تفسير سورة الحج (15)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن ما زلنا مع سورة الحج المكية المدنية، لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:67-72].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم تعليماً لغير العالمين وتذكيراً للناسين، ألا وهو أن السور المكية القرآنية التي نزلت بمكة تعمل على إيجاد العقيدة السليمة الصحيحة؛ لأن العقيدة السليمة الصحيحة بمثابة ومنزلة الروح، والحياة متوقفة على الروح، فبالروح الإنسان حي ويسمع ويبصر ويأخذ ويعطي ويذهب ويجيء، وفاقد الروح ميت لا يسمع النداء ولا يجيب، ولا يبصر ولا يرى، ولا يعلم ولا يعرف، وإنما ميت، وهذه الحقيقة قد تكررت، والله أسأل ألا تغيب عن أذهان المستمعين والمستمعات.

السور المكية التي نزلت بمكة تعمل على إيجاد عقيدة سليمة صحيحة في قلوب الناس من أهل مكة ومن غيرها، فإن هذه الروح لما توجد أو هذه العقيدة التي بمنزلة الروح لما توجد في القلب يصبح صاحبها حياً، فيقدر على أن يصوم ويصلي، على أن يجاهد ويرابط، على أن يقول الخير والمعروف ويسكت عن الشر والمنكر، وذلك لكمال حياته، فإن انعدمت فهو ميت، فإن ضعفت فهو مريض؛ لأن العقيدة إذا كانت ضعيفة في قلب صاحبها والله إنه كالمريض يقوى على شيء ويعجز عن آخر، يقدر على عمل ولا يستطيع على آخر، يقدر على أن يصمت عن باطل ولا يقدر أن يصمت عن باطل آخر، وهذا شأن المريض، أما فاقدها فميت لا يؤمر بصلاة ولا صيام ولا جهاد ولا إنفاق، أتأمر ميتاً؟!

وعرفتم الأدلة على ذلك؟ فإذا كان بيننا ذمي يهودي أو نصراني من أهل الكتاب هل نأمره بالصلاة؟ هل نقول له: صم غداً رمضان؟ هل نقول: هيا نحج هذه السنة؟ والله ما كان؛ لأنه ميت، لكن لما ننفخ فيه الروح ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حيي، وعند ذلك مره الاغتسال فليغتسل، وبالصلاة فليصل، وهذه هي الحقيقة، وأركان الإيمان ستة مبينة في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وعلى لسان جبريل عليه السلام، وهي الإيمان بالله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيرهما وشرهما، وهذه الآيات التي بين أيدينا ما خرجت عن هذه الحقيقة.

قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67].

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، والمنسك هو العبادة ومكان العبادة، ومن المناسك: الطواف بالبيت والذبح والأضحية، إذ ما من أمة بعث الله فيها رسولاً إلا وشرع لها عبادات تعبد الله بها لتزكو نفوسها وتطيب وتطهر وتصبح أهلاً لنزول الملكوت الأعلى، وما من أمة إلا وبعث الله فيها رسولاً وشرع لها العبادات التي تعبد الله تعالى بها، وذلك لتزكو وتطيب وتطهر وتكمل وتسعد وتصبح أهلاً للنزول فوق السماء السابعة، وهذه حقيقة مسلمة، لكن لمَ يقول تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ [الحج:67]؟ لأن المشركين في مكة سخروا من الأضاحي والهدي يوم الحج، وقالوا: لمَ تحرمون ما أحل الله، أي: ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلونه، وتذبحون أنتم وتأكلون؟! فواجهوا النبي صلى الله عليه وسلم معترضين عليه في بعض العبادات، ومنها: المناسك والنسك، فقال تعالى لرسوله مخبراً له: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، إذاً، فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ [الحج:67]، أي: لا تبالي بما يقولون، اتركهم إذ لا خير فيهم، فهم جهال وضلال، إذ ما من أمة إلا ولها منسك، فاليهود والنصارى بل الكل عندهم مناسك الآن وعبادات، فكيف تنفون هذا أنتم؟ إذاً اتركهم ولا تبالي بهم، واعتزلهم فلا ينبغي أن ينازعونك في هذا.

