سلسلة شرح كتاب الفوائد [10]


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم في هذا الجمع الطيب انظر إلينا نظرة رضا والمسلمين، واحقن دماء المسلمين، فلا تسيل قطرة دم إسلامية إلا في سبيلك يا أكرم الأكرمين!

اللهم ول أمورنا خيارنا، ولا تول أمورنا شرارنا، وأصلح أحوالنا، اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا مولانا بيننا شقياً ولا محروماً، لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، اللهم اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد:

فما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضي الله عنه في كتابه العظيم الفوائد، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه يا أكرم الأكرمين.

يقول ابن القيم الجوزية في فقرتنا تلك: (عشرة أشياء ضائعة) أي: عشرة أمور تضيع علينا، وكلنا للأسف لا ننتفع بها.

أولها: (علم لا يعمل به) يعني: مشكلتنا كلنا العلم الذي لا يعمل به، يعني: كثير من الناس يأخذون العلم بكثرته، وليس العلم كثرة الرواية، وإنما العلم الخشية، يعني: فعندما أرى إنساناً يتكلم بالعلم كثيراً ولا يطبق، أو يسمع العلم كثيراً ولا يطبق، فإن العلم حجة عليه لا له، وسأل رجل أبا هريرة : فقال له: يا أبا هريرة ! إني لا أتعلم العلم مخافة أن يضيع أي: أخاف أن أتعلم ثم أضيع ولذا فلا أتعلم، فقال له أبو هريرة : كفى بعدم تعلمك إضاعة للعلم.

يعني: أنت ضيعت العلم بعدم تحصيلك له، ولكن الأكمل أن يستمع الإنسان ويطبق، أو أن يقول وأن ينفذ.

وكان صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عليهم جميعاً، الواحد منهم يسمع الكلمة ويطبقها، حتى قيل: إن عمر بن الخطاب سمع أو حفظ سورة البقرة في ثمان سنوات، يعني: الإنسان الصادق عندما يسمع آيات الله عز وجل فآية واحدة تكفيه.

جاء أعرابي يريد أن يعرف الإسلام فقال: يا أبا ذر ! علم أخاك الإسلام، فعلمه أبو ذر الإسلام والرجل ما عنده أي فكرة عن الدين، فبدأ وقرأ عليه أبو ذر سورة الزلزلة إلى أن بلغ آخرها: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فترقرقت الدموع في عيني الأعرابي، وقال: يا أبا ذر ! أيحاسبنا رب العباد بالذرة يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: كفاني من الإسلام هذا وكأنه يقول: ما فائدة العلم إذا لم أطبق؟ فالرجل مجرد ما سمع: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7]، كفته الآية، فالخير الذي أعمله سأجده في كتاب الحسنات، والشر الذي أعمله قد أجده في كتاب السيئات!

ولذلك في حديث آخر يقول سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: (التمس لأخيك من عذر إلى سبعين عذراً).

يعني: لو غلط أخوك في حقك فالتمس له من عذر إلى سبعين، وليس بلازم أن آتيك بعذر، ولذلك قال: (فإن لم تجد له عذراً قل: عسى أن يكون له عذر لا أعرفه) لو طبقنا هذا الحديث فهل سأغضب منك وتغضب مني؟

العمل لله بقدر الحاجة إليه

إذاً: فالعلم بالتطبيق، يقول سهل بن عبد الله : حفظت القرآن وعمري ثمان سنوات، وحفظت أربعين ألف حديث من أحاديث الحبيب المصطفى، وقرأت وعملت كذا وكذا، تتلمذت على يد فلان وفلان.. إلى آخره، قال: ونظرت إلى هذا كله وعملت بحديث واحد، وهو ما سمعت من فلان! عن فلان! إلى أن وصلت العنعنة إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها، واعمل للنار بقدر صبرك عليها).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنت تحتاج لربنا دائماً وأبداً، والدنيا ما سميت كذلك إلا من الدناءة، أو من الدنو، لكن الله يحب من الأمور أعاليها ويكره أسافلها.

فالعبد في الدنيا قد ينسى وما سمي الإنسان إنساناً إلا لتناسيه، وما سمي القلب إلا لتقلبه، ولذلك يحتاج العبد من يذكره، وقالوا: إن القلب الذي للمسلم لو لم يتداركه بدرس علم كل ثلاثة أيام يمرض ثم يموت، نسأل الله أن يحيي نواة قلوبنا؛ لأن الغذاء الوحيد النافع حقيقة هو غذاء القلب، والمادة الواحدة النافعة هي العلم، وذكر الله، وإن القلوب لتصدأ لو قعدت مع أي أحد؛ لأنها لا تجد إلا فلاناً يشكو من فلان! ويعمل مع فلان! فالشحنة الإيمانية تتسرب؛ لكن الإيمان يريد طاقة متجددة، والإنسان يحتاج من يجدد له إيمانه، ولا يتجدد الإيمان إلا في مجالس العلم؛ لأن مجلس العلم إذا لم يكن رياء ولا سمعة ولا بطراً ولا نحو ذلك، فربنا سيبارك فيه وينفع به.

أما حين أن يدخل درس العلم في جدل، أو بعض النفوس حاضرة لأجل انتقاد فلان فقط، والتكلم عن فلان! فتكون هذه دروساً لا بركة فيها، ولذلك نغضب جداً من بعض الدروس وبالذات التي لكثير من الأخوات، وذلك أنهن بعد أن يقعدن للطلب، إذا ببعضهن يقلن: لا تذهبن عند فلان! ولا فلان! أما يتركن الناس تتعلم، وتتنقل بين العلماء والدعاة، لكن يبدو أن في النفوس أمراضاً لم تشف بعد، فنسأل الله شفاء القلوب والصدور، وصدق اليقين إن ربنا على ما يشاء قدير.

(اعمل لله بقدر حاجتك له) أنا لا أستغني عن الله لحظة، إذاً: فاعمل لله في اليوم أربعاً وعشرين ساعة، وطبعاً لا يحصل هذا، فاعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، (وما الإنسان في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) إذاً: فأنت زائر (فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) هكذا يقول الحبيب، ويقول: (مالي وللدنيا).

وسيدنا علي يقول لها: طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. وابن القيم كان يعلق في حلقة سابقة ويقول: كانت تكفيه واحدة، يعني: سيدنا علي طلق الدنيا ثلاثاً، وهو راوي حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)، أي: حتى لا يرجعها ثانية.

إذاً: فالدنيا عند سيدنا علي ليس لها محلل يرجعها له؛ لأنه راوي الحديث الحاظر للتحليل، ثم يقول رضي الله عنه: آه من قلة الزاد، وطول السفر، ووحشة الطريق.

واعجباه! سيدنا علي معه زاد قليل، ونحن يظن أحدنا أنه عابد زمانه وإمام أوانه، نسأل الله السلامة.

