صلِ .. وانتظر النتيجة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على دربه واتبع شريعته ودعا إلى ملته وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله جميع أوقاتكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المكان الطاهر وفي هذه الليلة المباركة وبعد أداء هذه الفريضة العظيمة أسأله أن يجمعنا بمنه ورحمته وفضله وكرمه في جناته جنات النعيم وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا وزوجاتنا وذرياتنا وجميع إخواننا المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

أيها الأحبة: من أعظم الدلائل ومن أبرز البراهين على صدق إيمان العبد وعلى قوة يقينه هو: حرصه على أداء هذه الصلاة التي هي صلة بين العبد وبين الله، وكلما كانت علاقتك بالصلاة قوية وحرصك عليها شديداً وحبك لها عظيماً كان هذا دليلاً على حبك لله وعلى قوة إيمانك به ويقينك عليه.

وإذا نظرنا إلى هذه الفريضة العظيمة وجدنا أنها تحتل مكاناً عظيماً في الإسلام بل في كل الرسالات، فإنه ما من نبي بعث ولا رسالة نزلت إلا وفيها الأمر بإقامة الصلاة كما فيها الأمر بتوحيد الله عز وجل، فهي عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض منذ أول الأنبياء إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ [الأنبياء:73] فبعد أن سرد قصص بعض الأنبياء ذكر أنه أوحى إليهم فيما أوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة.

اهتمام الأنبياء بالصلاة

يذكر الله عن بعض الأنبياء بصفة صريحة ظاهرة الأمر بالصلاة:

- إبراهيم عليه السلام: يقول تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] وكان من دعائه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ [إبراهيم:40].

- إسماعيل عليه السلام: يثني الله سبحانه وتعالى عليه ويقول: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [مريم:54-55].

- موسى عليه السلام: وذلك حينما حصل له التكليم من الله عز وجل؛ لأن الله اختصه واصطفاه بالكلام إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] حينما عاد من رحلة العمل التي قضاها في خدمة عمه وهي إجارة عشر سنين مهراً لابنته التي تزوجها قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] ثم قضى أفضل الأجلين وهي العشر سنوات ثم استأذن عمه في أن يعود إلى بلاده وسار بأهله، فلما كان في الطور في سيناء وكانت ليلة باردة ومطيرة وشاتية وكانت زوجته في حال الوضع، والمرأة في حالة الوضع تحتاج إلى الدفء وتحتاج إلى الطعام فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [طـه:10] رأى نوراً فظنه ناراً: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طـه:10-14] هنا الشاهد في أول الأمر (فاعبدني وأقم الصلاة).

عيسى عليه السلام لما حملت به مريم ابنة عمران وكان حملها به بطريقة تختلف عن البشر، أراد الله عز وجل أن يظهر قدرته في خلق الإنسان من غير أب واختار لهذه الآية مريم، وسبب اختيار الله لمريم؛ لأن الله قد عصمها من الشيطان؛ ولأن أمها وهبتها لله وكانت تظن أنها ذكر، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35] وهبته لله حتى يكون خادماً لـبيت المقدس ولكنها لما وضعت إذا بها أنثى، والأنثى لا تصلح لأن تخدم بيت المقدس الذي يرتاده الرجال قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ [آل عمران:36] قال الله تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً [آل عمران:37].

ولهذا ثبت في الصحيح أنه: (ما من مولود يولد إلا ويضربه الشيطان على ضلعه عند خروجه من بطن أمه إلا مريم وابنها) لم يستطع لهم الشيطان؛ لأن الله أعاذهم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ [آل عمران:36] من ذريتها؟ عيسى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37].

كان الحمل عن طريق جبريل عليه السلام؛ نفخ في جيب درعها وقالت له حينما جاء: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً [مريم:18-21] أراد الله بخلق عيسى التدليل على قدرته سبحانه وتعالى على خلق الأشياء من غير ما اعتاد الناس، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد خلق الناس على أربعة أشكال:

الشكل الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قبضه ربنا من التراب وقال له: كن. فكان آدم من غير أم وأب.

الشكل الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء: مخلوقة من ضلع آدم لكن ليس لها أم.

الشكل الثالث: من أم بلا أب وهو عيسى.

الشكل الرابع: من أب وأم وهم سائر البشر، ولهذا يقول الله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59] إذا كنتم تستبعدون أن يخلق الله عز وجل إنساناً من أم بلا أب فلماذا لا تستبعدون أن يخلق الله إنساناً من غير أم ولا أب إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

حملته وانتبذت به مكاناً قصياً، حملها ووضعها كله كان في آن واحد ليس في تسعة أشهر، وبعد ذلك قال: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً [مريم:22] والفاء هنا يسمونها فاء الفجائية وبعضهم يسميها تعقيبية تقول: جاء فلان ففلان ففلان وراء بعض، حملته وانتبذت به وجاءها المخاض وشعرت بالألم ليس ألم الوضع، إنما ألم مواجهة المجتمع بهذا المخلوق الجديد الذي ليس له أب، ماذا تقول للناس؟! فقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23].

وليس أشق على النفس العفيفة والطاهرة والشريفة من أن تدنس أو يدار حولها أو حول عرضها أي شيء فيتمنى الإنسان العفيف الشريف الطاهر وتتمنى المرأة الطاهرة الشريفة أن تدفن في الأرض ولا يدور حول عرضها شيء، فالعرض غالٍ، والعرض كالتاج على الرأس؛ أي شيء يلوثه يكسره، فرأت وضعها وعانت نفسياً وقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] فناداها لما خرج مباشرة وكلمها وهو من الأربعة الذين تكلموا في المهد فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي [مريم:24] كيف لا تحزن؟! قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً [مريم:24-26].

وفي هذا الوضع النفسي المؤلم يقول لها: (وقري عيناً) وقرير العين هو الإنسان المرتاح الذي يعيش أفضل حياة السرور؛ لأن عين الإنسان المرتاح تقر -أي: هذه السوداء- لكن الذي في قلبه قلق ترى عينيه غير مستقرة، لا عيناً ولا نفساً، ولدها -وهي في حالة نفسية صعبة- يقول لها: قري عيناً، يقول المفسرون: قري عيناً؛ لأنك موضع اختيار من الله لإظهار هذه الآية! وهذا تشريف وتكريم أن يختارك الله من بين سائر العالمين ليظهر عن طريقك آية من آياته وقدرة من قدراته سبحانه!

يقول تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً [مريم:26] أي: لا داعي للاعتذار؛ لأن الاعتذار لا يجدي.

ولذلك إذا رأيت التطويل مع شخص في الكلام ليس له نتيجة فكف.

