اللقاء الشهري [59]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء التاسع والخمسون من اللقاءات الشهرية التي تتم يوم السبت ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة هي ليلة الأحد الحادي والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام (1419هـ).

أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما علمنا، وأن يزيدنا علماً، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين إنه على كل شيء قدير.

تفسير قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً ...)

في هذه الليلة سنبدأ بتفسير آخر سورة الفرقان، من قول الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61].

يمتدح جل وعلا نفسه بهذه المخلوقات العظيمة، فيقول: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] أي: تعالى وتعاظم، وحلت البركة بأسمائه وكلامه عز وجل، كما قال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] وفي دعاء الاستفتاح نقول في الصلاة: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك) أي: إن البركة تنال باسمك، ولهذا يذبح رجلان ذبيحتين: أحدهما لم يسم على ذبيحته، والثاني سمى عليها، فذبيحة الأول حرام لا بركة فيها، وذبيحة الثاني الذي سمى عليها حلال فيها البركة.

فالله عز وجل متبارك متعالٍ متعاظم: البركة في أسمائه .. البركة في صفاته .. البركة في كلامه جل وعلا.

الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] (بروجاً) جمع برج، وهي النجوم العالية، هذه النجوم التي نراها ونشاهدها ليلاً هي بروج يعلو بعضها بعضاً وهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة للصيف، وثلاثة للشتاء، وثلاثة للخريف، وثلاثة للربيع، فالجميع اثنا عشر برجاً، نجوم عالية، انظر إلى هذه النجوم كيف تراها بهذا الكبر وبينك وبينها من المسافات العظيمة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أو من أطلعه الله عليك!

وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] السراج: الشمس، والقمر المنير: القمر، والأم هي الشمس؛ لأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، ولهذا إذا دنا القمر من الشمس ضعف نوره؛ لأنها تضعف المقابلة بينه وبين الشمس ونوره مكتسب من الشمس، فإذا قرب منها قلَّت المقابلة فقلَّ النور، وإذا ابتعد عنها وصار هو في المشرق وهي في المغرب أو بالعكس امتلأ نوراً؛ ولذلك تجدون القمر في ليالي الإبدار مكانه بالنسبة للشمس في أول الليل شرقاً والشمس غرباً، وفي آخر الليل يكون غرباً والشمس شرقاً ويمتلئ نوره؛ لأنها تتم مقابلته مع الشمس، ولهذا سمى الله الشمس سراجاً والقمر نوراً.

تعاقب الليل والنهار

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً [الفرقان:62] يخلف بعضه بعضاً، يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار فيذهب الليل، بقدرة الله جل وعلا، وقد بيَّن الله لنا ذلك في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ [القصص:71]؟

الجواب: لا إله إلا الله، لا أحد يقدر على هذا إلا الله، لو اجتمعت الأمم كلها بأجناسها وأنواعها وقواتها ما استطاعوا أن يمنعوا الشمس لحظة واحدة، ولا أن يعجلوها لحظة واحدة .. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ؟ الله عز وجل أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:72-73] الحمد لله.

إذاً .. جعل الله الليل والنهار خلفة، أي: يخلف بعضهما بعضاً، يأتي هذا ويذهب هذا، ويأتي هذا ويذهب هذا، ثم هناك آية أخرى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان:29] تارة يزيد النهار وينقص الليل، وتارة ينقص النهار ويزيد الليل، وتارة يتساويان.

من الذي يسير الشمس حتى يطول الليل أو النهار؟ الله عز وجل.

خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] (لمن أراد أن يذكر) أي: من الناس الذين لا يشكرون الله، لكن لو تأملوا لتذكروا، لو تأملوا بهذه القدرة الإلهية العظيمة؛ أن الله تعالى يجعل الليل والنهار خلفة لتذكروا .. أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] أي: أراد عبادة، ولهذا لنا عبادات مقرونة باختلاف الليل والنهار .. الفجر بطلوع الفجر، والظهر بزوال الشمس، والعصر إذا صار ظل كل شيء مثله، والمغرب بغروب الشمس، والعشاء بغروب الشفق، فالله تعالى جعل هذا الاختلاف لمن أراد أن يتذكر؛ لأن الإنسان بمجرد ما يتأمل -وإن لم يكن مؤمناً لكن بعقله- لا بد أن يعرف أن اختلاف الليل والنهار بحكمة من مدبر حكيم عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناًَ)

قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] استمع إلى ما سيأتي في أوصاف عباد الرحمن، وتأمل كيف قال: عباد الرحمن! ليشير إلى أن كونهم عبيداً لله إنما هو برحمة الله عز وجل .. قال: عباد الرحمن، ولم يقل: عباد الله؛ لتعلم أنهم لم يكونوا عباداً لله إلا برحمة الله عز وجل.

