سلسلة شرح كتاب الفوائد [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فنسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً.

اللهم تب على كل عاص، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، واشرح صدر كل ذي صدر ضيق.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واجعل -اللهم- خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم اطرد عن بيوتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، واجعل بيوتنا ذاكرة لك آناء الليل وأطراف النهار، وأكرمنا بالإيمان يا أرحم الرحمين.

اللهم كما رزقتنا الإسلام من غير أن نسألك ارزقنا الجنة ونحن نسألك، اللهم أدخلنا الجنة دون سابقة عذاب.

ما زلنا مع ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم الذي كله فوائد، وهو كتاب الفوائد، ولعل هذا الكتاب بفضل الله عز وجل قد شرح الله به صدوراً كثيرة، وأضاء لنا علامات على طريق الهداية لعلها تكون معالم بداية في السير إلى الله عز وجل.

ولعلنا نقول: إن كتاب الفوائد يتحدث -علاوة على مسألة العقيدة- عن صلاح القلوب، فالذي يلاحظ كلمات ابن قيم الجوزية رضوان الله عليه وجزاه الله عن الإسلام خيراً، يجد أنه يركز على مسألة صلاح القلوب؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد، فهو كالسلطان الذي تصلح الرعية بصلاحه وتفسد بفساده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وقد قلنا: إن الطهارة تنقسم إلى أقسام أربعة:

طهارة الظاهر من النجاسات، وطهارة الجوارح من المعاصي، وطهارة المعدة من الحرام، ثم طهارة القلب من الأنجاس والأخباث والرذائل التي تعلق بالقلب، ولا يطهر القلب الذي اختلط حلاله بحرامه، وصار الذي يدعو إلى الله عز وجل ويأخذ بأيدي الناس إلى طريق قويم يتهم باتهامات شتى.

ولكننا نحاول أن نسلك إلى الله عز وجل طريقاً مستقيماً وصراطاً قويماً، فقد قدر علينا أن نسبح ضد التيار، والسباحة ضد التيار ليست أمراً ميسوراً، وإنما هي أمر له تبعاته وله عقباته، والطريق ليس ممهداً بالورود، بل هو كما قال ابن قيم الجوزية : طريق تعب فيه آدم، وناح من أجله نوح، وقاسى فيه الضر أيوب، ولاقى أنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم.

وإن الجنة حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، فأصبح دخول النار سهلاً؛ لأنها محاطة بالشهوات، محاطة بما تحبه النفس وبما تشتهيه.

وطريق الجنة محفوف بالمكاره، والمكاره أشياء تكون دائماً ضد النفس الإنسانية، والنفس الإنسانية دائماً تحب الراحة، ولذلك سئل ابن قيم الجوزية مرة عن قصة الطريق إلى الله، فذكر قصة حدثت أمامه بين أحد المرجئة وابن تيمية شيخ الإسلام، فقد قال لـابن تيمية : يا ابن تيمية ! كم تتعب نفسك؟! يعني: ليست لك راحة، وليس لك ليل تنام فيه، وليس لك نهار ترتاح فيه، فكل حياتك للناس وللدعوة. قال: راحتها أريد. يعني: كل هذا التعب من أجل الراحة.

فهذا إنسان فقه ما وراء الموت وما عند الله عز وجل وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64] فدار الآخرة هي الدار الحقة، فالله عز وجل يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28]، فهذه النفس يقول الله لها: ارجعي، وما قال لها: تعالي، أو: اجلسي، ولكن قال: ارْجِعِي ، والرجوع يكون إلى المكان الأساسي الذي هو البيت، فربنا عندما يقول للنفس المؤمنة: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ يدل قوله على مكانها الأساسي، فالدنيا كلها دار ضيافة، والضيافة أيام قليلة، ثم نعود إلى رب العباد، فاللهم ارجعنا إليك مؤمنين مسلمين مخبتين منيبين يا رب العالمين.

يقول ابن القيم رحمه الله: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصر العدو دخل في حصر النصر، فعبثت أيدي سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به، ومسالم له، وخائف منه. يعني: إذا بحثت حول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتصار الإسلام فستجد هذه الأقسام الثلاثة: قسم مؤمن به، وقسم مسالم له ومعاهد من أجل ألا يحاربه ولا يحارب ضده، وقسم خائف منه.

يقول ابن القيم : ألقى بذر الصبر في مزرعة: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وكأن الصبر له جذور، وجذور الصبر تنتج الإيمان، وتنتج رضاً، وتنتج يقيناً، وتنتج ثقة بالله عز وجل، كما قالت السيدة عائشة في أبي بكر : لقد كنت ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله كالجبل الأشم لا تزيلك العواصف ولا تزحزحك.

وكأن الرسل لهم مزرعة، وكل رسول يبذر الصبر فيها، ووالله لا يصلح الإيمان بدون صبر أبداً، كما قال سيدنا علي :

سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري سأصبر حتى يحكم الله في أمري

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبور على شيء أمر من الصبر

يعني: أنه سيكون صابراً إلى درجة أن يصير الاسم صفة.

