أرشيف المقالات

لماذا نغض البصر؟

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
لماذا نغض البصر؟


• لأن من غضَّ بصره أنار الله بصيرته، ونورُ البصيرة يسير به العبد إلى الله سيرًا جميلاً؛ قال أحد السلف: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن الحرام ونفسه عن الشهوات، واعتاد الحلال - لم تُخطئ فِراسته [1]؛ أي: هُدِيَ إلى الحق في كل شيء بإذن الله.
 
• نغض أبصارنا عن الحرام في الطرقات والمجلات وعلى الشاشات؛ لأن الله أمر بذلك المؤمنين والمؤمنات؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30، 31].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير هذه الآية: "فالنظر داعية إلى فساد القلوب"[2].
 
قد يظن البعض أن في غض البصر تضييقًا على النفس، وتحريجًا على الناس في حرياتهم التي يرون أنها من التمتُّع المباح بمباهج الدنيا، ولكن المتأمل في حكمة التشريع يرى في ذلك الهدي القرآني توسيعًا على الخلق، وخيرًا لهم عندما يُعوَّضون عن ذلك سلامة الصدر وصحة القلوب.
وجاء في صحيح مسلم أن جرير بن عبدالله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفَجْأَة، فقال: (اصرِف بصرَك).
وفي حديث عليّ قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُتْبِعِ النظرةَ النظرةَ؛ فإنما الأولى لك وليست لك الآخِرة)؛ رواه أبو داود، وسنده صحيح.
 
قال قيس بن حازم: "كان يقال: النظرة الأولى هي التي لا يَملكها صاحبها"، وهي تَعداد الزمن لحظة، فهي النظرة الخاصة التي لا دخل للإنسان فيها، فإذا تمت هذه النظرة وجب غض البصر، فإذا نظرت بعد النظرة الأولى الفجائية أو الخاصة، أتعبت نفسك وعصيت ربك، ودامت حسرتك.






ما زِلتَ تُتْبِعُ نظرةً في نظرةٍ
في إثرِ كلِّ مليحةٍ ومَليحِ


وتظنُّ ذاك دواءَ جُرحك وَهْوَ فِي ال
تحقيقِ تَجريحٌ على تجريحِ


فذَبحتَ طَرْفَك باللحاظ وبالبكا
فالقلبُ منك ذبيحٌ ابْنُ ذبيحِ






 
بل تأمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجعل النظرة المحرمة من قبيل الزنا - عياذًا بالله - ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كُتِب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تهوى وتتمنى، والفرج يُصدق ذلك أو يُكذبه)؛ واللفظ لمسلم.
هذا ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات لهذا السبب، فقال كما في الصحيحين: (إياكم والجلوسَ في الطرقات)، قالوا: ما لنا بُدٌّ؛ إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أبيتم إلا الجلوس، فأعطوا الطريق حقَّه)، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: (غَضُّ البصر - فبدأ به، فإذا وقفت في طريق الناس، فغضَّ بصرك عن نساء الناس، واعلم أن الله يراك - وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).
 
فأين نحن من هذه الحقوق الواجبة، هل إذا مررنا بطريق الناس أو وقفنا فيه، نغض أبصارنا؟ هل نكف الأذى؟ هل نرد السلام؟ هل نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟!
 
• نغض أبصارنا لأن البصر نعمة:
وغض البصر من قبيل شكر هذه النعمة، والعبد إن لم يشكر نِعم الله عليه؛ فإما أن يُعذب بها أو يُحرمها، ولكن إن شكر زاده الله نِعمًا على نِعَمه: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُم ﴾ [إبراهيم: 7].
فالبصر نعمة من أجَلِّ النعم، فهل سرت يومًا في طريق، فشاهدت فاقد البصر؟ هل تذكرت ما أنت فيه من نعمة؟ هل حمدت الله عليها؟ إذًا لماذا تستخدمها في عصيان الله؟ أما تستحيي من الله؟
 
ولقد أدرك سلفنا رضي الله عنهم هذه النعمة، فحفِظوها حتى حفِظها الله عليهم؛ فعن حسان بن سنان أنه خرج يوم العيد، فلما رجع قيل له: يا أبا عبدالله، ما رأينا عيدًا أكثر نساءً منه، فقال: سبحان الله ما تلقتني امرأة حتى رجعت"[3].
وعن وكيع قال: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا[4].
 