فأي كلام تستطيع أن توجهه للناس وتقنعهم بولدها؟ فالأحسن السكوت والله يدافع عنها: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:26-27] في الصباح لم يكن معها شيء والآن قد أصبح معها ولد فاستغربوا: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27] الفري: الشيء العظيم، يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] أخوها من عباد بيت المقدس، ودائماً العروق والأصول السليمة لا تنبت إلا الثمار الطيبة؛ فذكروها بأخيها ثم ذكروها بأبيها وأمها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] كيف تشذين عن المنهج السوي؟! أبوكِ عابد وأمكِ عابدة وليست بغياً، وأخوكِ عابد، وأنت تعملين هذا؟! فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29] لم تتكلم؛ لأنها مأمورة ألا تتكلم، فاستغربوا وقالوا: عجيب! الطفل يتكلم؟! تكلمي أنتِ. فتكلم الطفل فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:29-30].

هذه أول كلمة قالها وهي تنسف عقيدة أكثر من مليار ونصف نصراني على وجه الأرض الذين يعتقدون أن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هو الذي يعرف نفسه ويكذبهم في أول عبارة منه، فيقول: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] لأن الله سبحانه وتعالى ليس له ولد؛ صفة الولد في الرب صفة نقص، وصفة الولد في العبد صفة كمال، الذي عنده أولاد يرفع رأسه، لماذا؟ لأنه يحتاج إليهم إذا كبر ومرض وشاب وهرم، فمن نقصه يحتاج إلى الولد، أما الله فمن كماله لا يحتاج إلى ولد ولهذا يقول الله تعالى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:90-95] .. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم:35] تعالى الله عن الولد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3].

هؤلاء الكفرة يقولون: إن عيسى ابن الله وهو يقول: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ [مريم:30-31] فالشاهد من القصة كلها وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:31-35].

وهكذا حتى ختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالنبي الخاتم محمد رسول الله وهو خاتم النبيين لا نبي بعده.

الصلاة عمود الإسلام

احتلت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، وأهم أجزاء الشيء عموده، فإذا عندك خيمة فالخيمة أهم جزء فيها هو العمود الذي بعدمه لا توجد خيمة، وإذا كان عندك خيمة ولا يوجد معها عمود ماذا تعمل بها؟ تصبح بطانية أو لحافاً فقط، لكن الخيمة لا بد لها من عمود، فإذا وجد العمود وجدت الخيمة، وإذا نقص وتد أو نقص شيء خاص بالخيمة تسقط، كذلك الصلاة عمود الإسلام، بحيث إذا وجدت وجد الإسلام وإذا انتفت وضاعت ضاع الإسلام.

جاء في حديث معاذ الصحيح في السنن وفي مسند أحمد أنهم كانوا في سفر -في غزوة- فقال معاذ : (أصبحت وإذا بناقتي بجوار ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار) انظروا همة الصحابة! نفوسهم عالية، لا يسألون إلا عن هذه الجنة وعن هذه النار، لو أن شخصاً منا كان في هذا الموضع لقال: أسألك سيارة أو أرضية، همنا الأراضي فقط، وهؤلاء همتهم عالية، يريد الجنة ويريد الفوز بها ويريد أن ينجو من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم).

ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يقول: (كنت بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فأخذت إداوة ووضعت فيها ماء أرقبه ليقوم فأقدمه له، فقام من الليل ففتح الباب وأنا عند الباب، فقلت: هذا الماء يا رسول الله! قال: من؟ قلت: ربيعة ، قال: سلني يا ربيعة ! قلت: أسألك مرافقتك في الجنة قال: أو غير ذلك؟ قلت: ما هو إلا ذلك، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود).

يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة وينجيني من النار) لأن هذا هو السعادة وهو الفوز وما قيمة دنيا بعدها نار، وما قيمة قصر بعده قبر، وما قيمة جسد بعده تراب تأكله الدود لكن عندما تدخل الجنة فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] اللهم إنا نسألك من فضلك يا أرحم الراحمين.

والله إن هذا هو الفوز أن تنادى يوم القيامة، ما هو يوم القيامة؟ يوم قيامتك أنت، وهذا قريب لأن العبد إذا مات فقد قامت قيامته، وأنت في بيت أهلك يأتي إليك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب فإن جاء ملائكة الرحمة شاهدتهم من بعيد فتحب لقاء الله، كما قال عليه الصلاة والسلام : (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت؟ قال: ليس ذلك، لكن المؤمن إذا رأى ملائكة ربه أحب لقاء الله) اللهم لا تحرمنا من فضلك العظيم.

ساعات حرجة أن تنظر وتقول وتعلن سعادتك التي تبدأها بأن تأخذ روحك ملائكة الرحمة وتضعها في حنوط من الجنة وكفن من الجنة، ثم تصعد إلى السماء ولها ريح كأطيب ريح وجد على ظهر الأرض، ثم تستفتح لك الملائكة في السماء فيفتح لك حتى يكتب كتابك عند الله في عليين وتعاد روحك إلى جسدك هذا والله هو الفوز وهذا ممكن وسهل جداً كما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم، ثم قال: وإنه ليسير على من يسره الله عليه) اللهم يسره علينا يا أرحم الراحمين، ثم ذكر (تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وبعد ذلك قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).

وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة...) فهي عمود الإسلام، بل كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، من هو الذي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؟! بل نفزع للتليفون، نفزع للجار وللمدير وللوزير ولم نفكر أن نفزع إلى الله.

