رجال من التاريخ: الإمام الشافعي


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

عباد الله! في تاريخ الإسلام علماء ربانيون، وأعلام عاملون، وأئمة مهديون، هم من منة الله على هذه الأمة، قاموا بالإسلام للإسلام، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال قد هدوه، يقتبسون من نور الوحي، ويسيرون على مشكاة النبوة، فكم نفع الله بهم من البلاد، وكم هدى الله بهم من العباد، يتجردون من ذواتهم، ويعيشون لغيرهم، يفتون السائل ويعلمون الجاهل، وينصحون الغافل، ويتحملون في ذات الله ما يصيبهم من المصائب والمحن، بهم تحيا السنن، وبجهودهم تقمع البدع، وبصدقهم وإخلاصهم يقوى جانب الأمر بالمعروف، ويعتز الآمرون، وبتجردهم ينهى جانب المنكر ويذل المبطلون، بهم لا يلتبس الحق بالباطل، ولا يستوي الأخيار مع الأشرار، ولا تروج بضاعة النفاق، هم حراس الأمة، وهم صمام الأمان إذا أحدثت بالأمة الخطوب، وتناوشتها الأخطار، هم النجوم تضيء إذا تاه الدليل، أو تغيرت معالم الطريق.

هذه النوعية من العلماء على الرغم من جدها وجهادها فهي مبتلاة في نفسها وأعراضها، فالسهام موجهة إليها، والحسدة لا يألون جهداً في التقليل من شأنها، ولا يزيدها ذلك عند الله إلا علواً في الشأن، ولا عند الخلق إلا مزيداً من الرفعة والذكر الحسن.

وسبق أن تكلمنا عن إمام من أئمة الإسلام هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وأما اليوم فحديثنا عن شيخه الشافعي رحمه الله تعالى، مجدد الدين في القرن الثاني، عالم عصره وإمام من أئمة الفقهاء.

أقوال العلماء في الشافعي

وصفه الذهبي بقوله: هو الثقة الحجة الحافظ، تعلم العلم في الصغر، وحفظ كتاب الله عز وجل صغيراً، وسنة نبي الله صلى الله عليه وسلم.

قال عن نفسه رحمه الله: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وكنت أقرئ الناس وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، وحفظت الموطأ قبل أن أحتلم.

وقال عنه الإمام أحمد رحمه الله وقد سئل عنه: لقد من الله علينا بـالشافعي، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا، فلما سمعنا كلامه علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير، وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة لا يعرف فيها خبراً يقول فيها بقول الشافعي؛ لأنه إمام قريش.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بني! كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف أو منهما عوض؟

وقال الإمام أحمد رحمه الله: وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنةً في صلاتي.

بعض مناقب الشافعي

وأما زهده وورعه فهذا العالم الجهبذ كان مثالاً للزهد والورع، قال رحمه الله تعالى: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرةً فأدخلت يدي فتقيأتها، وذلك لأن الشبع يصفر البدن ويقسي القلب، ويزيد الفتنة، ويجلب النوم، ويضعف عن العبادة.

وأما عبادته رحمه الله فهو نموذج يحتذى به في العبادة، واستثمار الوقت فيما ينفعه، وقد نقل عنه أنه كان يجزئ الليل أثلاثاً، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام، فإذا كان هذا شأنه في الليل فلا تسأل عن عبادته وحديثه في الطلب في النهار.

وكان رحمه الله حريصاً على طلب العلم، ويحث على طلبه حتى قال: طلب العلم أفضل من النافلة، وأما تواضعه فكان يزينه التواضع والتجرد في طلب العلم، وهو القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط.

وأما رجوعه إلى الحق فإذا تبينت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يرجع عن قوله الأول، ولهذا كان له رحمه الله قولان: قول في العراق، وقول في مصر، وقال رحمه الله: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته.

وقال رحمه الله: ما ناظرني أحد إلا أحببت أن يوفق ويسدد.

وأما حسن ظنه بالمسلمين فمن كلامه: إني لألتمس للرجل عذراً إلى سبعين عذر.

وأما إفتاؤه السائلين وحله للإشكالات فهو داعية خير، وناصح أمين لكل متردد أو شاك متحير، وانظره كيف يجلي الصورة للسائل في وسوسة الإيمان، ويقنعه بالحجة والبرهان، جاء المزني إلى الشافعي وهو يقول: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فـالشافعي، وذلك أن المزني رحمه الله حصل له وسوسة في أمر العقيدة، قال المزني: فصرت إلى الشافعي وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أن أحداً لا يعلم علمك، فما الذي عندك؟ فقال الشافعي رحمه الله: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم، قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون، أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا، قال: هل تعلم من الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنس طلوعه وأفوله مم خلق؟ قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه، ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منها، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، فلا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك، قال: فتبت.

كلام الحاسدين في الشافعي

هذا الشافعي الذي أطبق في الخافقين ذكره، وانتفع العالم بعلمه، لم يسلم من حسد الحاسدين، ولم يكن بمنئاً عن تطول المتطاولين، ولا تناوش سهام المتكلمين، شأنه في ذلك شأن المتقدمين والمتأخرين.

قال الذهبي رحمه الله: ونال بعض الناس من الشافعي غضاً، فما زاده ذلك إلا رفعةً وجلالاً، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى، وقل من برز في الإمامة ورد على من خالفه إلا عودي، نعوذ بالله من الهوى.

وقال الذهبي رحمه الله: وما تكلم فيه -يعني الشافعي - إلا حاسد أو جاهل بحاله، فكان ذلك الكلام الباطل، موجباً لارتفاع شأنه، وعلو قدره، وتلك سنة الله في عباده.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئاً من العلم وحرمه قرناؤه وأشكاله حسدوه فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم.

اللهم اغفر للشافعي، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره ونور له فيه، وألحقه بسالف صالح المسلمين، يا ذا الجلال والإكرام.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

موت الشافعي

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، منَّ على المسلمين بأئمة هداة مهديين، وعلماء صادقين عاملين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي أكمل الله به الدين، وأرسله رحمةً للعالمين.

عباد الله! إن الأمة إذا لم تعتز بماضيها وسير علمائها، ولم تفد من تاريخها وأمجاد سلفها ضيعت حاضرها ومستقبلها، وتخبط أجيالها. وسير سلفنا شموع على طريق العلم والدعوة والإصلاح، بهم يستفاد في تصحيح المسار، وتوجيه المسيرة، ولقد ضل أقوام زهدوا بسير سلفهم، والتفتوا يمنةً ويسرة يخبطون في شتى المذاهب، ويتذبذبون بين جديد المشارب، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:83].

الشافعي رحمه الله هذا العالم الذي ملأ الدنيا علماً نافعاً، وذكراً طيباً، ونشر الله بجهوده الملة، وحفظ به وأمثاله الفقه والسنة، ولا تزال مدونات العلم تشهد بفضله وتخلد ذكره، وهو أول من ألف في علم أصول الفقه، وله كتب جليلة: منها الرسالة، ومنها كتاب الأم، ومنها الإملاء وغير ذلك.

ولم يزل كذلك مكباً على العلم تعلماً وتعليماً، حتى إذا حانت ساعة الرحيل خاف الوعيد، ورجا ربه العفو والتسديد. دخل عليه المزني رحمه الله وهو في مرضه الذي مات فيه: فقال: يا أبا عبد الله! كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، وما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنيها، أو إلى نار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي دون عفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما

فإن تنتقم مني فلست بآيس ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما

وإني لآتي الذنب أعرف قدره وأعلم أن الله يعفو ترحما

اللهم عفوك ورحمتك وغفرانك، اللهم اغفر لأئمة المسلمين، وألحقنا بركب الصالحين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.

اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.

اللهم إنا نسألك الجنة وما يقربنا إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما يقربنا إليها من قول أو عمل، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم فرج كربهم، ونفس عسرتهم، اللهم اجعل ما أصابهم كفارةً لسيئاتهم، ورفعةً لدرجاتهم، اللهم فك أسرى المأسورين من المسلمين، اللهم ردهم إلى أهليهم وذويهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح ذات بين المسلمين، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم وحد كلمتهم يا قوي يا عزيز.

اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحكام الصيام 2892 استماع
حقيقة الإيمان - تحريم التنجيم 2514 استماع
مداخل الشيطان على الإنسان 2494 استماع
الأمن مطلب الجميع [2] 2438 استماع
غزوة الأحزاب 2376 استماع
نصائح وتوجيهات لطلاب العلم 2366 استماع
دروس من قصة موسى مع فرعون 2354 استماع
دروس من الهجرة النبوية 2351 استماع
شهر الله المحرم وصوم عاشوراء 2210 استماع
حقوق الصحبة والرفقة 2181 استماع