سلسلة شرح كتاب الفوائد [14]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

ندعو الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا برحمته جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.

اللهم لا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، فك اللهم الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين، اللهم فك الكرب عن المكروبين.

واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وإن أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك معافين غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين.

اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة وفي هذا الشهر العظيم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صدراً ضيقاً إلا شرحته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا صاحب حاجة إلا قضيتها له، ولا ضالاً إلا هديته ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته.

اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، كن لنا ولا تكن علينا، ثقل بهذه المجالس موازيننا يوم القيامة.

اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم اجعلها خالصةً لوجهك الكريم، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وبعد:

ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد، فاللهم اجعله لنا فوائد في الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين!

يقول ابن القيم رحمه الله: [ لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت ].

إن ابن القيم يجمع بين المتضادات، والمتضادات لا تجتمع أبداً، فهو يريد أن يقول: إنك لا تجمع الماء مع النار، ولا تجمع الضب مع الحوت، ولا تجمع الأسود مع الأبيض، كذلك لا تستطيع أن تجمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء، يعني: إن أحببت أن يمدحك الناس ويثنوا عليك فأنت لست مؤمناً.

إذاً: هذه علامة جديدة من علامات المخلص، فالإنسان المخلص سواء مدحه الناس أو لم يمدحوه فإنه لا يتغير، وإنما هو مجبول على الإخلاص لله عز وجل.

وإخلاص العبد فيه ثلاث صفات: أن العبد لا يطلع عليه فيعجب به، ولا الشيطان يطلع على إخلاص العبد فيفسده ولا الملك المقرب يكتبه، إنما المطلع الوحيد على إخلاص العبد هو الله.

فـابن قيم الجوزية يضيف علامة جديدة من علامات إخلاص القلب لله عز وجل، أن الإنسان وهو يعمل لله لا يريد ثناءٍ من العبد ولا مدحاً، بل بالعكس يحب عدم المدح أكثر من المدح؛ ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وكان سيدنا أبو بكر إذا مدحه أحدهم يقول: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، يعني: هناك أشياء لا يعرفها الناس عنه، ولذلك من كرم الله سبحانه وتعالى أن جعل الستر، ومن كرمه سبحانه أن العبد الذي يستره الله في الدنيا لم يفضحه يوم القيامة وهذا من ستر الله أيضاً، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى سيكرم العبد؛ لأنه إن ستره في الدنيا فلن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، اللهم يا من سترت في الدنيا! لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة آمين يا رب العالمين!

هكذا كان يدعو أبو بكر في صلاته، فإن فضيحة الآخرة مسألة لا علاج لها، نسأل الله السلامة، ونسأل الله أن يسترنا وإياكم دنيا وأخرى، وأن يجعل كل أعمالنا مستورة عنده عيبها وشرها وانحرافها، إنه سبحانه على ما يشاء قدير.

وقد صلى الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات زرافات ووحداناً، يعني: جماعات وفرادى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني)، يعني: لا تمدحوني، وقد كان بعض الصالحين إذا مُدح يقول: اللهم أنت أعلم مني بنفسي فاغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون، وأخذوا هذا الدعاء من أبي بكر رضوان الله عليه.

ولذلك يقول الله عز وجل: يا ابن آدم إذا أصبتك بمصيبة شكوتني إلى عوادك وزوارك، وكم من عمل قبيح منك يصعد إلي في الليل والنهار فلا أشكوك إلى ملائكتي.

فالله سبحانه وتعالى يعاملنا بهذا اللطف ونحن نتعامل معه بهذا الأسلوب، هو لا يشكونا إلى ملائكته، قال أحد الصالحين: ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك لاحتقرت الموصوف وأنت لا تعرف أنه أنت، أي: لو أن شخصاً وصف لك نفسك لقلت: إن هذا سيئ، قال سبحانه: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ [المعارج:38]، وطلب الجنة بلا عمل إثم من الآثام، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان.

إذاً: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة النفس والثناء والطمع فيما عند الناس، فالإنسان إذا كان يطمع فيما عند الناس، فليس عنده إخلاص، فإنه لو كان عنده إخلاص لا يطمع إلا فيما عند الله، فإذا طمع الإنسان فيما عند الله، فقد طمع في الخير كله، ومادام ربنا سبحانه وتعالى بيده خزائن ومفاتيح السماوات والأرض، فاللهم افتح لنا أبواب رحمتك يا أكرم الأكرمين!

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس ].

بدأ ابن القيم أسلوبه بهذه الطريقة، يقول: أتريد أن تكون مخلصاً مقدماً على الإخلاص؟ اذبح الطمع الذي يعتريك بسكين اليأس من الناس والأمل في الله.

ومادام أنني يئست من الناس فإن أملي يكون في الله فقط.

قال: [ فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ].

دخل رجل على هارون الرشيد رحمه الله، فرأى القصور والجواري، وكانت ثياب هذا الرجل ليست مناسبة للمقام، فقال هارون الرشيد : إنك لرجل زاهد، قال الرجل: يا أمير المؤمنين! أنت أزهد مني، قال: كيف ذلك؟ قال: أنا زهدت في دنيا فانية، وأنت زهدت في آخرة باقية!

وللأسف الشديد نجد أن تاريخ المسلمين كتبه علماء الغرب المستشرقون الذين يكنون للإسلام كل شر، فصوروا لنا هارون الرشيد أنه لا يسمع إلى العلماء، مع أنه كان مجلسه مجلس علم وفقه وأدب وقد دخل عليه هذا وقال له أمير المؤمنين ما قال، ورد الرجل على أمير المؤمنين ولم يغضب أمير المؤمنين، لكن لو أن واحداً من زماننا هذا قال لرئيس دولة ذلك فلا ندري ما الذي سيحصل لهذا المسكين؟! فذاك يقول: أنا ابن رجل من القريتين عظيم، والثاني: يقول: أنا ابن أمير المؤمنين، لكن لسان حال هذا المسكين يقول: أما أنا فابن من أمر الله الملائكة أن تسجد له.