زار الإمام الشافعي الإمام أحمد ، والإمام أحمد بن حنبل بنته صالحة، وهي السيدة عائشة بنت الإمام أحمد ، فتقول له: يا أبي! أريد أن أسأل الشافعي سؤالاً، فقال لها: اسألي يا بنت! قالت: يا إمام! يقف الشرط على ناصية بيتنا بالمصابيح قبل الفجر، فأخيط أثوابي على ضوء أنوارهم، أهذا حلال أم حرام؟ فبكى الشافعي وقال: لقد ضاع الدين من بعدكم يا آل أحمد بن حنبل!

هذه هي التي كان أبوها أحمد بن حنبل لما ذهب لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فذهب ووضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن هذه الدنيا خربت.

العمل للدنيا بقدر البقاء فيها

وقوله: (اعمل للدنيا بقدر المقام فيها) مقامنا في الدنيا قليل؛ لأن سيدنا نوحاً لما سئل: كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها داراً لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.

ولذلك قلنا: إن الرياضيين يقولون: أي رقم على ما لا نهاية يساوي صفر، فحياتنا في الدنيا لها نهاية تصلها، أما الآخرة فلا نهاية لها، بل يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت.

إذاً: فالدنيا بالنسبة للآخرة رياضياً لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة..)، إذاً: فهي أقل وأحقر من جناح البعوضة، أول ما ينزل العبد في القبر: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] فأنا أريد أن يبقى المسلم حديد البصر وهو في الدنيا، ولا يحد البصر في الدنيا إلا في مجالس العلم والذكر، وعندها نريد أن نجد من إذا رأيناه ذكرنا بالله، ورؤيته تدلنا على الله، ويزيد في علمنا منطقه، وقلنا: عيشوا مع الناس معيشة حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم، اللهم اجعلنا وإياكم من هؤلاء.

إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، ومثل ذلك كمثل رجل مسافر مدة معينة كأسبوع مثلاً، فإنه سيأخذ مؤنة أسبوع، وإن كان السفر شهراً أو سنة فالمؤنة بحسبه، وإن كنت مهاجراً فستبيع الشقة والسيارة، وتأخذ أموالك من البنك، ثم تتكل على الله، وإن كان سيرجع إلى وطنه، فسيبقى له بعض المصالح فيه.

لكن الذي هو ذاهب إلى الآخرة فلن يرجع إلى الدنيا، فاعمل زاداً تأخذه معك؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر ! أكثر الزاد فإن السفر طويل) لأن الذي مات قاطع تذكرة للإياب فقط؛ لأنه آب إلى ربه، قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي .. [الفجر:28] فرجع للمكان الأساسي، وحينها تحيا في جنات عدن، فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم، يعني: هي المنزل الأساسي، ولو أنك في الدنيا في حالة الرضا، فأنت في جنة في الدنيا.

وضربت لكم مثلاً عملياً، وهو أن الأطباء أخذوا عينة من المتدينين الملتزمين والملتزمات، ثم أخذوا عينة أخرى من الذين يعيشون ولا هم لهم في الدين ولا في دروس العلم، ولا في الصلاة ولا في غيرها، ونظروا نسبة الأمراض النفسية والسكر والضغط، ونحوها، فوجدوها مرتفعة عند غير الملتزمين، وأما الملتزم دينياً فهو أهدأ حالة، وليس عنده من الأمراض المستعصية التي تأتي من أثر الشد العصبي، الذي هو عدم الرضا عن القدر، إلا المبتلى من المؤمنين، ودرجته عند الله عظيمة.

لكن نحن نتكلم على الحالات النفسية التي للإنسان العادي منا، فيكون مكتئباً في الحياة متضايقاً من وضعه، ولذلك في الدول الاسكندنافية أعلى دخل في العالم هم، وأعلى نسبة في الانتحار في العالم عندهم، وهذا نتيجة عدم الرضا بقضاء الله وبالله، لكن الرجل المسكين قد يكون عنده حالة من الرضا أحسن من ملك السويد، وآخر يقول لي: أنا تعلمت العقيدة من عامل في القصر الجمهوري، وهو مسئول كبير يقول: تعلمت العقيدة من هذا الرجل، ذات مرة أتم عمله ونام، فرأيته وقلت له: قم يا عم فلان! لو جاء أحد المسئولين ووجدك نائماً فأنت تدري ماذا سيفعل، أي: سوف يفصلك، وإذا بالرجل ينام مرة ثانية، لماذا؟ لأنه لا يخاف إلا من الله، فليس خائفاً على الكرسي، فقد أخذوه، فهو نائم على الأرض.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضينا بما آتانا، وأن يقنعنا بما آتانا، وأن يشفي أمراض قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يتولانا وإياكم.

إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها، كان عمر بن الخطاب يشعل النار في البيت ويقرب أصبعه ويقول: يا ابن الخطاب ! ألك صبر على مثل هذا؟

فهو يربي نفسه، أما من في زماننا فأحدهم كما قال الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين إذا سمعوا عملوا بما سمعوا.

إذاً: فعشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، علم لا يعمل به، وهذه كارثة، يعني: الإنسان الذي يعلم ولا يعمل.

إذاً: فالعلم بالتطبيق، يقول سهل بن عبد الله : حفظت القرآن وعمري ثمان سنوات، وحفظت أربعين ألف حديث من أحاديث الحبيب المصطفى، وقرأت وعملت كذا وكذا، تتلمذت على يد فلان وفلان.. إلى آخره، قال: ونظرت إلى هذا كله وعملت بحديث واحد، وهو ما سمعت من فلان! عن فلان! إلى أن وصلت العنعنة إلى سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اعمل لله بقدر حاجتك له، واعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل للآخرة بقدر بقائك فيها، واعمل للنار بقدر صبرك عليها).

فقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل لله بقدر حاجتك له) أنت تحتاج لربنا دائماً وأبداً، والدنيا ما سميت كذلك إلا من الدناءة، أو من الدنو، لكن الله يحب من الأمور أعاليها ويكره أسافلها.

فالعبد في الدنيا قد ينسى وما سمي الإنسان إنساناً إلا لتناسيه، وما سمي القلب إلا لتقلبه، ولذلك يحتاج العبد من يذكره، وقالوا: إن القلب الذي للمسلم لو لم يتداركه بدرس علم كل ثلاثة أيام يمرض ثم يموت، نسأل الله أن يحيي نواة قلوبنا؛ لأن الغذاء الوحيد النافع حقيقة هو غذاء القلب، والمادة الواحدة النافعة هي العلم، وذكر الله، وإن القلوب لتصدأ لو قعدت مع أي أحد؛ لأنها لا تجد إلا فلاناً يشكو من فلان! ويعمل مع فلان! فالشحنة الإيمانية تتسرب؛ لكن الإيمان يريد طاقة متجددة، والإنسان يحتاج من يجدد له إيمانه، ولا يتجدد الإيمان إلا في مجالس العلم؛ لأن مجلس العلم إذا لم يكن رياء ولا سمعة ولا بطراً ولا نحو ذلك، فربنا سيبارك فيه وينفع به.