وأوصافهم: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] فإذا قال قائل: هل الخلق كلهم عبيد لله، أو العبيد لله هم العابدون له؟

الجواب: كل الخلق عبيد لله، قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] كل الخلق عباد لله أرقاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يستطيعون أن يدفعوا ما أراد الله بهم، أعتى العتاة وأشدهم عناداً عبدٌ لله، لكن بالعبودية الكونية لا بالعبودية الشرعية، ولذلك تحدى الله عز وجل الكفار فقال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83] أي: الروح صعدت من البدن حتى وصلت إلى الحلقوم وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85] (أقرب إليه منكم) أي: بملائكتنا، الملائكة الذين يحضرون لقبض الروح، (ولكن لا تبصرون) فالذين عند الميت حال الاحتضار لا يشاهدون شيئاً .. فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86] أي: كما تزعمون أنكم لن تجازوا على الأعمال ولن تبعثوا تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:87] ما هو الجواب؟ لا يمكن أن يرجعوها، متى بلغت الروح الحلقوم لو اجتمع أهل الأرض كلهم وأهل السماء فلن يستطيعوا ردها .. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87] لا يمكن.

إذاً: هل الخلق جميعهم كافرهم ومؤمنهم عبيد لله؟

نعم، عبيد لله بالمعنى الكوني، لا يمكن أن يفروا من قضاء الله وقدره، لكن العبادة المفيدة عبادة الشرع، العابدون لله بشرعه .. اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم.

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] ذكر صفاتهم الفعلية والقولية .. يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] تجده يمشي لا مشية المجنون المخبول، ولا مشية المتسرع؛ بل مشية هينة، وليس المعنى: أنهم لا يسرعون، بل يسرعون في موضع الإسراع ويخفضون في موضع الخفض، لكن هوناً متواضعين لله، متواضعين لعباد الله.

وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ [الفرقان:63] وأساءوا إليهم بالقول لا يقابلونهم ولكن قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] قد يتبادر لبعض الناس أن المعنى: أنهم يقولون: سلامٌ عليكم، ولكن المعنى أعم من ذلك، أي: قالوا قولاً يسلمون به، إما سلام عليكم، وإما كلام لين آخر يسلمون به.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً))

قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً [الفرقان:64] يبيتون سجداً لله وقياماً، وتأمل لماذا قدم (لربهم) على قوله: (سجداً وقياماً)؟! إشارة لإخلاصهم أنهم لا يقومون رياءً ولا سمعة، وإنما يقومون لله وحده، وهل هم يسجدون ويقومون فقط، أم يركعون أيضاً؟ يركعون ويجلسون، الصلاة فيها ركوع وقيام وقعود وسجود، فلماذا نص على القيام والسجود؟

نص عليهما لأن القيام أشرف بذكره، والسجود أشرف بهيئته، القيام أشرف بذكره؛ لأن الإنسان القائم يقرأ كلام الله عز وجل، أفضل قول هو قول الله عز وجل، فلشرف ما يقرأ به في قيامه نص على القيام، والسجود أشرف في هيئته؛ لأن الساجد أقرب ما يكون لربه تبارك وتعالى، فنص على القيام لشرفه لما يقرأ فيه، وعلى السجود لشرفه بهيئته.

وقل لي يا أخي: ما الذي تضعه عند السجود؟ تضع الجبهة والأنف، الوجه، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان ينزل حتى يكون في موطئ الأقدام ذلاً لله عز وجل، ولو وضع السيف على رقبة المؤمن ليسجد لفلان أو فلان ما سجد، لكنه إذا سمع المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ أجاب بسرعة.

إذاً .. هؤلاء من أوصافهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، وهل يطيلون القيام؟ هل يطيلون السجود؟ ما دام بياتهم على هذا الوصف فمعناه أنهم يطيلون القيام والسجود، وهذا إمامهم محمد صلوات الله وسلامه عليه يطيل القيام حتى إن قدميه لتتفطر من طول القيام .. (صلى معه ذات ليلة عبد الله بن مسعود وهو شاب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وأطال القيام، قال عبد الله بن مسعود : حتى هممت بأمر سوء -وهو شاب أصغر من الرسول عليه الصلاة والسلام- قالوا: ماذا هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أردت أن أقعد وأدعه). الله أكبر!