ثم قال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [الحج:67]، أي: اترك هؤلاء المجادلين والمعاندين الجهال والضلال، وادع إلى ربك أن يعبد وحده عبادة تزكي العابدين وتطهرهم وتؤهلهم لرضوان الله تعالى، ثم بجواره الكريم في الملكوت الأعلى فضلاً عن طهارة البدن وزكاة المال.

وَادْعُ [الحج:67]، يا رسولنا! إِلَى رَبِّكَ [الحج:67]، كيف يدعو؟ يدعو من؟ يدعو الناس، إلى من؟ إلى الله ليؤمنوا به وليعبدوه بما يشرع لهم، ويحبوه ويحبون ما يحب، ويكرهون ما يكره؛ لأنهم عباده وأولياؤه، فادعهم لهذا، وادع إلى ربك، أي: إلى خالقك ومالك أمرك وهو الله عز وجل.

ثم قال له: إِنَّكَ [الحج:67]، يا رسولنا! لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]، فلا تبالي بهذه الاعتراضات الباطلة، وادع إلى ربك إنك على حق، وإنك على طريق موصل إلى دار السلام، ألا وهو الإسلام، إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]، أي: طريق هداية مستقيم لا اعوجاج فيه، فينتهي بالسالكين أولاً إلى رضا الله ثم إلى جواره في الملكوت الأعلى.

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]، وهذه هي الآية الأولى، ففيها دعوة إلى عبادة الله وحده، وهذا هو التوحيد، وفيها كذلك دعوة إلى الإيمان بالبعث والجزاء، وفيها دعوة إلى الإيمان بالرسول الكريم.

قال تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68].

وَإِنْ جَادَلُوكَ [الحج:68]، أي: المشركون والكافرون، وقد يغمز اليهود لهم بغمزات، فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68]، وأعرض عنهم، واترك الجدال مع هؤلاء المعاندين المكابرين.

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68]، فأعرض عنهم وسيجزيهم بعملهم هذا، وكلمة: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68] معناها: سوف يجزيكم بهذا الشرك والكفر والشر والفساد، إذ ما يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى.

ثم بين ذلك بقوله: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:69]، من التوحيد والعبادات، وفيه تقرير يوم القيامة، اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج:69]، فمن كان مؤمناً موحداً براً تقياً حكم له بالخلد في دار السلام، ومن كان كافراً مشركاً فاجراً فاسقاً حكم له أيضاً بالخلد في جهنم دار البوار، وهذا حكم الله تعالى، فمتى يحكم؟ يوم القيامة، فأهل الإيمان والتوحيد، وأهل التقوى والصلاح يحكم لهم بالجنة دار الأبرار، وأهل الشرك والكفر والفسق والظلم والفجور يحكم لهم بدار البوار جهنم وبئس البصير.

ما الذي هم يختلفون؟ التوحيد والعبادة والشرع والإسلام، أليس الاختلاف قائماً بيننا وبينهم؟ متى يحكم الله بيننا وبينهم؟ يوم القيامة.

قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

ثم يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]؟ بلى، أَلَمْ تَعْلَمْ [الحج:70] يا عبد الله! أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]؟ قولوا: بلى، يعلم ما في السماء والأرض، ومن هنا سيجزي العاملين لعلمه، وليس هناك من يقول: أنا أكفر خفية، أو أفسق خفية، أو أفجر خفية، أو كذا، والله ما يدري! أَلَمْ تَعْلَمْ [الحج:70]، أي: ألم ينته إلى علمك، أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحج:70]، من الذرة إلى المجرة، من الجنة إلى الأرض إلى ما فيها من مخلوقات إلى ما تحت الأرض.