أما حين أن يدخل درس العلم في جدل، أو بعض النفوس حاضرة لأجل انتقاد فلان فقط، والتكلم عن فلان! فتكون هذه دروساً لا بركة فيها، ولذلك نغضب جداً من بعض الدروس وبالذات التي لكثير من الأخوات، وذلك أنهن بعد أن يقعدن للطلب، إذا ببعضهن يقلن: لا تذهبن عند فلان! ولا فلان! أما يتركن الناس تتعلم، وتتنقل بين العلماء والدعاة، لكن يبدو أن في النفوس أمراضاً لم تشف بعد، فنسأل الله شفاء القلوب والصدور، وصدق اليقين إن ربنا على ما يشاء قدير.

(اعمل لله بقدر حاجتك له) أنا لا أستغني عن الله لحظة، إذاً: فاعمل لله في اليوم أربعاً وعشرين ساعة، وطبعاً لا يحصل هذا، فاعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، (وما الإنسان في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) إذاً: فأنت زائر (فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) هكذا يقول الحبيب، ويقول: (مالي وللدنيا).

وسيدنا علي يقول لها: طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها. وابن القيم كان يعلق في حلقة سابقة ويقول: كانت تكفيه واحدة، يعني: سيدنا علي طلق الدنيا ثلاثاً، وهو راوي حديث: (لعن الله المحلل والمحلل له)، أي: حتى لا يرجعها ثانية.

إذاً: فالدنيا عند سيدنا علي ليس لها محلل يرجعها له؛ لأنه راوي الحديث الحاظر للتحليل، ثم يقول رضي الله عنه: آه من قلة الزاد، وطول السفر، ووحشة الطريق.

واعجباه! سيدنا علي معه زاد قليل، ونحن يظن أحدنا أنه عابد زمانه وإمام أوانه، نسأل الله السلامة.

زار الإمام الشافعي الإمام أحمد ، والإمام أحمد بن حنبل بنته صالحة، وهي السيدة عائشة بنت الإمام أحمد ، فتقول له: يا أبي! أريد أن أسأل الشافعي سؤالاً، فقال لها: اسألي يا بنت! قالت: يا إمام! يقف الشرط على ناصية بيتنا بالمصابيح قبل الفجر، فأخيط أثوابي على ضوء أنوارهم، أهذا حلال أم حرام؟ فبكى الشافعي وقال: لقد ضاع الدين من بعدكم يا آل أحمد بن حنبل!

هذه هي التي كان أبوها أحمد بن حنبل لما ذهب لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فذهب ووضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن هذه الدنيا خربت.

وقوله: (اعمل للدنيا بقدر المقام فيها) مقامنا في الدنيا قليل؛ لأن سيدنا نوحاً لما سئل: كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها داراً لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.

ولذلك قلنا: إن الرياضيين يقولون: أي رقم على ما لا نهاية يساوي صفر، فحياتنا في الدنيا لها نهاية تصلها، أما الآخرة فلا نهاية لها، بل يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت.

إذاً: فالدنيا بالنسبة للآخرة رياضياً لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة..)، إذاً: فهي أقل وأحقر من جناح البعوضة، أول ما ينزل العبد في القبر: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] فأنا أريد أن يبقى المسلم حديد البصر وهو في الدنيا، ولا يحد البصر في الدنيا إلا في مجالس العلم والذكر، وعندها نريد أن نجد من إذا رأيناه ذكرنا بالله، ورؤيته تدلنا على الله، ويزيد في علمنا منطقه، وقلنا: عيشوا مع الناس معيشة حتى إن غبتم حنوا إليكم، وإذا متم ترحموا عليكم، اللهم اجعلنا وإياكم من هؤلاء.

إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، ومثل ذلك كمثل رجل مسافر مدة معينة كأسبوع مثلاً، فإنه سيأخذ مؤنة أسبوع، وإن كان السفر شهراً أو سنة فالمؤنة بحسبه، وإن كنت مهاجراً فستبيع الشقة والسيارة، وتأخذ أموالك من البنك، ثم تتكل على الله، وإن كان سيرجع إلى وطنه، فسيبقى له بعض المصالح فيه.

لكن الذي هو ذاهب إلى الآخرة فلن يرجع إلى الدنيا، فاعمل زاداً تأخذه معك؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر ! أكثر الزاد فإن السفر طويل) لأن الذي مات قاطع تذكرة للإياب فقط؛ لأنه آب إلى ربه، قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي .. [الفجر:28] فرجع للمكان الأساسي، وحينها تحيا في جنات عدن، فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم، يعني: هي المنزل الأساسي، ولو أنك في الدنيا في حالة الرضا، فأنت في جنة في الدنيا.

وضربت لكم مثلاً عملياً، وهو أن الأطباء أخذوا عينة من المتدينين الملتزمين والملتزمات، ثم أخذوا عينة أخرى من الذين يعيشون ولا هم لهم في الدين ولا في دروس العلم، ولا في الصلاة ولا في غيرها، ونظروا نسبة الأمراض النفسية والسكر والضغط، ونحوها، فوجدوها مرتفعة عند غير الملتزمين، وأما الملتزم دينياً فهو أهدأ حالة، وليس عنده من الأمراض المستعصية التي تأتي من أثر الشد العصبي، الذي هو عدم الرضا عن القدر، إلا المبتلى من المؤمنين، ودرجته عند الله عظيمة.

لكن نحن نتكلم على الحالات النفسية التي للإنسان العادي منا، فيكون مكتئباً في الحياة متضايقاً من وضعه، ولذلك في الدول الاسكندنافية أعلى دخل في العالم هم، وأعلى نسبة في الانتحار في العالم عندهم، وهذا نتيجة عدم الرضا بقضاء الله وبالله، لكن الرجل المسكين قد يكون عنده حالة من الرضا أحسن من ملك السويد، وآخر يقول لي: أنا تعلمت العقيدة من عامل في القصر الجمهوري، وهو مسئول كبير يقول: تعلمت العقيدة من هذا الرجل، ذات مرة أتم عمله ونام، فرأيته وقلت له: قم يا عم فلان! لو جاء أحد المسئولين ووجدك نائماً فأنت تدري ماذا سيفعل، أي: سوف يفصلك، وإذا بالرجل ينام مرة ثانية، لماذا؟ لأنه لا يخاف إلا من الله، فليس خائفاً على الكرسي، فقد أخذوه، فهو نائم على الأرض.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضينا بما آتانا، وأن يقنعنا بما آتانا، وأن يشفي أمراض قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يتولانا وإياكم.

إذاً: فاعمل لله بقدر حاجتك له، وللدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها، وللنار بقدر صبرك عليها، كان عمر بن الخطاب يشعل النار في البيت ويقرب أصبعه ويقول: يا ابن الخطاب ! ألك صبر على مثل هذا؟

فهو يربي نفسه، أما من في زماننا فأحدهم كما قال الله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [البقرة:206]، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين إذا سمعوا عملوا بما سمعوا.

إذاً: فعشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، علم لا يعمل به، وهذه كارثة، يعني: الإنسان الذي يعلم ولا يعمل.

الثانية: عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء، وقد كان سيدنا عمر دائماً يدعو ربنا ويقول: اللهم! إني أسألك من العمل أخلصه وأصوبه، فكانوا يقولون له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: العمل الخالص: هو ما كان لله عز وجل، والصواب: هو ما كان على الكتاب والسنة.

