سلسلة شرح كتاب الفوائد [7]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حتى وإن لم تسلك مسلك الطاعة ].

فمثلاً لو أن أحداً ذهب ليشتري خبزاً لأولاده، وبينما هو في الطريق قابله صديقه وقال له: يا أخي! أريد منك مساعدة لأطفال يتامى وأن نشتري لهم أحذية وملابس، ولقد جمعنا مبلغاً قدره أربعون جنيهاً وما زلنا بحاجة إلى عشرة جنيهات، وهو يثق فيه، فقام الرجل وأعطاه وشكره على أنه جعله يفعل الخير، فربنا وضع له الخير في طريقه دون أن يقصده، فـ(يثاب المرء رغم أنفه).

والنوع الآخر -والعياذ بالله- يضع الله المعصية في طريقه وهو لم يسر إليها، حتى إنها لتأتي إليه في بيته، فتجد الرجل جالساً مع زوجته وأولاده فيتصل صديق له ويقول له: تعال الآن فلدينا جلسة ممتعة، وستخسر كثيراً إن لم تحضر وستفوتك المتعة، فيقول له الرجل: لقد وعدت زوجتي وأولادي أن أجلس معهم هذا اليوم، فتجد صديقه يرغبه في تلك الجلسة حتى يخرجه من بيته، وبعد أن يخرج من البيت تحزن زوجته وأولاده فينامون وهم مغمومون، ويقولون: أليس لنا حقاً في أبينا؟ ولماذا لا يهتم بنا؟ وتنتج المشاكل في هذا البيت؛ لأن الشيطان دخل عليهم من هذا الباب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا تظن أبداً إذا عصى العبد ربه أن الشيطان غلب].

فالشيطان لا يغلب، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فليس عصيان العبد دليلاً على أن الشيطان غلب ولكن الولي أعرض عن العبد، فلو أن رجلاً قُتل أخوه ستجدونه يحزن حزناً شديداً، لأن أخاه كان ظهره الذي يستند عليه لكنه ضاع، فما بالك عندما يكون ظهره الله سبحانه وتعالى؟! فبعض الناس تجده مريضاً بأمراض كثيرة، فلو أن الله هو ظهره فلن يخسر شيئاً، وعندما يتخلى الله عن العبد فلن يكسب العبد شيئاً، نسأل الله أن يكون لنا ذخراً وسنداً في حياتنا؛ إن ربنا على كل شيء قدير.

[ وإن أصبح العبد وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه ].

تجد بعض الناس كما يقال: عنده قدرة على تصدير الهم إلى غيره، بل إني أعرف امرأة توفي ابنها وهو يشرب الشاي، فمن حزنها حرمت على نفسها شرب الشاي، وعندما تنسى ابنها قليلاً وتتسلى قليلاً تذهب وتقرأ في صفحة الوفيات، وتتذكر ابنها وتبكي، فهي تبحث عن الحزن أينما كان، لكن العبد لو وكل أمره إلى الله لما حزن هذا الحزن الذي لا داعي له.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإذا أصبح المسلم وأمسى والدنيا همه ].

كلنا هذا الرجل المسلم، همه المال والمرتب والمكافأة والبيت وغير ذلك.

قال: [ حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ]

كان سيدنا علي رضي الله عنه ماشياً مع الصحابة فوجد جيفة لحيوان ميت والكلاب حولها، فقال: الدنيا جيفة قذرة، فمن أراد أن يأخذ منها فلينهش مع هذه الكلاب.

قال: [ ووكله إلى نفسه فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ].

أي: فبدلاً من أن يحب الله يحب الخلق والعياذ بالله.

قال: [ولسانه عن ذكره بذكرهم ].

فينسى الله والعياذ بالله، ويقضي حياته وهو يذكر الناس.