فالرسل لهم مزرعة، وابن القيم يتكلم عن مزرعة الدعوة، فكل رسول يأتي بواجبه، والرسول بذر كما بذر أولو العزم.

قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، ولما بذر أولو العزم من الرسل الصبر حصدوا النصر، ففي الحديث: (إن النصر مع الصبر).

فإذا كانت هناك امرأة أتعبها زوجها وأرادت أن تنتصر في الدنيا والآخرة فبالصبر، وقد قال سيدنا علي : من أصيب بمصيبة فصبر كان له الأجر وقد نفذ أمر الله، ومن أصيب بمصيبة فلم يصبر كان عليه الوزر وقد نفذ أمر الله.

فالصبر مسألة مهمة جداً، وهو يعطي ثقة للإنسان، فبعدما تذهب الأزمة يكون الإنسان فخوراً أمام نفسه، فيقول: الحمد لله، ولكن عندما ينهزم يشعر بالإحباط.

عاقبة صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول رحمه الله: ألقى بذر الصبر في مزرعة: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى: والحرمات قصاص.

والخزامى عبارة عن نباتات في جزيرة العرب لها رائحة طيبة.

إذاً: والحرمات قصاص، فدخل مكة دخولاً ما دخله أحد قبله ولا بعده، دخلها وحوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، أي: أعينهم، وهذا دليل على أنهم كانوا متغطين بالأسلحة والدروع، فدخلوا مكة منتصرين بفضل الله بعد أن خرجوا منها مقهورين.

وكان الصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رءوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه.

فربنا أباح مكة لسيدنا الحبيب ساعة، ولم يبحها لأحد من بعده فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن مكة بعد ذلك حرام، فلا أحد يستطيع أن يدخلها، فالبيت له رب يحميه، ولو أن المسلمين كلهم لم يستطيعوا أن يدافعوا عن البيت الحرام فإن ربنا سيدافع عنه؛ لأن هناك ملائكة تطوف ليل نهار تحرس البيت الحرام.

يقول: فلما قايس بين هذا اليوم -الذي هو يوم فتح مكة- وبين يوم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يوم اجتمعوا ليروا ما يعملونه به، فأنزل تعالى قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

والمكر من العبد صفة غير جيدة، فمكر العبد لف ودوران؛ لأنك عندما تمكر تلف وتدور، ولكن المكر من الرب تدبير وإحاطة.

ويعني بذلك قياس يوم خروجه من مكة بيوم دخولها، وشتان بين اليومين، فدائماً ينصر الله الرسل، وفي البدايات تكون القوى العامة هي الغالبة، والعبرة بالنهاية.

فسيدنا موسى خرج من مصر كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، وعندما عاد دخل على فرعون وقال له: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:46-47]، وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47] وكل ذلك كلام قوي.

وهكذا الحبيب المصطفى خرج من مكة؛ لأن الله أذن له بالهجرة؛ لأنها ليست مكاناً للدعوة، وذهب إلى المدينة ورجع بعد ثمان سنوات منتصراً فاتحاً ولحيته تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة.

إعزاز الله تعالى رسوله يوم الفتح

يقول رحمه الله تعالى: فأخرجوه ثاني اثنين، فدخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بزاً طوى الخوف من يوم قوله: أحد أحد، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية فأقبلوا يؤمون الصوب فدخلوا في دين الله أفواجاً، وكانوا قبل ذلك يأتون آحاداً، كما قال تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2].

ويروى: أن الحجاج قال يوماً لمن معه: ائتوا بأعرابي يأكل معي فجاء الأعرابي، فقال له: تعال فاجلس لتأكل معي، فقال له: دعاني من هو خير منك، قال له: من؟ قال: دعاني ربي إلى الصيام فصمت، فأنا صائم اليوم. قال له: كل اليوم وصم غداً، قال: هل يضمن لي الأمير أن أعيش إلى الغد، فقال له: إنه طعام طيب، فقال: والله ما طيبه خبازك ولا عجانك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية، فقال له: إن اليوم شديد الحرارة، فقال: لقد صمت ليوم هو أشد منه حراً، قال: أتحفظ شيئاً من القرآن يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: اقرأ، قال له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً.

فقال له: ويحك، يدخلون في دين الله. فقال: كان ذلك في عهد النبي وعهد صحابته، أما في عهدكم أنتم فيخرجون من دين الله. وهذه كلمة حق عند سلطان جائر.

مقام رسول الله بعد الفتح

يقول: فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العلم وما نزل عنه قط مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه.

يعني أن الذي كان يجمع من أجل أن يحارب الرسول لم يدر أنه لا يجمع إلا الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأسرى.