أهمية الإخلاص في العمل

فلا بد في العمل من الإخلاص، والإخلاص يعني: أن يكون العمل لله ليس لأحد فيه شيئاً.

وقلنا في دروس الفقه: أن الإمام لو ركع وتأخر ركوعه قليلاً من أجل أن يدرك الركوع رجل متأخر، قال الإمام أحمد في ذلك: بطلت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأنه لو أخر الإمام ركوعه من أجل هذا لخرج من الصلاة لله إلى الصلاة لغير الله، فتبطل، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

ويعيش في الدنيا كأنه مسافر، أو راحل إلى الله، فعقله وقلبه في الآخرة، ولو كان من أصحاب الملايين، لكن المهم ألا تكون الدنيا في قلبه، مثلما قال أحمد بن حنبل : والله جعلتموها أنتم في قلوبكم وأخرجها الله من أيديكم، ونحن نزعناها من قلوبنا فوضعها الله في أيدينا فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس.

إذاً: فالعمل لا بد أن يكون خالصاً لله وحده، وأيضاً يكون باقتداء، وهناك صفات للعمل المخلص لله فيه:

أولها: مهما عملت من عمل فلا تكلم عنه القريب ولا الغريب، لماذا؟ لأن النفس الإنسانية تريد أن تذكر بالخير، وأن يقول الناس عنها مثلاً: هذه امرأة صالحة، وهذا رجل صالح، وهذه البنت ما شاء الله عليها، والولد ما شاء الله عليه، ونحن لا نريد هذا، وإنما نريد أن يكون العمل لله، سواء قال الناس مدحاً أو ذماً، وهذا على غرار الصدقة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبها: (تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، فهذا دليل استحباب عدم الإظهار لأعمال الخير إلا لمصلحة، والآن هناك من يكتب في الجرائد: فلان الفلاني! يتبرع بمبلغ كذا وكذا! وهناك من يقول: إن الله يقول: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274] فالسر هي الصدقة، والعلانية أجازها الفقهاء لمصلحة، كأن أنبه فلاناً وفلاناً أنه قد حال الحول على ما في أيديهم، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

إذاً: فالخيرية هي في الإخفاء؛ لأن ربنا يحمينا من حظوظ أنفسنا، ولذلك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة العالم والشهيد والكريم المنفق، فهذه المسألة خطيرة جداً؛ لأنه يريد أن يقال عنه كذا وكذا، ولا يقول أحد: أنا أشجع أخي المسلم أو أختي المسلمة، والأعمال بالنيات، لكن لو كشفنا عن النوايا فسنجدها مسوسة، وقد قلت: لو قمنا بامتحان لقلوبنا، وأخرجنا ما فيها، بكل صراحة ووضوح، فسنرى بالضبط من في قلبه ديناراً أو أكثر أو أقل، وكل ذلك قدر عملك، وتصور لو كانت هذه الأعمال تؤجر أموالاً، وكل إنسان يعطى على قدر عمله.

يقول تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37]، وكأن ربنا يقول: احمدوا ربكم أنه ما طلب منكم المال كله، ولكن قال: إذا كان معك ألف جنيه فنحن نريد منها خمسة وعشرين جنيهاً فالعبد حينها سيبخل، ولذا قال ربنا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة:155]، أي: لنمتحننكم ونختبرنكم، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، يقرأ الحسن البصري هذه الآية ويبكي، ويقول: يا رب! إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

فالمسلم الواجب في حقه، أن يكون عمله خالصاً لله عز وجل، يذكر أن علياً كرم الله وجهه في الخندق لما أوقع عدوه على الأرض فبصق العدو في وجه علي ، فغمد علي سيفه، فلما سألوه: لمَ لم تقتله؟ قال: رفعت سيفي لأقتله أول مرة انتصاراً لله عز وجل، فلما بصق خفت أن أقتله انتقاماً لنفسي، فلا يكون القتل في سبيل الله إلا إن كانت النية مجردة عن الحظوظ النفسية.

أتذكرون الرجل الذي لقي جماعة يعبدون شجرة كان أحد الصالحين يقعد عندها، فكان الناس يعبدونها ويتبركون بها ويطوفون حولها، فأراد هذا الرجل أن يقتلعها، فقابله إبليس في صورة رجل، وقال له: إلى أين؟ قال: أنا ذاهب أقطع الشجرة التي يشرك الناس عندها، فقال له: مالك ومال الناس؟ وهذا خطأ؛ لأن من رأى منكراً فليغيره على قدر استطاعته، فلبس الشيطان على الرجل، وقال له: ارجع إلى بيتك، وسأعطيك كل يوم عشرة دنانير تجدها تحت مخدتك، فاهتز من تلبيس الشيطان وقال لنفسه: ما لي ولمن يعبد شجرة، ورجع إلى بيته ورفع المخدة أول يوم فما لقي شيئاً، وكذلك لم يجد تحتها شيئاً في اليوم الثاني والثالث، فقال: هذا الرجل يضحك علي، فأخذ الفأس وخرج، وفي الطريق لقيه فقال له: إلى أين؟ قال: أنت رجل كذاب، وأنا ذاهب لأقطع الشجرة، فقال له: لن تقدر عليها قال: لماذا؟ قال: خرجت أول مرة في سبيل الله مخلصاً، فما كانت قوة تستطيع أن تقف أمامك، أما اليوم فقد خرجت انتصاراً لنفسك فلا تستطيع، فلو مددت يدك لقطعتها لك.

فلا بد أن يكون العمل خالصاً لله، حتى ينتفع به دنيا وأخرى.

ولذلك أجمل الصلاة صلاة الليل؛ لأن أنظار الناس منصرفة عنها، لكن المصيبة أنه بعد ما تعب وصلى واستقام سمع صوتاً يثني عليه في ذلك، فاغتر بذلك، أما إن لم يتأثر وكانت نيته لوجه الله فلا يضر، أو يتكلم ليشجع غيره على الخير فلا حرج مع الحذر، ولذلك قال الحسن البصري لما سئل: يا بصري! علمناك آدم البشرة، أسمر اللون، يعني: فما لنا نرى عليك نوراً كل يوم يزداد؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا الله من جماله وجلاله.

ولكن الحسن البصري لا يمكن أن يلعب عليه الشيطان ويفتنه إلا بقدر.

أثر الاقتداء في قبول العمل

فعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ضعيف مردود، والعمل الذي فيه إخلاص ومتابعة قوي مقبول، ذهب رجل لزيارة قبر الحسين وكان مخلصاً، ذهب عند المقام وطاف، وفي الحديث: (يا علي ! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترين صنماً إلا كسرته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) أي: قبراً حال كونه مشرفاً، وفي الحديث الآخر: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) وفي الحديث الآخر: (إنما لعن اليهود من قبلكم، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إن فعلتم كما فعلوا لعنكم الله كما لعنهم) .

وأيضاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)، اتخاذ السرج يكون بأن يوقد شمعتين عند قبر السيدة، ونحو ذلك، وإن غضب الدرويش بسبب ربحه من بعد هذه الشركيات، ولا تقل مش حالك، فلا يوجد في الدين تمشية حال، بل إما حلال وإما حرام، حلال يدخلني الجنة وحرام يدخل النار، ولا مكان بين الجنة والنار أبداً، اللهم اجعلها جنة أبداً يا رب العالمين.

نريد أن نهتز هزة جامدة، نعود بها إلى الدين الصافي، وحذار من اللف والدوران حول النصوص، وكل الناس يؤخذ منهم ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من قال بقول الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تأويل، فأنا لا أنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قيل، فلا يهمني الأشخاص، فمثلاً: قد تقول: إن العالم المشهود له بالكفاءة يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعان بمشرك، نقول: نعم، لكن أنت تأخذ أول الجملة وتنسى آخرها، فهل استعان بمشرك على مشرك أم على مسلم؟ فإن كان استعان به على مسلم فأخبرنا، فقد لا نعرف التاريخ، والذي نعرفه أنه استعان بمشرك على مشرك، فلما خرج من الطائف ومنعوه من دخول مكة، دخل في جوار مطعم بن عدي وكان مشركاً، فاستعان بـمطعم المشرك على أبي جهل وأبي سفيان ، وعقبة ، وأمية ومن كان على شاكلتهم.

أما عبد الله بن أريقط الذي هو الدليل للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة هو وأبي بكر ، فكأن النبي يقول: أستعين به لقضاء مصلحتي، ولا أستعين به على مسلم كما استعنت بالكمبيوتر والتلفزيون، والجزمة، والشراب، وكله صنعه مشرك، فأنا أستعين بهذا المشرك لقضاء حاجتي، لا لقتل مسلم.

ولم يأت من أجاز ذلك بنص، فحتى لا يدخل الحلال في الحرام في هذه الفتاوى، يجب أن تكون خالصة لله ما فيها شك، والنصوص واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بمشرك على مشرك وليس على مسلم، وقال في حديث رواه البخاري : (لا أستعين بمشرك على مشرك)، يعني: ما يقاتل مشركاً بمشرك.

ولما سئل في إحدى الغزوات أن جماعة مشركين يريدون أن يحاربوا معه قال: (لا أستعين بمشرك على مشرك)، فمن باب أولى هذا أي: حرمة الاستعانة بكافر على مسلم، نسأل الله أن يكشف غمتنا، وأن يذهب حربنا، وأن يوصلنا إلى بر السلامة.

فعمل لا اقتداء فيه لا ينفع صاحبه، فلو خرج مخلصاً من بيته وذهب لزيارة الحسين ، والتبرك بقبره، فالإخلاص موجود والاقتداء معدوم، فالعمل مردود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان موجوداً ما عمل ما يعملونه، واتفقنا من قبل أن أي حركة أو كلمة أو خطوة أو فعل نضع الرسول صلى الله عليه وسلم مكانه، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله فبها ونعمت، ولو كان لا يليق به ولا يمكن أن يقوله أو يفعله فهو مردود.

فلا بد في العمل من الإخلاص، والإخلاص يعني: أن يكون العمل لله ليس لأحد فيه شيئاً.

وقلنا في دروس الفقه: أن الإمام لو ركع وتأخر ركوعه قليلاً من أجل أن يدرك الركوع رجل متأخر، قال الإمام أحمد في ذلك: بطلت صلاة الإمام والمأمومين؛ لأنه لو أخر الإمام ركوعه من أجل هذا لخرج من الصلاة لله إلى الصلاة لغير الله، فتبطل، وقد قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

ويعيش في الدنيا كأنه مسافر، أو راحل إلى الله، فعقله وقلبه في الآخرة، ولو كان من أصحاب الملايين، لكن المهم ألا تكون الدنيا في قلبه، مثلما قال أحمد بن حنبل : والله جعلتموها أنتم في قلوبكم وأخرجها الله من أيديكم، ونحن نزعناها من قلوبنا فوضعها الله في أيدينا فليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس.

إذاً: فالعمل لا بد أن يكون خالصاً لله وحده، وأيضاً يكون باقتداء، وهناك صفات للعمل المخلص لله فيه:

أولها: مهما عملت من عمل فلا تكلم عنه القريب ولا الغريب، لماذا؟ لأن النفس الإنسانية تريد أن تذكر بالخير، وأن يقول الناس عنها مثلاً: هذه امرأة صالحة، وهذا رجل صالح، وهذه البنت ما شاء الله عليها، والولد ما شاء الله عليه، ونحن لا نريد هذا، وإنما نريد أن يكون العمل لله، سواء قال الناس مدحاً أو ذماً، وهذا على غرار الصدقة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبها: (تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، فهذا دليل استحباب عدم الإظهار لأعمال الخير إلا لمصلحة، والآن هناك من يكتب في الجرائد: فلان الفلاني! يتبرع بمبلغ كذا وكذا! وهناك من يقول: إن الله يقول: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274] فالسر هي الصدقة، والعلانية أجازها الفقهاء لمصلحة، كأن أنبه فلاناً وفلاناً أنه قد حال الحول على ما في أيديهم، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

إذاً: فالخيرية هي في الإخفاء؛ لأن ربنا يحمينا من حظوظ أنفسنا، ولذلك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة العالم والشهيد والكريم المنفق، فهذه المسألة خطيرة جداً؛ لأنه يريد أن يقال عنه كذا وكذا، ولا يقول أحد: أنا أشجع أخي المسلم أو أختي المسلمة، والأعمال بالنيات، لكن لو كشفنا عن النوايا فسنجدها مسوسة، وقد قلت: لو قمنا بامتحان لقلوبنا، وأخرجنا ما فيها، بكل صراحة ووضوح، فسنرى بالضبط من في قلبه ديناراً أو أكثر أو أقل، وكل ذلك قدر عملك، وتصور لو كانت هذه الأعمال تؤجر أموالاً، وكل إنسان يعطى على قدر عمله.

يقول تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37]، وكأن ربنا يقول: احمدوا ربكم أنه ما طلب منكم المال كله، ولكن قال: إذا كان معك ألف جنيه فنحن نريد منها خمسة وعشرين جنيهاً فالعبد حينها سيبخل، ولذا قال ربنا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ [البقرة:155]، أي: لنمتحننكم ونختبرنكم، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، يقرأ الحسن البصري هذه الآية ويبكي، ويقول: يا رب! إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

فالمسلم الواجب في حقه، أن يكون عمله خالصاً لله عز وجل، يذكر أن علياً كرم الله وجهه في الخندق لما أوقع عدوه على الأرض فبصق العدو في وجه علي ، فغمد علي سيفه، فلما سألوه: لمَ لم تقتله؟ قال: رفعت سيفي لأقتله أول مرة انتصاراً لله عز وجل، فلما بصق خفت أن أقتله انتقاماً لنفسي، فلا يكون القتل في سبيل الله إلا إن كانت النية مجردة عن الحظوظ النفسية.