قال: [ وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم ]

وأمثال هؤلاء: حمزة البسيوني أو حسن طلعت أو شمس بدران كانوا يُؤمرون بتعذيب الناس، حتى إن حسن طلعت مدير السجن كان يقول: كل أحد يخاف مني، ولو أن جبريل أتى ناحية السجن فإنه سوف يأتي إلي ويلقي لي التحية العسكرية أولاً! وبعد النكسة حُبس في نفس السجن الذي كان يديره في يوم من الأيام، والذي كان يعذب المسجونين فيه!

قال الله تعالى: وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان).

وهذه آية من آيات الله عز وجل أراها كل يوم، وهي أن شاباً كان أبوه من مدراء السجون في الستينات، وكان يأمر المسجونين المسلمين عندما يمشون أمامه أن يضعوا أيديهم وراء ظهورهم، ويخفضوا رءوسهم؛ من باب الإذلال، وابنه الآن عمره ثلاثون عاماً، ولكنه من بداية حياته جاءه مرض، فلا يستطيع أن يحتفظ بتوازن جسمه إلا إذا وضع يديه وراء ظهره وخفض رأسه، وأنا أراه كل يوم يمر من أمام منزلي ويركب الحافلة.

سبحان الله! حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5]، ومثل هذه الحكم تعتبر أقوى درس في العقيدة، كما تدين تدان.

وكتب في إحدى الصحف: أن رجلاً كان يصنع فخاراً فكبر في السن وأصبح ابنه يساعده، فقام هذا الرجل بحمل بعض الفخار على ظهره فتعثر لكبر سنه، فوقع الفخار من على ظهره وانكسر، فإذا بابنه ينهال عليه ضرباً وهو في الأرض، فاجتمع الناس وأرادوا أن يفتكوا بالولد، ولكن والده صاح وقال: اتركوه، لقد ضربت أبي في نفس هذا المكان!

من يزرع خيراً يجن خيراً، ومن يزرع شراً فلن يحصد إلا من جنس ما زرع، والحياة كتاب مقروء ويجب على المؤمن أن يعتبر، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، فالحق ظاهر وواضح، فإن عملت خيراً ستلقى خيراً، وإن عملت شراً ستلقى شراً، والعياذ بالله، والعرق دساس.

فالله سبحانه وتعالى عندما يصبح العبد ويمسي والدنيا أكبر همه يشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، ويؤتى يوم القيامة بالأتباع والمتبوعين، فيقولون: هؤلاء يا رب! هم الذين أضلونا وقالوا لنا: اعملوا كذا وكذا، يقولون: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [الأعراف:38]، فيقول رب العزة: لِكُلٍّ ضِعْفٌ [الأعراف:38]، أي: لكل واحد منكم ضعف من العذاب، والمخدوم تهرّب من الخادم، والخادم يريد أن يعلق المشكلة برقبة من يعلوه، والمسلم لا يعصي الله بطاعة مخلوق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا قال لي المخلوق شيئاً يخالف ما قال الله فلا طاعة له مهما كان، سواء كان أباً أو أماً أو ابناً أو زوجة أو قريباً أو قريبة أو رئيساً أو مرءوساً أو مديراً أو غفيراً أو وزيراً، لا طاعة لهم ما دام هذا يخالف أمر الله، فلو أن الوزير قال لمدير مكتبه: اذهب بهذه الهدايا (لفلان بيه) مثلاً وهو يعلم أنها رشوة وليست هدية وقام بتنفيذ الأمر فهو رائش، ولن ينفعه هذا الوزير يوم القيامة؛ لأن الله تعالى قال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167].

سبحان الله! وقال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، حتى إن الشيطان يقول: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] ويقول: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].

فالعبد يجب أن يعمل ما يرضي الله؛ لأنه قد يأتيه الموت وقد تأتيه لحظة النهاية وقد يأتي الختام ولا يكون الختام حسناً والعياذ بالله.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وخذنا من الدنيا مسلمين يا رب العالمين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره ].

