعمل أعمال الخير، هذا لا شك أنه عابد، لكن أعبد الناس من يتقي محارم الله، أي: لا يقع في شيء من الحرام، ولماذا كان هذا أعبد الناس؟

قال العلماء: لسببين رئيسيين:

السبب الأول: أن الله عز وجل إنما شرع تلك العبادات من أجل إمداد الإنسان بطاقة إيمانية تعينه على ترك المحرمات، ولهذا قال الله عز وجل عن الصلاة: إِنَّ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ماذا تعمل؟ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ولهذا أنت تصلي من أجل أن تنتهي عن الفحشاء، فإذا صليت ولم تنته عن الفحشاء فأنت تمثل فقط، وفرق بين من يمثل وبين من يؤدي الدور الحقيقي، فأنت تخدع نفسك وتضحك على نفسك: إِنَّ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] و(إن) مؤكدة.

والصلاة الحقيقية، هي الصلاة المؤثرة، والفاعلة، والمقبولة، والتي عملت عملها فيك فتنهاك عن الفحشاء والمنكر، وأما الشخص الذي ما نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر فكأنه ما صلى، وهذا رفعت عنه صلاته عقوبة في الدنيا ولا نستطيع أن نقول: إنه كافر؛ لأنه صلى، لكن بإتيانه للفحشاء والمنكر مع صلاته لم ترفع عنه صلاته، فتعرضه هذه الصلاة لعقوبة الآخرة؛ لأنه لو كان مصلياً حقيقياً لنهته صلاته عن الفحشاء والمنكر.

وكذلك الحج: فهو ركن مثل الصلاة؛ لأن الله سبحانه شرعه وقال فيه: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].

الصوم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) وجميع الشعائر التعبدية فرضها الله سبحانه وتعالى من أجل أن تمدك وتربيك -أيها الإنسان- وتؤهلك وتجعلك قادراً على مواجهة المحرمات.. فلا تقع فيها.. هذا سبب.

والسبب الثاني وهو المهم: أن هذه المحرمات التي حرمها الله تعالى على الناس في النفس البشرية مَيْل إليها ورغبة فيها؛ لأن الله خلق في الإنسان غرائز تميل إليها، فمثلاً: الزنا محرم وفاحشة، والله يقول فيه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وشرع للزاني أشنع قتلة وأشنع عقوبة؛ إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير متزوج يجلد بالعصا جلداً مبرحاً مؤلماً وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] مائة سوط، لماذا نضرب الزاني؟ قالوا: لأنه تخلق بأخلاق الحمار، ونسي أنه إنسان ومسلم، وأنه يجب أن يكون عفيفاً، فهبط ونزل إلى درجة الحيوانية، فنجلده مائة سوط ولا نرحمه، كي نخرج الحيوانية من رأسه ويعرف أنه رجل وليس حماراً: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2].

فهذا الزنا؛ الفاحشة الكبرى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عصي الله بذنب بعد الشرك أعظم من نطفة يضعها الرجل في فرج لا يحل له).. (ومن زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة).. (والذي نفس محمد بيده! إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار).. (والذي نفس محمد بيده! إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) وفي صحيح البخاري من حديث سمرة قال: (ثم أتينا على تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء عراة يأتيهم لهب من تحتهم، فيرتفعون وينخفضون، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني من أمتك).

هذا هو الزنا الذي تميل له النفس، لماذا؟ لأن الله عندما خلق الإنسان وخلق الرجل والمرأة جعل في الرجل ميلاً إلى المرأة وجعل في المرأة ميلاً إلى الرجل، لبقاء الجنس البشري، إذ لو كان الرجل لا يريد النساء، والنساء لا يردن الرجال لبقي الرجل في جانب والمرأة في جانب، وكلما قيل للمرأة تزوجي، قالت: لا أعرفهم، وأنت تزوج قال: لا أعرف النساء، وبعد ذلك تموت المرأة ويموت الرجل، وتنقرض البشرية ولا يبقى أحد في الحياة.

فالله جعل عند الإنسان ميلاً، فلا يوجد رجل إلا ويحب النساء، ولا امرأة من النساء إلا وتحب الرجال، لكن هذا الميل بحيث يلتقي الرجل بالمرأة عند نقطة شرعية اسمها الزواج، وحرم كل لقاء قبله أو بعده في الحرام، فقط الزواج، فيأتي الشيطان فيستغل هذا عند الإنسان، فيزين له الحرام ويوقعه في الباطل، فإذا قام الإنسان ومنع نفسه من الحرام كان هذا هو العابد الحقيقي، أي: الذي عنده رغبة في الزنا ثم يمتنع منه خوفاً من الله فهذا هو العابد الصحيح.

