شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم.

الحديث القدسي يحصل فيه تقديم وتأخير، لكن على ما روي لنا بهذا السياق، فنأخذ به؛ فإنه بعد ما حذر من الظلم يأتي إلى الهداية والضلالة كأنه يقول: ما الظلم إلا كما يقال: (يا عبادي كلكم ضال)، فلا تظالموا، إذاً: لا يظلم إلا ضال، وكأن الحديث يشعر بأنه لا يظلم أحد أحداً إلا كان الظالم ضالاً.

معنى الضلال

يقول أهل اللغة: الضلال: الضياع والذهاب، ولذا يقال: ضل فلان الطريق. أي: ذهب عنها وضاع عنها، وضل الماء في الأرض، أي: تلاشى وذهب.

(كلكم ضال) أي: ذاهب عن الطريق السوي، وقد يكون الضلال بمعنى النسيان كما قال الله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] والنسيان فيه تضييع الحق؛ لأنه لو تذكر الذي يريد أن يتكلم به ما ضاع الحق.

وهنا يبحث العلماء في سورة الضحى عند قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:6-7]، قالوا: معنى (ضالاً) أي: عن العلم الذي أوحي إليك كما قال تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فما كان يعلم بالوحي ولا بالقرآن فعلمه الله، أو كما قالوا: ضلال حسي، حينما كان صغيراً خرج إلى الشعب وضاع فلهم يهتد إلى طريق الرجوع إلى البيت، فأرسل الله سبحانه وتعالى له من يهديه وجاء به إلى عمه.

والمراد بالضلال هنا: الانحراف عن الصراط المستقيم.

وهنا سؤال: قوله: (كلكم ضال)، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ، فهل هناك تعارض بينهما؟

بعض العلماء يقول: هناك تعارض؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحديث وجدنا فيه: (فأبواه)، فهل بقي على الفطرة أم أن أبويه لهما دخل في هذا؟

أبواه لهما دخل في هذا؛ فهو في أصل المولد على الفطرة، ولو بقي على تلك الفطرة لنشأ على الهداية، ولكن جاءت العوامل فغيرت، فإن لم يكن أبواه فالمجتمع، فكل ذلك حصيلته أن ينحرف عن الطريق السوي، ويضل بسبب التيار الجديد، فالضلال طارئ عليه، وحينما يخاطب الإنسان في كبره فإنما يخاطب على وضعه الذي هو عليه وليس له أن يحتج بما كان عليه منذ الصغر، وليس لإنسان سبيل إلى الهداية إلا بأمر الله.

أنواع الهداية

يبحث العلماء في الضلال والهداية على أن الهداية قسمان:

- هداية بيان وإرشاد.

- وهداية توفيق إلى الخير.

أما هداية البيان والإرشاد: فهي التي أرسل بها الرسل، وبينتها للأمم كما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: أرسلنا لهم الرسل وبيّنا لهم الطريق ولكن: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

وأما هداية التوفيق ففي قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، أي: هداية توفيق، لأنها خاصة بالله تعالى.

وقد جاء في الآية الأخرى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] ، فهناك قال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وهنا يقول: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فقالوا: الهداية المثبتة هي الدلالة على الصراط المستقيم، وليس كل من دُلَّ على الصراط يسلكه.

وكما جاء في الحديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، وكلاهما قرشي، وكلاهما يفهم العربية، وكلاهما في الفهم سواء، وجاء القرآن وكلاهما يسمع ويرى، لكن التوفيق بيد الله.

إذاً: كلكم ضال سواء عن الصراط أو عن الطريق حتى يأتي الهدى والبيان من عند الله، أو: كلكم ضال مختوم عليه بعيد عن الحق حتى يوفقه الله لذلك، فمن وجد نفسه على طريق الهدى فليحمد الله؛ لأن هذا منحة من الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن يقال لسيد الخلق صاحب الرسالة: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أي: يخلق التوفيق في قلب من شاء هدايته، إذاً: من وجد نفسه على الصراط السوي فليعلم بأن ذلك أكبر نعمة أنعمها الله عليه.

