أسطورة
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
للأستاذ علي عبد الحي الحسني
من الأساطير التي سمعناها في الصغر وبقيت في غضون الذاكرة، وبعض ئناياها أن رجلا اعتدى عليه عفريت من الجن بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر فبرز الرجل بكل ما أوتي من حول وطول وبكل ما قدر عليه من سلاح وشكة ليقتله.
هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ماض ولم يدع في القوس مزعا لكنه لم ينكأ عدوه ولم يصب منه مقتلا.
ومازال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة ويجرب سلاحاً بعد سلاح والعفريت ساخر منه غير محتفل به كأنه من نفسه على أمان، ومن سهام الرجل وهجماته في حصن حصين.
حار الرجل في أمره وأعياه أمر العفريت وكاد يقطع من قتله الرجاء إذ أخبره أحد العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء وهذه الببغاء في قفص من حديد، وهذا القفص معلق في غصن شجرة، وهذه الشجرة في غباة كثيفة يسكنها سباع ضارية وحيات فاتكة، وعقارب سامة، ودونها خرط القتاد، وحولها شم الجبال.
ومازال الرجل يطلع جبلا بعد جبل، ويقطع وادياً بعد واد ويقتل وحشياً بعد وحش، حتى خلص إلى هذا القفص وخنق هذه الببغاء، ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجة عظيمة دارت بها الأرض والفضاء، وأظلمت بها آفاق السماء، وصاح العفريت صيحته الأخيرة وكان جثة هامدة. .
وهكذا قتل الرجل عدوه بعد ما لقى منه عرق القربة. لعلك سمعت هذه الأسطورة من عجوز في البيت تحكيها لأحفادها أو أسباطها فمررت بها مستهزئاً وقلت: حديث خرافة يا أم عمرو! نعم إنها لحديث خرافة وأسطورة من أساطير الأولين، ولكنها تفيدنا بأن كل حي له مقتل ووريد ولا يؤثر فيه عدو حتى يصيبه في مقتله ويقطع منه الوريد، وأن دون ذلك المقتل وحول هذا الوريد حواجز وحصوناً. وقد تسلط على الأمة الإسلامية عفريت من الحياة الجاهلية واعتدى عليها بصنوف من الخبال وضروب من الأذى والوبال ظهرت في كثير من أخلاقها وأفعالها كاستخفاف بأحكام الشرع وتجرؤ على المعاصي؛ ووقوع في محارم الله، واستعباد لعباد الله وإمعان في الشهوات، وإسراف في سبيل المتع واللذات، وتهافت على الخسائس والرذائل، وفرار من مكارم الأخلاق والفضائل (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا). والناس طبقات: (عامة) و (أوساط) و (عظماء). فأما العامة فمساكين تدور حولهم رحى الحياة بسرعة لا يرفعون فيها إلى الدين والسعادة الأخروية والاستعداد للموت رأساً، وإنما همهم أن يؤدوا ضرائبهم، ويجمعوا لأيام فراغهم، ويكسوا عيلالهم فهم يكدحون في الحياة كدح الحمير والثيران لا يتبعون إلا للراحة الموهومة، ولا يستريحون إلا للتعب الواقع، فهم من البيت إلى الدكان، ومن الفراش إلى المصنع أو السوق أو الإدارة، ومن نصب إلى نصب، ومن هم إلى هم، لا تنتهي همومهم ولا تنقضي متاعبهم، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها. وأما الأوساط فهم أسوأ منهم حالاً وأكدر منهم بالاً، عذبهم الله بالحرص والجشع، ينظرون دائماً إلى من فوقهم، ولا ينظرون أبداً إلى من دونهم، فهم في هم متواصل وأحزان متسلسلة وشقاء مستمر وتدمر جبار وشكوى قائمة وأنين باق، يجرون في رهان لا ينتهي، ويسابقون جياداً لا تكل ولا تسبق، لا يزال قصب السبق بعيداً كلما انتهوا إلى غاية أخرى فجروا وراءها وهي تبتعد عنهم كما يبتعد الأفق من الطفل الذي يحاول دركه وشعاع الشمس الذي يريد قبضه، وهكذا يتفلت منهم (المثل الأعلى) في الغنى والثروة والرخاء والجاه، فيموت الواحد منهم كئيباً منكسراً لم يستعد ليوم الجد ولم يأخذ لنفسه عدتها، ويأتيه الموت فيقول (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) وأما العظماء من الملوك وأبناء الملوك والأمراء فإنهم يريدون أن يلتهموا الدنيا طولا وعرضاً، وينّهبوا المسرات جرياً وركضاً لا يشفى غليلهم ولا يروى غليلهم وهم من دقائق الراحة إلى دقائق، ومن بدائع إلى بدائع، ومن ابتكار إلى ابتكار، ومن لذيذ في الطعام والشراب إلى ألذ، ومن حديث من مستحدثات المراكب والقصور والأزياء إلى أحدث، لا تكفيهم في ذلك موارد قطر بأسره، ومنابع ثروة أمة بطولها، حتى يلجئوا إلى استقراض وتجارات وضرائب جديدة وإتاوات ولا يبالون في سبيل ذلك أن يرهنوا بأيدي عدوهم رداء الزهراء أو كساء أبي ذر أو شملة أو يس أو مصحف عثمان أو صمصامة عمرو بن معدي كرب أو رمح الزبير أو بردة كعب بن زهير ويهيئوا صبوحاً أو غبوقا. وقد هجم على عفريت الجاهلية جيش من المصلحين فصاحوا به من كل جانب ورموه عن قوس واحدة ولكن لم ينكأوا عدوهم ولم يصيبوا منه مقتلا. ألقى الوعاظ والأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دروساً