إن كير الحداد عبارة عن منفاخ، فهو يظل ينفخ فيه طوال اليوم لكي ينفع غيره؟ وهذا مثله.

فأي قيمة لرجل يقف وراء رجل مثله، ويقدم له الكرسي ويأخذ له النظارة في جيبه، وهكذا.. سبحان الله!

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أدلكم على رجل من أهل النار؟ قالوا: من يا رسول الله؟! قال: رجل جالس وبين يديه رجال قيام).

ويقول عمر بن الخطاب : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.

سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه سعد بن أبي وقاص ولقيه يعجن العجين، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين وأين الخادم؟! قال: أرسلناه ليشتري شيئاً من السوق، فكرهنا أن نحمله شيئين في وقت واحد.

مع أنه خادم، وهذه مهنته، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يرد أن يكلفه فوق طاقته، حتى لا يكلفه الله ما لا طاقة له به.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته ].

إذاً: الخالق والمخلوق لا يشتركان في العبودية، وجمع المتضادات من المستحيل، فلا أحد يستطيع أن يجمع الليل مع النهار، ولا البارد مع الحار، ولا أن يجمع الأبيض مع الأسود، ولا يمكن أن يجتمع الطيب مع الرديء، كذلك إما أن تعبد الخالق أو أن تعبد المخلوق.

فلا يجمع الإنسان في قلبه إلا الخالق، فيذلل الله له المخلوقات وييسرها.

أتى إلي ذات مرة شخص وقال لي: المصلحة الفلانية لن يقوموا بعملهم لي إلا إذا أخذوا مبلغ كذا وحددوا المبلغ، فهل أدفع؟ قلت له: لا تدفع، فقال لي: سأتضرر من ذلك كثيراً، فقلت له: لا تخف لن يحصل لك شيء، فذهبت معه إلى ذلك الرجل الذي بيده المصلحة ولم أكن أعرفه أبداً، ولكنني استعنت عليه بالله عز وجل، وقلت له: أريد أن تنجز لي هذه المصلحة؟ فقال لي: القانون رقم 147 يقول، ولا يوجد قانون أصلاً، فقلت له: ما هو المطلوب بالضبط؟ قال لي: المطلوب ليس لي، فقلت له: لمن؟ قال: للعمال المساكين في هذا المكتب، فقلت له: هذه إما رشوة وإما صدقة، فقال لي: اعتبرها صدقة، فقلت له: لماذا أتصدق عليك وأنت ترتدي هذه البدلة الجديدة التي تقدر بـ200 جنيه؟ اذهب وبعها واشتر بدلة من وكالة البلح بـ30 جنيهاً، وبعد ذلك سأتصدق عليك عندما أرى بنطال بدلتك ممزقاً وتستحق الصدقة، فقال لي: هل أتيت هنا لكي تهيننا؟ قلت له: لن أخرج من هنا إلا بعد أن توقع على هذه الورقة، وإذا لم تمضها سوف أتصل الآن برئيس الوزراء وسأجعله يأتي إلى هنا، فأمضى الورقة وظن أني أعرف وساطات كبيرة، وأنا لا أعرف أحداً ولا أعرف رقم الوزير ولا أعرف حتى اسمه، ولا أعرف هل كان سيرد علي أو لا يرد؟ ولكنني وجدت نفسي أقول له هكذا، حتى أمضى على الورقة. سبحان الله!

فاستعن بالله ولا تعجز، فهو مخلوق مثلك.

كذلك أعرف رجلاً ظلمه أحد المسئولين الكبار، فجاء وقال لي: ماذا أفعل؟ هذا الرجل ظلمني ونقلني من مكتبي إلى مكتب أقل درجة، فقلت له: لا تيأس هكذا، فقال: ماذا أفعل؟ قلت له: ادخل عليه، وقل له: لو ظلمني أحد فإنني سآتي إليك وأشكوه، لكن أنت الذي ظلمتني فأنا سأشكوك إلى الله. فقال لي: يا أخي! هذا لا يصلي، ولا يعرف الله، فقلت له: أنت قل له هذا الكلام فقط، وأنت معتقد أنه لا يملك لنفسه ولا لك لا نفعاً ولا ضراً، فذهب الرجل وقال لهذا المسئول ذلك الكلام، فرد عليه المسئول وقال له: بيني وبينك حد الله، وأمر بأن يردوه إلى مكانه الذي كان فيه، وأمر له بترقية كذلك!