أتذكرون الرجل الذي لقي جماعة يعبدون شجرة كان أحد الصالحين يقعد عندها، فكان الناس يعبدونها ويتبركون بها ويطوفون حولها، فأراد هذا الرجل أن يقتلعها، فقابله إبليس في صورة رجل، وقال له: إلى أين؟ قال: أنا ذاهب أقطع الشجرة التي يشرك الناس عندها، فقال له: مالك ومال الناس؟ وهذا خطأ؛ لأن من رأى منكراً فليغيره على قدر استطاعته، فلبس الشيطان على الرجل، وقال له: ارجع إلى بيتك، وسأعطيك كل يوم عشرة دنانير تجدها تحت مخدتك، فاهتز من تلبيس الشيطان وقال لنفسه: ما لي ولمن يعبد شجرة، ورجع إلى بيته ورفع المخدة أول يوم فما لقي شيئاً، وكذلك لم يجد تحتها شيئاً في اليوم الثاني والثالث، فقال: هذا الرجل يضحك علي، فأخذ الفأس وخرج، وفي الطريق لقيه فقال له: إلى أين؟ قال: أنت رجل كذاب، وأنا ذاهب لأقطع الشجرة، فقال له: لن تقدر عليها قال: لماذا؟ قال: خرجت أول مرة في سبيل الله مخلصاً، فما كانت قوة تستطيع أن تقف أمامك، أما اليوم فقد خرجت انتصاراً لنفسك فلا تستطيع، فلو مددت يدك لقطعتها لك.

فلا بد أن يكون العمل خالصاً لله، حتى ينتفع به دنيا وأخرى.

ولذلك أجمل الصلاة صلاة الليل؛ لأن أنظار الناس منصرفة عنها، لكن المصيبة أنه بعد ما تعب وصلى واستقام سمع صوتاً يثني عليه في ذلك، فاغتر بذلك، أما إن لم يتأثر وكانت نيته لوجه الله فلا يضر، أو يتكلم ليشجع غيره على الخير فلا حرج مع الحذر، ولذلك قال الحسن البصري لما سئل: يا بصري! علمناك آدم البشرة، أسمر اللون، يعني: فما لنا نرى عليك نوراً كل يوم يزداد؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا الله من جماله وجلاله.

ولكن الحسن البصري لا يمكن أن يلعب عليه الشيطان ويفتنه إلا بقدر.

فعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء ضعيف مردود، والعمل الذي فيه إخلاص ومتابعة قوي مقبول، ذهب رجل لزيارة قبر الحسين وكان مخلصاً، ذهب عند المقام وطاف، وفي الحديث: (يا علي ! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترين صنماً إلا كسرته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) أي: قبراً حال كونه مشرفاً، وفي الحديث الآخر: (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم) وفي الحديث الآخر: (إنما لعن اليهود من قبلكم، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إن فعلتم كما فعلوا لعنكم الله كما لعنهم) .

وأيضاً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)، اتخاذ السرج يكون بأن يوقد شمعتين عند قبر السيدة، ونحو ذلك، وإن غضب الدرويش بسبب ربحه من بعد هذه الشركيات، ولا تقل مش حالك، فلا يوجد في الدين تمشية حال، بل إما حلال وإما حرام، حلال يدخلني الجنة وحرام يدخل النار، ولا مكان بين الجنة والنار أبداً، اللهم اجعلها جنة أبداً يا رب العالمين.

نريد أن نهتز هزة جامدة، نعود بها إلى الدين الصافي، وحذار من اللف والدوران حول النصوص، وكل الناس يؤخذ منهم ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من قال بقول الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تأويل، فأنا لا أنظر إلى من قال، ولكن أنظر إلى ما قيل، فلا يهمني الأشخاص، فمثلاً: قد تقول: إن العالم المشهود له بالكفاءة يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعان بمشرك، نقول: نعم، لكن أنت تأخذ أول الجملة وتنسى آخرها، فهل استعان بمشرك على مشرك أم على مسلم؟ فإن كان استعان به على مسلم فأخبرنا، فقد لا نعرف التاريخ، والذي نعرفه أنه استعان بمشرك على مشرك، فلما خرج من الطائف ومنعوه من دخول مكة، دخل في جوار مطعم بن عدي وكان مشركاً، فاستعان بـمطعم المشرك على أبي جهل وأبي سفيان ، وعقبة ، وأمية ومن كان على شاكلتهم.

أما عبد الله بن أريقط الذي هو الدليل للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة هو وأبي بكر ، فكأن النبي يقول: أستعين به لقضاء مصلحتي، ولا أستعين به على مسلم كما استعنت بالكمبيوتر والتلفزيون، والجزمة، والشراب، وكله صنعه مشرك، فأنا أستعين بهذا المشرك لقضاء حاجتي، لا لقتل مسلم.

ولم يأت من أجاز ذلك بنص، فحتى لا يدخل الحلال في الحرام في هذه الفتاوى، يجب أن تكون خالصة لله ما فيها شك، والنصوص واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعان بمشرك على مشرك وليس على مسلم، وقال في حديث رواه البخاري : (لا أستعين بمشرك على مشرك)، يعني: ما يقاتل مشركاً بمشرك.

ولما سئل في إحدى الغزوات أن جماعة مشركين يريدون أن يحاربوا معه قال: (لا أستعين بمشرك على مشرك)، فمن باب أولى هذا أي: حرمة الاستعانة بكافر على مسلم، نسأل الله أن يكشف غمتنا، وأن يذهب حربنا، وأن يوصلنا إلى بر السلامة.

فعمل لا اقتداء فيه لا ينفع صاحبه، فلو خرج مخلصاً من بيته وذهب لزيارة الحسين ، والتبرك بقبره، فالإخلاص موجود والاقتداء معدوم، فالعمل مردود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان موجوداً ما عمل ما يعملونه، واتفقنا من قبل أن أي حركة أو كلمة أو خطوة أو فعل نضع الرسول صلى الله عليه وسلم مكانه، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله فبها ونعمت، ولو كان لا يليق به ولا يمكن أن يقوله أو يفعله فهو مردود.

إذاً: فأول شيء من العشرة الأشياء الضائعة: علم لا يعمل به، والثاني: عمل لا إخلاص فيه، ولا اقتداء.

والثالث: مال لا ينفق منه، فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة.

أنا والله حزين على الذين لهم ودائع في البنوك ويعيشون عيشة الكفاف، أعرف أناساً كلما تتحصل له وديعة يضعها ولا يأخذها أبداً؛ لأن فك الودائع حرام عنده، لكن الذي يصلي الصلاة بعد الوقت هذا ليس حراماً عنده في مذهبه! ويأخذ الوديعة ويظل يشتري الحاجة بالقرش ويدفع أقساطاً ويقول: أنا مديون! ومن ادعى الفقر أفقره الله، ومن ادعى المرض أمرضه الله، ومن يظل كالميت يميته الله، لكنه يبقى حياً وهو ميت، كما قال الأول:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من عاش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء

إنسان مكتئب وعاش كذلك، فليس للحياة وجود عنده حقيقة، لتبخر الإيمان من قلبه، وسيدنا عمر يقول: اللهم إني أعوذ بك من أربع: من ولد يصير علي سيداً، بمعنى: أنه يأمره وينهاه، قال: ومن زوجة تشيبني قبل المشيب، ثم قال: ومن جار السوء تراني أو ترعاني عيناه، وتسمعني أذناه، إن رأى حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها، وعلى هذا كثير والعياذ بالله.

