أرشيف المقالات

بين قلبين

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
بين قلبين

ماذا لو مررتَ برجل معه قارورة فارغة ونكسها فجعل رأسها إلى أسفل، بجانبه قربةٌ ماء يَصْب منها على تلك القارورة المنكوسة، والماءيفيض على جنباتها، دون أن يدخل منه قطرة إلى قعرها، فقلت له: إن رأس القارورة إلى أسفل، ولن يدخل فيها شيءٌ من الماء، فردَّ عليك: بل سيدخل فيها، بماذا ستحكم على هذا الرجل؟
 
هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للقلب حين تُعرَض عليه فتن الشهوات والشبهات؛ فعن حذيفة بن اليمان قال رسول الله: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»؛ رواه مسلم.
 
عن أبي هريرة قال رسول الله: ((إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]))؛ رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني.
 
في الحديثين السابقين دروس وهدايات، منها:
أولًا: أهمية العناية بالقلب وحمايته من فتن الشبهات والشهوات؛ فإن في صلاحه وسلامته سعادة العبد ونجاته في الدارين، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»؛ رواه البخاري.
 
ثانيًا: خطورة الفتن والذنوب والمعاصي على قلب العبد، فيجب الحذر كل الحذر من جنايات السمع والبصر واللسان وسائر الجوارح فإن تواردها على القلب يفضي به إلى العطب والفساد، فيصبح قلبًا زائغًا أسودَ منكوسًا عياذًا بالله من ذلك، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله:






رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا


وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا






 
ثالثًا: أن العبد مسؤول عن حماية قلبه وصيانته عن واردات الفتن، فعليه أن يجعل لقلبه حمى، وفي الصحيحين: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ»، تالله لحمى القلب أولى من حمى الملك، تالله إن سهام الفتن قواطع، وأنَّى لقلب ليس له حمى بالنجاة من جراحاتها؟ ولذا جاء النهي عن مقاربة الزنا والفواحش ناهيك عن مواقعتها؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ [الأنعام: 151]، ينبغي للعبد أن يدمن اللهج إلى ربه: (اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك).
 
رابعًا: أن الفرار من فتن الشهوات والشبهات، والحذر من الذنوب والمعاصي وإنكارها، وحماية القلب من جنايات الجوارح - تورث العبد قلبًا سليما صافيًا أبيضَ كالصفاة، فيسلم صاحبه من الفتنة، وينجو في الدنيا والآخرة، اللهم ارزقنا قلبًا أبيضَ صافيًا سليمًا ننجو به من الفتن يا حي يا قيوم.
 
خامسًا: أن القلب الأسود المنكوس الزائغ "لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"؛ ولذا فلأصحاب القلوب المنكوسة علامات، منها:
1- أنهم يرون الباطل حقًّا، والحق باطلًا، والمنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والفساد إصلاحًا، والإصلاح فسادًا؛ لأن قلوبهم منكوسة انقلبت عنها الموازين، فهم أعداء لأهل الحق والمعروف والصلاح مبغضون لهم، ومحبون لأهل الباطل والمنكر والفساد، والعياذ بالله من ذلك.
 
2- أصحاب القلوب المنكوسة التي علاها الران وغطاها لا يبصرون الحق والخير ولا المعروف، ولا يهتدون بالهدى، فالران الذي غطى قلوبهم جعل بينها وبين الهدى حجابًا سميكًا، إلا من صدق في توبته إلى الله عز وجل: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
 
3- أصحاب القلوب المنكوسة فريسة لكل فتنة، لا يتورع الواحد منهم عن مشاهدة وسماع ما حرم الله عز وجل، بل من كثرت ترددها على سمعه وبصره أصبحت كأنها حلال، فهو لا يتورع عن النظر إلى أجساد النساء ومفاتنهن عبر الشاشة وبرامج التواصل الاجتماعي، بل قد يصل إلى إدمان مشاهد الفحش والفساد دون أن يشعر بالذنب أو أن يفكر في التوبة إلى الله، وهو لا يتورع عن الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين كأن ذلك حلال مباح.
 
4- أصحاب القلوب المنكوسة التي أشربت الفساد ورتعت فيه، إذا عاشت في المجتمعات النقية أبغضت تلك المجتمعات واجتهدت في جرها إلى الفساد والزيغ، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27]، إنهم بذلك يجرون المجتمع إلى الضياع والهلاك والدمار ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]، وقد ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا حين قال: ((مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا))؛ رواه البخاري.
 
5- أصحاب القلوب المنكوسة أتباعٌ للهوى، تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ))، واتباع الهوى يفضي بصاحبه إلى الخسارة والخذلان في الدنيا والآخرة؛ ولذا قال الله لنبيِّه داود عليه السلام: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26]، وبيَّن سبحانه وتعالى أن النجاة كل النجاة في نهي النفس عن الهوى ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
 
قال ابن القيم رحمه الله: قَدْ أَجْمَعَ السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تُعْطَى مُنَاهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَوْلَاهَا، وَلَا تَصِلُ إِلَى مَوْلَاهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً،...
وَلَا يَصِحُّ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا، فَهَوَاهَا مَرَضُهَا، وَشِفَاؤُهَا مُخَالَفَتُهُ، فَإِنِ اسْتَحْكَمَ الْمَرَضُ قَتَلَ أَوْ كَادَ.
 
6- أصحاب القلوب المنكوسة مُعرِضون عن ذكر الله عز وجل، بعيدون عن القرآن والذكر وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45]، تمر عليهم الأيام تلو الأيام لا يقبلون على كتاب، ولا تلهج ألسنتهم بذكر الله عز وجل، يتقلبون في الضنك والشقاء ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124].
 
سادسًا: أن العبد الذي يحمي نفسه من الفتن وتوارد الذنوب والمعاصي، وإن وقع فيها بادر بالندم والتوبة والإنابة إلى الله - يرزقه الله قلبًا أبيضَ سليمًا "مِثْل الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ"، جعلني الله وإياكم من أصحاب هذا القلب، ولأصحاب القلب السليم صفات، منها:
1- محبة القرآن والسنة والتلذذ بهما: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، لهم ورد يومي من القرآن والذكر تستنير به قلوبهم.
 
2- من صفاتهم محبة العلماء وأهل الخير والصلاح، فهم يلهجون بــ"﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾، ويلهجون بــ: ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾، حالهم حال ذلك الرجل الذي قال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»؛ رواه البخاري.
 
3- من صفات أصحاب القلوب البيضاء السليمة سلامتُها من الرياء والغل والحسد والشحناء والبغضاء وسوء الظن؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»؛ رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
 
4- من صفات أصحاب القلوب البيضاء السليمة الخوفُ على قلوبهم من الزيغ والانحراف؛ فعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: «نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء»؛ رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني.
 
اللهم ارزقنا قلوبًا سليمة، اللهم طهر قلوبنا من الرياء والغل والحسد والشحناء والبغضاء وسوء الظن، اللهم ارزقنا قلوبًا بيضاءَ صافية مخمومة ننجو بها من الفتن يا حي يا قيوم، اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١