سلسلة شرح كتاب الفوائد [3]


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فنسأل الله عز وجل أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا شقياً ولا محروماً، وأن يفك برحمته كرب المكروبين، وأن يقضي دين المدينين، وأن يشرح كل صدر ضيق، وأن يفرج هم كل مهموم، وأن يذهب كرب كل مكروب، وأن يتوب على كل ضال، ويهدي كل عاص، ويتولانا وإياكم برحمته، وأن يغفر لنا ويرحمنا.

كما نسأله عز وجل أن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا للمتقين إماماً، وأن يجعل هذه الجلسات خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً، ونسأله أن يبعد عن أبنائنا وبناتنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن يكرمنا بكرمه؛ إنه أكرم الأكرمين.

كما نسأله عز وجل أن يعاملنا بما هو أهله، وألا يعاملنا بما نحن أهله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة، وأن يغفر لنا وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وإذا سترنا في الدنيا فلا يفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، آمين آمين.

إن الإنسان في هذا الزمن قد لا يسلك الطريق السوي الصحيح إلا إذا جلس مع أهل الصلاح وأهل التقوى، فاللهم اجعلنا من أهل الصلاح والتقوى، وأذهب غيظ قلوبنا، واشف صدور قوم مؤمنين، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا.

وإن الدنيا ليست دار تكريم، فربنا ما جاء بنا إليها من أجل أن يكرمنا، بل الدنيا دار ابتلاء، فهي -كما روي في الحديث الصحيح-: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).

فالمؤمن مسجون في الدنيا يشعر أن عليه قيوداً شتى تمنعه عن صنع أشياء معينة، فلا يستطيع أن يشفي غيظه بما يغضب الله عز وجل، كمؤمن تشتمه امرأته، أو تتطاول عليه، فهو يستطيع أن يرد اللطمة لطمتين، وأن يرد الصاع صاعين، وأن يدس لها السم في الطعام، أو أن يذبحها بسكين، ولكنه لا يستطيع أن يشفي غيظه بإغضاب الله عز وجل، بل يصبر على الأذى، وهي -كذلك- تصبر على الأذى، وفي هذا ثواب عظيم عند الله.

فالمهم ألا نشكو لكل صغير وكبير، وألا نشكو لكل من هب ودب، وألا تصير حياتنا عبارة عن شكوى دائمة، فالذي يشكو دائماً إنما يشكو الذي يرحم إلى الذي لا يرحم، فلتكن شكوانا كلها لله رب العالمين، كما قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

فالدنيا دار ابتلاء، وليست دار تكريم؛ لأنها قنطرة ومعبر، وليست بدار إقامة.

فالمرء في الدنيا يعيش سبعين أو ثمانين أو مائة سنة ولا ينعم، فالدنيا ليست بدار نعيم، ولذلك لما أعطى الله فرعون كل شيء نسي الله رب العالمين، فأعطاه الصحة والجاه والمال والملك، فاستخف قومه فأطاعوه، ومكثوا سنوات طويلة يبنون له قبره الذي يسمى بالهرم، ومع ذلك ما شكر الله عز وجل.

فالإنسان منا قد يتمرد على نعم الله، ويذكر النعمة وينسى المنعم، وهذا سبب شقائنا في الحياة، أي أننا نذكر النعمة وننسى المنعم سبحانه.

والله تعالى يجعل العبد الطيب أو الصالح كثير الابتلاءات، من أجل أن يرتبط بربه سبحانه وتعالى دائماً، فيرفع يديه إلى السماء وقلبه متوجه إلى السماء وجوارحه كلها متجهة إلى الله رب العالمين تدعو الله أن يخفف من وطأة البلاء، وأن يغفر الذنب، وأن ييسر الأمر، وأن يهب برحمته فضلاً كبيراً.

هناك أربع ركائز هامة يجب أن تكون نصب عينيك، وهي: أنه لا راحة في الدنيا، ولا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راد لقضاء الله.

فإذا عرفت هذه الأمور الأربعة وأيقنت بها استرحت، وإذا غبت عنها بقيت مريضاً تحب الدنيا، كشارب البحر لا يزيده الشرب إلا ظمأ وعطشاً، فالذي يحب الدنيا يبقى نهماً مهموماً، حتى يقعده المرض، فإن تولى منصباً هابه الناس، لا لذاته، وإنما لأجل الكرسي الذي كان يجلس عليه، ولو اتقى الله عز وجل لأحبه الناس، سواء أكان فوق الكرسي أم تحته.