ثم قال: وأعوذ بك من مال يستنفع به ورثتي من بعدي، وأحاسب أنا عليه في القبر.

كان سيدنا علي يقول جملة لطيفة وهي: يا بؤس البخيل الغني! يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب في القبر حساب الأغنياء، فهو عايش فقير والعياذ بالله، وفي القبر يحاسبه الله حساب الأغنياء لأنه غني، مع أنه ما عاش مثل الأغنياء، هذا البخيل يقول للجنيه عندما يأتي له: ادخل كم تعبت؟ وتداولت من يد إلى يد سوف تدخل في قرار لن تخرج منه أبداً، لن ترى النور مرة أخرى، ودخل وصلى أربع تكبيرات، نسأل الله السلامة.

ويقال: إن مادراً الذي يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر ، وأكرم من حاتم ، قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: تعلمته من قبيلتي، وذلك أنهم كانوا عند أن يخرجوا في رحلة ويطبخوا اللحم، يضع كل واحد قطعة لحمه في القدر، ويربطها بخيط، ويمسكها حتى تستوي، حتى لا تضيع في القدر!

ويقال: إن مادراً جمع أولاده الثلاثة، فقال: أريد أن أعرف من الذي يرفع علم البخل من بعدي، فأتى بعظم فقال: من يحسن استخدام هذا العظم؟ فالولد الكبير قال: أمصها حتى لا يبقى منها رمق، فلا يمصها أحد بعدي، فقال له: لست بصاحبي، فقال الولد الثاني: أمصها مصاً حتى لا يعرف رائيها ألسنة ألقيت أم لسنتين؟ قال له: لست بصاحبي، إنك لمسرف.

وقال الثالث: أمصها ثم أدقها وأسفها، قال له: أنت صاحبي.

فالبخل ابتلاء، وهو يأتي من قلة اليقين بالله، فهو يبخل على نفسه؛ لأنه خائف من غد.

أتى علماء الاقتصاد سنة خمسة وستين إلى مصر، قبل إعدام سيد قطب بشهر، فأتوا بالخبراء الألمان من أجل ميزانية مصر يريدون انضباط ميزان المدفوعات، فلم يصنعوا شيئاً، وقالوا لهم: امشوا على ما أنتم عليه، فأصبحت الميزانية ليس لها قانون ينظمها.. لكن لا شك أن في مصر عباداً صالحين، لا يعرفهم أحد، وهناك مسلمات قانتات عابدات، وأناس ظلموا كثيراً، وأطفال وبهائم، فربنا ينزل علينا الخير بسببهم، وبسبب أناس بينهم وبين الله أسرار، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، فربنا يرحم العباد بسبب واحد منهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم شفع من يبكي فيمن لا يبكي)، ولذلك أرحم الناس بالناس العلماء والأتقياء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يحن عليكم بعدي إلا العلماء والأتقياء)، أهل العلم والتقوى هم الذين يحنون على الأمة، أما الباقي والعياذ بالله فلا يهمهم أمر الأمة لا من قريب ولا من بعيد.

إذاً: فالمال الذي لا يستمتع به في الدنيا، ولا يقدم شيئاً منه للآخرة، من الأشياء الضائعة، ورأينا عائشة وهي تعطر الدرهم الذي تنفقه في سبيل الله وتقول: أنا أوقن أنه يقع في كف الله لا في كف الفقير.

الشيء الرابع من الأشياء الضائعة التي ما ننتفع بها: قلب فارغ من المحبة لله والشوق إليه والأنس به، وهذه هي قلوب قال الله فيها: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:43]، هواء يعني: فارغة.

ولذلك قالوا: إن النفس كالزجاجة، إذا ما امتلأت بالماء تمتلئ بالهواء، وهكذا النفس إن لم تشغلها بالحق تشغلك بالباطل، والنفس مثل الدابة أو السيارة، لا بد أن تكبح جماحها حتى تنقاد لك وتمشي كما تريد.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم.

أي: هي على ما عودتها وربيتها عليه، فإن عودتها على القناعة تقنع، وإن عودتها على قلة الأكل تعودت، وإن عودتها على قيام الليل تعودت، وإن عودتها على الصبر تتعود، وإن عودتها على الجشع والطمع والنظر إلى ما في أيدي الناس، والحقد والضغينة وشغلتها به تعودت، وهذا هو تخصصها والواجب أن تسلب منها تخصصها، واعلم أن كل شيء تكرهه النفس يقربك إلى الله غالباً، وكل ما تحبه النفس يقربك إلى النار غالباً.

من منا تحب نفسه الصيام وقيام الليل؟ وهكذا ..

فالنفس الراضية تملأ قلب العبد محبة لله، ولهذه المحبة التي لله تعالى دلائل وروافد، فروافد المحبة هي مصادرها وينابيعها، ونحن نريد أن نعرف منابع المحبة.

أول منبع من منابع المحبة: التدبر للقرآن، ثم تحري أكل الحلال، ثم الثقة بما عند الله، أي: أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك أنت، مثل أبي بكر الذي كان يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إنما نعطي لك لتنفقه في سبيل الله، أحب إلينا مما يبقى في بيوتنا).

أي: المال الذي أخرجناه أحسن عندنا من المال الذي بقي عندنا؛ لأن المال الذي بقي في أيدينا سيضيع، لكن الذي ذهب في سبيل الله فهو عند الله باق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (أما بقي من الذراع شيء؟ قالت: ذهبت كلها وبقي الذراع، قال: كلا، بل بقيت كلها وذهب الذراع)، فانظر الفقه، يعني: الشاة التي ذبحناها أبقي منها شيء؟ قالت: كلها ذهبت أي: أنفقت لله وبقي الذراع، فقال لها: لا، بل بقيت كلها عند الله وذهب الذراع؛ لأنا أكلناه.

ولذلك نذكر خبر الصحابي الذي مات وهو يقول: يا ليته كان طويلاً، يا ليته كان جديداً، يا ليته كان كاملاً، وفاضت روحه، وقصته أنه وهو يموت شعر بالجوع، فالملائكة أتت له بطعام فأكل، فتذكر أنه ذات مرة تصدق بنصف رغيف، فكان إطعام الملائكة له على قدر صدقته، فتمنى لو كان تصدق بالرغيف كله، فقال: يا ليته كان كاملاً، وشعر بعطش شديد فلما روي قال: ما الخبر؟ فقيل له: إنك مرة كنت لابساً ثوبين، ثوباً قديماً، وثوباً جديداً، وواحد يقول لك: لله، فذهبت وخلعت له الثوب القديم، فقال: ليته كان جديداً، وشعر بضيق تنفس في صدره فصرف عنه ما هو فيه، فقال: ما هي الحكاية؟ قال: ذات مرة كنت ذاهباً إلى الجامع، فلقيت شيخاً كبيراً يقول: خذ بيدي، فأخذت بيده، فقال: يا ليته كان بعيداً، فليس هناك شيء يضيع عند الله، قال تعالى في آخر سورة الزلزلة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

فكل ذلك محفوظ عند الله تعالى، ولن يضيع.