شخص من الناس ظلم بشهادة زور على قطعة أرض، والأرض له وملكه وملك أبيه وجده والناس يعرفون ذلك، لكنَّ شخصاً أراد أن يأخذها؛ لأنها أمام البيت فهو يريدها للضيوف وموقفاً للسيارات، فذهب وسوّرها، وجاء صاحبها وقال له: يا أخي! هذه الأرض ملكي، قال: هذه ليست لك، فاشتكى ذاك، قال: تحت يدي هل عندك بينة؟ قال: عندي بينة، فذهب وأتى بشهود زور أن هذه الأرض المحددة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ملكاً لفلان بن فلان أباً عن جدٍ لا ينازعه فيها منازع ولا يشاركه فيها مشارك والله على ما نقول شهيد، وعلمهم الشهادة في الليل والله ينظر إليهم في الليل وأغراهم بنقود وقال: الدنيا دوارة؛ اليوم عليك وغداً لك، إذا شهدتم لي غداً أنا سوف أشهد لكم مرة أخرى، قالوا: مالنا بك عذر وشهدوا، قال القاضي للمشهود عليه: عندك فيهم جرح هؤلاء الشهود، قال: لا يحتاجون، التزكية أنا أزكيهم لكن كلمة أقولها يا قاضي! قال: نعم. قال: والله إني أعلم إن هذا يعلم -صاحب الدعوة- والشهود أنهم كاذبين وأن الأرض لي ولكن أرادوا أن يأخذوها غصباً فأنا أحيلهم إلى الله فينصفني منهم رب العالمين، قال: توقع أن عندك اعتراض على الصك، قال: لا. ليس عندي اعتراض، خرج من المحكمة ودخل إلى المسجد ورفع برقية عاجلة إلى الله؛ لأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الله تعالى: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) لكنه ما كان يريدها بعد حين، صلى ركعتين، وقال: اللهم إنك تعلم أن فلاناً ظلمني وأخذ الأرض وهي أرضي، وشهد اثنين ظلماً وزوراً، وإنه الآن يحوطها ويبني عليها وأنا أشاهده بعيني، فإن قتلته قتلوني وإن مكثت أشاهده كل يوم آلمني قلبي، اللهم إني أسألك أن تنصرني هذا اليوم وليس غداً، يقول: أريد الإجابة عاجلاً. وخرج من المسجد وذهب إلى بيته ودخل البيت مكسور الفؤاد حزيناً، قالت له زوجته: ماذا بك؟ قال: لا شيء، أريد أن أنام، فرشت له الفراش ونام قبل الظهر، وقليل وإذا بالصارخ يصرخ في القرية، ماذا حصل؟ قالوا: حادث مروري، لمن؟ للثلاثة؛ الشاهدين وصاحب الصك قد أخذ الصك في جيبه والشهود معه وقال لهم: الغداء في البيت في القرية وفي نشوة الفرحة بالأرض دار بقوة فانقلبت السيارة أكثر من مرة ومات الرجل ومات الشاهدان وما أمسوا تلك الليلة إلا في قبورهم، وفي اليوم الثاني بعد العزاء تأتي المرأة وتأخذ الصك من ثياب زوجها وهو ملطخ بالدم لتذهب إلى القاضي وتقول: يا قاضي! والله ما قتل زوجي إلا هذا الصك، قالت: والله إن الأرض ليست لنا لقد ذهب زوجي فلا أريد أن يذهب جميع أولادي.

أحاديث في فضل الصلاة

كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وكان يقول لـبلال : (أرحنا بها يا بلال) ليس مثلنا الآن ونحن نصلي الآن ونقول: دعونا نصلي الآن من أجل أن نرتاح منها كأنها حمل نبعدها عن أكتافنا من أجل السمر، يقول: نسمر، لقد صلينا وارتحنا من الصلاة، لا. يقول: (أرحنا بها يا بلال ) أي: أدخل الراحة والأمن واللذة والمتعة في قلوبنا بها، هل نجد الراحة والأمن والمتعة في الصلاة الآن؟ أم أن بعضنا يأتي وهو مغصوب، وبعضنا في الصلاة تشاهده يراوح بين رجليه ويحك ويريد أن ينفك بأي وسيلة وينتظر حتى تنتهي الصلاة.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين : (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: رجل قلبه معلق بالمساجد) وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط .. فذلكم الرباط .. فذلكم الرباط) .

والأحاديث في فضل الصلاة وأهميتها كثيرة جداً في دين الإسلام، هذه العبادة العظيمة حتى الملائكة تعبد الله بالصلاة يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: انحنت واحدودبت (وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك راكع أو ساجد).

هناك ملائكة ركع من يوم أن خلقهم الله إلى يوم القيامة، فإذا قامت القيامة رفعوا ظهورهم وقالوا: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، والملائكة سُجَّد منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

يذكر الله عن بعض الأنبياء بصفة صريحة ظاهرة الأمر بالصلاة:

- إبراهيم عليه السلام: يقول تعالى: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] وكان من دعائه: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ [إبراهيم:40].

- إسماعيل عليه السلام: يثني الله سبحانه وتعالى عليه ويقول: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [مريم:54-55].

- موسى عليه السلام: وذلك حينما حصل له التكليم من الله عز وجل؛ لأن الله اختصه واصطفاه بالكلام إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] حينما عاد من رحلة العمل التي قضاها في خدمة عمه وهي إجارة عشر سنين مهراً لابنته التي تزوجها قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27] ثم قضى أفضل الأجلين وهي العشر سنوات ثم استأذن عمه في أن يعود إلى بلاده وسار بأهله، فلما كان في الطور في سيناء وكانت ليلة باردة ومطيرة وشاتية وكانت زوجته في حال الوضع، والمرأة في حالة الوضع تحتاج إلى الدفء وتحتاج إلى الطعام فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً [طـه:10] رأى نوراً فظنه ناراً: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طـه:10-14] هنا الشاهد في أول الأمر (فاعبدني وأقم الصلاة).

عيسى عليه السلام لما حملت به مريم ابنة عمران وكان حملها به بطريقة تختلف عن البشر، أراد الله عز وجل أن يظهر قدرته في خلق الإنسان من غير أب واختار لهذه الآية مريم، وسبب اختيار الله لمريم؛ لأن الله قد عصمها من الشيطان؛ ولأن أمها وهبتها لله وكانت تظن أنها ذكر، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35] وهبته لله حتى يكون خادماً لـبيت المقدس ولكنها لما وضعت إذا بها أنثى، والأنثى لا تصلح لأن تخدم بيت المقدس الذي يرتاده الرجال قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ [آل عمران:36] قال الله تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً [آل عمران:37].

ولهذا ثبت في الصحيح أنه: (ما من مولود يولد إلا ويضربه الشيطان على ضلعه عند خروجه من بطن أمه إلا مريم وابنها) لم يستطع لهم الشيطان؛ لأن الله أعاذهم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ [آل عمران:36] من ذريتها؟ عيسى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [آل عمران:37].

كان الحمل عن طريق جبريل عليه السلام؛ نفخ في جيب درعها وقالت له حينما جاء: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً [مريم:18-21] أراد الله بخلق عيسى التدليل على قدرته سبحانه وتعالى على خلق الأشياء من غير ما اعتاد الناس، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد خلق الناس على أربعة أشكال:

الشكل الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قبضه ربنا من التراب وقال له: كن. فكان آدم من غير أم وأب.

الشكل الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء: مخلوقة من ضلع آدم لكن ليس لها أم.

الشكل الثالث: من أم بلا أب وهو عيسى.

الشكل الرابع: من أب وأم وهم سائر البشر، ولهذا يقول الله عز وجل: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران:59] إذا كنتم تستبعدون أن يخلق الله عز وجل إنساناً من أم بلا أب فلماذا لا تستبعدون أن يخلق الله إنساناً من غير أم ولا أب إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59].

حملته وانتبذت به مكاناً قصياً، حملها ووضعها كله كان في آن واحد ليس في تسعة أشهر، وبعد ذلك قال: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً [مريم:22] والفاء هنا يسمونها فاء الفجائية وبعضهم يسميها تعقيبية تقول: جاء فلان ففلان ففلان وراء بعض، حملته وانتبذت به وجاءها المخاض وشعرت بالألم ليس ألم الوضع، إنما ألم مواجهة المجتمع بهذا المخلوق الجديد الذي ليس له أب، ماذا تقول للناس؟! فقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23].