وصلى معه حذيفة بن اليمان ذات ليلة، فبدأ بالبقرة بعد الفاتحة، يقول حذيفة : (فقلت: يسجد عند المائة، -أي: إذا أتم مائة آية يركع- ولكنه مضى حتى أتم البقرة، فقلت: يركع حينئذ، ثم مضى، فقرأ النساء ومضى وقرأ آل عمران ..) وهذا قبل الترتيب الأخير، لأن سورة النساء كانت قبل آل عمران، وفي الترتيب الأخير صارت آل عمران قبل النساء، وقرأ الرسول عليه الصلاة والسلام خمسة أجزاء وربع، قال حذيفة : (وكان لا يمر بآية تسبيح إلا سبح، ولا بآية رحمة إلا سأل، ولا بآية وعيد إلا تعوذ) إذا كنا نقرأ خمسة أجزاء -مثلاً- في ساعة ونصف، ففي كم قرأها الرسول مع الترتيل ومع السؤال عند ورود الرحمة، والتعوذ عند ذكر العذاب، والتسبيح عند ذكر التسبيح؟ ستكون ساعات طويلة، وفي السجود -أيضاً- يطيل السجود عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يستحسر المرء إذا سمع مثل هذا، ويقول: ما لي ولهذا! لا أستطيع، ثم يقول لنفسه: أنام إلى أذان الفجر، فنقول: يا أخي! الخير كل الخير فيما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (اكلفوا من العمل ما تطيقون) أي: لا تكلفوا أنفسكم، وإنما الذي تطيقون، وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) أي: الذي يديم عليه الإنسان وإن قل، فإذا حصل لك في آخر الليل قبل الفجر بنصف ساعة، تقوم وتتوضأ وتقرأ ما ينبغي أن يقرأ عند الاستيقاظ، وتصلي ولو ثلاث ركعات (الوتر) وتداوم على هذا، فهو خير والحمد لله.

لكن ابدأ صلاة الليل بعد النوم بركعتين خفيفتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويأمر به؛ أن تبدأ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، والحكمة من هذا: أن الإنسان إذا نام فإن الشيطان يعقد على ناصيته ثلاث عقد، ثم إذا قام من نومه وذكر الله انحلت عقدة، ثم إذا توضأ انحلت العقدة الثانية، ثم إذا صلى انحلت العقدة الثالثة، فكان ينبغي أن يجعل الصلاة أول ما يصلي بعد النوم ركعتين خفيفتين، وهذا سهل، نصف ساعة قبل صلاة الفجر تداوم عليها يكون هذا العمل عند الله عز وجل أحب ما يكون، فإن أحب ما يكون أن تداوم على العمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ...)

قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] مع كونهم يبيتون لله سجداً وقياماً يخافون من النار يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65]؛ لأنهم لا يفخرون ولا يمنون بعملهم على الله، يؤمنون بأن العمل لهم: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت:46] يرون أن لله المنَّة عليهم حينما هداهم لهذا العمل، ولهذا وصفهم الله تبارك وتعالى في آية أخرى بأنهم وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] انظر! يقومون آخر الليل يستغفرون الله؛ لأنهم يرون أنهم مقصرون، مهما عمل الإنسان من العبادة والطاعة فلم يؤدِ حق الله عز وجل عليه، إذا عملت بالطاعة فلله عليك حق أن تشكره عليها؛ لأن الطاعة نعمة، وإذا شكرت الله على هذه النعمة لزمك حق آخر تشكره مرة ثانية على هذا الشكر، وإذا شكرته الثالثة لزمك حق رابع، ولهذا قال الشاعر قولاً حميداً:

إذا كان شكري نعمة الله نعمةً     عليَّ له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله     وإن طالت الأيام واتصل العمر

اللهم إنا نسألك شكر نعمتك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] جهنم اسم من أسماء النار، ولها أسماء كثيرة، أعاذني الله وإياكم ووالدينا ومشايخنا منها إنه على كل شيء قدير.

رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] كأن عذاب جهنم مقبل عليهم، فيقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] أي: كان لزاماً بمنـزلة لزوم الغريم للمدين، أي: ملازم لها، أجارنا الله وإياكم منها! وهذه الملازمة إنما هي لمن يستحق الملازمة وهم الكفار، أما المؤمن فهو وإن فعل معاصٍ يستحق بها أن يعذب في النار فهناك شيء آخر وراء هذا وهو رحمة الله عز وجل، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] أبشر يا أخي المؤمن، أمِّل بربك خيراً، مهما عظمت الذنوب ولكنها دون الشرك فهي تحت المشيئة، لكن لا يغرنك هذا فتأمن من مكر الله وتستمر على المعاصي، وتقول: الحمد لله! الله غفور رحيم، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] بعض الناس يغرهم هذا الحلم من الله عز وجل، ولكننا نقول لهؤلاء: إن الله تعالى لم يقل: ويغفر ما دون ذلك، بدون أن يقول: لمن يشاء، فهل أنت على يقين أنك تحت المشيئة أن الله يشاء أن يغفر لك؟ لا، لست على يقين، هذا أمر مبهم لا نعلمه، فلا تأمن مكر الله ولا تقنط من رحمة الله.