قال الشاعر:

ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً

يعني: يا رب أنا من ضمن عبادك، وأرسلت أحمد لي نبياً، وأنا أتبعه صلى الله عليه وسلم.

الأشياء التي تجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة

فإن قيل: ما الذي يجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة؟

الجواب: عاشق الدنيا والعياذ بالله يشرب خمراً، فأنت أيها المسلم! إن حرمت على نفسك الخمر فإن الله يرزقك في الآخرة بخمر لا يسكر العقول، لكن عاشق الدنيا يقول: يا فلان! عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، واليوم هو اليوم وغداً يموت.

فإن قلت له: إنك يا أخي! إن لم تصل الآن فستصلي في جهنم؟ فإنه يقول: يا فلان! لا تشددوا علينا، وهكذا.

فإذا كنت تريد أيها المؤمن أن تكون مخلصاً فازهد في المدح والثناء زهد عشاق الدنيا في الآخرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه ].

يعني: الشيء الذي أزهد فيه يؤثر عند الناس، أي: أطمع فيما في يد الله عز وجل؛ لأن الذي في يد الناس قد يزول، ولكن ما عند الله لا يزول.

فقد تقول: عنده أولاد وليس عندي أولاد، وعنده أموال وليس عندي شيء، وعنده خير وليس عندي خير، وهذا لا ينبغي، إذ إن الحسد لا يكون إلا في اثنتين: مسألة العلم وهو يعلم في ابتغاء وجه الله، ومسألة المال ينفقه في سبيل الله، فتقول: أريد أن أكون مثل فلان كي أنفق مثله، وبذلك لا يحسد مسلم مسلماً أبداً، وإنما يغبطه أي: يتمنى أن يكون عنده ما عند صاحبه ولا يتمنى زواله منه.

والذي يسهل عليك الذبح علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه.

قال: [ أما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده ].

يعني: أنا حريص على ثناء الناس وأفرح إذا أثنوا علي، وأغضب عندما يشتمني الناس ويذمونني وأحزن، وهذا خطأ، إذ الذي يفرحك مدح الله لك وثناؤه عليك، والذي يحزنك ذم الله لك، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فعندما يثني الله على العبد فهذا هو حرصه عليه، وعندما يذم الله عز وجل العبد والعياذ بالله فهذه هي المسألة التي لابد أن نكون منها في خوف ووجل، ويريد ابن القيم أن يقول: إن المسلم بمدح الله له وذم الله له، فإن عمل خيراً يمدحه الله عز وجل ويقول: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، وإن عمل شراً يقول: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم توضع له البغضاء في الأرض.

مثلاً ليس كل مصل بمصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: عاق لوالديه، ومدمن الخمر، والديوث)، فهذه المسائل كلها في ذم الله، فالله عز وجل يمدح المؤمن المستقيم على الطريق ويذم الفاسق المنحرف عن الطريق.

وقد يمدح الناس إنساناً يكون من أهل النار، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألسنة الخلق أعلام الحق)، ويقول: (أنتم شهداء الله في الأرض)، لكن الذي يشهد له بشهادة الله عز وجل ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربما يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ستين سنة، ثم لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها فيدخلها، وربما يعمل أحدكم بعمل أهل النار ستين سنة فيما يبدو للناس، ثم لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها فيدخلها).

إذاً: نحن لنا ظواهر الأمور فقط.

قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن مدحي زين وذمي شين)، أي: لو مدحتك سأزينك، ولو ذموتك سأشينك -يعني: أقلل من مقامك- فقال: (ذاك هو الله عز وجل) يعني: المدح الذي يزينني والذم الذي يشينني هو الله، فالناس لا يهم مدحهم ولا ذمهم، إذ إن المهم هو النصر للمؤمن في الأخير في دار الحق إن شاء الله رب العالمين.

إذاً: فازهد في الدنيا، وازهد عندما يقول الناس جميعاً شعوباً وحكاماً: المحجبات والمنقبات وأصحاب اللحى والمساجد هم الذين أودوا بالبلاد في الدواهي، أليس هكذا يقولون؟ بلى، هم يقولون ذلك، حتى أوقعوا في عرف الناس أنهم إذا رأوا في الطريق ملتحياً أو منقبة أو مخمرة أو امرأة محجبة ذاهبة إلى المسجد مباشرة يقولون: هذا تطرف، متطرفة متشددة، ليس هكذا الدين، الدين يسر وليس عسراً.

فإذاً: ذم الناس لك على حضورك مجلس العلم أو الاستهزاء بالمحجبة لا يشين بالمسلم ولا بالمسلمة، إنما الذي يشينك ذم الله لك، قال الشاعر:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً علي لئامها

وإن رضيت عني لئام عشيرتي فلا زال غضباناً علي كرامها

يذكر أن صحفياً نصرانياً مشهوراً بنصرته للنصارى كان يذم أحد العلماء قبل أسبوعين في الجرائد، وهذا يدل على أن الرجل سيئ والعياذ بالله، فالمسلم يهمه مدح الله أو ذمه، اللهم اجعلنا من الذين مدحتهم بأعمالهم يا رب العالمين!

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] ].

أي: في نصره ومؤازرته؛ لأنه يدافع عن الذين آمنوا.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فهؤلاء لديهم صبر ويقين، إذاً: الذي ليس عنده يقين ليس عنده صبر، والذي عنده صبر عنده يقين.

يقول أبو بكر رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.

ويقول الإمام علي رضي الله عنه: لو كشف عني الحجاب لما ازددت من الله قرباً.

وقيل لـأبي بكر رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السماء السابعة، فقال لهم: إن قال ذلك فقد صدق، فقال أبو جهل : إن كنت صادقاً فصفه لنا يا محمد!

ولو أن شخصاً ذهب بالليل عشر دقائق ودخل جامعاً كبيراً مثل هذا وليس فيه أنوار ماذا سيصف؟! فنقل جبريل المسجد الأقصى على كتفه أمامه، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف المسجد الأقصى، فسمي أبو بكر يومها بـالصديق ؛ لأنه يصدقه في مسألة غيبية.