وليس أشق على النفس العفيفة والطاهرة والشريفة من أن تدنس أو يدار حولها أو حول عرضها أي شيء فيتمنى الإنسان العفيف الشريف الطاهر وتتمنى المرأة الطاهرة الشريفة أن تدفن في الأرض ولا يدور حول عرضها شيء، فالعرض غالٍ، والعرض كالتاج على الرأس؛ أي شيء يلوثه يكسره، فرأت وضعها وعانت نفسياً وقالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً [مريم:23] فناداها لما خرج مباشرة وكلمها وهو من الأربعة الذين تكلموا في المهد فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي [مريم:24] كيف لا تحزن؟! قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً [مريم:24-26].

وفي هذا الوضع النفسي المؤلم يقول لها: (وقري عيناً) وقرير العين هو الإنسان المرتاح الذي يعيش أفضل حياة السرور؛ لأن عين الإنسان المرتاح تقر -أي: هذه السوداء- لكن الذي في قلبه قلق ترى عينيه غير مستقرة، لا عيناً ولا نفساً، ولدها -وهي في حالة نفسية صعبة- يقول لها: قري عيناً، يقول المفسرون: قري عيناً؛ لأنك موضع اختيار من الله لإظهار هذه الآية! وهذا تشريف وتكريم أن يختارك الله من بين سائر العالمين ليظهر عن طريقك آية من آياته وقدرة من قدراته سبحانه!

يقول تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً [مريم:26] أي: لا داعي للاعتذار؛ لأن الاعتذار لا يجدي.

ولذلك إذا رأيت التطويل مع شخص في الكلام ليس له نتيجة فكف.

فأي كلام تستطيع أن توجهه للناس وتقنعهم بولدها؟ فالأحسن السكوت والله يدافع عنها: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:26-27] في الصباح لم يكن معها شيء والآن قد أصبح معها ولد فاستغربوا: قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27] الفري: الشيء العظيم، يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] أخوها من عباد بيت المقدس، ودائماً العروق والأصول السليمة لا تنبت إلا الثمار الطيبة؛ فذكروها بأخيها ثم ذكروها بأبيها وأمها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] كيف تشذين عن المنهج السوي؟! أبوكِ عابد وأمكِ عابدة وليست بغياً، وأخوكِ عابد، وأنت تعملين هذا؟! فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29] لم تتكلم؛ لأنها مأمورة ألا تتكلم، فاستغربوا وقالوا: عجيب! الطفل يتكلم؟! تكلمي أنتِ. فتكلم الطفل فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:29-30].

هذه أول كلمة قالها وهي تنسف عقيدة أكثر من مليار ونصف نصراني على وجه الأرض الذين يعتقدون أن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هو الذي يعرف نفسه ويكذبهم في أول عبارة منه، فيقول: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30] لأن الله سبحانه وتعالى ليس له ولد؛ صفة الولد في الرب صفة نقص، وصفة الولد في العبد صفة كمال، الذي عنده أولاد يرفع رأسه، لماذا؟ لأنه يحتاج إليهم إذا كبر ومرض وشاب وهرم، فمن نقصه يحتاج إلى الولد، أما الله فمن كماله لا يحتاج إلى ولد ولهذا يقول الله تعالى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:90-95] .. مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم:35] تعالى الله عن الولد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3].

هؤلاء الكفرة يقولون: إن عيسى ابن الله وهو يقول: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ [مريم:30-31] فالشاهد من القصة كلها وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:31-35].

وهكذا حتى ختمت الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالنبي الخاتم محمد رسول الله وهو خاتم النبيين لا نبي بعده.

احتلت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، وأهم أجزاء الشيء عموده، فإذا عندك خيمة فالخيمة أهم جزء فيها هو العمود الذي بعدمه لا توجد خيمة، وإذا كان عندك خيمة ولا يوجد معها عمود ماذا تعمل بها؟ تصبح بطانية أو لحافاً فقط، لكن الخيمة لا بد لها من عمود، فإذا وجد العمود وجدت الخيمة، وإذا نقص وتد أو نقص شيء خاص بالخيمة تسقط، كذلك الصلاة عمود الإسلام، بحيث إذا وجدت وجد الإسلام وإذا انتفت وضاعت ضاع الإسلام.

جاء في حديث معاذ الصحيح في السنن وفي مسند أحمد أنهم كانوا في سفر -في غزوة- فقال معاذ : (أصبحت وإذا بناقتي بجوار ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار) انظروا همة الصحابة! نفوسهم عالية، لا يسألون إلا عن هذه الجنة وعن هذه النار، لو أن شخصاً منا كان في هذا الموضع لقال: أسألك سيارة أو أرضية، همنا الأراضي فقط، وهؤلاء همتهم عالية، يريد الجنة ويريد الفوز بها ويريد أن ينجو من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم).

ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يقول: (كنت بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فأخذت إداوة ووضعت فيها ماء أرقبه ليقوم فأقدمه له، فقام من الليل ففتح الباب وأنا عند الباب، فقلت: هذا الماء يا رسول الله! قال: من؟ قلت: ربيعة ، قال: سلني يا ربيعة ! قلت: أسألك مرافقتك في الجنة قال: أو غير ذلك؟ قلت: ما هو إلا ذلك، قال: أعني على نفسك بكثرة السجود).

يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة وينجيني من النار) لأن هذا هو السعادة وهو الفوز وما قيمة دنيا بعدها نار، وما قيمة قصر بعده قبر، وما قيمة جسد بعده تراب تأكله الدود لكن عندما تدخل الجنة فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] اللهم إنا نسألك من فضلك يا أرحم الراحمين.

والله إن هذا هو الفوز أن تنادى يوم القيامة، ما هو يوم القيامة؟ يوم قيامتك أنت، وهذا قريب لأن العبد إذا مات فقد قامت قيامته، وأنت في بيت أهلك يأتي إليك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب فإن جاء ملائكة الرحمة شاهدتهم من بعيد فتحب لقاء الله، كما قال عليه الصلاة والسلام : (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! كلنا يكره الموت؟ قال: ليس ذلك، لكن المؤمن إذا رأى ملائكة ربه أحب لقاء الله) اللهم لا تحرمنا من فضلك العظيم.

ساعات حرجة أن تنظر وتقول وتعلن سعادتك التي تبدأها بأن تأخذ روحك ملائكة الرحمة وتضعها في حنوط من الجنة وكفن من الجنة، ثم تصعد إلى السماء ولها ريح كأطيب ريح وجد على ظهر الأرض، ثم تستفتح لك الملائكة في السماء فيفتح لك حتى يكتب كتابك عند الله في عليين وتعاد روحك إلى جسدك هذا والله هو الفوز وهذا ممكن وسهل جداً كما جاء في الحديث: (لقد سألت عن عظيم، ثم قال: وإنه ليسير على من يسره الله عليه) اللهم يسره علينا يا أرحم الراحمين، ثم ذكر (تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وبعد ذلك قال: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).