فمنابع المحبة: تلاوة القرآن، والتدبر لما فيه، وحضور مجالس العلم، وأن يكون أمر الآخرة أهم عندي من أمر الدنيا؛ لأنه في الحديث: (المؤمن في الدنيا غريب، لا يأنس بعزها ولا يجزع من ذلها).

لا يأنس بعزها لأنها غدارة لا تبقى على حال، وكلنا نحفظ هذا الكلام، لكن أين اليقين؟ أنا أريد أن يتحول علم اليقين إلى عين اليقين، أريد أن أرى الدنيا أمامي وهي تضحك على أهلها، والحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأنس من عزها، ولا يجزع من ذلها).

إذاً: فهذه منابع المحبة.

ومؤشرات المحبة التي في القلب ما يلي:

عمل المعروف ابتغاء وجه الله

أولاً: أن المعروف الذي أعمله في الناس ويرد علي بخير أو شر كله عندي سواء؛ لأنا قلنا: لو عملت المعروف ورددت عليَّ بشرٍّ فغضبت منك، فالمعروف إذاً ليس لوجه الله، وإنما للناس، لكن لو كان لله فأنا لا أفكر في أن يرد علي بخير أو شر؛ لأنني عملته أصلاً لله.

وبعض النساء تقول: هذه الشغالة قد عملتُ لها وعملتُ، فنقول: سبحان الله! إذا كنت عملت لها أمراً ما فهل هذا العمل لله أم لغيره؟ الظاهر: أن عملها ليس لله، بدليل: أن الشغالة لو مشت فتلك الزيادة التي كنت تعطينها سوف تقطعينها عنها، لأنها لم تكن لله أولاً، ومن الأفضل ألا أعطي مال الزكاة للسواق الذي معي أو الموظف الذي عندي، حتى لا آخذ مقابل الزكاة منفعة، فمثلاً: الموظف مرتبه مائة جنيه، ومال الزكاة خمسون جنيهاً أعطيتها له فوق مرتبه، فبعدما كان يعمل لي كذا سيعمل كذا وكذا! فبدل ما كان يحمل الشنطة من على الباب سوف يجري ويأتي بها من فوق.

إذاً: فالمسلم يراعي هذه المسائل، وهذا من دلائل المحبة، فلا يغضب أحد إذا رد عليه بسوء.

وهناك من يقول لك: نعمل الخير ونلاقي الشر، وكل الناس تقول لك: الأقارب مثل العقارب، وتدري أن المصائب إنما تأتي من قبل الأقارب، ونحن كلنا لنا أقارب، فهل كلنا نأتي بالسوء لبعض؟ وإذا أشرت إليك وقلت: إنك مخطئ، فإن أصابعي الثلاث تشير إلي وتقول: إنك أكثر خطأ.

إذاً: فمن مؤشرات المحبة: ألا يغضب المكلف عندما يفعل معروفاً مع أحد، ويرد عليه بالسوء.

الفرح بالطاعة

ومن مؤشرات المحبة: أني حين ألقي درس علم أكون فرحاً جداً، وكذا إن جلست في مجلس ذكر، أو صلة رحم، أو زيارة مريض، أو تشييع جنازة، أو تعزية أو تهنئة، فأنا أفرح بهذا كله، وأخرج إن أدخلت السرور على مسلم، وأفرح لفرحه، وعندما يأتي له خير أقول: الحمد لله، ربنا يوسع عليك، ويكرمك، ويبارك لك.

فيدعو المسلم لإخوانه رجالاً ونساء في ظهر الغيب، والملك يقول: ولك مثل ذلك، ومن لا يرحم لا يرحم، اطلبوا المعروف عند الرحماء من الأمة، ولا تطلبوه عند القاسية قلوبهم والعياذ بالله.

خشوع القلب للقرآن

ومن مؤشرات المحبة أيضاً: أن القرآن إذا قرئ فالقلب يقشعر.

أخ يسألني بالتلفون: يا سيدنا الشيخ! ما هو صفاء القلب؟ فقلت له - مع فارق القياس -: عندما تكون بارداً ويحصل لك قشعريرة وهزة، وسيحصل كذلك لقلبك، مثلاً عن صلاة القيام، فستشعر بهزة فتفرح بالجنة، وتخاف من النار.

مثل المؤشر عند الحيوانات العجماء، انظر الثور في المزرعة لو وخزوه بإبرة فسيذهب المؤشر ناحية الشمال، ولو جوعوه وأتوا له بالأكل فالمؤشر سيتحرك ناحية اليمين، فالثور فرح للأكل فهذا دليل أن القلب كذلك، أي: عند ذكر الجنة يذوب شوقاً وعند ذكر النار يموت خوفاً، وحاله بين الخوف والرجاء، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].

أما فارغ القلب من محبة الله والشوق إليه والأنس به فلا خير فيه؛ لأن ربنا يدعونا إلى الخير، وإلى أن نستعين به سبحانه، قال في الحديث القدسي: (ألا من تائب فأتوب عليه، ألا من سائل فأعطيه، ألا من مستغفر فأغفر له؟)، حتى يطلع الفجر.

ولذلك قلنا: ليس العجب من فقير يتقرب إلى غني، ولكن الأعجب من ذلك غني يتودد إلى فقير، وليس العجب أن يتقرب الضعيف إلى قوي، ولكن الأعجب أن يتقرب القوي إلى الضعيف، وليس العجب أن يتقرب الذليل إلى العزيز، ولكن الأعجب أن يتودد العزيز إلى الذليل! فالفقير يتقرب من الغني لكي يأخذ منه، والغني يتقرب للفقير لماذا؟! وفي الحديث القدسي: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل، وشر العباد إلي صاعد، أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أشد ما يكونون حاجة لي، أهل ذكري أهل شكري، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، من تاب إلي منهم فأنا حبيبه، ومن لم يتب فإني غني عنه، الحسنة عندي بعشر أمثالها قد أزيد، والسيئة عندي بواحدة وقد أعفو، وأنا إليهم أرحم من الأم بأولادها).

تأمل معي قوله تعالى: (هل أتودد إليهم بالمغفرة وأنا أغنى الأغنياء عنهم)، فالله يتودد كما قال: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [البروج:14]، وقال: من جاءني منهم تائباً تلقيته من بعيد: مرحباً بالتائبين، ومن ظهر منهم عاصياً ناديته من قريب: إلى أين تذهب؟ أوجدت رباً غيري أم وجدت رحيماً سواي؟

هل تاجرت مع الله وخسرت؟ والله إن الخسارة كل الخسارة أن تتاجر مع غير الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [الصف:10-11]، هذا أول شرط، وهو الإيمان العملي، لا الإيمان النظري.

فنطلب القرب من خط رسول الله صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [7] 2692 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [3] 2204 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [14] 2111 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [9] 1971 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [5] 1870 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [8] 1853 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [2] 1736 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [13] 1686 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [12] 1661 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [4] 1505 استماع