فإن نحي عن منصبه أصيب بالاكتئاب، لأنه صار فرداً عادياً بعد أن كان هو الوكيل أو المدير، فإذا به يصير منزوياً في المجتمع؛ لأنه إنسان ما قدم لنفسه خيراً.

فرب العباد سبحانه وتعالى قال: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] فهو لما نسي الله نسيه الله، ولذلك جاء أنه في آخر الزمن يغربل الله العباد غربلة، فلا يبقى منهم إلا حثالة كحثالة الشعير لا يبالي الله بهم، فإذا دعا صلحاؤهم لم يستجب لهم.

إن من الجدير بنا أن نصلي على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علم الأجيال، وهو الذي علمه ربه سبحانه وتعالى، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته.

وأن نترضى عن صحابته، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان الذين نشروا العلم، وحافظوا عليه مع ما لاقوا في سبيله، فلو أنهم حين حوربوا سكنوا واستكانوا وخافوا ما وصل العلم إلينا، وما انتشر العلم أبداً.

الإمام مالك رضوان الله عليه من شدة تعذيبه خلعت ذراعه، فكان رضوان الله عليه لا يستطيع أن يضع في الصلاة يداً على يد، فكان يرسل يديه، حتى ظن أتباعه أن إرسال اليدين سنة من السنن في الصلاة.

وأحمد بن حنبل رضوان الله عليه سجن ثلاثة عشر عاماً ليقول كلمة، وربنا سبحانه وتعالى يقول: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3].

لقد حوربوا في أقواتهم وفي أرزاقهم، وما زال أهل الحق يحاربون إلى يومنا وإلى أن تقوم الساعة، ولكن ستظل طائفة من الأمة قائمة على الحق لا يضرها من ضل إذا اهتدت.

فـأحمد بن حنبل إمام أهل السنة رضوان الله عليه كان يضرب فيغشى عليه، فيفيق فيجد تلاميذه من حوله يبكون بكاءً مراً، ويتعجبون فيقولون له: يا إمام! كنت تضرب وتضحك، ونحن كنا نراك ونبكي! فكان يقول لهم: أنتم كنتم ترون هذا الجلاد، أما أنا فكنت أرى يد رب العباد.

فهذا هو الفرق بين المؤمن ومدعي الإيمان، وهو الفرق بين الإنسان الذي لا ينحني أبداً إلا لله عز وجل وبين غيره؛ لأن الأعمار مكتوبة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء حمزة -عمه- ورجل دخل على حاكم ظالم فوعظه، فإن قتله فبأجل الله عز وجل، وإن لم يقتله عاش على الأرض مكتوباً عند الله شهيداً).

وهكذا كان أبو حنيفة رضي الله عنه عندما أراد أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور أن يوليه أمر القضاء، فدخل على أمير المؤمنين فقال له: والله إني لا أحسن القضاء. فقال: عجباً يا أبا حنيفة ! أتكذب؟! فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت كاذباً فكيف تولي قضاء المسلمين كاذباً؟! وإن كنت صادقاً في أني لا أحسن القضاء فصدقني.

وقد كان لي أستاذ يقول: كنت أدرس في الأزهر، فكان شيخ الأزهر يسأل: لِمَ لَمْ يعين فلان؟ فيقول: لأنه مخلص. فكأن الإخلاص ليس من مسوغات التعيين في زماننا.

فـأبو حنيفة رضوان الله عليه عذب وسجن، وهكذا الإمام الشافعي ، وهكذا ابن تيمية ، وهكذا ابن قيم الجوزية .

وقد نقلت لنا كتب التاريخ أن أبا حازم دخل على هشام بن عبد الملك فخلع حذاءه ببابه وقال: السلام عليك، كيف أنت يا هشام ؟ فقال: يا أبا حازم ! أغضبتنا في أمور ثلاثة: خلعت حذاءك ببابنا، ولم تسلم علينا بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، فلم تقل: يا أبا فلان ولكن ناديتني باسمي.

فقال له: يا هذا! إني أخلع حذائي أمام ربي خمس مرات في اليوم والليلة فلا يغضب، فلم تغضب أنت؟! ولم أنادك بإمرة المؤمنين لأنه ليس كل المؤمنين قد وافقوا على أنك أمير لهم، أأحشر أمام الله منافقاً يوم القيامة؟!