وفي الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة...) فهي عمود الإسلام، بل كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، من هو الذي إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة؟! بل نفزع للتليفون، نفزع للجار وللمدير وللوزير ولم نفكر أن نفزع إلى الله.

شخص من الناس ظلم بشهادة زور على قطعة أرض، والأرض له وملكه وملك أبيه وجده والناس يعرفون ذلك، لكنَّ شخصاً أراد أن يأخذها؛ لأنها أمام البيت فهو يريدها للضيوف وموقفاً للسيارات، فذهب وسوّرها، وجاء صاحبها وقال له: يا أخي! هذه الأرض ملكي، قال: هذه ليست لك، فاشتكى ذاك، قال: تحت يدي هل عندك بينة؟ قال: عندي بينة، فذهب وأتى بشهود زور أن هذه الأرض المحددة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ملكاً لفلان بن فلان أباً عن جدٍ لا ينازعه فيها منازع ولا يشاركه فيها مشارك والله على ما نقول شهيد، وعلمهم الشهادة في الليل والله ينظر إليهم في الليل وأغراهم بنقود وقال: الدنيا دوارة؛ اليوم عليك وغداً لك، إذا شهدتم لي غداً أنا سوف أشهد لكم مرة أخرى، قالوا: مالنا بك عذر وشهدوا، قال القاضي للمشهود عليه: عندك فيهم جرح هؤلاء الشهود، قال: لا يحتاجون، التزكية أنا أزكيهم لكن كلمة أقولها يا قاضي! قال: نعم. قال: والله إني أعلم إن هذا يعلم -صاحب الدعوة- والشهود أنهم كاذبين وأن الأرض لي ولكن أرادوا أن يأخذوها غصباً فأنا أحيلهم إلى الله فينصفني منهم رب العالمين، قال: توقع أن عندك اعتراض على الصك، قال: لا. ليس عندي اعتراض، خرج من المحكمة ودخل إلى المسجد ورفع برقية عاجلة إلى الله؛ لأن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الله تعالى: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) لكنه ما كان يريدها بعد حين، صلى ركعتين، وقال: اللهم إنك تعلم أن فلاناً ظلمني وأخذ الأرض وهي أرضي، وشهد اثنين ظلماً وزوراً، وإنه الآن يحوطها ويبني عليها وأنا أشاهده بعيني، فإن قتلته قتلوني وإن مكثت أشاهده كل يوم آلمني قلبي، اللهم إني أسألك أن تنصرني هذا اليوم وليس غداً، يقول: أريد الإجابة عاجلاً. وخرج من المسجد وذهب إلى بيته ودخل البيت مكسور الفؤاد حزيناً، قالت له زوجته: ماذا بك؟ قال: لا شيء، أريد أن أنام، فرشت له الفراش ونام قبل الظهر، وقليل وإذا بالصارخ يصرخ في القرية، ماذا حصل؟ قالوا: حادث مروري، لمن؟ للثلاثة؛ الشاهدين وصاحب الصك قد أخذ الصك في جيبه والشهود معه وقال لهم: الغداء في البيت في القرية وفي نشوة الفرحة بالأرض دار بقوة فانقلبت السيارة أكثر من مرة ومات الرجل ومات الشاهدان وما أمسوا تلك الليلة إلا في قبورهم، وفي اليوم الثاني بعد العزاء تأتي المرأة وتأخذ الصك من ثياب زوجها وهو ملطخ بالدم لتذهب إلى القاضي وتقول: يا قاضي! والله ما قتل زوجي إلا هذا الصك، قالت: والله إن الأرض ليست لنا لقد ذهب زوجي فلا أريد أن يذهب جميع أولادي.

كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وكان يقول لـبلال : (أرحنا بها يا بلال) ليس مثلنا الآن ونحن نصلي الآن ونقول: دعونا نصلي الآن من أجل أن نرتاح منها كأنها حمل نبعدها عن أكتافنا من أجل السمر، يقول: نسمر، لقد صلينا وارتحنا من الصلاة، لا. يقول: (أرحنا بها يا بلال ) أي: أدخل الراحة والأمن واللذة والمتعة في قلوبنا بها، هل نجد الراحة والأمن والمتعة في الصلاة الآن؟ أم أن بعضنا يأتي وهو مغصوب، وبعضنا في الصلاة تشاهده يراوح بين رجليه ويحك ويريد أن ينفك بأي وسيلة وينتظر حتى تنتهي الصلاة.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين : (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: رجل قلبه معلق بالمساجد) وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط .. فذلكم الرباط .. فذلكم الرباط) .

والأحاديث في فضل الصلاة وأهميتها كثيرة جداً في دين الإسلام، هذه العبادة العظيمة حتى الملائكة تعبد الله بالصلاة يقول عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء) أي: انحنت واحدودبت (وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك راكع أو ساجد).

هناك ملائكة ركع من يوم أن خلقهم الله إلى يوم القيامة، فإذا قامت القيامة رفعوا ظهورهم وقالوا: سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، والملائكة سُجَّد منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].

هذه الصلاة -أيضاً- لها خصيصة في دين الله وهي أن جميع التكاليف الشرعية فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض إلا الصلاة لأهميتها، لما جاء الأمر بفرضيتها استدعي النبي صلى الله عليه وسلم فأسري به من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى وفي مكان في السماء تركه جبريل، قال: تقدم، قال: أنت، قال: لا. وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164].. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:9-13] إلى آخر الآيات.

فرض الله عليه خمسين صلاة، هذا في أصل مشروعية الصلاة، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في الأرض وفرضت عليه الخمسين لما كان بالإمكان المراجعة! مثل الزكاة؛ هل راجع الرسول صلى الله عليه وسلم في الزكاة؟ هل راجع في الصوم؟ ليس هناك مراجعة في أي شيء إلا في الصلاة، لماذا؟ لأنه في السماء بين الله وبين موسى نزل الرسول صلى الله عليه وسلم وحمل التكليف خمسين صلاة، أي: لو كانت خمسين صلاة انظروا كم نصلي في مدى (الأربعة والعشرين) الساعة نصلي كل (ثمانٍ وعشرين) دقيقة صلاة! أقل من نصف ساعة؛ لأن كل نصف ساعة صلاة، أي: ثمانية وأربعون صلاة، ويبقى معنا صلاتان ندخلها في النص نأخذ من كل نصف ساعة دقيقتين حتى نغطي، بمعنى: أنه ليس معنا إلا الصلاة نصلي ونسلم، وأذن الثانية ونصلي، وأذن الثالثة .. إذاً نصف ساعة تتوضأ وتصلي وتسلم وأذن الثانية، أي: أنه ما معنا إلا الصلاة، وهذا هو الصحيح؛ فالله ما خلقنا إلا للصلاة وللعبادة، فالله فرضها خمسين من أجل أن تستوعب علينا وقتنا كله.