ولنعلم أيها الأخوة أن بعض السلف كانوا يقولون: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها:

وجوده من العدم نعمة الإسلام والهداية، ودخول الجنة: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فمن وجد نفسه على طريق سوي فليحمد الله على تلك النعمة وهي النعمة الكبرى؛ لأن وجوده بدون هداية كان عدمه أولى منه: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] ، فإذا وجد في هذه الدنيا وجاءته الهداية فإن مآله إلى الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى.

والحديث عن الهداية يبين لنا أنه ما جاء بعد موضوع الظلم إلا وهو أعظم موضوع في حياة الإنسان، وأغلى وأعز ما يحصل عليه البشر، وهو نعمة عظمى بعد نعمة الوجود من العدم.

فهنا يبين الله سبب الظلم ألا وهو الضلال الشديد عن الحق، والغواية عن الرشد والرشاد، فيقول سبحانه: (يا عبادي!) وما ألطفها من عبارة، وما أرحمها من جملة تفيض بالحنان وباللطف وبالعطف من الخالق على المخلوق.

ولو تأملنا أيها الإخوة في هذا النداء لوجدنا أن المولى سبحانه لا يخاطب الخلق (بعبادي) إلا في مواضع الرحمة والتكريم كقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].

ويقول العلماء: لقد سمى الله جميع الرسل بأسمائهم في كتاب الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيثني عليه بصفة العبودية بعد ذكره، وذكر اسمه إنما جاء في مقام إثبات الرسالة وشهادة المولى له: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] ، وأما في مواطن التكريم والتعظيم والتشريف فيقول مثلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] ، فقد كانت رحلة الإسراء فريدة لم يسبقه إليها أحد صلى الله عليه وسلم ولن يلحقه فيها أحد، فقال: ((سُبْحَانَ)) فقدم المولى تنزيه نفسه سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ؛ لأنه ليس أمراً عادياً، فهو يُبين أن القادر على ذلك هو الله.

ومن ذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1] ، وفي إنزال القرآن الكريم تشريف وتكريم واصطفاء من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وهنا كل فقرة من هذا الحديث فيها إنعام وعطف ورحمة وإكرام من الله، فيأتي النداء: (يا عبادي!).

من رحمة الله أن حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه، ثم قال: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) إذ لا يملك الهداية للعبد إلا الله، وقد أشرنا بأن الهداية تنقسم إلى قسمين:

- هداية بيان وإيضاح ودلالة وإرشاد، وهي التي جاءت بها الرسل.

-هداية توفيق وسداد، وهي التي تكون لله سبحانه وحده.

وجاء في حقه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] ، أي: الدلالة والإرشاد والإيضاح، وقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] ، أي: بينّا لهم طريق الصلاح وطريق الرشاد لكنهم أعرضوا عن ذلك.

وأما الهداية هنا في الحديث فمعناها التوفيق.

ولما ألح صلى الله عليه وسلم وأخذته عاطفة القرابة إلى عمه يقول له سبحانه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

يقول أهل اللغة: الضلال: الضياع والذهاب، ولذا يقال: ضل فلان الطريق. أي: ذهب عنها وضاع عنها، وضل الماء في الأرض، أي: تلاشى وذهب.

(كلكم ضال) أي: ذاهب عن الطريق السوي، وقد يكون الضلال بمعنى النسيان كما قال الله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] والنسيان فيه تضييع الحق؛ لأنه لو تذكر الذي يريد أن يتكلم به ما ضاع الحق.

وهنا يبحث العلماء في سورة الضحى عند قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:6-7]، قالوا: معنى (ضالاً) أي: عن العلم الذي أوحي إليك كما قال تعالى: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فما كان يعلم بالوحي ولا بالقرآن فعلمه الله، أو كما قالوا: ضلال حسي، حينما كان صغيراً خرج إلى الشعب وضاع فلهم يهتد إلى طريق الرجوع إلى البيت، فأرسل الله سبحانه وتعالى له من يهديه وجاء به إلى عمه.

والمراد بالضلال هنا: الانحراف عن الصراط المستقيم.