فإذا صليت الآن فلا يوجد مانع من أن تصلي، بل المؤيد في نفسك أن تصلي؛ لأن الصلاة حركة، فقد يقول لك شخص: الصلاة جيدة، فيها ركوع وسجود ومشي وذهاب إلى المسجد وعودة منها، وخطوات ورياضة وتغيير جو؛ بمعنى أنها فائدة، والصيام أيضاً عملية صحية، والحج أيضاً رحلة ونزهة وتمشية، لكن الزنا.. من يتركه؟ ما يتركه إلا من يخاف الله! ولهذا جاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله -يوم القيامة- يوم لا ظل إلا ظله.. منهم: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: إلى الزنا- فقال: إني أخاف الله رب العالمين). هنا يوجد الإيمان، ولذا فالناس الآن يقيسون بهذا المقياس، فإذا رأوا رجلاً متديناً تظهر عليه علامات التدين والصلاة والصيام والعمل الصالح، ثم يرقبونه في مواطن الاحتكاك بالنساء، فإذا رأوه ينظر إلى النساء وهو المتدين، ماذا يقول الناس؟ يقولون: انظروا إلى هذا المطوع الكذاب، كيف ينظر إلى النساء، فعلموا أن تدينه غير صحيح؛ لأنهم قاسوه بالحرام، فلما وقع في الحرام قالوا: كذاب.

فهذه الميول النفسية إلى الحرام التي ترفضها وتحجزها وتستعلي عليها وتنتصر بنفسك عليها دليل على أنك أتقى الناس، وأعبد الناس.

العفة عن المال الحرام من العبادة

المال حبب إلى كل الناس، والله تعالى يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] فهذا محبوب، ولا يوجد أحد لا يحب المال، فكل واحد يحب المال، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحب المال، وجميع المخلوقات لا تحب المال، فهل رأيتم حماراً يحب المال، أو بقرة تحب المال، أو جملاً؟ أبداً. لا يوجد إلا الإنسان، لماذا؟

قالوا: إن الله خلق في الإنسان حب المال من أجل تطوير الحياة، إذ لو كان الناس لا يحبون المال لما كان هناك تطور، ولكان الإنسان الآن يجلس في عشة أو كوخ، وبورق الشجر يلطخ جنبه ويستر عورته إلى أن يموت ولا يطور نفسه، لكن لما جمع المال وأحبه وجد أن المال يمكِّنه من تطوير نفسه، ولهذا فالصراع الآن في الحياة كلها بسبب المال؛ المال عصب الحياة.. المال سماه الله قياماً، قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] أي: قوام الحياة هو المال، وبالمال تجد الدول المتطورة غنية، والدول المتخلفة فقيرة، ليس عندها مال.. ماذا تصنع؟ لا تستطيع التطوير، لكن التي عندها مال تقوم بالتطوير.

الحيوانات لما كانت لا تحب المال ما تطورت؛ فالحمار حمار من يوم أن خلقه الله إلى قيام الساعة، لم يفكر أن يشتري له حذاء، والبقرة بقرة! لم تفكر في يوم من الأيام أن تشتري لها سروالاً وتستتر من الناس، لماذا؟ لأنه ليس عندها تطوير، لكن يهمها أن تأكل وتشرب وتُحلب وتنام، وكذلك جميع الحيوانات، أما الإنسان فقد حبب الله إليه المال وجمع المال، ولكن جاء الشرع ونظم هذا الحب، وجعل المال الحرام غير محبوب، والمال الحلال محبوباً كسبه، فإذا رفضت المال الحرام كنت أعبد الناس.

الناس الآن إذا رأوا شخصاً متديناً، وبعد ذلك جاءت له فرصة من فرص الكسب الحرام فأخذها مع الناس، فإنهم يزدرونه، أضرب لكم مثالاً: في دائرة من الدوائر الحكومية رئيس القسم وجد أن عنده معاملات كثيرة، وطلب من مدير الإدارة أن يمنح العاملين عنده عملاً إضافياً لمدة أسبوعين لإنهاء الأعمال المتراكمة، وبعد ذلك هو يريد أن ينفعهم، وجمع الموظفين وقال: نحن طلبنا لكم عملاً إضافياً، وأنا أعرف أن العمل الإضافي لا تستحقونه، لكن أريد أن أحسن وضعكم ولكن أكملوا المعاملات وتعالوا بعد العصر لمدة نصف ساعة أو ساعة ووقعوا الانصراف والدوام، قالوا: جزاك الله خيراً، وشخص متدين وعليه علامات الخير قال: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، ماذا ستقول له الجماعة؟ سيقولون: المطوع أخذ معنا من الحرام، لكن لو وقف هذا المتدين وقال: لا يا جماعة الخير. أنا لا أسجل معكم، تريدوني أن آخذ فوق هذا زيادة هي حرام؟ لا. أنا لا آخذ، هذا الفعل من هذا الإنسان هو أعظم تأثيراً في الدعوة في قلوب الناس من ألف موعظة يلقيها هذا الإنسان، وإذا قالها قالوا: والله إن فلاناً صادق؛ جاءه راتب نصف شهر زيادة وتركه، هذا هو الصادق، نعم. فأنت أتقى وأعبد الناس يوم أن تترك المحارم.

وهذا هو دعاء الملائكة -أيها الإخوة- من فوق سبع سماوات لأهل الأرض، يقول الله عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:7-9] فهذه الملائكة تدعو لك وأنت في الأرض، تقول: يا ربنا قهم السيئات، أي: اصرف عنهم المحارم والمحرمات، ثم قال عز وجل عن الملائكة إنها تقول: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9] إذا وقاك السيئات فقد رحمك الله.

فمتى تستحق رحمة الله؟ إذا وقيت نفسك من السيئات: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9].