سلسلة شرح كتاب الفوائد [4]


الحلقة مفرغة

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (في الطبع شره).

فالإنسان بطبعه طماع لا يقنع بالقليل، ولا يسمع كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) وقليل تشكره خير من كثير لا تطيقه، وقليل يكفيك خير من كثير يطغيك.

أي: أن الوقاية خير من العلاج. وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وما يعتذر منه) يعني: ليس هناك داع إلى فعل عمل أحتاج إلى الاعتذار منه، وقد قال الإمام الشافعي : من واجب الناس أن يتوبوا، ولكن ترك الذنوب أوجب.

فحين أذنب يجب علي أن أتوب، ولكن من أفضل العمل ألا أذنب، وفي الحديث: (... ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والدهر في تقلبه عجيب، ولكن الأعجب منه غفلة الناس.

إن لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى، والحريص هو الذي يمسك ما معه إلى درجة البخل، فالحرص مطلوب، ولكن لو زاد على حده أفسد.

فالإنسان قد يبخل بوقته، فيخاف من أن ينفق من وقته، أو ينفق من ماله، أو ينفق من علمه، أو ينفق من جاهه، فهو بخيل بوقته على الله، وبخيل بماله على الله، وبخيل بجاهه على الله، فـابن القيم يقول: لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى.

وفي المثل الجاري: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، كالخفاش والبومة، وهكذا اللص لا يمشي إلا في الظلمات، فلص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى، والمراد به ظلمة القلب، فالقلب يتنور بالإيمان وبالتقوى، وبذكر الله ومجالس العلم.

إن حبة المشتهي تحت فخ التلف، فتفكر في الذبح.

كحال الطائر الذي يقصد الحبة فيقع في فخ الصياد.

ومثال ذلك في المرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان.

وقد قيل:

إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي

فحبة المشتهي تحت فخ التلف، فتفكر في الذبح، والناصح المؤمن يعلم هذا، فالنهاية والعاقبة مع الصبر هي حلاوة النجاة، ولذلك يروى أن إبراهيم بن أدهم قال: مررت بصومعة راهب في الشام، فقلت: أيها الراهب! منذ كم أنت هاهنا؟ فقال: يا إبراهيمي -أي: أنه على ملة إبراهيم- منذ سبعين سنة. فقلت: وما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟! فقال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي هنا ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان، ويذبحوا الذبائح، ويجمعوا الناس، فأنا أصبر السنة كلها من أجل هذا اليوم. فقلت: متى هو؟ قال: بعد أسبوع. فقعد إبراهيم بن أدهم أسبوعاً، فإذا بهم قد أتوا بالهدايا والذبائح، فأخذ الرجل بضع حبات من تمر فقال لرجل: ساومهم على شرائها. فقال: من يشتري من الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، فبكم الحبة؟ فقال أحدهم: أنا أشتريها بعشرة دنانير. وقال آخر: أنا أشتريها بمائة. فوزع على كل واحد حبة بمائة دينار.

ثم قال الراهب لـإبراهيم بن أدهم : يا إبراهيمي! أرأيت كيف أني أصبر العام كله لأجل يوم، وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل نعيم لا نهاية له في جنة عرضها السموات والأرض؟!

يا إبراهيمي! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها، والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك، فهل بعت لله يا إبراهيمي؟!

وهناك مقالة قالها الحسن البصري ، فقد قال: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الخزف الذي يبقى خيراً من الذهب الذي يفنى، فكيف والآخرة ذهب يبقى والدنيا خزف يفنى؟!

أي: فالكارثة أن الدنيا عبارة عن خزف فان، والآخرة عبارة عن ذهب باق، ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.

إن البخيل فقير لا يؤجر على فقره.

قال علي بن أبي طالب : عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب حساب الأغنياء. وفي الحديث أن المرء يسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.

ويضرب المثل في البخل بـمادر ، فيقال: أبخل من مادر ، وقد قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: من قبيلتي كلها.

يقول ابن القيم : الصبر على عطش الضر ولا الشرب من شرعة المن.

والمراد الصبر على الأذى والابتعاد عن منة الآخرين عليك، كصبر المرء على قلة ذات اليد عن أن يمن عليه مان بعطيته.

وأكبر المن أن نمن على الله تعالى، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

فلله المن، وليس لك أنت؛ لأن المنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له.

وقديماً قالوا: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.

وهذا مثل عند العرب معروف، أي: لا تقتات بعرضها، واليوم تجدهم يحاولون جعلك تتعاطف مع الراقصة، فيقولون: بدلاً من أن تسأل الناس تعمل في الرقص بشرف.

والمراد من هذا المثل -تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها- ألا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه، فحين تذهب إلى جارك فتقول له: يا عم! أعطني جنيهاً يكون معنى ذلك أن أباك بخيل، فحين تطلب من غير الله تكون مثل العبد الذي يطلب من غير سيده، فلا تسأل غير سيدك، ولا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.

قال ابن القيم : غرس الخلوة يثمر الأنس.

فأنت عندما تخلو بالله وحدك تأنس به تعالى.

ويقول: استوحش مما لا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك.