في الأخلاق وأحاديث في الترغيب والترهيب، وطمعوا الناس في الجنة وحذروهم من النار وبشروهم بالوعد وخوفوهم من الوعيد فسمع الناس كل ذلك في هدوء، ولم يحرك منهم ساكناً ولم يغير منهم خلقاً. ألف المؤلفون كتباً جاءوا فيها بكل رقيق، أوردوا فيها حكايات زهد العمرين، وتقشف علي بن أبي طالب، ومواعظ الحسن البصري، وكلمات ذي النون المصري، ورقائق الفضيل بن عياض، وزهديات أبي العتاهية، وفصاحة الواعظ ابن الجوزي وتحليل الإمام الغزالي. قوارع تبرى العظم من كلم مض فقام الأغنياء والأمراء والملوك فاقتنوا هذه الكتب وزينوا بها مكاتبهم وتحدثوا عنها إلى ندمائهم وزائريهم في لباقة ورشاقة ولكن لم تنفذ سهامها من العيون إلى القلوب ولم تجاوز أحاديثها تراقيهم. قام الخطباء البارعون فألقوا خطباً أسمعت الصم واستنزلت العصم فسمعها هؤلاء وأثنواعلى براعتهم وفصاحتهم ومضوا لسبيلهم لم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة ولم يحدثوا لله عهداً. لقد كان والله أقل من هذا يهز القلوب في الجوانح ويستفرغ الدموع من الشئون ويرجف القصور ويقلب عروش الملوك، ويجعل من أبناء السلاطين والأمراء مثل ابن أدهم وشقيق البلخي، يسمع أحدهم - وهو خارج في قنص أو رائح في لهو - قارئاً يقرأ: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) الآية فيقول والله لقد آن، والله لقد آن، ويرمي آلات اللهو ويخرج من أبهة الملوك وحشمة السلاطين إلى تبذل الفقراء وتقشف الزهاد. فهل فقدت الألفاظ على تعاقب الأيام معانيها، أم اعتلت الأذواق أم استعجمت اللغات أم ماذا؟ إن شيئاً من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الإنسان تغيرت تغيراً عظيماً.
كان أمر الدين في الزمان الماضي - برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية - جداً غير هزل.
وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان دونه في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم فإذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين إلى القلوب لم يحل دون التوبة وإصلاح الحال شيء. أما الآن فقد أصبح الدين موضوعاً تاريخياً أو حديثاً علمياً بحتاً، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع ولا يطالبهم بعمل أو ترك ولا يمسهم في صميم مسائلهم ولا يعني الإنسان ولا يهمه في حياته إلا بقدار ما يتطرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس أو ما يحادث به أهله عند الحاجة أو ما يجلب به نفعاً ويدفعبه ضراً في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه فليس له إلا قيمته المادية المؤقته. وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب وأصبحت مسائلها هم الشيخ ودروس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها، مقياس الفتنة والذكاء ومعيار الظرفة واللباقة ورمز المروءة والشهامة. وهنا يقف الداعي الديني حائراً في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهنه، وشكوكا وريباً تمكنت من النفوس فسلها بحكمته وملأ القلب وطمأنينة ولكنه ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا إنكار ولا جحود ولا إباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة ولكن حياد تام في مسألة الدين واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، وإخلاء الأرض، ورضىً بالحياة الدنيا واطمئنان بها. هنا يقف الداعي حائراً في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، إنه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل إليها ولا نفوذ فيها إلا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طيق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟ إنه ألقى على القوم مواعظه ووجه إليهم خطابه وحكمته وأجلب عليهم بخيل العلم والبراهين، فذهب كل ذلك فيهم صدى وأجابه لسان الحال قائلا (قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون). قرأنا في حكايات (ألف ليلة وليلة) أن السندباد البحري وجد بيضة عنقاء فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصراً من رخام فدار حولها لعله يجد باباً يدخل منه في داخل القصر ودار مراراً عديدة، ولكنه لم يجد باباً وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء لا قصر من القصور. كذلك يدور الداعي حول هذه النفسية المستديرة التي استهوتها الدنيا، وغشى عليها حب المال أو الحياة فلا يجد فيها منفذاً منه إلى النفسية وينزل في أعماقها فيقطع منها الرجاء وينقلب منها خاسئاً وهو حسير. روح هذا العفريت الجاهلي إذن هو الإخلاد إلى الأرض والرضى بالحياة الدنيا وعبادة المال والمادة.