فلو كان ابن القيم وغيره على مثل حالنا ما انتشر العلم، ولكنهم تعبوا في تحصيل العلم، فهذا عبد الله بن مسعود جلس في الكعبة يقرأ سورة الرحمن، فضربه كفار قريش، حتى كان أبو جهل يحرف كعب حذائه على أنفه حتى استوى أنف عبد الله مع وجهه.

فلو كانت أم عبد الله بن مسعود أو امرأته مثل أمهاتنا وزوجاتنا لضاع الدين، ومع ذلك لا تزال طائفة قائمة تقول الحق لا تخشى في الله لومة لائم مع ما يحدث لها من مآس.

يقول ابن القيم : (من فقد أنسه بالله بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق).

وصاحب هذه الحال أحد السبعة الذي يظلهم الله في ظلة يوم لا ظل إلا ظله ففي الحديث: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

فهذا الرجل قعد وحده فبكى، فذلك دليل على أن قلبه معمر بذكر الله، اللهم عمر قلوبنا بذكرك يا رب.

قال: (ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول) أي: مريض.

يقول: إن وجدت أنسك بالله مع الناس وفقدته وأنت منفرد فأنت مريض؛ لأنك في المسجد تصلي بهدوء، وفي البيت تنقر الصلاة، وأمام الناس أنت رجل طيب وصالح، ومع أهل البيت رجل آخر، إذاً: فهذا شخص نستطيع أن نقول عنه: منافق؛ لأنه يظهر للناس بوجه ويكون مع الله بوجه آخر.

قال: (ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجده في الخلوة وفي الناس فهو المحب الصادق).

فالمحب الصادق هو الذي يجد الأنس مع الله، سواء أكان في جماعة أم كان وحده في الليل والنهار، فالله عز وجل جعل هذا الإنسان محباً صادقاً، كما قالت رابعة:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني بين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

أشرف الأحوال ألا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك الله، فإذا كنت تريد أن تدخل في المكان الفلاني، أو تتزوج ابنتك فلاناً، أو يتزوج ابنك بنت فلان، أو تحصل على المسألة الفلانية؛ فدع ذلك كله لله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].

فإن قلت: ماذا أختار؟ قال لك الإمام ابن القيم : اختر ألا تختار، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى ثانياً، ولو كان له اثنان لتمنى ثالثاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.

فكن مع الله في حالة من الرضا، فاللهم اجعلنا من الراضين يا رب.

إن مصابيح القلوب الطاهرة في أصل الفطرة منيرة فالقلوب التي لا تعرف غشاً ولا نفاقاً ولا حسداً ولا بغضاء، فأصل الفطرة منيرة قبل الشرائع، يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [النور:35].

يقال: إن قس بن ساعدة بليغ العرب كان من الموحدين، ولكنه لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكذلك النجاشي ، فقد كان موحداً ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه رسول الله صلاة الغائب، وترحم عليه.

وكفر ابن أبي وقد صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في النار يوم القيامة، وهو القائل: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [المنافقون:8].

يعني بالذليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة أحد خذل المسلمين حين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الشباب، وهو الذي تولى كبر الفرية في قضية اتهام السيدة عائشة أم المؤمنين ورميها بالزنا لما رجعت مع صفوان بن المعطل عقب غزوة بني المصطلق، فقال: هذه أمكم قد زنت مع فلان.

وقد جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قتله، فقال: لا، لكي لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.

فلما مات وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم موته قام ليصلي عليه، فوقف عمر فأخذ بثوبه وقال: أتصلي عليه وقد قال كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فقال له: (إن ربي قد خيرني، وإني لو أعلم أنني لو استغفرت له أكثر من السبعين غفر له لاستغفرت).

ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه نزل جبريل وهو عند المقبرة بقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84].

فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان أمين سر رسول صلى الله عليه وسلم بأسماء سبعة عشر منافقاً في المدينة، فلو أن واحداً منهم مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حذيفة يقول للمتولي مكان الرسول: لا تصل عليه؛ لأن هذا من السبعة عشر، ولم يكن أحد يعرف أحداً من السبعة عشر أبداً إلا حين يموت فيترك حذيفة الصلاة عليه.

ولما تولى عمر بن الخطاب إمارة المؤمنين قال لـحذيفة : أستحلفك بالله، أسماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فـعمر بن الخطاب يخاف أن يكون من المنافقين، فهو يتهم نفسه بالنفاق، ونحن نسأل الله السلامة.