إذاً: ما الذي يجعلني أخاف من أي إنسان، إذا أنا خفت من الله فإنني أشعر أن جميع الناس لا أخاف منهم، لكن إذا خفت من هذا وخفت من هذا، فأين الخوف من الله؟!

والله لو خفنا من الله، لأخاف الله منا المخلوقات، ويسر لنا الأمور، وذلل لنا الطاعات، ووفر لنا الأوقات، وبارك لنا في الأولاد والعمر، وبارك لنا في الكلمة، وبارك لنا في كل شيء، فلا بد من الخوف من الله عز وجل؛ يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، أي: الذي يغيب ولا يعبد الله، يبعث الله له شيطاناً ويكون معه دائماً، فتخيلوا رجلاً يمشي والشيطان ملازم له، هل سيحضه على الخير أم على الشر؟!

قال سفيان بن عيينة : لا تأتونني بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن. فقال له قائل: أين في القرآن: أعط أخاك تمرة، فإن لم يقبل فأعطه جمرة؟! قال: قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه ].

فكم جاهل بيننا بل كلنا جهلة؛ لأننا نشتكي من الزمن والأيام والدهر، والله يقول في الحديث القدسي: (لا تسبوا الدهر فأنا الدهر، وأنا الذي أصرفه بيدي)، وتجد الناس يقولون: الأيام هذه أيام صعبة، والأيام هذه ليس فيها خير، وهذا سب لله عز وجل والعياذ بالله؛ فالدهر وأيام الأسبوع وأشهر السنة منذ أن خلق الله السموات والأرض لم تتغير، والله تعالى يقول: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [التوبة:36]، فالأيام والسنون لم تتغير، ولكن الناس هم الذين تغيروا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإنه لو عرف ربه لما شكاه ]

فكيف نشكو من اسمه: الكريم؟! وكيف نشكو من اسمه: الرحيم، والغفور والودود والناصر والمعين والولي والقيوم؟!

قال: [ ولو عرف الناس لما شكا إليهم، ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا! والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، وفي ذلك قيل:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

والعارف إنما يشكو إلى الله وحده ].

فسيدنا يعقوب قال: إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].

قال: [ وأعرف العارفين من جعل شكواه من نفسه لا من الناس ]

يعني: يشتكي نفسه لله، ويقول: يا رب! أنا لست صالحاً ولست مطيعاً، أصلح لي نفسي يا رب! اجعلني راضياً وقنوعاً، وانزع من قلبي الحسد، واجعلني صابراً، واجعلني تقياً، واجعلني زاهداً، واجعلني مصلياً، واجعلني قارئاً للقرآن، وارزقني العلم، وحفظني القرآن، وفهمني تلاوته. وتجده يدعو الله ويشكو نفسه إليه سبحانه وتعالى، ولكن تجد أكثر الناس هذه الأيام يسأل الله الدنيا ويقول: يا رب! أعطني مالاً ووفر لي كذا، وسخر لي كذا.. وهذه كل طلباته، سبحان الله!

قال: [ فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، فهو ناظر إلى قوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وقوله: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، وقوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] ].

وهذه الآية نزلت في غزوة أحد.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالمراتب ثلاث: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه ].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ]

وهذا صحيح، قيل لـأبو حازم: لماذا نكره الآخرة ونحب الدنيا؟!