هذا مقتل هذا العفريت وهذا أبهره ووريده. وإنما ضاعت فصاحة الفصحاء، وخطابة الخطباء، وبلاغة المؤلفين، وأصحاب اليراع وإخلاص المخلصين وحكمة الحكماء لأنهم لم يضربوا على الوتر الحساس ولم يصيبوا العدو في مقتله. بلغت المادية أوجهاً في عهد الاستيلاء الأوربي وأصبحت فلسفة وفناً وحياة ودنيا، وليس مظهر من مظاهر حياتها، ولا مركز من مراكز نشاطها اليوم إلا والفضل فيه يرجع إلى أوربا وسيطرتها السياسية والاقتصادية مباشرة أو بواسطة والى غزوها التجاري والعالمي. نافس تجار الغرب بدافع من حب الغنى والثروة واحتكار الأموال - في الصناعة والانتاج وغزوا ببضائعهم الشرق وامتصوا بها دماءه، ولم يقض ذلك لبانتهم لأن نطاق الضرورة ضيق والجشع ما له نطاق فنافسوا في انتاج دقائق المدنية وفضول الصنائع وكماليات الحياة وصبوها على الشرق صباً واستغلوا سذاجة الشرق وحبه للدعة والفخر، فما لبثت هذه الدقائق والكماليات إن دخلت في أصول المعاش ولوازم الحياة في الشرق، وأصبح الذي لا يتحلى بها لا يعد من الإحياء، ولا يعامل في المجتمع معاملة سواء، وأخذت بتلابيب الشرقي وأذهلته عن الدين والآخرة، وعن كل شيء غيرها في الدنيا، وهاجت عليه هموماً لا إرجاء لها وبعثت فيه شرها للمال لا نهاية له، وأجنحت عليه الحاية حجيما لا يسمع فيها إلا (هل من مزيد). وما يكاد الشرقي يصل إلى هذه المنتجات وشروط الحياة على جسر من المتاعب والمصائب وعلى طريق من شوك وقتاد، ولا يكاد يتحلى بها إلا وتصبح هذه المستحدثات آثاراً عتيقة وأطماراً بالية، ويهجم عليه الغرب بطراز حديث من المنتجات والمصنوعات فينكص على عقيبه ويتزود لاقتنائها بالمال اللازم - بوجه مشروع أو غير مشروع - ولا يكاد يطلع بها على مجتمعه إلا ويرحل المنسوخ ويحل الناسخ - وهكذا لا يزال من حياته في جهاد مضن شاق، ومع المصانع الغربية والتصدير الغربي في رهان دائم يسبقه فيلحقه ويلحقه فيسبقه، ولا يزال من عيشه في مضض وغصص يتجرعه، ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. أفسدت المدينة الغربية والتجارة الغربية طبائع أهل الشرق وأذواقهم على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ألا منهم الفتاة وأطفأت فيهم جمرة الحياة، وأحدثت فيهم التخنث الأوربي.