ثم قال تعالى: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، أي: هذه الأعمال كلها صالحها وفاسدها، كفرها وإيمانها، شركها وتوحيدها، حقها وباطلها، كل هذه الأعمال مدونة في كتاب المقادير قبل أن يكون أهلها، وهذا هو العلم العظيم،

فقد كتب الله أعمال العاملين قبل أن يخلقهم، وقبل أن يفكروا في العمل ويعملوا.

إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، عظيم ألا وهو كتاب القضاء والقدر، وقد علم أهل الحلقة وزادهم الله علماً إن كانوا ما يتركون ما يعلمون، فقد بينا لهم كيف القضاء والقدر؟ وكيف الكتاب؟ وقلنا: انظر إلى معماري يجلس على كرسيه ويضع الطاولة بين يديه، ويمسك قلماً بيمينه إن كان مسلماً، أو بيساره إن كان كافراً، ويرسم على ورقة فلة أو عمارة أو قرية رسماً دقيقاً، ثم يعطيه للقادرين على العمل فينفذونه كما رسمه لا يتخلف منه شيء أبداً، ولا يزيد فيه شيء أبداً، حتى عدد النوافذ والأبواب، كل ذلك كما هو مرسوم من المهندس، وهذا واقع ومشاهد.

إذاً: فالرب تبارك وتعالى قبل أن يخلق هذا الكون كله كتب المخلوقات كما هي، ثم أخذ يخرجها وينجزها في موعدها، وهذا هو الكتاب العظيم، أي: كتاب المقادير.

إِنَّ ذَلِكَ [الحج:70]، أي: الذي سمعتم من الكائنات في السموات والأرض، فِي كِتَابٍ [الحج:70]، أي كتاب هذا؟ إنه كتاب المقادير، وإن قلت: كيف؟ قال: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، أي: سهل جداً، فإذا كان ذلك سهل على المعماري فهو أسهل على الله عز وجل، فكل حركاتنا وسكناتنا وأعمالنا صالحة وطالحة موجودة مكتوبة قبل أن توجد أمي وأبي، وهذا هو النظام الذي به انتظمت الحياة، ولولا هذا النظام ما تبقى الحياة عاماً واحداً ولا تستمر، وإنما تخرب كلها، لكن بهذه الدقة العظيمة بقيت.

ولهذا يجب الإيمان بقضاء الله وقدره والتسليم له، ولا تقل: إذاً ما نعمل ما دام أن الله قد كتب كل شيء، إذا قلت: ما نعمل وما علمت لأن الله كتبك في جهنم بكفرك وفسقك وبقولك: ما نعمل، وقد قالت الأصحاب: إذاً ففيم العمل؟ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في البقيع رسم على الأرض بيده أو بعود ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كذا وكذا ، فقال الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، أي: لا بد من العمل، إن خلق للجنة فهو ميسر لأعمال الجنة، وإن خلق لجهنم فهو ميسر لأعمال جهنم، فالعمل لا بد منه، وأنت سوف تعمل رغم أنفك، فأنت لما تقول: أنا لا أعمل صلاحاً ولا فساداً ليس ذلك بممكن، ولذلك ما دمت أنك تعمل فسوف تعمل إما صلاحاً وإما فساداً رغم أنفك، فإن كنت من أهل الجنة فييسر لك طريقها وسبلها، وإن كنت من أهل النار فييسر لك كذلك سبلها وطرقها.

فهذا هو معنى قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، أي: سهل وميسر؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، ولا يتخلف أبداً، فسبحان الله العظيم! فالذي خلق السماوات والأرض وما بينهما يعجزه شيء يقول له: كن فيكون؟ ما يعجزه، نحن نقول فقط: تأملوا في كوكب الشمس الذي هو أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، وكله نار ملتهبة، فمن أوجد هذه النار؟ ومن أوجد هذا الكوكب؟ ومن سيره؟ ومن كوكبه؟ إنه الله عز وجل، إذاً: فلا إله إلا الله، ولا رب سوى الله تعالى، وهو على كل شيء قدير، ومن ثم تنبت شجرة الحب في الله والبغض في الله، وتصبح حقاً ولي الله تعالى، وأولياء الله هو المؤمنون المتقون.

قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71].

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ [الحج:71]، يا للعجب! المشركون والكفار من اليهود والنصارى والمجوس يعبدون عبادات ما شرعها الله تعالى، ولا أنزل بها كتابه، ولا بعث بها رسله، وإنما فقط الشياطين تزين وهم يعبدون، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الحج:71]، آلهة بعبادات باطلة، مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [الحج:71]، أي: ما نزل الله بها حجة ولا برهاناً، وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ [الحج:71]، أبداً، إذ لا علم لهم بتلك العبادة، وإنما فقط يعرفون التقليد لآبائهم وأجدادهم.

ثم قال تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، فيا ويلهم! ويا ويحهم! إنهم ظالمون، كيف ظلموا؟ عبدوا غير الله تعالى، إذ الواجب أن يعبدوا الله خالقهم لا أن يعبدوا الأصنام، الواجب أن تعبد من خلقك ورزقك وخلق الحياة لك لا أن تعبد عيسى وأمه، لكن هم عبدوا غير الله فظلموا، إذاً بشرهم وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، ينصرهم، إذ إن مصيرهم هو الهلاك والخسران الأبدي.

ومن لطائف القرآن: الآن في الحلقة إذا ظلم ظالم فلن يجد له نصير ينصره، وهذه سنة الله تعالى، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، ينصرهم، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه، والذي يعبد مع الله معبوداً آخر هل أمره الله بذلك؟ عبده ظلماً، وقد وضع العبادة في غير موضعها، والذي يقوم الآن فيسخر ويضحك بيننا ويستهزئ بنا يكون قد ظلم، فهل يجد من ينصره؟ لا والله، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة.

قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72].

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [الحج:72]، فما المراد بالآيات؟ آيات القرآن العظيم التي نتدارسها، وتتلى بمعنى: تقرأ، فمن يقرؤها؟ رسول الله وأبو بكر وبلال، وإذا تتلى على هؤلاء المعاندين المشركين الجاحدين الكافرين آيات الله بينات من أجل هدايتهم وبيان الطريق لهم، ومن أجل إنقاذهم من الشرك والكفر والعياذ بالله، تَعْرِفُ [الحج:72] يا عبد الله! فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج:72] وجرب، فالآن اقرأ آيات الله تهدي بها الناس من اليهود والنصارى، وانظر إلى وجوههم والله تتغير وجوههم، وتشاهد المنكر عليهم.

ومن اللطائف: أن أحد الأبناء قال: ركب إلى جنبي مؤمن، فلما ركب فتحت الإذاعة وإذا بها صوت الشيخ الجزائري، فقالوا: هذا الجزائري، فقلت: نعم، فقالوا: والله لا نركب معك! فما استطاع أن يسمعوا والله العظيم، وهذه سنة الله تعالى.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [الحج:72]، أي: واضحة لتعرفهم بربهم وبعبادته والتقرب إليه، تَعْرِفُ [الحج:72] يا عبدنا! ويا رسولنا! فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ [الحج:72] أي: اسوداد وعبوس وقطوبة، يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72]، ويسطون من سطا يسطو عليه إذا بطش به، وهذا كلام الله تعالى، ووالله لكما أخبر تعالى، فالكافرون والمشركون والمكذبون إذا تليت عليهم الآيات يغضبون وتتغير وجوههم، بل ويكاد أن يبطش بك إذا كنت تدعوه، يَكَادُونَ يَسْطُونَ [الحج:72]، والسطو هو البطش بالقوة، بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72]، قراءتها فقط للوعظ والإرشاد، وللهداية والتعليم، فلا يريدون أن يسمعوها، بل ويجعلون أصابعهم في آذانهم، فهذا نوح عليه السلام قال الله تعالى عنه: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ [نوح:7]، لا ليعطوه الملح أو الطعام أو الغنم، وإنما لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح:7]، حتى لا يسمعوا، وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [نوح:7]، حتى لا يروا وجهه، والشياطين هي التي تدفع إلى هذه المواقف وتسوق إليها؛ لأنهم أولياؤهم.