كأن يحدث أحدنا نفسه ويقول: لو مت فسوف أترك المال والثروة والبيت والسيارة والمنصب، والمركز الاجتماعي، والأموال في البنوك، والترشيح للوزارة، والترشيح للإدارة، فتجده يكره الموت.

فقال أبو حازم: تكرهون آخرتكم وتحبون دنياكم؛ لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، والإنسان لا يتمنى أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

فلو عَمَّر الإنسان الآخرة فإنه سوف ينتقل إلى العمران وسوف يفرح بذلك، ومثل ذلك: الأم التي تظل تربي ابنتها وبعد ذلك تزوجها، فتنتقل إما إلى زوج صالح أو إلى زوج غير صالح والعياذ بالله رب العالمين.

إذاً: مجرد أنها ترى أن زواجها أفضل لها، فما بعد الزواج أفضل لها، والبنت تجدها فرحة لأنها ستتزوج؛ ولأنها ذاهبة إلى مكان هي مقتنعة أنه مكان أفضل.

فكذلك المسلم لو اقتنع أن الآخرة عنده أفضل فسوف يعمل لها.

قال: [ ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:

النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها ].

إننا نجد أنفسنا عندما نكون واقفين في طابور نشتري شيئاً أو نحجز شيئاً، فكل واحد يريد أن يذهب الأول، فيقول: لو أعرف أحداً في هذه المصلحة لكنت دفعت المبلغ وذهبت، ولو أعرف فلاناً لكنت أنهيت هذه المسألة اليوم، وهكذا نزاحم على الدنيا ونتعب كثيراً.

قال: [ وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها، فهذا أحد النظرين ].

أي: أن الإنسان لكي يحب الآخرة ويزهد في الدنيا، لا بد أن ينظر لحقيقة الدنيا، مثلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى امرأة عجوزاً وعليها أساور ومجوهرات وحلياً وزينة، وكانت تناديه: يا محمد! يا محمد!، ولم يرد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إليها، فقالت: إن نجوت مني فلن ينجو مني أصحابك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: من هذه يا جبريل؟! قال: هذه هي الدنيا.

يقول الشاعر:

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق

فالدنيا ترفع أناساً وتخفض آخرين، وكم من أولاد أعزاء ذهب عليهم العز، والذي كان لديه مال ذهب ماله، والذي كان في مركز اجتماعي ذهب مركزه.

والله يبتلي العبد في الدنيا لكي يضرع إلى الله، ويعلم أن الدنيا ليست دار مقر بل دار ممر، فنحن نفرح في السفر؛ لأننا قربنا أن نصل، وعندما نتعب في الدنيا، فمن الواجب ألا نحزن؛ لأننا نعلم أننا أوشكنا على الوصول إلى الله رب العالمين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينها وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه ].

أي: أن العاقل يعلم أن الباقية وما فيها من المسرات أحسن من الفانية التي فيها المكدرات، ومن فينا لم يمر عليه يوم إلا وهو في هم جديد؟

والدنيا هكذا دار عمل واختبار، والجاهل من يلعب ويلهو ويتفاخر، يقول تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20]، فالدنيا مثل ذهاب السكرة وحضور الفكرة، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ما انتبهوا ندموا ولن ينفع الندم بعد ذلك، إذ تأتي الإنسان حالة من النوم في الدنيا، وينتبه للأسف عندما يموت، وبمجرد أن ينتبه يقول: وا حسرتاه، لم أصل، ولم أزك، ولم أذهب لدروس العلم، ولم أعمر المساجد، ولم أتصدق، ولم أؤد حق الله في المال، فيحزن ويندم، لكنه ندم لا محل له.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] ].