فالذي لا يدوم معي هو الدنيا، فأحصلها بالوحشة منها؛ لأنها لا تدوم.

واستأنس بمن لا يفارقك، وذلك بالعمل الصالح.

وقد روي أن موسى عليه السلام قال: يا رب! ما أفضل الأعمال عندك؟ فقال: يا موسى! أن تذكرني ولا تنسى، فإنك إن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني، قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

لإخواننا الصوفية جملة لطيفة قوية، وهي: (من ذاق عرف).

فالذي يذوق الشيء هو الذي يعرف قيمته، فحين تكلم عاصياً على حلاوة العبادة، أو تكلمه على لذة المناجاة في جوف الليل وهو لا يصلي أصلاً فإنه لا يدرك ما تعنيه بالضبط، فمن ذاق شيئاً عرفه، فالذي يذوق طاعة الله يعرفها.

وأعجب الأشياء أن تعرفه تعالى ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر معاملته ثم تعامل غيره، وأن تذوق ألم الوحدة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه.

والأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه معرض.

أي أنك عارف بأنك لن تجد غيره، وأنك محتاج إليه، فليس هناك إلا هو ومع ذلك تعرض عنه،فلو فكر الإنسان في هذا لسلك في حياته مسلكاً آخر، ولو جئنا بكل فقرة من كتاب الفوائد لكان فيه صحوة للغافلين؛ لأن كتب ابن القيم فيها الدواء الشافي لكل قلب بعيد عن الله عز وجل.

يقول ابن القيم : [ لص الحرص لا يمشي إلا في ظلام الهوى ]؛ لأن اللص لا يمشي إلا في الليل، المثل الإنجليزي يقول: الطيور الشريرة لا تطير إلا ليلاً، فالخفاش لا يطير إلا في الليل والبومة لا تطير إلا في الليل، وهكذا اللص لا يسير إلا خلسة، فهو دائماً يمشي في الظلمات، وكأن ابن القيم يريد أن يقول: إن الهوى يحدث في القلب ظلمة فالمطلوب أن ينور القلب بالإيمان وبالتقوى وبذكر الله وبمجالس العلم، فهذه إذاً العوامل التي تضيء القلب، فلا تجعله حريصاً، وطالما وجدت مدارس العلم ونحن نستمع إليها فإن النور يقهر الظلام ويحل مكانه.

[ وحبة المشتهي تحت فخ التلف ] يريد بحبة المشتهي: ما يشتهي أن يأخذه أحد من حاجة معينة، وكأن المشتهي طائر يريد أن يلتقط حبة من شرك، ونضرب مثلاً بالمرشحين في الانتخابات، فكل واحد منهم يريد أن يأخذ كرسياً في البرلمان، يحصل له بسببه حصانة ومركز مرموق، وهذا وأمثاله ما عبر عنها ابن القيم بحبة المشتهي.

أما كونها تحت فخ التلف، فهو فخ منصوب فالمرشح في مثل هذه الانتخابات يصرف أموالاً طائلة من أجل أن يصل إلى ما يريد.

فـابن القيم -رحمه الله- بقوله: حبة المشتهي تحت فخ التلف، يناديك: يا مؤمن! تيقن أنك لو أخذت حبة المشتهي ونزلت في الفخ سيمسكك الصياد، وإذا أمسكك فسوف يذبحك، والصياد يتمثل في: إبليس والدنيا، قال سيدنا أبو بكر الصديق :

إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لجلب مشقتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي

فالمؤمن يضع في ذهنه النهاية والعاقبة، مثله كمثل الطالب المجد طوال السنة تراه يسهر طوال الليل، يبذل الجهد تلو الجهد وفي آخر السنة تطغى حلاوة التفوق على ألم الاستذكار، فالذي جعله صابراً على هذا حلاوة النجاح.

قيل لـإبراهيم بن أدهم : يا إبراهيم ! من أين تعلمت العلم؟ قال: تعلمته من رجل أسير، قيل: أنت يا إمام المسلمين تعلمت من رجل أسير!! قال: بل قال لي جملة واحدة، ثم قال: مررت بصومعة راهب في الشام فقلت: أيها الراهب! منذ كم وأنت ههنا؟ قال له: يا إبراهيم ! منذ سبعين سنة، فقلت له: سبعين سنة وأنت في هذه الصومعة، ما الذي يصبرك على هذا الشقاء؟ قال: أتباعي لهم يوم في السنة يأتون فيه إلي ليحتفلوا بي، فيزينوا المكان ويذبحوا الذبائح ويجمعوا الناس فأنا أصبر السنة كلها لأجل ما يحدث في هذا اليوم، فقلت له: ومتى سيكون ذلك؟ قال: هذا بعد أسبوع، فقلت: سأجلس معك إلى أن يأتي هذا اليوم.

فقعد إبراهيم بن أدهم يرقب اليوم حتى أتى، فرأى الناس يفدون على الراهب ويزينون المكان ويذبحون الذبائح مبتهجين. فدنا الراهب من إبراهيم وأعطاه كيساً فيه بضع حبات من قمح وقال له: ساومهم على شرائها فقال إبراهيم : من يشتري حبات الراهب؟ فقالوا جميعاً: نشتري، بكم الحبة؟

قال أحدهم: أنا أشتري الحبة بعشرة دنانير، وقال آخر: أنا أشتريها بمائة، فوزع على كل واحد منهم حبة بمائة دينار.