مصير الكافرين المعرضين عن الله

ثم قال تعالى وقوله الحق: قُلْ [الحج:72]، يا رسولنا والمبلغ عنا! لهؤلاء المشركين الهابطين: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72]، أي: ما تعرفون شر من هذا الذي تغضبون وتفعلون كذا وكذا؟ النَّارُ [الحج:72]، فأنتم الآن ما استطعتم أن تسمعوا كلام الحق، وقد اسودت وجوهكم وتعبست، وكنتم في كرب وألم، فهل أدلكم على أعظم من هذا؟ النار والعياذ بالله تعالى، فإذا كنتم لا تستطيعون سماع كلام الحق فكيف بجهنم عندما تدخلونها فتمكثوا فيها؟ لو كانت لهم عقول لاهتديتم إلى الصواب.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72]، الذي تعرضون عنه؟ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:72]، وعدها الله من؟ الذين كفروا بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله وتوحيده، بالله وأوليائه، بالله وجنته وناره، بالله وقضائه وقدره، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72]، جهنم، فهل هناك مصير أسوأ من هذا؟ وهل هناك مصير أقبح من هذا والعياذ بالله؟ لا والله، إذ إن بئس المصير جهنم والعياذ بالله.

ثم قال تعالى وقوله الحق: قُلْ [الحج:72]، يا رسولنا والمبلغ عنا! لهؤلاء المشركين الهابطين: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72]، أي: ما تعرفون شر من هذا الذي تغضبون وتفعلون كذا وكذا؟ النَّارُ [الحج:72]، فأنتم الآن ما استطعتم أن تسمعوا كلام الحق، وقد اسودت وجوهكم وتعبست، وكنتم في كرب وألم، فهل أدلكم على أعظم من هذا؟ النار والعياذ بالله تعالى، فإذا كنتم لا تستطيعون سماع كلام الحق فكيف بجهنم عندما تدخلونها فتمكثوا فيها؟ لو كانت لهم عقول لاهتديتم إلى الصواب.

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ [الحج:72]، الذي تعرضون عنه؟ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج:72]، وعدها الله من؟ الذين كفروا بالله ولقائه، بالله وكتابه، بالله ورسوله، بالله وتوحيده، بالله وأوليائه، بالله وجنته وناره، بالله وقضائه وقدره، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72]، جهنم، فهل هناك مصير أسوأ من هذا؟ وهل هناك مصير أقبح من هذا والعياذ بالله؟ لا والله، إذ إن بئس المصير جهنم والعياذ بالله.

فهذا كلام الله تعالى، فهل يحسن قراءته على الموتى؟ لما نضع الميت بين أيدينا ونقرأ عليه، هل يرق قلبه وتذرف عيناه ويقول: أتوب إلى الله، أستغفر الله؟! ماذا يحصل؟ إن هذا القرآن الكريم نور للقلوب، فمن يستنير به؟ الأحياء لا الأموات، ومع الأسف فقد صرفوا أمة الإسلام طيلة قرون عديدة عن كلام الله تعالى، إذ لا يجتمعون عليه ولا يتدارسونه ولا يتدبرونه أبداً، إذاً ماذا يصنعون؟ يقرءونه على الموتى، وهذا من صنع العدو الثالوث الأسود المكون من المجوس واليهود والنصارى، إذ إن هؤلاء هم أعداء الإسلام من عهد الإسلام في المدينة، فالمجوس ما إن سقط عرشهم عرش كسرى حتى تكونت عصابات تعمل الليل والنهار على إحباط الإسلام، واليهود ما إن صدر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من الجزيرة على يد عمر رضي الله عنه حتى حملوا الغيظ والمكر والكيد للإسلام، والنصارى ما إن وصل الإسلام غرب أوروبا بالأندلس حتى كادت أن تطير عقولهم، فبحثوا عمن يتعاونون معه فجدوا بعضهم بعضاً.