وهنا سؤال: قوله: (كلكم ضال)، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ، فهل هناك تعارض بينهما؟

بعض العلماء يقول: هناك تعارض؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحديث وجدنا فيه: (فأبواه)، فهل بقي على الفطرة أم أن أبويه لهما دخل في هذا؟

أبواه لهما دخل في هذا؛ فهو في أصل المولد على الفطرة، ولو بقي على تلك الفطرة لنشأ على الهداية، ولكن جاءت العوامل فغيرت، فإن لم يكن أبواه فالمجتمع، فكل ذلك حصيلته أن ينحرف عن الطريق السوي، ويضل بسبب التيار الجديد، فالضلال طارئ عليه، وحينما يخاطب الإنسان في كبره فإنما يخاطب على وضعه الذي هو عليه وليس له أن يحتج بما كان عليه منذ الصغر، وليس لإنسان سبيل إلى الهداية إلا بأمر الله.

يبحث العلماء في الضلال والهداية على أن الهداية قسمان:

- هداية بيان وإرشاد.

- وهداية توفيق إلى الخير.

أما هداية البيان والإرشاد: فهي التي أرسل بها الرسل، وبينتها للأمم كما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ [فصلت:17] أي: أرسلنا لهم الرسل وبيّنا لهم الطريق ولكن: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

وأما هداية التوفيق ففي قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، أي: هداية توفيق، لأنها خاصة بالله تعالى.

وقد جاء في الآية الأخرى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] ، فهناك قال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وهنا يقول: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فقالوا: الهداية المثبتة هي الدلالة على الصراط المستقيم، وليس كل من دُلَّ على الصراط يسلكه.

وكما جاء في الحديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، وكلاهما قرشي، وكلاهما يفهم العربية، وكلاهما في الفهم سواء، وجاء القرآن وكلاهما يسمع ويرى، لكن التوفيق بيد الله.

إذاً: كلكم ضال سواء عن الصراط أو عن الطريق حتى يأتي الهدى والبيان من عند الله، أو: كلكم ضال مختوم عليه بعيد عن الحق حتى يوفقه الله لذلك، فمن وجد نفسه على طريق الهدى فليحمد الله؛ لأن هذا منحة من الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن يقال لسيد الخلق صاحب الرسالة: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ أي: يخلق التوفيق في قلب من شاء هدايته، إذاً: من وجد نفسه على الصراط السوي فليعلم بأن ذلك أكبر نعمة أنعمها الله عليه.

ولنعلم أيها الأخوة أن بعض السلف كانوا يقولون: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها:

وجوده من العدم نعمة الإسلام والهداية، ودخول الجنة: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).

فمن وجد نفسه على طريق سوي فليحمد الله على تلك النعمة وهي النعمة الكبرى؛ لأن وجوده بدون هداية كان عدمه أولى منه: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] ، فإذا وجد في هذه الدنيا وجاءته الهداية فإن مآله إلى الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى.

والحديث عن الهداية يبين لنا أنه ما جاء بعد موضوع الظلم إلا وهو أعظم موضوع في حياة الإنسان، وأغلى وأعز ما يحصل عليه البشر، وهو نعمة عظمى بعد نعمة الوجود من العدم.

فهنا يبين الله سبب الظلم ألا وهو الضلال الشديد عن الحق، والغواية عن الرشد والرشاد، فيقول سبحانه: (يا عبادي!) وما ألطفها من عبارة، وما أرحمها من جملة تفيض بالحنان وباللطف وبالعطف من الخالق على المخلوق.

ولو تأملنا أيها الإخوة في هذا النداء لوجدنا أن المولى سبحانه لا يخاطب الخلق (بعبادي) إلا في مواضع الرحمة والتكريم كقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].

ويقول العلماء: لقد سمى الله جميع الرسل بأسمائهم في كتاب الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيثني عليه بصفة العبودية بعد ذكره، وذكر اسمه إنما جاء في مقام إثبات الرسالة وشهادة المولى له: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] ، وأما في مواطن التكريم والتعظيم والتشريف فيقول مثلا: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1] ، فقد كانت رحلة الإسراء فريدة لم يسبقه إليها أحد صلى الله عليه وسلم ولن يلحقه فيها أحد، فقال: ((سُبْحَانَ)) فقدم المولى تنزيه نفسه سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ؛ لأنه ليس أمراً عادياً، فهو يُبين أن القادر على ذلك هو الله.

ومن ذلك: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1] ، وفي إنزال القرآن الكريم تشريف وتكريم واصطفاء من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وهنا كل فقرة من هذا الحديث فيها إنعام وعطف ورحمة وإكرام من الله، فيأتي النداء: (يا عبادي!).

من رحمة الله أن حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه، ثم قال: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) إذ لا يملك الهداية للعبد إلا الله، وقد أشرنا بأن الهداية تنقسم إلى قسمين:

- هداية بيان وإيضاح ودلالة وإرشاد، وهي التي جاءت بها الرسل.

-هداية توفيق وسداد، وهي التي تكون لله سبحانه وحده.

وجاء في حقه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] ، أي: الدلالة والإرشاد والإيضاح، وقال: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17] ، أي: بينّا لهم طريق الصلاح وطريق الرشاد لكنهم أعرضوا عن ذلك.

وأما الهداية هنا في الحديث فمعناها التوفيق.

ولما ألح صلى الله عليه وسلم وأخذته عاطفة القرابة إلى عمه يقول له سبحانه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

يأتي القرآن الكريم من أوله إلى آخره وينبني على هذا المطلب، وقد أشرنا مراراً بأن الله سبحانه تعبدنا بطلب الهداية منه، ففي سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلوات الخمس وهي سبعة عشر ركعة في كل يوم من غير النوافل، يقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

ومن إعجاز القرآن كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى علماء المسلمين جميعاً يقول: المولى علّمنا كيف نسأل عظيم المسألة؛ فنقدم بين يدي المسألة تعظيم الله سبحانه.

فتبدأ بحمده وتنزيهه وتمجيده، وإثبات صفات الكمال والجلال لله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فتعترف وتقر بربوبيته سبحانه للعالمين جميعاً.. عالم السماء فيما ندرك وما لا ندرك، وعالم الأرض فيما نحصي وما لا نحصي، وما بين ذلك من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وكل مخلوق، فكل عالم من عوالم الله، فالله هو ربه.

وبعد هذا التمجيد والتعظيم يظهر المولى سبحانه بأن ربوبيته للعالمين ربوبية رحمة وليست قهراً وغلبة، مع أن السلطان له وحده: رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، أي: رباهم على الرحمة: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ويقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحيم صيغة مبالغة، والرحمة في الآخرة أوسع؛ لأنها دار البقاء والدوام وبها الجنة.

وفي الحديث: أن الله قسم الرحمة مائة قسم، وأنزل واحدة إلى الأرض، وادخر تسعاً وتسعين يرحم بها العباد يوم القيامة، ومن تلك الرحمة الواحدة من المائة ترحم الدابة ولدها، تريد أن تضع حافرها عليه فترفعه رحمة به.

ثم تأتي من جانب الآخرة والمآل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] ففي الدنيا رب العالمين ورحمن رحيم، وفي الآخرة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، فملك العالم في الدنيا قد يهبه لمن يشاء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ولكن في الآخرة يأتي موقف العظمة والتجلي: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فهو مالك يوم الدين، وليس لأحد معه ملك ولا سلطة.

ثم تأتي بعد هذا وذاك وقد أيقنت بأنك في الدنيا تحت ربوبيته وفي الآخرة في نطاق ملكه، ولا مفر لك.

إذاً: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] على ما يرضيك، وعلى أي نهج تكون العبادة؟ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] ويُبين سبحانه رفقة هذا الصراط : مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] ، أين هذا الصراط المستقيم الذي طلبت الهداية إليه؟ أشرنا لذلك سابقاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) بأن الله قسّم الناس أمام هذا القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:

- قسم آمن بالله وباليوم الآخر.

- وقسم كفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر.

- وقسم مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

ولذا جاء بعد وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، فإذا كنت تسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، فخذ هذا الكتاب فإن فيه هدايتك، وكما يقول بعض العلماء: وبالتتبع للقرآن كله فإنه تفصيل وبيان لمجملات الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب، وبالنظر إلى سورة البقرة ترى أن جميع أبواب الفقه الإسلامي وجميع التشريعات لها حصة في سورة البقرة.

وعلى سبيل الإجمال أو التفصيل تأتي سورة آل عمران وتأخذ من سورة البقرة، فسورة البقرة بدأت بذكر خلق العالم في بداية خلق آدم واستخلافه في الأرض وكلام الملائكة وموقف إبليس من ذلك، وبعد ذلك ذكرت بني إسرائيل، وتأتي سورة آل عمران فتكمل تلك القصة، وتأتي النساء والمائدة بالتشريع في الحلال والحرام، وهكذا إلى أن تنتهي من القرآن الكريم، فتجد في نهاية المصحف بين يديك سورتي المعوذتين، الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].

وتجد في سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:1-6].

وبالنظر مرة أخرى إلى مضمون السورتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، فالمستعاذ به: رب الفلق، والمستعاذ منه: شَرِّ مَا خَلَقَ على سبيل العموم، ثم يرجع إلى التفصيل وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَد ، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد تلك الشرور الأربعة كلها جاء أمامها أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، صفة الربوبية جاءت قبل ذلك الشرور الأربعة.

بينما سورة الناس وهي خاتمة المصحف: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ فاشتملت على ثلاث صفات لله سبحانه، والتي تستعيذ بها كلها مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ .

انظر إلى هذا الإعجاز! ثلاث صفات لله سبحانه تقف أمام شر واحد ألا وهو: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ؛ لأن هذا هو الذي أفسد الناس، وهو الذي يُفسد عليهم عقائدهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ولا يوجد شر بين الخليقة إلا من جهته.

وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وسورة الناس فكأننا نجد حلقة التقى طرفاها، وأصبح القرآن حلقة لا انفصام فيها؛ وتلك هي صفات العظمة في سورة الناس رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ .

فـ(إله الناس) هي معنى (الله) وهي الألوهية، و(رب العالمين) هي معنى (رب الناس) وفيها الربوبية، و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هي معنى (ملك الناس) وفيها المُلك، فكأنك حينما تنتهي من المصحف ترتبط بأوله مرة أخرى.

وهكذا أيها الإخوة! يتبين لك أن القرآن بعد أن أعطانا صراطاً مستقيماً يوقفنا في نهاية الطريق ويقول: قف واعرف عدوك، واحذر من الشيطان، واحذر من (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)، فإذا وقع شيء للخلق فإن منشأه من هذا العدو (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ)، فهو الذي يحرف الناس عن الصراط السوي، كما بين صلى الله عليه وسلم حينما خط خطاً مستقيماً، ثم خط على جوانبه خطوطاً وقال: (هذا صراط الله المستقيم -وأشار إلى ذلك الخط- وتلك خطوط على جوانبه، على رأس كل طريق منها شيطان يدعو إليه).

(يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته).

لو جئنا إلى تحقيق تلك الضلالة في الخلق ابتداءً قبل أن يصطفي الله سبحانه رسوله بإنزال الوحي عليه، وقد اصطفاه قبل أن يولد، لكن أعني قبل أن تنزل الرسالة، وقبل أن يأتي الوحي، وقبل أن يقوم داعياً إلى الله، فكيف كانت حالة العرب؟

لقد بيّن ذلك جعفر رضي الله تعالى عنه بين يدي النجاشي : كنا أمة يأكل قوينا ضعيفنا، وذكر صفات العرب التي نعرفها، إلى قتل أولادهم)، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9].

عمر رضي الله تعالى عنه فيما يحكى عنه يقول: (كنت أصنع لي إلهاً من تمر يحرسني إلى الصباح، فإذا أصبحت معافى أخذته وأكلته)

عمر هذا يأتي فيما بعد بعقلية الإسلام ويقف أمام الحجر ويقول: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).