أي: أن الله ورسوله يدعواننا لما يحيينا، والدنيا وأهلها يدعونا لما يميتنا ويميت قلوبنا، والله يحول بين المرء وقلبه، ويمنعه من قلبه، بدليل أن القلب الذي يرضى تجده يسخط في نفس اللحظة، فمثلاً تجد أصهار العريس يكونون فرحين به ويرحبون به، ويقولون له: لا تحمل هماً، الكثير علينا والقليل عليك، فيواسونه بكلام طيب وجميل، فيخرج من عندهم فرحاً ووالدته تقول له: لم أرَ مثل هؤلاء الناس في الطيبة وحسن الخلق، وبعد ذلك يحصل بعض الإشكالات عند تجهيز العروس، فتجد أهل العروس يسخطون ويقولون: مالنا ولهذا الزواج، فالعريس عقله غير مكتمل، وأمه بذيئة الكلام، فتجدهم يسخطون بعدما كانوا راضين.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فتضمنت هذه الآية أموراً: أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله ].

يعني: لكي تكون حياة المسلم نافعة فعليه أن يقول: سمعاً وطاعة لله ولرسوله، كما قال تعالى: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].

وقوله: (لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: يحييكم للحق، وأحييت نفسه للحق فصار مستقيماً.

وقال قتادة : هو القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الجهاد من أعظم ما يحييهم الله به في الدنيا، وفي البرزخ وفي الآخرة، ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا. والعياذ بالله.

قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

وهذا يفسر كلام ابن القيم في قوله تعالى: إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، أي: دعاكم للجهاد فجاهدوا، فأنت عندما تموت في سبيل الله تحيا عند الله وفي الآخرة حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، وفي الحديث: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، وأنا أحث أولادنا الذين يدخلون الجيش على أن يضعوا في أذهانهم أن الأيام التي ستقضونها في المعسكر هي رباط في سبيل الله، ولا تظنوا أنها صعوبة وأوامر، بل هي لحظات وأنت ترابط في سبيل الله عز وجل.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] ].

يمشي في الناس بالنور وهم في الظلمة، فالناس الذين يرتكبون المعاصي في ظلام، وأهل الإيمان في نور، قال تعالى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [الأعراف:101]، فالآية تحذير عن ترك الاستجابة لله ولرسوله.

إذاً: ميزان العمل هو الاستجابة لما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: سمعنا وأطعنا.

هناك أختان من الأخوات شكتا إلي أمرهما وقالتا: إنهما سمعا محاضرتي، فذهبتا وحجبتا بناتهما عندما بلغن الحلم، ولكن العائلة بأكملها هاجت على هاتين الأختين، وقالت: كل هذا بسبب الأختين اللتين تذهبان لتسمعا الدرس في المسجد عند الشيخ.

وأنا أقول تقوية للعقيدة: هاتان الأختان الفاضلتان على حق، وفي نور والباقي في ظلمة، وهما على صواب والباقي على خطأ، وقد كتب الله عليهما كما كتب علينا جميعاً أن نسبح ضد التيار، إذ التيار كله يمشي في الاتجاه الخاطئ، فالتيار كله منحرف وبعيد عن رحمة الله، فنحن لا نخاف ولكن نتوكل على الله، ونطبق ما يريده الله عز وجل منا، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، وهناك هجوم شرس وغريب هذه الأيام على الأخوات المحجبات والمنقبات ولا أعرف لماذا؟ ماذا أغضب اللاتي يمشين عاريات في الشوارع من أمر المحجبات والمنقبات؟

قد نقول: إن الشباب غير المؤدب يغضبون عندما يرون الفتاة تمشي بالحجاب والنقاب؛ لأنهم لا يرون وجهها. ولكن عندما تغضب النساء اللاتي يمشين عاريات في الشوارع من أمر النساء المحجبات، فما هو السبب؟ أعتقد أن هذا حقد داخلي؛ ولكن لم يعرف النساء كيف يعبرن عنه؛ لأنهن يرين تلك الفتاة أن ربنا هداها للحجاب، فهن يحقدن عليها ولكن لا يعرفن كيف يعبرن عن حقدهن، وفطرتهن تجعلهن يحقدن عليها، فهن يردن أن يصلن إلى هذا المستوى الرفيع من الحجاب، ولكنهن لا يعرفن كيف يصلن إليه، فتجد الواحدة منهن تبرر لنفسها وتقول: أهم شيء النية، وهذا بيني وبين ربي، وأنا متحشمة في اللبس، ولا يظهر مني سوى الذارع والرجلين والرقبة والشعر والوجه، وتجد جسمها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كاسيات عاريات)، فتجدهن كاسيات في عرفهن، عاريات في الحقيقة.