ونزل صلى الله عليه وسلم ومر على موسى، فقال له موسى: (ما فرض الله عليك؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع فاسأل ربك أن يخفف فإن أمتك لا تطيق -يقول: بني إسرائيل فرض الله عليهم صلاتين فضيعوها وأمتك ستضيعها- فرجع إلى الله سبحانه وتعالى وسأله التخفيف، فخففها الله خمساً، ونزل، قال: خمساً، قال: ارجع، فرجع ثانية ونزل قال: خمساً. بقي أربعون، فقال: ارجع فلا يزال بين الله وبين موسى حتى صارت خمساً، قال موسى: ارجع، يريد أقل من خمس، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد استحييت من ربي) فقال الله عز وجل عند هذه الكلمة: (إنه لا يبدل القول لدي، هي خمس في الأداء وخمسون في الأجر).

ولذا عندما تصلي خمساً فأنت تصلي خمسين؛ الحسنة بعشر أمثالها، فوالله إنه محروم من يضيع هذه الصلاة، خمس فقط! نصلي الآن العشاء وبعد ذلك كم نمكث حتى نصلي؟ إلى الفجر نحو (ثمان ساعات) إلا لمن أراد ووفقه الله للتهجد، ثم نصلي الفجر ركعتين ونمكث بعدها إلى الظهر من (أربع ونصف) أو من (خمس) إلى (اثني عشر) وليس هناك صلاة ومع هذا نضيعها؟! إذاً لماذا خلقنا الله؟!

ما فهمنا -أيها الإخوة- لماذا خلقنا الله! أكثر الناس يظن أن الله خلقه من أجل أن يعمر ويتوظف ويدرس ويأكل ويشرب وهذه الصلاة في ذيل الاهتمامات آخر ما يفكر فيه الصلاة، أي: برنامجه معروف: استيقاظ .. دوام .. غداء .. نوم .. تمشية .. تسوق .. سهر .. نوم .. هذا برنامج أكثر الناس، والصلاة على الهامش، إن كان يوجد وقت وضع لها مجالاً وإن لم يكن نسيها وضيعها، هذا ضائع ليس فيه خير -والعياذ بالله- هذه خصيصة الصلاة أن الله فرضها في السماء لأهميتها.

ومن خصائص الصلاة أيضاً: أنها العبادة الوحيدة التي لا تسقط على الإنسان في أي حال من الأحوال ما دام يملك عقله، جميع الشرائع تسقط، الزكاة ركن لكن إذا لم يكن عندك مال فليس عليك زكاة، أو عندك مال لم يبلغ النصاب ليس عليك زكاة، أو عندك مال وبلغ النصاب لكن لم يحل عليه الحول ليس عليك زكاة وهي ركن.

و الصوم ركن من أركان الدين ومن كان مريضاً أو مسافراً أفطر ويقضي بعد ذلك، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه والأطباء يقولون: مرضك مزمن لا يمكن أن تشفى، أفطر طول حياتك ولا تصم وأطعم ويسقط عنك الصوم.

و الحج ركن، وإذا كنت لا تستطيع الحج يسقط عنك الحج .. كل الشرائع تسقط إلا الصلاة! الصلاة لا تسقط بعدم الاستطاعة، صلِّ قائماً، لم يقل: لا تصل، لا. قال: صل وأنت جالس، يا رب لا أستطيع أن أصلي وأنا جالس، صلِّ على جنب، يا رب لا أستطيع أن أصلي وأنا على جنبي، صل بالإيماء؛ أومئ إيماءً برأسك وأنت على السرير، كبر، الله أكبر اخفض رأسك في الركوع قليلاً وفي السجود أكثر، لا تستطيع تحريك رأسك فبعينك، لست متوضأً تيمم، لا تستطيع التيمم ليس عندك تيمم صل بغير وضوء، سريرك أو فراشك على القبلة الحمد لله، لا تستطيع أن تصلي إلى القبلة صل إلى غير القبلة فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115] ثيابك طاهرة ونظيفة الحمد لله، وإن كان فيها نجاسة غيرها إذا لم يوجد أحد يغير لك صلِّ في ثيابك. المهم، لا تترك الصلاة، لماذا؟ لأهميتها.

صلاة الأمن شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن صلاة الخوف من الذي بينها: الله، صلاة الأمن صلاة المغرب ثلاثاً، والعصر أربعاً، والعشاء أربعاً، والفجر اثنتين، والظهر أربعاً، ما جاءت في القرآن، جاءت في السنة الثابتة الصحيحة، لكن صلاة الخوف جاءت في القرآن بالتفصيل حتى لا يقول شخص من الناس: نحن في معركة، نحن في جهاد، نحن نفتح الأرض لدين الله، فليس هناك داعٍ للصلاة، نصليها في وقت آخر، لا. الصلاة حتى وأنت تجاهد تصلي، قال عز وجل : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102] تفصيل لكيفية صلاة الخوف، فليس هناك صفوف يا رب! الحرب محتدمة والسيوف مشتبكة، قال: فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً [البقرة:239] إذا كنتم راجلين أو راكبين؛ على طائرتك أو على دبابتك أو في خندقك أو راجل .. صلِّ، لا تضيع الصلاة وذلك لأهمية الصلاة!

لكن حتى تجد نتيجة لصلاتك صلِّ وانتظر النتيجة، فلا تسمى الصلاة صلاة إلا إذا توفرت فيها أشياء أساسية، وليس كل من صلى يعتبر مصلياً، كم من مصلٍ لم تتجاوز صلاته رأسه، المنافقون كانوا يصلون، يقول الله عز وجل: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54] فأثبت الله لهم صلاة لكن بكسل، ونفقة لكن بإكراه ثم ذكر أنهم كفار: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ [النساء:142] سماهم الله منافقين وقال: إنهم يقومون للصلاة ولكنهم يقومون وهم كسالى، ، وإذا أردت أن تعرف هل أنت مؤمن أم منافق: اسأل نفسك عن قيامك للصلاة، إذا كنت تقوم وأنت تسحب نفسك سحباً وهذا يظهر فيمن يوجد في الصفوف الخلفية يؤذن ولا يأتي، وتقام الصلاة ثم يأتي، لماذا؟ يقول أحد السلف: بئس العبد الذي لا يأتي إلا إذا دعي، يقول: بئس العبد الذي لا يأتي إلا بعد الأذان.

يقول ابن المسيب : [والله ما سمعت الأذان من خارج المسجد أربعين سنة ولا نظرت إلى ظهر مصلٍّ ولا خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فلقيني الناس وقد صلوا].