• نغض أبصارنا لأن إطلاق البصر من أوسع مداخل الشيطان:
فالبصر جارحة لا تُمْلأ ولا تكتفي، بخلاف البطن فإنها متى امتلأت لم يكن لها في الطعام إرادة، وأما العين فلو تركت لم تَفتر عن النظر أبدًا، وبالنظرة يدخل جند الشيطان القلب؛ ليجاور جند الإيمان، لكنَّ الشيطان مِلحاح ومخادع، يظل يتربص بالعبد، ويُزين له، ويُلبس عليه، إلى أن يحتل القلب كله، فيا أخي الكريم، لا تجعل للشيطان عليك سبيلاً.
نغض أبصارنا لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس: فمن غض بصره أورَثه الله تعالى حلاوة يجد طعمها في قلبه.
 
نغض أبصارنا لأن أشباه يوسف قد قَلُّوا أو قُل: نَدَروا:
أما أشباه امرأة العزيز، فقد أطللنَ من شاشات التلفاز وصفحات الجرائد والمجلات، وعجت بهنَّ الطرقات، فيا يوسف هذا العصر، استعصِم ولا تَغرَّنَّك كثرة الهالكين، وجاهِد نفسك في الله؛ حتى تستقيم لك، فإن استقامت فداوِم على مجاهدتها؛ حتى تَأْلَفَ طريق الاستقامة.
 
• نغض أبصارنا لأننا مسؤولون عنه يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، فهل أعددنا لهذا السؤال جوابًا؟ وإن الله تعالى يُهددنا بتهديد عظيم إن لم نطع أمره، ونذعن لحكمه، فيقول تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 46].
 
نغض أبصارنا لأن النظر أصل عامة الحوادث؛ فإن النظرة تولد خطرة، والخطرة تولد فكرة، والفكرة تولد شهوة، والشهوة تولد إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع من وقوعه مانع، لذا قيل: "الصبر على غض البصر أيسرُ من الصبر على ألَمِ ما بعده" [5].
فما سرق السارق إلا بعد نظر، وما سخط الساخط إلا بعد نظر، وما ظلم الظالم إلا بعد نظر، وما انتُهِكت حُرمات الله جميعًا إلا بعد نظر.






كلُّ الحوادثِ مَبْداها من النظر
ومعظمُ النار مِن مُستصغر الشَّرَرْ


كم نظرةٍ فتَكت في قلب صاحبِها
فَتْكَ السِّهام بلا قَوسٍ ولا وتَرْ


والمرءُ ما دام ذا عينٍ يُقلبها
في أَعْيُنِ الغِيدِ مَوقوفٌ على الخطرْ


يَسُرُّ مُقلتَه ما ضرَّ مُهْجتَه
لا مَرحبًا بسُرُورٍ جاء بالضَّررْ






 
وذكر ابن القيم رحمه الله أن رجلاً كان يلزم مسجدًا للأذان، وكان عليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة، فرقي يومًا المنارة كعادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فلما انتهى من الأذان، نزل إليها ودخل الدار عليها، فقالت: ما شأنك؟ وما تريد؟ قال: سلبتِ لُبي وأخذتِ بمجامع قلبي، قالت: لا أُجيبك إلى ريبة أبدًا، قال: أتزوَّجك، قالت: أنت مسلم وأبي لا يُزوِّجني منك، قال: أتنصَّر، فقالت: إن فعلتَ أفعل، فتنصَّر ليتزوَّجها، وأقام معهم في دارهم، فلما كان هذا اليوم، صَعِد على سطح كان في الدار؛ ليقضي لهم حاجة، فسقط ميتًا، فلم يظفر بها وفات دينه" [6].
 
فلا هو نال ما أراد، ولا هو ثبت على دينه المراد.






وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائدًا
لقلبِك يومًا أَتْعَبَتْك المناظرُ


رأيتَ الذي لا كلُّه أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضِه أنتَ صابرُ [7]









[1] الداء والدواء ص417.


[2] مجموع الفتاوى ج15 ص395.


[3] بشارة الشباب بما في غض البصر من الثواب ص17 لأبي الحسنات الدمشقي؛ نقلاً عن الحلية.


[4] المرجع السابق.


[5] إصلاح القلوب؛ عبدالهادي حسن ص55؛ نقلاً عن الداء والدواء، ص350.


[6] الداء والدواء ص391، والكبائر للذهبي، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة؛ القرطبي ص44.


[7] روضة المحبين؛ ابن القيم ص97، أدب الدنيا والدين؛ المارودي ص 407.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