يروى أن خزيمة بن ثابت الأنصاري وجد يهودياً واقفاً يقول: يا محمد! أعطني ديني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد قضيتك دينك، فقال اليهودي: لم تقضني ديني، فقال خزيمة رضي الله عنه: لقد أخذت دينك أيها اليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتني وأنا أعطيه يا خزيمة ! دينه البارحة؟ قال: لا، لقد كنت مسافراً منذ ثلاثة أيام يا رسول الله! ما حللت المدينة إلا الساعة، قال: فلم تشهد على شيء لم تره؟! قال: عجباً يا رسول الله! أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في دين يهودي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فهو حسبه.

فإن قيل: ما الذي يجعل عاشق الدنيا يزهد في الآخرة؟

الجواب: عاشق الدنيا والعياذ بالله يشرب خمراً، فأنت أيها المسلم! إن حرمت على نفسك الخمر فإن الله يرزقك في الآخرة بخمر لا يسكر العقول، لكن عاشق الدنيا يقول: يا فلان! عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة، واليوم هو اليوم وغداً يموت.

فإن قلت له: إنك يا أخي! إن لم تصل الآن فستصلي في جهنم؟ فإنه يقول: يا فلان! لا تشددوا علينا، وهكذا.

فإذا كنت تريد أيها المؤمن أن تكون مخلصاً فازهد في المدح والثناء زهد عشاق الدنيا في الآخرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه ].

يعني: الشيء الذي أزهد فيه يؤثر عند الناس، أي: أطمع فيما في يد الله عز وجل؛ لأن الذي في يد الناس قد يزول، ولكن ما عند الله لا يزول.

فقد تقول: عنده أولاد وليس عندي أولاد، وعنده أموال وليس عندي شيء، وعنده خير وليس عندي خير، وهذا لا ينبغي، إذ إن الحسد لا يكون إلا في اثنتين: مسألة العلم وهو يعلم في ابتغاء وجه الله، ومسألة المال ينفقه في سبيل الله، فتقول: أريد أن أكون مثل فلان كي أنفق مثله، وبذلك لا يحسد مسلم مسلماً أبداً، وإنما يغبطه أي: يتمنى أن يكون عنده ما عند صاحبه ولا يتمنى زواله منه.

والذي يسهل عليك الذبح علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه.

قال: [ أما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده ].

يعني: أنا حريص على ثناء الناس وأفرح إذا أثنوا علي، وأغضب عندما يشتمني الناس ويذمونني وأحزن، وهذا خطأ، إذ الذي يفرحك مدح الله لك وثناؤه عليك، والذي يحزنك ذم الله لك، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فعندما يثني الله على العبد فهذا هو حرصه عليه، وعندما يذم الله عز وجل العبد والعياذ بالله فهذه هي المسألة التي لابد أن نكون منها في خوف ووجل، ويريد ابن القيم أن يقول: إن المسلم بمدح الله له وذم الله له، فإن عمل خيراً يمدحه الله عز وجل ويقول: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، وإن عمل شراً يقول: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم توضع له البغضاء في الأرض.

مثلاً ليس كل مصل بمصل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: عاق لوالديه، ومدمن الخمر، والديوث)، فهذه المسائل كلها في ذم الله، فالله عز وجل يمدح المؤمن المستقيم على الطريق ويذم الفاسق المنحرف عن الطريق.

وقد يمدح الناس إنساناً يكون من أهل النار، صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ألسنة الخلق أعلام الحق)، ويقول: (أنتم شهداء الله في الأرض)، لكن الذي يشهد له بشهادة الله عز وجل ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربما يعمل أحدكم بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ستين سنة، ثم لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها فيدخلها، وربما يعمل أحدكم بعمل أهل النار ستين سنة فيما يبدو للناس، ثم لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها فيدخلها).

إذاً: نحن لنا ظواهر الأمور فقط.

قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن مدحي زين وذمي شين)، أي: لو مدحتك سأزينك، ولو ذموتك سأشينك -يعني: أقلل من مقامك- فقال: (ذاك هو الله عز وجل) يعني: المدح الذي يزينني والذم الذي يشينني هو الله، فالناس لا يهم مدحهم ولا ذمهم، إذ إن المهم هو النصر للمؤمن في الأخير في دار الحق إن شاء الله رب العالمين.

إذاً: فازهد في الدنيا، وازهد عندما يقول الناس جميعاً شعوباً وحكاماً: المحجبات والمنقبات وأصحاب اللحى والمساجد هم الذين أودوا بالبلاد في الدواهي، أليس هكذا يقولون؟ بلى، هم يقولون ذلك، حتى أوقعوا في عرف الناس أنهم إذا رأوا في الطريق ملتحياً أو منقبة أو مخمرة أو امرأة محجبة ذاهبة إلى المسجد مباشرة يقولون: هذا تطرف، متطرفة متشددة، ليس هكذا الدين، الدين يسر وليس عسراً.

فإذاً: ذم الناس لك على حضورك مجلس العلم أو الاستهزاء بالمحجبة لا يشين بالمسلم ولا بالمسلمة، إنما الذي يشينك ذم الله لك، قال الشاعر:

إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضباناً علي لئامها

وإن رضيت عني لئام عشيرتي فلا زال غضباناً علي كرامها

يذكر أن صحفياً نصرانياً مشهوراً بنصرته للنصارى كان يذم أحد العلماء قبل أسبوعين في الجرائد، وهذا يدل على أن الرجل سيئ والعياذ بالله، فالمسلم يهمه مدح الله أو ذمه، اللهم اجعلنا من الذين مدحتهم بأعمالهم يا رب العالمين!

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] ].

أي: في نصره ومؤازرته؛ لأنه يدافع عن الذين آمنوا.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، فهؤلاء لديهم صبر ويقين، إذاً: الذي ليس عنده يقين ليس عنده صبر، والذي عنده صبر عنده يقين.

يقول أبو بكر رضي الله عنه: الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.

ويقول الإمام علي رضي الله عنه: لو كشف عني الحجاب لما ازددت من الله قرباً.

وقيل لـأبي بكر رضي الله عنه: إن صاحبك يزعم أنه ذهب إلى المسجد الأقصى وصعد إلى السماء السابعة، فقال لهم: إن قال ذلك فقد صدق، فقال أبو جهل : إن كنت صادقاً فصفه لنا يا محمد!

ولو أن شخصاً ذهب بالليل عشر دقائق ودخل جامعاً كبيراً مثل هذا وليس فيه أنوار ماذا سيصف؟! فنقل جبريل المسجد الأقصى على كتفه أمامه، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف المسجد الأقصى، فسمي أبو بكر يومها بـالصديق ؛ لأنه يصدقه في مسألة غيبية.

يروى أن خزيمة بن ثابت الأنصاري وجد يهودياً واقفاً يقول: يا محمد! أعطني ديني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لقد قضيتك دينك، فقال اليهودي: لم تقضني ديني، فقال خزيمة رضي الله عنه: لقد أخذت دينك أيها اليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتني وأنا أعطيه يا خزيمة ! دينه البارحة؟ قال: لا، لقد كنت مسافراً منذ ثلاثة أيام يا رسول الله! ما حللت المدينة إلا الساعة، قال: فلم تشهد على شيء لم تره؟! قال: عجباً يا رسول الله! أأصدقك في خبر السماء وأكذبك في دين يهودي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من شهد له خزيمة فهو حسبه.

إن أركان الكفر -والعياذ بالله- أربعة، لكن الناس يظنون أن ما بينهم وبين الكفر مثلما بين الشرق الأقصى والمغرب العربي.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أركان الكفر أربعة: الكبر والحسد والغضب والشهوة ].

مفاسد الكبر

قال: [ فالكبر يمنعه الانقياد ] أي: الانقياد للحق وللكتاب والسنة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يأكل بشماله: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر، قال: فما استطاع أن يرفعها بعد ذلك)، وسبب امتناعه وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منعه إلا الكبر)، يعني: الكبر هو الذي جعله يمتنع أو يرفض أن يأكل بيمينه، فالكبر يمنعه من الانقياد.

جاء شخص إلى أناس يحضرون محاضرتي لهم يوم الأربعاء فقال: من الذي يحاضركم كل يوم أربعاء؟ فقالوا له: شيخ اسمه فلان. فلما دخلت نظر إلي هذا الشخص، واستمع للمحاضرة، وإذا به بفضل الله أصبح صديقاً لي والحمد لله، وأصبح يزورني، فحكا لي كيف أحبني فقال: في الحقيقة أنا جلست أولاً هكذا -يعني: لا تغضب مني- وضعت رجلاً على رجل، فلما وجدت الكلام جيداً ابتدأت أنزل رجلي، ثم بدأت أجتمع معك، ثم بدأت أعدل ظهري، ثم بدأت أجري وراءك في كل منطقة.

قلت: وذلك بسبب التواضع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً، ومن تواضعه أنه كان يجعل الصحابة يمشون أمامه ويقول: (خلوا ظهري لملائكة ربي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقوني في ركوع ولا سجود، قالوا: أوترانا يا رسول الله؟! قال: أتظنون أن قبلتي بين عيني، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي).

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نبأ السيدة عائشة رضي الله عنها بما قالت، فقالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا [التحريم:3].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير غزوة مؤتة وهو جالس في المدينة ويقول: قتل زيد رفع الراية جعفر قتل جعفر ، رفع الراية عبد الله بن رواحة ، وقد وقعت هذه الغزوة في شمال فلسطين، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المدينة يترجم الأحداث.

إذاً: الكبر يمنع العبد من الانقياد، فـأبو جهل -والعياذ بالله- قال: تسابقنا نحن وبنو عبد مناف، فقالوا: لنا السقاية ولنا السدانة، وقلنا: لنا الراية والجيش في الحرب، فقالوا: منا نبي فأنى ندرك هذا الشرف؟ والله لا نؤمن به أبداً، فما منعه من الإيمان إلا الكبر، قال الله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، فهم يعرفون أن الرسول على هدى، لكن الذي منعهم من الإيمان به هو الكبر .

كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب عمه أبي طالب وهو يموت، وكان يقول له: (قل يا عماه! لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عمه أبو طالب إذا نظر إلى أخيه أبي لهب قال له أبو لهب : يا رجل لا تفتضح أمام العرب بعد أن تموت، فإنهم سيقولون: الرجل غير دينه عند موته، وكان إذا نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قلها).

ويروى أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! ألم تشفع لعمك عند ربك؟ قال: (لقد شفعت يا عماه! قال: وماذا أعطاه؟ قال: يوضع في ضحضاح من النار يلبس أبو طالب نعلين من نار يغلي منهما دماغه) وهذا أخف عذاب في النار والعياذ بالله.

مفاسد الحسد والغضب

قال المؤلف رحمه الله: [ والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها ].

أي: أن الإنسان الحسود لا يقبل نصيحة؛ لأنه حسود يكره أن يأخذ نصيحة من غيره، ومن الحسد أن تكون عنده معلومة ولا يريد أن يقولها، وهذا ألعن أنواع الحسد.

قال: [ والغضب يمنعه العدل ].

جاء رجل متهم أمام شريح القاضي أتى بدليل البراءة يقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، قال: هذا في الآخرة، قال له: نعم، في الآخرة سوف يؤتى بحسناتي وسيئاتي، أما أنتم فلن تأتوا إلا بسيئاتي فقط! يعني: أنتم في الجلسة لا تذكرون إلا عيوبي.

كذلك البنت عندما تحكي لأمها عيوب زوجها فإنها لا تأتي بمحاسنه، بل تقول عنه: كل يوم يأتي بأصحابه إلى البيت فقط، فإن سألتها أمها: هل يصلي؟ أليس له حسنات أخرى؟ تقول: لا، فهي لا تذكر حسنات زوجها؛ لأنها في حالة غضب، أما لو كانت الزوجة في حالة من حالات الرضا، أو الزوج في حالة من حالات الرضا، أيعدل أم لا؟ فالعدل يأتي من السكن النفسي والسلام الداخلي، والغضب يمنع الإنسان من العدل، وأسوأ شيء يصاب به ابن آدم أن يكون سريع الغضب؛ لأنه عندما يغضب ابن آدم فإنه يكون في يد الشيطان مثل الكرة في يد الصبي يقلبها كيف يشاء.

ويعطينا النبي صلى الله عليه وسلم العلاج لذلك، فيقول: (اذهب وتوضأ؛ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من النار ولا تطفأ النار إلا بالماء) ومن غضب وهو واقف يجلس، فالغضبان لابد أن يغير حاله كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة طبية بحتة، والشيطان له مداخله، ويحب دائماً أن يفرق بين أهل الحق.

دخل رجل على أبي بكر رضي الله عنه وشتمه، فسكت أبو بكر ، فشتمه الرجل ثانية فسكت أبو بكر ، وفي الثالثة رد أبو بكر رضي الله عنه وشتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ! وكل الله ملكاً يرد عليه بدلاً منك، فلما بدأت أن ترد ذهب الملك وجاء شيطان وأنا لا أجلس في مجلس فيه شيطان).

فالشيطان يدخل في كل بيت، فقد دخل بيت النبي يعقوب عليه السلام، وجعل إخوة يوسف يأخذون أخاهم ويرمونه في البئر، ومستحيل أن ولداً صغيراً عمره اثنتا عشرة سنة يخرج من البئر لكن الله أخرجه.

يحكى أن امرأة رفعت شكوى إلى شريح القاضي ، وأخذت تبكي وتقول: زوجي ظالم يظلمني، فقال رجل لـشريح : يا أيها القاضي! أجبها، إنها تبكي، قال: اسكت لقد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون.

ويحكى أن رجلاً قصيراً دخل على كسرى فقال: أيها الملك! ظلمني أخي، فسكت كسرى، فأعاد الرجل قوله فسكت كسرى، فقال وزير كسرى: أيها الملك! إنه مظلوم، قال: لا، هذا قصير لا يُظلم، فتبسم الرجل وقال: ظلمني من هو أقصر مني، فالغضب يمنع العدل، ومادام الإنسان غاضباً لا يعدل.

مفاسد الشهوة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشهوة تمنع التفرغ للعبادة ].

عنده شهوة ويشاهد التلفاز باستمرار حتى يأتي الليل وهو على ذلك، ومن الناس من عنده شهوة الجلوس مع الأصحاب فتراه لا يجلس في بيته، ومنهم من عنده شهوة لجمع المال ولا يفرغ للصلاة ودروس العلم، ومنهم من عنده شهوة اللعب والمباريات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يكمل إيمان أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فلابد أن يكون هوى الإنسان مع هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هدم الكبر والحسد والغضب والشهوة

فهدم الكبر يسهل الانقياد، فلو انهدم ركن الكبر يحصل الانقياد، فعندما ينصحه ناصح ينتصح ويسمع له، وهدم ركن الحسد يسهل عليه قبول النصح، والحسد له علاج، وقد قسمنا الحاسد إلى نوعين: حاسد يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، وحاسد يحسد وهو يعرف أنه يحسد، وكلا الصفتين شؤم، فهناك أناس يحسدون وهم لا يعلمون أنهم يحسدون، فالحاسد الذي يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، علاجه: أن المحسود إذا قرأ المعوذتين وقاه الله من شر الحسود.

أما الثاني: الذي يحسد وهو يعلم أنه حسود فخطره أعظم؛ ولذلك قالوا: ما يحسد المال إلا أصحابه.

يحكى أن رجلاً زار أمه فوجد المربية في السطح لديها قطيع من الأرانب البيضاء الضخمة، فقال: يا أولاد كل هذه الأرانب عندكم! وهو يأكل منها، وتحلف المرأة أنه مجرد ما أن نزل من السطح إذا بالأرانب تقفز في الهواء وتسقط ميتة.

وجاءني رجل فقال: لقد وصل بي الأمر إلى أن أحسد أولادي، فقلت له: وكيف ذلك؟! قال: جاء الولد بالشهادة وكان الأول، فقلت له: هل تستحق أن تكون الأول؟ قال: والله يا أبتي! أنني ذاكرت واجتهدت، قال: فأحسست أنني حسدت الولد، فجاء الولد بعد شهرين راسباً، فقلت: ما الذي حصل يا بني! قال: والله يا أبتي! هناك شخص قد حسدني، وهكذا أنطقه الله سبحانه.

وكان هناك من العرب من يؤتى به من أجل أن يحسد والعياذ بالله، فثبت في كتب العرب أن هناك شخصاً مهنته الحسد، فقال له شخص: أعطيك عشرة دنانير وتحسد لي ناقة فلان، فقال: نعم، فقط أشر إليها، فقال له: ها هي مع صاحبها، قال له: أين؟ قال: هناك تحت تلك الشجرة، فقال الحاسد: أتستطيع أن تنظر إلى الشجرة؟ ففقد الرجل بصره مباشرة.

فعلاج هذا النوع من الحسد: أن الحاسد إذا نظر إلى شيء يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

إذاً: الحسد إذا انهدم ركنه سهل عليه قبول النصح وبذله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع ].

ولا يبقى ظالم؛ لأن ركن الغضب ليس موجوداً.

قال: [ وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة ]؛ لأن الذي يضيع الناس هي الشهوات، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14].

قال: [ وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة ] يعني: ليست سهلة، فالمتكبر كيف يكون متواضعاً؟ وسريع الغضب كيف يكون هادئاً؟ والحسود كيف يكون مؤمناً وقانعاً؟ والذي عنده شهوات كيف يزيل الشهوات؟ قال: [ ولاسيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة ].

أي: صفة هذا الرجل الكبر وصفة هذا الحسد، وصفة هذا الغضب وصفة هذا الشهوة والعياذ بالله.

قال: [ فلا تزكو نفسه مع قيامه بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، طبعاً، وكل الآفات متولدة منها ].

قال: [ فالكبر يمنعه الانقياد ] أي: الانقياد للحق وللكتاب والسنة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يأكل بشماله: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر، قال: فما استطاع أن يرفعها بعد ذلك)، وسبب امتناعه وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما منعه إلا الكبر)، يعني: الكبر هو الذي جعله يمتنع أو يرفض أن يأكل بيمينه، فالكبر يمنعه من الانقياد.

جاء شخص إلى أناس يحضرون محاضرتي لهم يوم الأربعاء فقال: من الذي يحاضركم كل يوم أربعاء؟ فقالوا له: شيخ اسمه فلان. فلما دخلت نظر إلي هذا الشخص، واستمع للمحاضرة، وإذا به بفضل الله أصبح صديقاً لي والحمد لله، وأصبح يزورني، فحكا لي كيف أحبني فقال: في الحقيقة أنا جلست أولاً هكذا -يعني: لا تغضب مني- وضعت رجلاً على رجل، فلما وجدت الكلام جيداً ابتدأت أنزل رجلي، ثم بدأت أجتمع معك، ثم بدأت أعدل ظهري، ثم بدأت أجري وراءك في كل منطقة.

قلت: وذلك بسبب التواضع، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً، ومن تواضعه أنه كان يجعل الصحابة يمشون أمامه ويقول: (خلوا ظهري لملائكة ربي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقوني في ركوع ولا سجود، قالوا: أوترانا يا رسول الله؟! قال: أتظنون أن قبلتي بين عيني، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي).

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نبأ السيدة عائشة رضي الله عنها بما قالت، فقالت عائشة رضي الله عنها: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا [التحريم:3].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير غزوة مؤتة وهو جالس في المدينة ويقول: قتل زيد رفع الراية جعفر قتل جعفر ، رفع الراية عبد الله بن رواحة ، وقد وقعت هذه الغزوة في شمال فلسطين، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المدينة يترجم الأحداث.

إذاً: الكبر يمنع العبد من الانقياد، فـأبو جهل -والعياذ بالله- قال: تسابقنا نحن وبنو عبد مناف، فقالوا: لنا السقاية ولنا السدانة، وقلنا: لنا الراية والجيش في الحرب، فقالوا: منا نبي فأنى ندرك هذا الشرف؟ والله لا نؤمن به أبداً، فما منعه من الإيمان إلا الكبر، قال الله سبحانه وتعالى: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، فهم يعرفون أن الرسول على هدى، لكن الذي منعهم من الإيمان به هو الكبر .

كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب عمه أبي طالب وهو يموت، وكان يقول له: (قل يا عماه! لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عمه أبو طالب إذا نظر إلى أخيه أبي لهب قال له أبو لهب : يا رجل لا تفتضح أمام العرب بعد أن تموت، فإنهم سيقولون: الرجل غير دينه عند موته، وكان إذا نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قلها).

ويروى أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! ألم تشفع لعمك عند ربك؟ قال: (لقد شفعت يا عماه! قال: وماذا أعطاه؟ قال: يوضع في ضحضاح من النار يلبس أبو طالب نعلين من نار يغلي منهما دماغه) وهذا أخف عذاب في النار والعياذ بالله.

قال المؤلف رحمه الله: [ والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها ].

أي: أن الإنسان الحسود لا يقبل نصيحة؛ لأنه حسود يكره أن يأخذ نصيحة من غيره، ومن الحسد أن تكون عنده معلومة ولا يريد أن يقولها، وهذا ألعن أنواع الحسد.

قال: [ والغضب يمنعه العدل ].

جاء رجل متهم أمام شريح القاضي أتى بدليل البراءة يقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]، قال: هذا في الآخرة، قال له: نعم، في الآخرة سوف يؤتى بحسناتي وسيئاتي، أما أنتم فلن تأتوا إلا بسيئاتي فقط! يعني: أنتم في الجلسة لا تذكرون إلا عيوبي.

كذلك البنت عندما تحكي لأمها عيوب زوجها فإنها لا تأتي بمحاسنه، بل تقول عنه: كل يوم يأتي بأصحابه إلى البيت فقط، فإن سألتها أمها: هل يصلي؟ أليس له حسنات أخرى؟ تقول: لا، فهي لا تذكر حسنات زوجها؛ لأنها في حالة غضب، أما لو كانت الزوجة في حالة من حالات الرضا، أو الزوج في حالة من حالات الرضا، أيعدل أم لا؟ فالعدل يأتي من السكن النفسي والسلام الداخلي، والغضب يمنع الإنسان من العدل، وأسوأ شيء يصاب به ابن آدم أن يكون سريع الغضب؛ لأنه عندما يغضب ابن آدم فإنه يكون في يد الشيطان مثل الكرة في يد الصبي يقلبها كيف يشاء.

ويعطينا النبي صلى الله عليه وسلم العلاج لذلك، فيقول: (اذهب وتوضأ؛ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من النار ولا تطفأ النار إلا بالماء) ومن غضب وهو واقف يجلس، فالغضبان لابد أن يغير حاله كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم وهي مسألة طبية بحتة، والشيطان له مداخله، ويحب دائماً أن يفرق بين أهل الحق.

دخل رجل على أبي بكر رضي الله عنه وشتمه، فسكت أبو بكر ، فشتمه الرجل ثانية فسكت أبو بكر ، وفي الثالثة رد أبو بكر رضي الله عنه وشتمه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر ! وكل الله ملكاً يرد عليه بدلاً منك، فلما بدأت أن ترد ذهب الملك وجاء شيطان وأنا لا أجلس في مجلس فيه شيطان).

فالشيطان يدخل في كل بيت، فقد دخل بيت النبي يعقوب عليه السلام، وجعل إخوة يوسف يأخذون أخاهم ويرمونه في البئر، ومستحيل أن ولداً صغيراً عمره اثنتا عشرة سنة يخرج من البئر لكن الله أخرجه.

يحكى أن امرأة رفعت شكوى إلى شريح القاضي ، وأخذت تبكي وتقول: زوجي ظالم يظلمني، فقال رجل لـشريح : يا أيها القاضي! أجبها، إنها تبكي، قال: اسكت لقد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون.

ويحكى أن رجلاً قصيراً دخل على كسرى فقال: أيها الملك! ظلمني أخي، فسكت كسرى، فأعاد الرجل قوله فسكت كسرى، فقال وزير كسرى: أيها الملك! إنه مظلوم، قال: لا، هذا قصير لا يُظلم، فتبسم الرجل وقال: ظلمني من هو أقصر مني، فالغضب يمنع العدل، ومادام الإنسان غاضباً لا يعدل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشهوة تمنع التفرغ للعبادة ].

عنده شهوة ويشاهد التلفاز باستمرار حتى يأتي الليل وهو على ذلك، ومن الناس من عنده شهوة الجلوس مع الأصحاب فتراه لا يجلس في بيته، ومنهم من عنده شهوة لجمع المال ولا يفرغ للصلاة ودروس العلم، ومنهم من عنده شهوة اللعب والمباريات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يكمل إيمان أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فلابد أن يكون هوى الإنسان مع هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهدم الكبر يسهل الانقياد، فلو انهدم ركن الكبر يحصل الانقياد، فعندما ينصحه ناصح ينتصح ويسمع له، وهدم ركن الحسد يسهل عليه قبول النصح، والحسد له علاج، وقد قسمنا الحاسد إلى نوعين: حاسد يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، وحاسد يحسد وهو يعرف أنه يحسد، وكلا الصفتين شؤم، فهناك أناس يحسدون وهم لا يعلمون أنهم يحسدون، فالحاسد الذي يحسد وهو لا يعرف أنه يحسد، علاجه: أن المحسود إذا قرأ المعوذتين وقاه الله من شر الحسود.

أما الثاني: الذي يحسد وهو يعلم أنه حسود فخطره أعظم؛ ولذلك قالوا: ما يحسد المال إلا أصحابه.

يحكى أن رجلاً زار أمه فوجد المربية في السطح لديها قطيع من الأرانب البيضاء الضخمة، فقال: يا أولاد كل هذه الأرانب عندكم! وهو يأكل منها، وتحلف المرأة أنه مجرد ما أن نزل من السطح إذا بالأرانب تقفز في الهواء وتسقط ميتة.

وجاءني رجل فقال: لقد وصل بي الأمر إلى أن أحسد أولادي، فقلت له: وكيف ذلك؟! قال: جاء الولد بالشهادة وكان الأول، فقلت له: هل تستحق أن تكون الأول؟ قال: والله يا أبتي! أنني ذاكرت واجتهدت، قال: فأحسست أنني حسدت الولد، فجاء الولد بعد شهرين راسباً، فقلت: ما الذي حصل يا بني! قال: والله يا أبتي! هناك شخص قد حسدني، وهكذا أنطقه الله سبحانه.

وكان هناك من العرب من يؤتى به من أجل أن يحسد والعياذ بالله، فثبت في كتب العرب أن هناك شخصاً مهنته الحسد، فقال له شخص: أعطيك عشرة دنانير وتحسد لي ناقة فلان، فقال: نعم، فقط أشر إليها، فقال له: ها هي مع صاحبها، قال له: أين؟ قال: هناك تحت تلك الشجرة، فقال الحاسد: أتستطيع أن تنظر إلى الشجرة؟ ففقد الرجل بصره مباشرة.

فعلاج هذا النوع من الحسد: أن الحاسد إذا نظر إلى شيء يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.

إذاً: الحسد إذا انهدم ركنه سهل عليه قبول النصح وبذله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع ].

ولا يبقى ظالم؛ لأن ركن الغضب ليس موجوداً.

قال: [ وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبر والعفاف والعبادة ]؛ لأن الذي يضيع الناس هي الشهوات، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14].

قال: [ وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة ] يعني: ليست سهلة، فالمتكبر كيف يكون متواضعاً؟ وسريع الغضب كيف يكون هادئاً؟ والحسود كيف يكون مؤمناً وقانعاً؟ والذي عنده شهوات كيف يزيل الشهوات؟ قال: [ ولاسيما إذا صارت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة ].

أي: صفة هذا الرجل الكبر وصفة هذا الحسد، وصفة هذا الغضب وصفة هذا الشهوة والعياذ بالله.

قال: [ فلا تزكو نفسه مع قيامه بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، طبعاً، وكل الآفات متولدة منها ].

قال المؤلف رحمه الله: [ ومنشأ هذه الأربعة ] أي: من أين أتت هذه الأربعة وما هو المنبع؟

قال: [ من جهله بربه وجهله بنفسه.

فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر ]؛ فهذه صفة من صفات الله، فلا يحق للمخلوق أن يتمثل هذه الصفة.

قال: [ فإنه إن عرف ربه بصفات الكمال لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله، فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عباده وقد أحبها الله ].

وكأن هذا الحاسد يقول: يا رب! إنك لا تقسم بالعدل!! وقد يقول شخص: فلان هذا عورة، وفلانة هذه أنفها كبيرة وكأنه يريد أن يقول: يا رب! إنك لا تستطيع أن تخلق والعياذ بالله، فالمسلم يجب أن يعلم أن الحسد نوع من معاداة الله عز وجل.

قال: [ فإنه يكره نعمة الله على عبده، وقد أحبها الله ويحب هو زوالها عنه، والله يكره ذلك ].

أي: أن الله يريد أن يتم نعمته على هذا المسلم، وأنت تريد أن تزول هذه النعمة.

إذاً: أنت تكره ما يحبه الله وتحب ما يكره الله.