لو تتبعنا ما كانوا عليه في الجاهلية في عادات الزواج والبيع والشراء من الربا وميراث المرأة وهضمها حقها إلى غير ذلك، لعرفنا أين كانت العقول، فإنهم كانوا في ضلال، فأراد الله بالبشر خيراً، وأرسل نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم، فمن أراد له السعادة هداه وتقبل تلك الدعوة، وقد أشرنا إلى إسلام عمر رضي الله تعالى عنه.

والفرق بين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] ، وبين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7].

وهنا: (كلكم ضال إلا من هديته)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويعلم الحسن بن علي أن يقول في دعاء القنوت : (اللهم اهدنا في من هديت) ؛ لأن الهداية إنما هي من الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن سبحانه يقلبها كيف شاء، فالهداية والتوفيق من عند الله، يوفق من شاء إليها، ويمنح من شاء الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.

وإذا نظرنا إلى ما حولنا من عقول البشر اليوم، وكلنا يعلم تطور الحياة والفكر الغربي بالذات وما وصلوا إليه من تفتيت الذرة وغزو الفضاء، وما توصلوا إليه مما يسمى بالتكنولوجيا في العلوم الحديثة، فأين تلك العقول عن عبادة الله وحده؟ ألم ينظروا في ملكوت السماء والأرض؟ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا [يوسف:109] سبحان الله!

إذاً: هداية الخلق منحة من الخالق سبحانه وتعالى، وعلى هذا ينبغي للمسلم في كل صباح ومساء أن يلجأ إلى الله ويسأله الهداية والتوفيق والثبات على تلك الهداية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه عند قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (آمنوا واستقاموا على الإيمان، واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه)، ويقول الصديق أيضاً: (والله لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله).

نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يمنحنا من فضله وكرمه الهداية والتوفيق لسلوك الصراط المستقيم الذي أمر به.

ثم قال: (يا عبادي!)

وكلما تكرر هذا النداء فإنه يشعر بتجدد الرحمة والعاطفة من الله.

قال: (كلكم جائع إلا من أطعمته).

يمكن أن تقول: أنا شبعان، والخزائن والمستودعات مليئة، فيقال لك: والله إنك جئت إلى الدنيا جائعاً عرياناً، فمن الذي أطعمك؟ الله، من الذي كساك؟ الله, أول ما تأتي إلى الدنيا؛ لو وضعت فوق جبل من الخبز أو في نهر من العسل ما استطعت أن تتناول منه ذرة، ولكنه سبحانه يدر لك من ثدي أمك الحليب، ويستخلص لك من بين الدم واللحم هذا الطعام الذي يشبعك، والذي فيه كل عناصر حياتك، أجمع الجميع أنه لا غنى للطفل عن حليب أمه، لأن كل ما يحتاجه الطفل من جوانب الغذاء يجعلها الله سبحانه وتعالى في هذا الثدي، فمن الذي در هذا الدر لك؟

ثم بعد ذلك إذا نما الجسم ولم يعد اللبن بخفته يكفي لنموه وكان لابد من قضم الطعام؛ أنبت لك الأسنان وتناولت الطعام حتى أشبعك، ثم كل ما في مستودعاتك ومخازن العالم من أين جئت بها؟

فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ينظر المصدر والمبدأ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:25-32].

وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: انظر إلى هذا السياق: شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ، لو جئت بأصبعك لتغرسه في الأرض ما استطعت، ولكن الله يشق الأرض عن ذاك النبت اللين الضعيف الرهيف.

هل كنت تشقق الأرض عن كل النباتات التي تزرعها؟ لا والله، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ [الواقعة:63-64] (أأنتم): استفهام تعجب، أي: أما تستحون من أنفسكم! أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64].

هب أن النبات نبت، فمن أين لك القدرة على أن تخرج الثمرة من هذا الزرع؟ عود القمح نبت، أين القدرة بغير الله سبحانه أن يحمل هذا العود تلك السنبلة وتخرج من خلاله، وتأتي بتلك الأبراج في داخلها، وكل حبة لها برج مستقل؟

طلعت السنبلة، من الذي أجرى فيها الماء ثم عقد الحبة؟ من الذي لقحها؟ ولذا قال الله: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:65-67].