يقول رسول الله صلى الله عليه سلم: (سوف يأتي زمان على أمتي يقف على أبواب المساجد رجال كأشباه الرجال، لهم نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات شعورهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات).

فهي مطرودة من رحمة الله أساساً، فلماذا تحقد على التي تتحجب؟! فاسكتي، وابحثي عن عيوبك.

وإذا سألتها: وما أدراك أن هذه المحجبة أو المنقبة امرأة غير صالحة؟! هل تعاملت معها؟! فتجدها تقول لك: الأمر هكذا، أي محجبة فهي غير صالحة!

حصل نقاش سيئ جداً للأسف الشديد في إحدى المحاضرات السابقة، وكان هناك بعض الأخوات جالسات، وتجد المرأة التي تعارض مثل (الحيزبون) كما يقولون، أي: المرأة التي وصل عمرها إلى السبعين، وتريد أن تصغر نفسها إلى عشرين عاماً، كما قال الشاعر:

عجوز ترجّى أن تكون فتية وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر

تدس إلى العطار ميرة أهلها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

فالمفترض أن الإنسان مادام أنه كبر في السن فليتق الله؛ لأن الله يكره العاصين، وكرهه للشيخ العاصي أشد، ونحن لا نعيب على هؤلاء ولم ندخل في قلوب الناس، فإن سيدنا أسامة عندما قتل الرجل، سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لماذا قتلته؟ فقال: يا رسول الله! إنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله خوفاً من السيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشققت عن قلبه يا أسامة ؟! وماذا تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!). أي: ماذا ستفعل أمام كلمة لا إله إلا الله؟

نحن لسنا مكلفين بالدخول إلى قلوب الناس، فلا نجلس في بيوتنا ونتهم الناس: هذا كذا، وهذا يفعل كذا، وهذا أظنه كذا، بل أتهم نفسي أفضل من أن أتهم غيري، وأبحث عن جروحي وأعدد عيوبي، وأنا أريد منكم عندما ترجعون إلى بيوتكم أن تأتوا بورقتين وهما رمزان للعدد الكبير، وكل واحد منكم يكتب عيوبه التي لا يراها، فمثلاً لا يقول أحد في نفسه: أنا أصلي وأصوم وأزكي. لا أقصد هذا، ولكن نأتي بالتدرج حتى نستفيد جميعاً:

أولاً: الرأس وما وعى، وأول شيء في الرأس العقل، هل هذا العقل ينشغل بإساءة الظن بالناس؟! أو أنه موقر للناس وثقة ولا يتدخل بأحد، كما قال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فأرى هل هذه موجودة أم لا؟ هل أقتفي آثار الناس، وأقول: فلانة أين ذهبت، وفلان أين ذهب؟ وفلانة عندما طلقت حصل لها كذا.

ثاني شيء في الرأس: العينان، هل أرى بهما الحرام، هل أنظر بهما إلى الناس باستهزاء وسخرية، هل أستخدم هاتين العينين فيما يغضب الله عز وجل؟

ثالث شيء في الرأس: الأذنان، هل أسمع بهما غيبة ونميمة وأغاني وفوضى، وكلاماً من كلام الدنيا ولهواً، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، والمستمع شريك للمتكلم.

رابع شيء في الرأس: اللسان، هل أشهد الزور؟ هل أقول الحق؟ هل أقرأ بلساني القرآن دائماً؟ هل لساني هذا لا يخطئ وليس كثير الحلف، هل لساني لا يكذب؟ هل لساني لا يغتاب ولا ينم؟ فإنك ستجد غيبة ونميمة وشهادة زور وغير ذلك.