إلى الرفيق الأعلى

قال: فلما تكامل نصره وبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3].

فهو منشور، والمنشور في آخره توقيع: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] جاءه رسول ربه ليخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقاً إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.

وإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه واستبشاراً بقدوم روحه، فكيف بروح سيد الخلائق؟!

يقول رحمه الله: ألقى بذر الصبر في مزرعة: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، فإذا أغصان النبات تهتز بخزامى: والحرمات قصاص.

والخزامى عبارة عن نباتات في جزيرة العرب لها رائحة طيبة.

إذاً: والحرمات قصاص، فدخل مكة دخولاً ما دخله أحد قبله ولا بعده، دخلها وحوله المهاجرون والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، أي: أعينهم، وهذا دليل على أنهم كانوا متغطين بالأسلحة والدروع، فدخلوا مكة منتصرين بفضل الله بعد أن خرجوا منها مقهورين.

وكان الصحابة على مراتبهم، والملائكة فوق رءوسهم، وجبريل يتردد بينه وبين ربه، وقد أباح له حرمه الذي لم يحله لأحد سواه.

فربنا أباح مكة لسيدنا الحبيب ساعة، ولم يبحها لأحد من بعده فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن مكة بعد ذلك حرام، فلا أحد يستطيع أن يدخلها، فالبيت له رب يحميه، ولو أن المسلمين كلهم لم يستطيعوا أن يدافعوا عن البيت الحرام فإن ربنا سيدافع عنه؛ لأن هناك ملائكة تطوف ليل نهار تحرس البيت الحرام.

يقول: فلما قايس بين هذا اليوم -الذي هو يوم فتح مكة- وبين يوم: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ يوم اجتمعوا ليروا ما يعملونه به، فأنزل تعالى قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

والمكر من العبد صفة غير جيدة، فمكر العبد لف ودوران؛ لأنك عندما تمكر تلف وتدور، ولكن المكر من الرب تدبير وإحاطة.

ويعني بذلك قياس يوم خروجه من مكة بيوم دخولها، وشتان بين اليومين، فدائماً ينصر الله الرسل، وفي البدايات تكون القوى العامة هي الغالبة، والعبرة بالنهاية.

فسيدنا موسى خرج من مصر كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21]، وعندما عاد دخل على فرعون وقال له: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:46-47]، وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47] وكل ذلك كلام قوي.

وهكذا الحبيب المصطفى خرج من مكة؛ لأن الله أذن له بالهجرة؛ لأنها ليست مكاناً للدعوة، وذهب إلى المدينة ورجع بعد ثمان سنوات منتصراً فاتحاً ولحيته تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة.

يقول رحمه الله تعالى: فأخرجوه ثاني اثنين، فدخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعاً وذلاً لمن ألبسه ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة مالكاً مؤيداً منصوراً، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يجر في الرمضاء على جمر الفتنة، فنشر بزاً طوى الخوف من يوم قوله: أحد أحد، ورفع صوته بالأذان فأجابته القبائل من كل ناحية فأقبلوا يؤمون الصوب فدخلوا في دين الله أفواجاً، وكانوا قبل ذلك يأتون آحاداً، كما قال تعالى: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2].

ويروى: أن الحجاج قال يوماً لمن معه: ائتوا بأعرابي يأكل معي فجاء الأعرابي، فقال له: تعال فاجلس لتأكل معي، فقال له: دعاني من هو خير منك، قال له: من؟ قال: دعاني ربي إلى الصيام فصمت، فأنا صائم اليوم. قال له: كل اليوم وصم غداً، قال: هل يضمن لي الأمير أن أعيش إلى الغد، فقال له: إنه طعام طيب، فقال: والله ما طيبه خبازك ولا عجانك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية، فقال له: إن اليوم شديد الحرارة، فقال: لقد صمت ليوم هو أشد منه حراً، قال: أتحفظ شيئاً من القرآن يا أعرابي؟ قال له: نعم، قال له: اقرأ، قال له: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً.

فقال له: ويحك، يدخلون في دين الله. فقال: كان ذلك في عهد النبي وعهد صحابته، أما في عهدكم أنتم فيخرجون من دين الله. وهذه كلمة حق عند سلطان جائر.

يقول: فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم على منبر العلم وما نزل عنه قط مدت الملوك أعناقها بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب، ولم يدر أنه لم يزد على جمع الغنائم وسوق الأسارى إليه.

يعني أن الذي كان يجمع من أجل أن يحارب الرسول لم يدر أنه لا يجمع إلا الغنائم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والأسرى.

قال: فلما تكامل نصره وبلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاءه منشور: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3].

فهو منشور، والمنشور في آخره توقيع: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] جاءه رسول ربه ليخيره بين المقام في الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء ربه شوقاً إليه، فتزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.

وإذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه واستبشاراً بقدوم روحه، فكيف بروح سيد الخلائق؟!