ولذا يقول الوالد رحمة الله تعالى علينا وعليه: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:24-26]، من الذي يصب الماء من علو؟ أعندك خزانات هناك في يدك محبسها؟ لا والله، ومن الذي يسوقه إلى بلد ميت فيحييه، وانظر إلى قوله: صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا يعني: برفق، ولو تدفق مرة واحدة لهلك العالم، لكنه ينزل قطرات بسيطة على رأسك، وبعد ذلك تلتقطه الأرض.

ثم انشقت الأرض عن الحب: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا سبحان الله! تربة واحدة وماء واحد والنبات مختلف يسقى بماء واحد، ولكن هل يستوي في الأكل؟ لا، فمنه متشابه وغير متشابه، العنبة بجانب الليمونة، والبرتقالة بجانب النخلة، الحنظلة تنبت على شاطئ الوادي، فمن الذي يُغذي هذا وذاك؟ ولو أخذت ورقة العنب ما وجدت فيها من الحلاوة شيئاً، تأتي إلى عود الفلفل وبجانبه الباذنجان؛ هذا أحمر مجوف وفيه النار، وهذا أسود بارد لا شيء فيه، وبجانبه الطماطم فيها خزان من الماء الأحمر، وكله في تربة واحدة.

إذاً: كلكم كما قال سبحانه: (كلكم جائع إلا من أطعمته)، حينما يمسك الله الماء ماذا كانت نتائج بعض الدول التي تشتكي القحط أو الجدب؟ تهلك الأموال والأنفس.

وقد جاء أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! سل الله أن يسقينا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق وجف الشجر... إلى آخره، فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ويستسقي ربه وهو على المنبر، فيقول راوي الحديث: فتنشأ سحابة كالترس -الترس التي في يد الفارس حينما يقاتل- وليس بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، حتى إذا توسطت كبد السماء انتشرت ثم أمطرت إلى يوم الجمعة الثانية، ثم يدخل رجل من ذاك الباب هو ذاك الرجل أو غيره، فيقول: يا رسول الله! ادع الله أن يمسكها عنا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل ربه ويقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام وعلى منابت الشجر وبطون الأودية) الآكام: جمع أكمة، يريد: على الجبال التي هنا وهناك، وعلى الوديان ومنابت الشجر.

فيقول الراوي: فخرجنا نمشي في الشمس؛ هذا لمن حدث؟! أولئك أصحاب الذرة ما رأوا هذا الشيء، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، ما داموا قد ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.. كيف ينظرون إلى آيات الله؟

إذاً: الهداية من الله، ولذا أيها الإخوة! فالواجب على العبد إذا رأى إنساناً هذا حاله أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! انحرف عن الجادة وانزلقت به قدمه، ولا يقف موقف الشامت؛ وليعلم أن الهداية بيد الله، وما الفرق بينك وبينه عند الله؟ فليس لك سابقة نسب عند ربك، وليس هو بعيداً عن مخلوقات ربه، والله يبتلي هذا ويمتحن ذاك، ويمن على هذا ويمنع ذاك.

ويروون عن ابن مسعود قوله: (والله إني لأخشى إن سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً)؛ فإذا وجد العاقل إنساناً مبتلى ببلاء، فأولاً وقبل كل شيء يحمد الله أن عافاه من هذا الابتلاء؛ لأنه قادر أن يعافيه ويبتليك، فإذا حمد الله على العافية فليسأل الله السلامة لهذا المبتلى.

وفي نظري: أن مثل المستقيم والمنحرف كشخص معافى مبصر يمشي على الطريق، فوجد حفرة على جانب الطريق وشخصاً قد سقط فيها، هل يا ترى من العقل ومن الإخوة الإنسانية -لا أقول الإسلام والإيمان- أن تراه متردياً في الحفرة وتأتي بالتراب تهيله عليه، أم تمد له يدك وتحاول أن تنقذه من تلك الورطة؟

من حقه عليك أن تنقذه، وتعمل ما في وسعك لذلك.