تفسير قوله تعالى: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)

قال تعالى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:66] (إنها) الضمير يعود على جهنم (ساءت مستقراً) هذا ذم عظيم، أي: ساءت مستقراً يستقر به الإنسان، وساءت مقاماً يقيم فيه، فليست حسنة لا في مستقرها ولا في مقامها، ومعلوم أنها لن تكون حسنة وفيها هذا العذاب العظيم المعلوم بالكتاب والسنة.

هذا الوصف لجهنم على ضد الوصف للجنة التي قال الله فيها: حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:76] فاختر يا أخي هذا أو هذا.

وفي قوله تعالى: مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:66] دليل على أن عباد الرحمن يؤمنون بأن النار مستقر لأهلها الذين هم أصحابها؛ لأن أصحاب النار الذين هم أصحابها لا يخرجون منها، والنار لا تفنى، قال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الأحزاب:65] وقد ذكر الله تعالى تأبيد الخلود لأهل النار في ثلاثة مواضع من القرآن:

الأول: قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:168-169].

الثاني: قال الله تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [الأحزاب:64-65].

الثالث: قال الله تعالى في سورة الجن: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23] أبد الآبدين، فالنار لا تفنى وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

ولو قال قائل: كيف يصبرون؟ أفلا يحترقون؟

فالجواب: قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وقال تعالى: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50] لكن الخالق جل وعلا قادر على أن يعيدهم مرةً ثانية؛ فالجلود تنضج ولكن تعاد من جديد، وهكذا أبداً.

قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا [الكهف:29] بعد المدة الطويلة يطلبون الماء وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] بمجرد ما يقرب من وجوههم -أجارنا الله وإياكم منها- يشويها فتتمزق، وإذا وصل الأمعاء فاسمع: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] إذاً لا فائدة فيه.

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا...)

قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] هم أيضاً مع كونهم يبيتون لله سجداً وقياماً، والذين يقيمون التهجد سيقيمون الفرائض من باب أولى، هم أيضاً منفقون، لكن إنفاقاً معتدلاً لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67] الإسراف: الزيادة، والإقتار: النقص، أي: لا يسرفون بزيادة ولا يقترون بتقصير، فهنا طرفان في الإنفاق: الأول: إسراف. والثاني: إقتار. وبينهما يقول: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67] أي: لا يميلون للإسراف ولا إلى التقتير، بل ينفقون بين هذا وهذا حسب ما تقوم به حاجاتهم، هل لأنهم فقراء أم لأنهم معتدلون؟ الثاني لا شك، حتى لو كانوا أغنى ما يكون فلا يمكن أن يسرفوا.

وإذا نظرنا إلى حال الناس اليوم وجدنا أنهم بين طرفين: إما مسرف يأتي بالطعام كثيراً، وباللباس كثيراً، وبالفرش كثيراً، وبالسيارات كثيراً، بكل ما ينفق يسرف، وإما مقتر لا يقوم بالواجب لأهله بل يقتر عليهم، وهناك قسم ثالث لكنه قليل يكون إنفاقه بين هذا وهذا.