وكان السلف لا يسمعون الأذان إلا وهم في المسجد؛ لا ينتظرون الأذان، الأذان هو الإعلام بدخول الوقت فقط، ليس الإعلان لكي تأتوا للصلاة، هم يأتون قبل أن يدعوا، والآخر يقول: إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام فاغسل يديك منه، يقول: هذا ليس بشيء.

وإن مما يؤسف له أن نرى بعض الملتزمين الذين عليهم علامات الدين وعلامات السنة في لحيته وثوبه ووقفته لكن تجده دائماً يصلي في آخر الصف، تكبيرة الإحرام لعب عليه الشيطان فيها، وتجد بعض عوام الناس في الصف الأول، هذا الذي في الصف الأول هو الملتزم الصادق، أما ذاك الملتزم الصوري .. ملتزم بالشكل لكن القلب فيه مرض، أدى به إلى أن يكون متخلفاً دائماً.

يؤذن المؤذن لكن لا يجيبه، ولو قلنا للناس: تعالوا قبل الأذان لن يأتي أحد، لكن تقول لنا عائشة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا سمع: حي على الصلاة .. حي على الفلاح قام كأنه لا يعرفه منا أحد) وكان الرجل يبيع ويشتري والميزان في يده، فإذا سمع الأذان وضع الميزان لا أحد يستطيع أن يغلق هذه الوزنة، انتهى. لا يجوز، إذا عملت كذا معناه أنك تحب الله .. تحب الصلاة، أنت عندما يعزمك شخص تحبه، قال: الغداء عندنا أو العشاء الليلة عندنا، وأنت تحبه تأتي قبل الناس كلهم، تقول: والله آتي قبل الناس كلهم من أجل أن أتكلم أنا وإياه قبل أن يأتي الناس، لكن شخصاً لا تحبه ولا تطيقه ولكن تلزمك الظروف إما نسب وإما جيران وإما عمل نلزمك إن تذهب له فتقول: متى العشاء؟ فيقول: بعد العشاء، تقول: بعد العشاء وقت طويل، متى تضعون السفرة، لماذا؟ والله أنا مشغول وتنظر إلى الساعة فإذا جاءت الدقيقة تلك أتيت السفرة وعيناك على الصحن تأكله من عند الباب وتمشي مثل بعض الناس لا يأتي إلا إذا أقيمت الصلاة، يأتي آخر شخص ويخرج أول شخص؛ من أجل أن يسلم الإمام وهو عند الباب، ماذا بك؟ أنت مجنون؟

بينما المؤمن يأتي أول شخص ويخرج آخر شخص، بل يخرج هو يسحب نفسه بالقوة؛ لأنه يعرف أنه يدع روضة من رياض الجنة ويخرج إلى أماكن قد لا يحبها الله سبحانه وتعالى.

وحتى تكون الصلاة صحيحة ننتظر نتائج هذه الصلاة ولا بد أن تتوفر في الصلاة هذه الأشياء:

الهيكل العام للصلاة

أولها: وهو الهيكل العام للصلاة والمعبر عند الفقهاء بشروط الصلاة وأركان الصلاة وواجبات الصلاة وسنن الصلاة، هذه لابد منها، لابد قبل أن تقف في المسجد بين يدي الله أن تتوفر فيك تسعة شروط -مثل- شروط الوظيفة قبل أن يدخل الشخص إلى الامتحان هل تتوفر فيه الشروط؟ إذا كانت تتوفر فيه الشروط، قالوا: ادخل، وإذا نقص شرطاً واحداً قالوا: لم تنطبق عليك الشروط، نقص شرط واحد فخذ ملفك, كذلك الصلاة لا تقف فيها إلا بعد توفر تسعة شروط، إذا توفرت هذه الشروط فادخل إلى الامتحان فإن نقص شرط اخرج.

ثم أركان الصلاة الهامة أربعة عشر ركناً لابد منها، ثم واجبات الصلاة لابد منها، ثم السنن والابتعاد عن المنهيات والمكروهات والمبطلات. هذه لابد أن يعرفها المسلم وأن يحرص على توفرها في صلاته، وهذا ما يحتاج إلى التوسع فيه؛ لأن الطالب من أول صف إلى أن يتخرج من الجامعة وهو يدرس هذه الأمور، ومناهجنا -والحمد لله- مثالية في تعليم الدين، لكن أين التطبيق؟

عندي طفل صغير في صف رابع ابتدائي وعندهم في الفقه: الصلاة وأركان الصلاة ومن ضمنها الطمأنينة في جميع الأركان، فكنا نصلي في المسجد فقام وصلى السنة فعلى عادة الصغار يصلون بسرعة، ثم مشى وذهب إلى البيت، قلت: تعال يا ولدي! أنت صليت في المسجد، قال: نعم، والسنة، قال: نعم. قلت: أسرعت، قال: كل الناس هكذا، قلت: لا. ما علينا من الناس لكن أنت أخذت في الفقه (الطمأنينة) هات الكتاب، أتى بالفقه وقرأ علي أركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والرفع منه والجلوس والاعتدال والطمأنينة .. قلت له: ما معنى الطمأنينة في جميع الأركان؟ قال: لا أعلم، قد حفظها لكن لا يعلم ما هي الطمأنينة؟ قلت: الطمأنينة معناها أن تطمئن في صلاتك ولا تسرع، قال: لماذا أطبقها أليست مثل المحفوظات والقواعد ومثل الجغرافيا؟ هل شخص يطبق الجغرافيا يذهب يأخذ له خريطة ويذهب يمسح الدنيا؟ فالمصيبة الآن أن الناس يتلقون دروس الدين على أنها مناهج دراسية للنجاح وليست مناهج دراسية للعمل والتطبيق والتربية، فهذا معروف عند كثير من الناس، من الذي ينكر أن أركان الصلاة أربعة عشر؟ كل شخص يعرف من الصغار إلى الكبار، لكن من الذي يطبق؟ هنا المسألة.

الخشوع في الصلاة

الأمر الثاني المهم في الصلاة: الخشوع.

الخشوع هو روح الصلاة، الصلاة جسد وروح؛ فجسدها: القيام والركوع والسجود والقراءة، وروحها: الحضور القلبي والخشوع، والجسد بدون روح ليس له قيمة، والصلاة بدون خشوع ليس لها قيمة، ولهذا لا يكتب لك من صلاتك إلا ما حضر فيها قلبك، وهل يحضر قلبك في كل الصلاة؟ مستحيل! ولهذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنصف، قال: (يكتب للعبد من صلاته نصفها) أي: الذي يجيد النصف هذا أكثر واحد، (نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها) بعد العشر لا يبقي شيء، لماذا الشخص لا يستطيع أن يجيد الصلاة كلها ؟ لأن أقدس موقف بين يدي الله هي الصلاة.