إذاً: على الداعية إلى الله والمسلم العادي أن يحمد الله سبحانه وتعالى أن عافاه مما ابتلى به غيره، وأن يسأل لغيره المعافاة مما ابتلي به.

(كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) ولذا فالعبد يحمد الله وحده على فضل الهداية، وأيضاً: من حقه علينا صلى الله عليه وسلم عرفاناً بالجميل، ومقابلةً بالإحسان: أنه كلما جاء ذكر اسمه أن نصلي ونسلم عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه.

لو جئنا بخطوة أمامية أيضاً: صب الماء، ونبت النبات، وجاءت الثمرة، وأودعت في المستودع، ثم جاءت إلى المخبز، ثم إلى الطهي، وقدمت بين يديك، من الذي يطعمك هذا الطعام الذي على السفرة أمامك؟ من الذي يُقدرك على أن تبتلعها إلى معدتك؟ فكم من غني لا يستطيع أن يأكل عشر ما يأكل أحد الخدم عنده!

أعتقد أن البعض الذين يقرءون الدوريات السارية عن ملك الحديد فورد ، الذي كان يعيش بربع المعدة، وكان يرى العمال، فمنهم الذي يأكل قرصين وثلاثة أقراص، فكتب للعالم كله: أي طبيب يجعلني أستطيع أن آكل نصف قرص في وقت واحد فله نصف مالي.

وذلك بسبب قرحة في المعدة، وقصة معدته أنه ما بقي له منها إلا شيء بسيط، فيأخذ أشياء على فترات، ماله بين يديه ولكن لم يطعمه ربه، (كل جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم) .

قال صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته).

وسبق أن أشرنا إلى أن الإنسان يأتي إلى الدنيا عرياناً، والمولى سبحانه هو الذي يهيئ له الكساء قبل أن يأتي، عاطفة الأمومة تجعل الأم في أواخر الحمل تذهب وتأتي بالأقمشة، وتخيط الثياب، وتجعلها صالحة للبنت وللولد، وللمولود الذي سيأتي، والمولى سبحانه هو الذي عطف قلب الأم على أن تهيئ لك هذا اللباس، ثم بعد ذلك كبرت ونشأت تطلب الكساء، ووالله لن تجد من الكساء إلا ما أعطاك الله إياه وكساك، ولا حاجة أن نميل إلى الكساء المعنوي في قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]؛ لأن هذا داخل في باب الهداية.

وأشرنا سابقاً بأن العلماء يقولون: ثلاثة نعم لا كسب للعبد فيها:

النعمة الأولى: إيجادك من العدم. هل أنت عملت شيئاً حتى جئت إلى الدنيا؟ لا والله، حتى الأبوان ما عملا شيئاً، وإنما قضيا وطراً لهما، وما وراء ذلك فليس في استطاعتهما؛ لأن المولى يتمدح ويقول: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا [الشورى:49-50] فالولد هبة من الله، فجئت بفضل من الله.

النعمة الثانية: نعمة الإسلام؛ قالوا: حينما يأتي الولد من أبوين، هل كان له اختيار في نفسه أن يأتي من أب اسمه علي أو حسن أو أحمد، وأم اسمها فاطمة أو عائشة أو زينب أو سعاد؟ هل اخترت الأبوين اللذين تأتي منهما؟ ليس له اختيار، لكن الله منحه أبوة أبوين مسلمين فنشأ على الإسلام، وولد على الفطرة وبقي عليها.

النعمة الثالثة: دخول الجنة؛ فإذا أنعم الله على العبد بالهداية، كما جاء في أول نداء بعد تحريم الظلم، ثم رزقك وكساك، وأعطاك مقومات الحياة الدنيا وقال لك: إنها من الله، تلك النعم العظمى ماذا تستوجب عليك؟ تستوجب شكر المُنعم وأوائل شكر المنعم، طاعته وعبادته وإفراده بالعبودية أو بالألوهية، فلا تصرف شيئاً من العبادة لغيره؛ لأنه الذي أوجدك من العدم، والذي أطعمك وأنت جائع، وكساك وأنت عار، وهداك وأنت ضال، ليس لمخلوق حق في هذه الأمور الثلاثة.