واليدان، هل تمسك المصحف؟ هل تتصدق؟ هل تعمل؟ أم أنك تستخدم هذه اليدين فيما لا يرضي الله عز وجل؟ هل ضربت شخصاً بها ذات مرة؟

وبعد ذلك المعدة، هل هذه البطن تأكل حلالاً أم تأكل حراماً، وأكل الحلال هذا كيف يكون وأين ومتى وبقدر ماذا؟

ونفس القضية في الفرج.

وبعد ذلك القدمان، هل أذهب بهما إلى مكان جيد أو إلى مكان غير جيد؟ هل أذهب بها لأعمر بيوت الله، أم أذهب إلى أماكن أخرى لا ترضي الله سبحانه وتعالى؟

وبعد ذلك الجسد كله، هل أنا عاق لوالدي، .... إلخ.

هذا جانب الجوارح، وبعد ذلك جانب المعاملات: يصارح نفسه، زوجتي يوم القيامة هل سأكون ظالماً لها أم لا؟ أنظر هل أنا أعاملها كما كان يعامل الرسول صلى الله عليه سلم زوجاته، هل يتبسم في وجهها؟ هل يربت على يديها؟ هل يساعدها في عمل البيت أم يحملها فوق طاقتها؟ هل يلاحظ أنها في بعض أيام الشهر تكون نفسيتها متعبة، نتيجة التغيرات التي تحدث في جسمها وتكون عصبية؟ وهل تحملها أو لا؟ فأسال نفسي هل أنا ظالم أم غير ظالم؟

ثم بعد ذلك أبي وأمي هل أزورهما؟ أهل الخصومات والأقارب مثل الخالة والعمة هل أصلهم أم لا؟ أصدقائي الذين أجلس معهم، هل أنصحهم أم أتركهم؟

ثم بعد ذلك جانب الله عز وجل، هل يا ترى أنا أخاف من الله كثيراً؟ كم مقدار خوفي من الله سبحانه وتعالى؟ هل عندي أمل في رحمة الله أم عندي قنوط؟

ثم بعد ذلك القرآن، كم أقرأ من القرآن؟ هل أنا أتفكر في آيات القرآن أم مجرد قراءة؟

صلاتي كيف شكلها؟ هل أؤديها بركوع وخشوع وسجود وتواضع وعلى مهل؟ هل فيها صلة بالله؟

ثم بعد ذلك مالي، من أين اكتسبته، وهل أنفقته في الزكاة وفي الصدقة وفي الإكثار من الحسنات؟

تربية الأولاد، هل أربيهم على ما يرضي الله أم لا؟ البنت التي كبرت ماذا عملت بها؟ هل جئت لأولادي بمن يحفظهم القرآن؟

كل هذه العيوب تكتب في ورقة، واعمل لها منهاج عمل في جدول، وبعد ذلك ابدأ في الإصلاح، والعيب الذي تصلحه فألغه من الورقة، وإذا عاد العيب فاكتب العيب مرة أخرى.

فهذا لو جاء يوم القيامة قال الله عز وجل لمن يريد أن يحاسبه من الملائكة: يا ملائكتي! اتركوه لقد حاسب نفسه قبل أن نحاسبه، ووزن أعماله قبل أن توزن عليه، ادخلوه الجنة برحمتي.

فطالما أنت تعالج عيوبك أولاً بأول، فهذا هو الدين العملي، ولا بد أن تحول الدين إلى عمل، فالدين ليس كلاماً ولا دردشة.


استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [3] 2203 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [14] 2111 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [9] 1971 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [10] 1902 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [5] 1870 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [8] 1853 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [2] 1735 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [13] 1685 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [12] 1661 استماع
سلسلة شرح كتاب الفوائد [4] 1505 استماع