وأصبحت الفروسية العربية والنخوة التركية والفتوة الفارسية والبطولة الهندية والغيرة الأفغانية حديثاً من أحاديث التاريخ وأصبحت الحياة في حواضر الشرق بل وفي بواديه نسخة قاصرة ممسوخة من الحياة الغربية المصطنعة لها ضرائها وليست لها سرائها ولها الغرم دون الغنم. أصبح الناس في كل بلاد من تيار الحضارة الغربية يسيل بهم سيلها الجارف ولا يملكون من أمرهم شيئاً وأصبح الوالد لا يملك ولده والعاهل لا يملك أهل بيته بل وأصبح الإنسان لا يملك نفسه أمام الهوى وانتقاد المجتمع اللاذع ووخز الضمير وغاص الناس في بحر المدينة إلى آذانهم فترى الصعاليك من العجم يغدون في حلة ويرجعون في أخرى، وترى الحفاة العراة العالة من العرب رعاة الثناء، يتطاولون في البنيان ويتفاخرون باقتناء السيارات الأمريكية من أحدث الطراز وأفخر الأنواع، حتى يخاف أن تنقرض الخيل العتاق من أرض الجزيرة التي ملأت التاريخ والأدب لجديتها وأخبارها. شحنت البضائع الغربية أسواق الشرق الإسلامي وأنبتت شرائين التجارة الغربية وعروقها - وهي طلائع السيادة الغربية وسيطرتها السياسية وسهامها التي لا تطيش - في جوف أقداس البلاد الإسلامية واحشائها وجاست خلال الديار وأصبح أهلا عالة على البضائع الأجنبية حتى عادوا لا يتصورون الحياة والمعيشة بغيرها ولا يقضون حقوق الأعياد والأفراح إلا بها، وامتصت هذه البضائع أموالهم بل دماءهم كالإسفنج تشربتها في بلادهم، وصبتها في بلادها - وهكذا أصبح ما يكسبه المسلم بعرق جبينه وكد يمينه وبرز ميتة في أخلاقه، وعلى حساب دينه ينتقل إلى البلاد الأجنبية. التجأت الحكومات الإسلامية لتحقيق مشاريعها العمرانية كما تقول أو لقضاء مأرب رجالها كما يقول الناس إلا الاستدانة من الدول الأجنبية فخفت لذلك ورحبت به ورضخت لها بعض المال على شروط تجارية وامتيازات سياسية، وأقبلت على البلاد الإسلامية تحلب ضرعها وتستخرج الذهب الوهاج وماء حياة الصناعة والتجارة (البترول) من بطونها وتهتبل فرصة العمل في أرضها فتنشط إرسالياتها وتنشر في أهلها المسلمين (رسالة الدين والحضارة) وتلحق عدواها الممعنين في الجهالة والفقر والبداوة، ويتهافت الفقراء الذين أجهدتهم الضرائب وتكاليف الحياة على أجورها وخدمتها تهافت الفراش على الضوء والجياع على المائدة وهكذا أُتصبح بلاد الإسلام بين أخطار من التنُّصر والإلحاد والاحتلال الأجنبي). ثم هنالك (الطابور الخامس) وهو ذلك الأدب المسلوك المسموم الذي ولدته الثورة الفرنسية وارتضعته الفوضى الخلقية، والإباحة في أوربا وغذته الشيوعية، ذلك الأدب الخليع المستهتر الذي ينبت في القلوب النفاق، ويسقى غرس الشهوات ويقوّض دعائم العمران ويفسد نظام الأسرة ويسخر من كل فضيلة، ويستهين بكل أدب ونظام ويزين للقارئ مذهب اللذة والانتفاع وانتهاز الفرص ويلخص التاريخ ويوجز الفلسفة والعلم في حب الميل الجنسي، ويصور العالم كله كأنه ليس إلا ظهور هاتين العاطفتين وليس وراء ذلك حقيقة علمية أو مبدأ سام، أو غرض شريف. وقد انتشر هذا الطابور في أنحاء العالم عن طريق الأدب، والروايات والمجلات والراديو، والسينما وتأثر به الحاضر والبادي وتحدثت به العواتق في خدورها، وصار ينخر صرح الحضارة الدينية والأدب الإسلامي حتى تسرب العطب اليوم إلى لبابه. وهكذا أصبح العالم كله شعوباً وحكومات وأفراداً تحت سلطان المادية والجاه والشهوات، قد شغلت منه كل موضوع ومنفذ وملكت عليه جميع مشاعره، واستهلكت في سبيلها جميع مواهبه وقواه وتفكيره وذكائه، وخلقت في الإنسان نفسية لا تؤمن إلا بالمحسوس ولا تفكر إلى في اللذة والهناءة والسعادة الدنيوية ولا تهتم إلا بهذه الحياة ومطالبها الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي إنما فرضها على الإنسان الحياة المزورة والمجتمع الفاسد والتجارة الجشعة. كيف يحل في هذه المادية الدين الذي أساسه الإيمان بالغيب وإيثار الآخرة على العاجلة الذي يقول (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون) والذي يقول (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) والذي يقول نبيه ﷺ (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) ويقول (حفت الجنة بالمكاره) إذن فالمادية في هذا العصر هي علة العلل وعدو الدين الألد ومزاحمه الأكبر، وأن أوربا هي زعيمها الذي تولى كبرها ووكرها الذي تطير منه وتأوي إليه وفيه تبيض وتفرخ. فأين ذلك البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني على مسرح التاريخ والواقع؟؟ لكهنو (الهند) علي عبد الحي الحسني