والإسراف له أمثلة كثيرة، منها: رجل شاب في مقتبل العمر يريد أن يشتري سيارة، فعرضت عليه سيارة جديدة بأربعين ألف ريال، ممتازة توصله إلى مكة والمدينة والرياض وغيرها، وعرضت عليه سيارة أخرى بثمانين ألف ريال، وهو رجل قليل ذاتِ اليد، يمكن ألا يحصل على هذه السيارة إلا بقرض أو بتقسيط زائد على قيمتها الحاضرة، فتجد بعض الشباب يختار التي بثمانين ألفاً، وهو رجل قليل ذات اليد، فيبقى الدين عليه، وإذا حلَّ الدين ولم يوفِ فإن الدائن لا يرحمه، ويزيد عليه، وإلا فالسجن، وهذا المسكين لا يريد السجن بلا شك، يذهب يستدين من شخص آخر ليقضي الأول، وإذا حلَّ دين الثاني وليس عنده شيء طلب دائناً ثالثاً، وهكذا يكون بين أيدي الأغنياء كالكرة بين أيدي اللاعبين، هذا يضربه مرة وهذا يضربه مرة .. لماذا يا أخي؟ اشترِ على قدرك بأربعين ألف واقض حاجتك، وإياك والدين فهو هم وغم! ومن ابتلي به فإنه لا يشبع، وأضرب لكم مثلاً في كراهة الرسول عليه الصلاة والسلام للدين: أتت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! وهبت نفسي لك -تريد أن يكون زوجاً لها، والتزوج بالهبة خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]- فلم يُردها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة زوجنيها، قال له: المهر، قال: المهر إزاري، ليس عليه رداء ما عليه إلا إزار، قال: إزاري، قال: إن أعطيتها إياه بقيت بلا إزار، وإن بقي معك بقت بلا صداق، ابحث عن مهر، فذهب الرجل يبحث فما وجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد) خاتم للإصبع من حديد فلم يجد، هل قال الرسول عليه الصلاة والسلام له: استقرض من إخوانك المسلمين؟ لا. مع أن الزواج من ضروريات الحياة، ولم يفتح له باب الاستقراض، وإنما قال: (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. معي كذا وكذا، قال: زوجتكها بما معك من القرآن) أي: علمها الذي عندك ويكفي.

فالمهم أن تهاون الشباب الآن وغير الشباب بالدين خطأ عظيم، اقتصد على قدر الحاجة، لا تكن من المسرفين ولا من المقترين، ويقول العوام في المثل السائر: (مد رجلك على قدر لحافك). هذا صحيح، الإنسان مثلاً: إذا كان طويلاً واللحاف قصير ومد رجليه فستخرج من اللحاف ويكون عرضة للبعوض وعرضة للبرد، لكن إذا مد رجليه على قدر اللحاف سلم.

فالحاصل: أن من صفات عباد الرحمن أنهم ينفقون ولكنهم إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً [الفرقان:67].

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من عباد الرحمن، وسنتكلم إن شاء الله على بقية الآيات في اللقاءات المقبلة.

أمدنا الله وإياكم بعونه، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه على كل شيء قدير.

وأبشر إخواني الذين جاءوا من أماكن من غير هذا الحي، أبشرهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) اللهم اجعلنا من هؤلاء إنك على كل شيء قدير.

في هذه الليلة سنبدأ بتفسير آخر سورة الفرقان، من قول الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61].

يمتدح جل وعلا نفسه بهذه المخلوقات العظيمة، فيقول: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] أي: تعالى وتعاظم، وحلت البركة بأسمائه وكلامه عز وجل، كما قال الله تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] وفي دعاء الاستفتاح نقول في الصلاة: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك) أي: إن البركة تنال باسمك، ولهذا يذبح رجلان ذبيحتين: أحدهما لم يسم على ذبيحته، والثاني سمى عليها، فذبيحة الأول حرام لا بركة فيها، وذبيحة الثاني الذي سمى عليها حلال فيها البركة.

فالله عز وجل متبارك متعالٍ متعاظم: البركة في أسمائه .. البركة في صفاته .. البركة في كلامه جل وعلا.

الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً [الفرقان:61] (بروجاً) جمع برج، وهي النجوم العالية، هذه النجوم التي نراها ونشاهدها ليلاً هي بروج يعلو بعضها بعضاً وهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة للصيف، وثلاثة للشتاء، وثلاثة للخريف، وثلاثة للربيع، فالجميع اثنا عشر برجاً، نجوم عالية، انظر إلى هذه النجوم كيف تراها بهذا الكبر وبينك وبينها من المسافات العظيمة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أو من أطلعه الله عليك!

وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان:61] السراج: الشمس، والقمر المنير: القمر، والأم هي الشمس؛ لأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، ولهذا إذا دنا القمر من الشمس ضعف نوره؛ لأنها تضعف المقابلة بينه وبين الشمس ونوره مكتسب من الشمس، فإذا قرب منها قلَّت المقابلة فقلَّ النور، وإذا ابتعد عنها وصار هو في المشرق وهي في المغرب أو بالعكس امتلأ نوراً؛ ولذلك تجدون القمر في ليالي الإبدار مكانه بالنسبة للشمس في أول الليل شرقاً والشمس غرباً، وفي آخر الليل يكون غرباً والشمس شرقاً ويمتلئ نوره؛ لأنها تتم مقابلته مع الشمس، ولهذا سمى الله الشمس سراجاً والقمر نوراً.