فهذا عمر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر)، وقال: (لولا أنت لهلكنا يا ابن الخطاب)، وقال: (كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فهو عمر).

وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه دخل الجنة فرأى قصراً وجارية تتوضأ على نهر، فقال: لمن القصر؟ فقيل: لـعمر، فأراد دخول القصر فتذكر غيرة عمر فلم يدخل.

فمصاحبة عبد الله بن أبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ منها ألا تغتر بصحبة الصالحين، فلقد صحب عبد الله بن أبي ابن سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما انتفع بصحبته.

ولا تغتر بكثرة العبادة، فما كان امرؤ أعبد من إبليس، ولا تغتر بالعلم، فما كان امرؤ أعلم من بلعام بن باعوراء الذي ذكر في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176].

فقد كان يعبد ربنا بصدق، فلما عصى الله عز وجل وأخلد إلى الأرض كان من الغاوين، فكن مع الله يخف الله المخلوقات منك.

كم في قصص القرآن من عظات وعبر، ومن تلك القصص قصة موسى عليه السلام حين التقطه آل فرعون وهو رضيع، حيث جاء طفلاً خالياً عن أم إلى امرأة خالية عن ولد، ثم أتي بأمه لترضعه ولتأخذ على إرضاعه أجراً، وذلك لأنهم لما أخذوا موسى وعرضوا عليه المراضع، لم يقبل واحدة منهن، قال تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [القصص:12-13] لأن الله أوحى إليها: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ [القصص:7]، فقال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].

فلما التقم ثدي أمه عرض عليها أن تقيم في بيت فرعون؛ فقالت: عندي أولاد.

فانظر إلى التوكل على الله كيف يعمل! فكم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد؟! وذلك لأجل رؤيا فسرت بأن من بني إسرائيل من سيأخذ ملكه، فأمر بقتل كل مولود من بني إسرائيل، ولسان القدر يقول: لن نربيه إلا في حجرك.

فكن متوكلاً على الله كما كانت أم موسى عليه السلام؛ إذ المراد من القصة أخذ العبرة، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111] أي: أصحاب العقول الناضجة المفكرة.

إن الدنيا كامرأة بغي لا تثبت مع زوج،فلا ترض بالدياثة.

والدنيا كجيفة، وطلابها كلاب، فمن أحب الدنيا فليجعل من نفسه كلباً، وكل رجل إما أن يكون من أهل الجنة أو من أهل النار، فإن كان من أهل الجنة فكيف تحسده على الدنيا؟! إذ كم تساوي الدنيا عند الله بالنسبة إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف تحسده على هذا المآل الذي سوف ينزع منه مهما كانت دنياه؟!

فالسير في طلب الدنيا سير في أرض مسبعة، والسباحة فيها سباحة في غدير التمساح، فالمفروح به منها هو عين المحزون عليه، فآلامها متوالية من لذاتها وأحزانها.

إن طائر الطبع يرى الحبة، وعين العقل ترى الشَّرَك، غير أن عين الهوى عمياء لا ترى.

والذين يؤمنون بالغيب هم الذين غضوا أعينهم عن الشهوات: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] وهؤلاء يقال لهم: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46].

كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يحمله، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا يوافقه، وعدو لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مُرد في ضياع دنيا، وشهوة غالبة، وشيطان مزين، فكل هؤلاء أعداؤه، فإن تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة.

ولا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الولي أعرض، فالشيطان ضعيف، وإنما غلب لأن الله قد أعرض عن العبد.

لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي عليها الصغير وهرم عليها الكبير، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدعة مقام السنة، والعقل مقام النص، والهوى مقام الاتباع، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك بأضدادها، وكان أهلهم هم المشار إليهم.

فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت؛ فبطن الأرض -والله- خير من ظهرها، وفي الحديث: (سوف يأتي زمان على أمتي يمر فيه الرجل بقبر أخيه فيقول: يا ليتني كنت مكانه).

فحينئذٍ تكون شعف الجبال خيراً من السهول، ومخالطة الوحوش أسلم من مخالطة الناس.

اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والخبائث، وهذا -والله- منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعدلوا عن طريقكم هذا بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

فاشتر نفسك اليوم، فالسوق قائمة والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وذلك بصلة رحم، وبصدقة، وبزكاة، فأبواب الخير مفتوحة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل أو كثير منها، ذلك يوم التغابن، يوم يعض الظالم على يديه، ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.