يحكى أن امرأة كانت مسيحية متزوجة بمسلم، فطلقها المسلم وقد أنجبت له ولداً، ثم تزوجت برجل مسيحي، فصمم المسيحي ألا ينجب منها حتى لا يكون ابنه أخاً لمسلم من أم.

فانظر إلى أي مدىً وصل هذا الحسد؟! وانظر إلى التفكير الخبيث الجهنمي، يخاف أن يكون المسلم أخاً لابنه.

قال: [ والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة؛ لأن ذنبه كان عن كبر وحسد ].

تكبر ولم يرض أن يسجد، وحسد آدم وقال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61] أي: أأسجد لمن هو أقل مني؟

قال: [ فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرضا به وعنه والإنابة إليه، وقلع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها ].

فالشخص الذي يعرف نفسه يقول: إن هذه النفس لا تستحق أن يغضب لها.

يحكى أن شخصاً من الصالحين كان يمشي، فرمى عليه مجموعة من الناس رماداً حاراً، فنفض هكذا وتلثم، وقال: من استحق النار وصولح على الرماد فلابد أن يحمد الله على ذلك، أي: أن ابن آدم يستحق أن يحرق في النار، فلما أن أصيب بالرماد فقط، حمد الله على ذلك.

قال: [ فإن ذلك إيثار لها بالرضا والغضب على خالقها وفاطرها، وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لله وترضى لله ].

عندما يسمع المسلم شخصاً يسب الدين فإنه يغضب لأنه يجد حرمة من حرمات الله تنتهك، ويغضب عندما يجد طالبة جامعية خارجة وهي تلبس البنطال، ويغضب عندما يرى شيئاً خطأً، ويغضب عندما يجد انحرافاً، ويغضب عندما يجد الناس يتعاملون بالربا، ويغضب عندما يجد الناس لا يتقون الله عز وجل، فكل هذا غضب لله عز وجل، فهذا الغضب لو تعودت عليه فإنه الغضب الذي يؤجر الإنسان عليه أجراً عظيماً.

قال: [ فكلما دخل النفس شيء من الغضب والرضا له خرج منه مقابلها من الغضب والرضا لها ].

يعني: كلما ملأ العبد نفسه بالرضا والغضب لله خرج منها الرضا والغضب للناس، وهكذا تستقيم الأمور.

قال: [ أما الشهوة فدواؤها صحة العلم والمعرفة ].

تنقهر الشهوات من كثرة العلم ومجالس العلم، فالعبد بالعلم يعود نفسه على الاستقامة والطاعة والتوكل، ويعود نفسه على الثقة واليقين بالله سبحانه وتعالى.

قال: [ بأن إعطاءها شهواتها أعظم أسباب حرمانها إياها ومنعها منها، وحميتها أعظم أسباب اتصالها إليها، فكلما فتحت عليها باب الشهوات كنت ساعياً في حرمانها إياها، وكلما أغلقت عنها ذلك الباب كنت ساعياً في إيصالها إلى الله عز وجل على أكمل الوجوه ].

إن الشهوات مع العبد كالشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً.

قال: [ فالغضب مثل السبع، إذا أفلته صاحبه بدأ بأكله ].

عندما يغضب الإنسان ولا يمسك غضبه تضيع روحه فيسيطر عليه الغضب ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه.

قال: [ والشهوة مثل النار، إذا أضرمها صاحبها بدأت بإحراقه، والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه، فإن لم يهلكك طردك عنه ].

كأن يقول شخص لرئيس الوزراء أنت لست جديراً بهذا المنصب، أنا أريد أن أكون مكانك، فإما أن يقتله حرسه، وإما أن يطرده، كذلك عندما تكون متكبراً فإنك تنازع الله في ملكه، والعياذ بالله.

قال: [ والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك، والذي يغلب شهوته وغضبه يفرق الشيطان من ظله، ومن تغلبه شهوته وغضبه يفرق من خياله ].

إن عمر بن الخطاب ممن يغلب شهوته وغضبه فيفرق الشيطان من ظله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر ! ما رآك الشيطان سالكاً طريقاً إلا وسلك طريقاً آخر)، فالشيطان إذا رأى عمر سلك طريقاً آخر؛ لأن عمر رضي الله عنه قهر النفس، فقد كان عمر رضي الله عنه يمشي فأخذ حزمة من حطب ووضعها على كتفه، فقال له ابنه: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: أرادت نفس أبيك أن تستشرف فأراد أبوك أن يذلها ويضعها لله. يفعل ذلك حتى لا يدخل فيها العجب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها ].

إن السنة عبارة عن شجرة، والشهور فروع هذه الشجرة، والأيام عبارة عن الأغصان الخارجة من الفروع، والساعات عبارة عن الأوراق المتصلة بالأغصان، والأنفاس عبارة عن الثمر.

قال: [ فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ].

من يزرع خيراً فلابد أن يحصد خيراً.

قال: [ ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد ] أي: الحصاد.

[ فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها ] وكما قيل:

ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار

وعند السفر ستظهر السيارة التي معك جيدة أو سيئة.

قال: [ والإخلاص والتوحيد شجرة في القلب فروعها الأعمال، وثمرها طيب الحياة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وكما أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا لا مقطوعة ولا ممنوعة كذلك ].

عندما تقطع الثمرة في الجنة تطلع مكانها أخرى، وليس هناك شيء اسمه فاكهة الصيف ولا فاكهة الشتاء، وإنما كل الفواكه في الجنة موجودة، هذا معنى لا مقطوعة ولا ممنوعة، كذلك ثمرة التوحيد والإخلاص، فإن ثمرته مستمرة دائماً لا مقطوعة ولا ممنوعة.

[ والشرك والكذب والرياء شجرة في القلب، ثمرها في الدنيا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة القلب، وثمرها في الآخرة الزقوم والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم ].

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25].

وضرب مثلاً للكلمة الخبيثة، فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26]، ثم بعد ذلك يقول: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

اللهم اجعلنا من أهل الشجرة الطيبة يا أكرم الأكرمين!