وهناك قوة خفية وهي: قوة الشيطان التي لا تريد لك أن تقف هذا الموقف فهي تصدك عن الصلاة بكل وسيلة، وإذا أردت أن تصلي تسلط على قلبك وأشغلك، ولذا لا يجد الإنسان وساوس ولا خطرات ولا أفكار إلا في الصلاة، هل يوسوس أحدنا وهو يتغدى أو يتعشى؟ ما رأيكم إذا وضعوا السفرة أمام أحدنا هل يأتيه وسواس؟ أو يأتيه تفكير؟ لا. يفكر في اللحم وفي الأرز وفي الإدام والمحلبية والسلطة والخضرة فقط، تفكيره بالسفرة، هل يوسوس أحدنا أو يفكر وهو يشاهد المباراة؟ لا. بل بعضهم لو أخذت الذي في يده لا يشعر، لكن لماذا يوسوس في الصلاة؟ لأن الصلاة كنز والشيطان يريد أن يسرقها عليك، ولذلك يقول أحد السلف : إذا نسيت شيئاً وأردت أن تذكره فقم إلى الصلاة، مباشرة يأتيك الشيطان من أجل أن يلهيك عن الصلاة، ولا يأتيك الشيطان بأهم شيء إلا إذا صليت، يعرف الشيطان من خلال ملابسته لك ما هو موضع اهتمامك، إن كنت تاجراً اهتمامك بالتجارة، وإن كنت تبني عمارة فتفكيرك كله في العمارة، كيف التفصيل؟ ومن المقاول؟ وأين نضع المجلس؟ وأين نضع الرخام؟ يضع العمارة كلها بين يديك، فإذا أكملت الصلاة ضيعها عليك فإذا بك لا صلاة ولا عمارة .. وهكذا.

أذكر قصة وقعت لي قبل نحو (25 سنة) وكنت في أبها فأرسل لي أحد المحسنين مبلغاً من المال لتوزيعه على فقراء منطقة تهامة (مائة وخمسين ألفاً) وجاء بها في حقيبة دبلوماسية تركتها في ليلة من الليالي قبل التوزيع؛ لأني أرسلت إلى تهامة إلى بعض طلبة العلم لكي يأتوا ويوزعونها، فأردت زيارة أرحامي فأخذت أهلي وركبت فلما ركبنا في السيارة تذكرت الحقيبة، قلت: يمكن أن يسرقها لص وأنا ليس لدي إلا بيتي أبيعه وأعوض، فذهبت وأخذت الحقيبة ووضعتها في السيارة فإذا وصلنا البيت أنزلها، فوصلنا بيت الأهل وإذا بالمؤذن يؤذن فأنزلتهم وذهبت أصلي وجعلت الحقيبة في الحوض، أخرجتها من الحرز إلى الشارع! دخلت المسجد وصليت الركعتين -تحية المسجد- وجلست أقرأ وجاء الإمام فلما رآني قال: يا شيخ! أريد منك كلمة بعد الصلاة، قلت: خيراً إن شاء الله، فلما أقيمت الصلاة قدمني ولما قلت: الله أكبر، قال الشيطان: والحقيبة، لا حول ولا قوة إلا بالله! أي: لو أنه قال لي قبل الصلاة لخرجت، ولو تركني على الأقل أصلي وبعد ذلك يقول لي، أجل، المصيبة وقعت لكن مع بداية الصلاة، فأصابتني هزة أشبه بالصعق الكهربائي! (مائة وخمسون ألف ريال) أتركها في الشارع وأنا لا أملك في الدنيا إلا بيتاً لو بعته ما يأتي (بخمسين ألفاً)، و(المائة والخمسون الألف) في تلك الأيام تعدل مليوناً ونصف. فما عرفت ماذا أقرأ من بداية الصلاة أردت أن أنصرف! صعب، أواصل! أصعب! جمعت نفسي وقرأت الفاتحة وأتى الشيطان وأنا في الركعة الأولى، قال: بسيطة ويضع لي حلولاً فخرجت من الصلاة وأنا لا أعلم ماذا صليت، ولما انتهيت من الصلاة أردت أن أخرج وإذا بأخينا إمام المسجد يقوم، قال: معنا في هذه اللحظة المباركة فضيلة الشيخ سعيد بن مسفر وقد أكرمنا الله به في هذه الساعة فنطلب من فضيلته أن يتحفنا بكلمة. قلت: يا شيخ! لا يوجد لدي كلمة ألقيها.

قال: والله لابد أن تتكلم، لا حول ولا قوة إلا بالله! أنا ليس عندي كلام وحالتي النفسية مضطربة فقمت واستفتحت وتكلمت بكلمتين وقد قيدت الجالسين وما أردت أحداً أن يخرج خفت أن يخرج شخص من أمامي فيأخذها، فقيدتهم بالجلوس في مجالس الذكر وفضيلة مجالس الذكر وأن الذي يخرج من مجلس الذكر منافق، المهم سلمت وخرجت وإذا بالحقيبة مكانها فأخذتها ودخلت سجدت لله سجدة شكر، قلت: والله ما حفظها إلا ربي أما أنا فقد ضيعتها، لكن الشاهد أن الشيطان لا يذكر بالشيء إلا في الصلاة وأعدت صلاتي تلك.

لابد أن نحرص على مجاهدة أنفسنا في الصلاة، لا نقول: إنك تسلم (100%) لكن لا تستسلم (100%) كما قال ابن القيم : فهذا في صلاة وجهاد؛ لأنه قسم المصلين إلى خمسة أقسام، يقول: رجل ضيع حدودها وطهارتها فهذا خاسر، ورجل حفظ الحدود والطهارة والوضوء والركوع والسجود وضيع القلب والخشوع فهذا معاقب، ورجل يأخذ منه الشيطان ويأخذه من الصلاة، يقول: فهذا في صلاة وجهاد -والرجل الرابع والخامس ليسا موجودين الآن إلا أن يشاء الله- يقول: ورجل وضع قلبه بين يدي ربه واستشعر عظمة مولاه وعظمة الموقف الذي هو فيه، ففكر فيما بعد هذه الحياة -أين هو هذا؟ الله أكبر- يقول: فهذا مقرب.


استمع المزيد من الشيخ سعيد بن مسفر - عنوان الحلقة اسٌتمع
كيف تنال محبة الله؟ 2926 استماع
اتق المحارم تكن أعبد الناس 2925 استماع
وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً 2803 استماع
أمن وإيمان 2674 استماع
حال الناس في القبور 2674 استماع
توجيهات للمرأة المسلمة 2602 استماع
فرصة الرجوع إلى الله 2570 استماع
النهر الجاري 2474 استماع
دور رجل الأعمال في الدعوة إلى الله 2465 استماع
مرحباً شهر الصيام 2397 استماع