وقد فكر الثالوث في مجالسه في ليله ونهاره ما سبب هذه الحياة في هذه الأمة؟ فقالوا: سبب ذلك القرآن، ووالله لكذلك، واقرءوا إن شئتم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:52]، ماذا؟ رُوحًا [الشورى:52]، وما قال: كتاباً، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:52]، ماذا؟ رُوحًا [الشورى:52]، إذاً فالقرآن روح، والمؤمن به حي والكافر به ميت لا روح له، فقالوا: حيت هذه الأمة وامتد سلطانها في الشرق والغرب بالقرآن، فهيا نقضي على هذا القرآن، لكن قالوا: مستحيل، وانعقد مؤتمر في السودان وقالوا: نحاول أن نسقط فقط من القرآن كلمة: (قل)؛ لأنه لا يمكن لمحمد أن يقول لنفسه: قل، إذ لا بد أن هناك من يقول له: قل، فبدل قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]: يا أيها الكافرون، وبدل قُلْ هُوَ اللَّهُ [الإخلاص:1]: هو الله فقط، لكن والله عجزوا وما استطاعوا، إذاً ماذا نصنع؟ هيا إذاً نحول القرآن إلى الموتى ما دمنا عاجزين عن إبعاده، فيعرضون عن تلاوته والتدبر فيه والتفكر فيه ودراسته، ويقرءونه على الموتى.

ومن اللطائف: أن والياً عاماً بعث من فرنسا إلى مدينة من المدن، فأخذ يتجول في المدينة فوقف على كتاتيب للطلاب الصغار الذين يتعلمون القرآن في المساجد، فقال: لماذا هؤلاء الأطفال على الأرض؟ ولماذا هذه الكتاتيب والحكومة قادرة على بناء المدارس وتوفير الكتب؟ لا قيمة لهذه القراءة، ثم أمر بإغلاق هذه الكتاتيب وأمرهم أن يذهبوا إلى المدارس الحكومية، فوفق الله أحد العالمين الربانيين من أمثالكم وقال: يا سيد! أنت لا تدري لم يقرءون هذا القرآن؟ فقال: لماذا؟ قال: يقرءونه على الموتى! فهذه هي المهمة فقط، فتركوهم وشأنهم.

ولتزدادوا بصيرة فعلى هامش شرح خليل يقول القائل: تفسير القرآن صوابه خطأ! قأسألكم بالله! أي مؤمن يبلغه هذا ويفسر؟ وهل هناك مؤمن يرضى بالخطأ؟ تفسير القرآن صوابه خطأ وخطأه كفر، فإن فسرت وأصبت فأنت مخطئ، إذ لا حق لك في تفسير كلام الرب، فما أنت بأهل له، وأما إن أخطأت في التفسير فقد كفرت، فكمموا وألجموا أفواه المسلمين من اندونيسيا إلى موريتانيا، فلا يجتمع ثلاثة على آية يتدارسونها، إذاً ماذا يصنعون؟ قال: يقرءونه على الموتى ونستريح، فكانت الكتاتيب تفتح من أجل أن يحفظ الأولاد القرآن ليقرءوه على الموتى، وهذه والدتي رحمة الله عليها كانت تقول: يا رب! يا رب! اجعل ولدي قارئاً للقرآن أو جزاراً يأتني باللحم! وذلك لأنهم كانوا يضعون لهم القصعة فيها الثريد، ويعطونهم اللحم يلفه في منديل ويأتي به إلى أمه أو زوجته، ومن ثم هبطت أمة القرآن وعلا فوقها الكفر والكافرون فاستعمروها واستغلوها وأذلوها وأهانوها من اندونيسيا إلى موريتانيا، فهل بعد هذا تطلب الدليل والبرهان؟ نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد.