ليس كل بلاء عقوبة!
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
ليس كل بلاء عقوبة!يَكثر الحديث في هذا الزمان بين الناس في أن أي بلاء أو شدة - عام أو خاص - يقع لمسلم، هو عقوبةٌ إلهية بسبب ظلم الناس، هكذا بدون أي استثناء أو تقييد، ليُدخلوا في هذا التعميمِ الصالحَ والطالح، والصغير والكبير، والبالغ والصبي، والعاقل والمجنون، والسائل والمسؤول، والمتسبب والبريء، والقريب والبعيد...، وإذا سُئِلوا أجابوك بقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: 30].
ولكن! هل حقًّا المصائب لا يكون سببها إلا الذنوب فتنزل عقوبة؟
وهل هذا هو التفسير الوحيد لهذه الآية؟
معنى الآية:
يقول عكرمة المفسِّر في شرح الآية: "ما مِن نكبة أصابت عبدًا فما فوقها إلا بذنبٍ لم يكن اللهُ ليغفرَ له إلا بها، أو درجة لم يكن الله ليبلغها إلا بها"؛ [تفسير البغوي].
فهذا إذا تغافل مِن هذه الجموع - ممن لديها اعتقاد أن حصول بلاءِ الشر والشدة لا يكون إلا عقوبةً بما كسبت الأيادي - فالبلاء قد يقع لأسبابٍ أُخر؛ كجنس البلاء الذي يحل بالأنبياء والصالحين؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل))؛ [البزار (1150)، وأحمد، وغيرهما، وصحَّحه الألباني]، فمثل هذا ليس لديه مدخلٌ إلا أن يكون من باب رفع الدرجات؛ كما قال عكرمة، لا مِن باب العقوبة الناتجة عن الظلم!
فهل لعاقلٍ أن يقولَ: إن المصائب التي نزَلَت على الأنبياء كانت عقوبةً وعذابًا بسبب ظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم؟!
قال القرطبي: "فأحبَّ اللهُ أن يبتليَهم؛ تكميلًا لفضلهم لديه، ورفعةً لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصًا ولا عذابًا"؛ [التذكرة: 161].
وفي هذا السياق يقول ابن عاشور: "وقد تصيب الصالحين نكباتٌ ومصائب وآلام، فتكون بلوى وزيادةً في الأجر، ولما لا يعلمه إلا الله، وقد تصيب المسرِفين خيراتٌ ونِعَم؛ إمهالًا واستدراجًا، ولأسباب غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله، وهو أعلم بخفايا خلقه ونواياهم، ومقادير أعمالهم من حسنات وسيئات، واستعداد نفوسهم وعقولهم لمختلف مصادر الخير والشر".
البلاء قد يصيب المؤمن ويتخلف عن الفاجر:
إلى أن قال في تفسير معنى قوله تعالى: ﴿ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]: "...
وهذا يشير إلى ما يتراءى لنا مِن تخلف إصابة المصيبة عن بعض الذين كسَبت أيديهم جرائم، ومِن ضد ذلك مما تصيب المصائبُ بعضَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهو إجمالٌ يُبيِّنه على الجملة أن ما يعلمه الله من أحوال عباده وما تغلب من حسناتهم على سيئاتهم، وما تقتضيه حكمة الله من إمهال بعض عباده أو مِن ابتلاء بعض المقربين، وتلك مراتب كثيرة وأحوال مختلفة تتعارض وتتساقط، والموفَّق يبحث عن الأسباب، فإن أعجزته فوَّض العلم إلى الله"؛ [التحرير والتنوير: 25/ 103].
ومن أسباب الابتلاء المحبة:
فنخلصُ إذًا إلى أن البلاء قد يُوقِعه الله تعالى على عباده المقربين، فما السبب؟!
يوضحه قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومِن سخِط فله السخط))؛ [ابن ماجه: 4031، وغيره، وحسنه الألباني].
السبب المحبة؛ لذلك لَمَّا كان أقرب الخلق إليه سبحانه وأحبهم إليه هم الأنبياء، كانوا أشد بلاءً من غيرهم؛ كما جاء في الحديث السابق؛ يقول العلامة العثيمين في شرح الحديث: "وهذه أيضًا بشرى للمؤمن، إذا ابتُلِي بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه يبغضه، بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد، يبتليه سبحانه بالمصائب، فإذا رضي الإنسان وصبر واحتسب فله الرضا، وإن سخِط فله السخط، وفي هذا حثٌّ على أن الإنسان يصبر على المصائب؛ حتى يُكتَب له الرضا من الله عز وجل"؛ [شرح رياض الصالحين: 1/ 259].
وأما الحكمة:
فيشرح لنا ابن القيم مجتهدًا الحكمةَ من ذلك قائلًا: "ابتلاءُ المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التى لو بقِيت فيه أهلكَتْه، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه؛ كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
فهذا الابتلاء والامتحان مِن تمام نصره وعزِّه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يُبتَلى المرء حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شُدِّد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خُفِّف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة"؛ [إغاثة اللهفان: 2/ 189].
ويقول المنبجي الحنبلي: "والله تبارك وتعالى يبتلي عبدَه؛ ليسمع شكواه وتضرُّعه ودعاءه وصبره، ورضاه بما قضاه عليه، فهو سبحانه وتعالى يرى عبادَه إذا نزل بهم ما يختبرهم به مِن المصائب وغيرها، ويعلم خائنةَ أعينهم وما تُخفِي صدورهم، فيُثيب كل عبد على قصده ونيته"؛ [تسلية أهل المصائب: 169].
خلاصة:
والمقصود مِن هذه المقالة القصيرة أنه لا ينبغي على المسلم إضعافُ عزيمةِ أخيه المسلم المبتلى، بأن يسارع فيوجه البلاء والشدة الواقع فيها على أنها عقوبة سببها المعاصي، فقد تكون محبة من الله تعالى لرفع درجاته؛ فمَن يدري؟!
والسعيد مَن وفَّقه الله تعالى لأن يكون مِفتاحًا للخير مِغلاقًا للشر، بعيدًا عن التسبب في البلاء لغيره من إخوانه، وإن كان قد يكون في ميزان الله تعالى محبة ورِفعة.
وفي هذا القدر كفاية؛ فالعاقل يكفيه القليل من الكلام ليتَّعِظ!