ولا عجب فنحن نرى اليوم البابا في الفاتيكان يخرج من الشرفة ثم يرش ماء البركة بزعمه فمن وقعت على وجهه قطرة منه فقد غفر له بزعمهم ورضي عنه الرب.

ثم قال الراهب: يا إبراهيم! أرأيت كيف أني أصبر العام كله من أجل يوم وأنت لا تريد أن تصبر العمر من أجل جنة عرضها السموات والأرض، يا إبراهيم! أرأيت كيف يعتز مخلوق بعطية مخلوق فيشتريها والله سبحانه قد اشترى منك نفسك ومالك فهل بعت لله يا إبراهيم؟

وبذلك نكون قد أدركنا معنى قول ابن القيم: حبة المشتهي تحت فخ التلف فتفكر للذبح، المؤمن الناصح يرى الفخ، لكن المؤمن العاصي يرى الحبة، وقد هان الصبر، وقد تقدم قول الحسن البصري: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لفضل العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فما بالكم ونحن نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي!!

يفرض جدلاً أن الدنيا ذهب، لكنه فاني، والآخرة عبارة عن قليل من الخزف لكنه باقي، نجد أن العاقل يفضل الباقي ويختاره على الفاني وإن كان ذهباً. لكن الحقيقة أن الدنيا عبارة عن خزف فان والآخرة عبارة عن ذهب باق، وللأسف أنا نفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي.

[ البخيل فقير لا يؤجر على فقره ] أي أنه سبب فقر نفسه، قال علي بن أبي طالب : عجباً للبخيل يعيش عيشة الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء.

فهو في الدنيا من رآه ظن أنه مسكين،لكن الله يحاسبه على أنه غني، وحساب الغني في القيامة يطول، وفي الحديث أن المرء يسأل (عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، فالبخيل فقير لا يؤجر على فقره.

قيل لـمادر -رجل يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر -: ممن تعلمت البخل؟ قال: من قبيلتي، قالوا: كيف ذلك؟ قال: كنت أخرج وإخواني للصيد، فإذا ما انتهينا وضع كل منا صيده في القدر فكان كل واحد منهم يربط قطعة اللحم التي يملكها فيظل ممسكاً بها حتى لا تختلط.

قال ابن القيم : [ الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن ] قوله: عطش الضر: هو الإنسان يحرم من نعمة معينة، وإنما سماه ابن القيم : عطش الضر؛ لأنه يتضرر منه، كأن لا يوجد للإنسان ولد يرثه، أو كان عنده بنتان ويريد ذكراً، أو كان عنده ولد عاق وكان يتمنى ولداً طائعاً، أو كان لا يمتلك نقوداً ويتمنى أن يصبح عنده نقود، أو كان يرغب أن يصبح وزيراً ولم يحصل ذلك، وغيرها من النعم المسلوبة.

أما سلعة المن، فالمراد العطية يعطيها ثم يمن على من أعطاه بها، فالصبر على عطش الضر خير من الشرب من سلعة المن، ومن العجيب ما يقع فيه البعض في لحظات الضعف الإيماني إذ يمنون على الله -والعياذ بالله- في الركيعات التي يؤدونها حتى يقول قائلهم: أنا أصلي من ثلاثين سنة ولا يوجد عيل إلا في منزلي!! وغيرها من المقولات التي لا ينبغي أن يكررها مسلم إذ المنة كلها لله وحده، قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

فالمنة أولاً وأخيراً لله رب العالمين لا شريك له. ثم يقول مؤكداً معنى قوله: الصبر على عطش الضر ولا الشرب من سلعة المن: [ تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ] وهذا مثل عربي معروف، أي: أن الحرة تجوع ولا تتاجر بعرضها، لكن أصحاب الفن والسينما يجعلونك تتعاطف مع الراقصة، فتجد من يقول: هذه مسكينة غدرها زوجها وليس لها حظ، وتظل هي تبكي وتقول: فأنا بدلاً من أن أسرق أو أشحت أشتغل بشرف!! ولعمري عن أي شرف تتحدث هذه الراقصة.

وقد فوجئت قبل أيام بخبر في الأخبار: أنه في يوم السبت الماضي قبضت شرطة الآداب على ثلاث رقاصات يرقصن من غير ترخيص، وهذه أول مرة أعرف في الحقيقة أن هناك تراخيص تمنح للراقصات، ولا أدري أي جهة تمنح التراخيص.

ثم يحث ابن القيم على التوجه لله وحده فيقول: [ لا تسأل سوى مولاك، فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه ]، ومثل ذلك أن ابنك يذهب لجارك ويقول له: يا عم! أعطني جنيهاً فيقول الجار في نفسه: إن جاري بخيل، فأنت بدلاً من أن تقول: يا رب! تقول: يا عبد الله، إذاً أنت تشنع على الله. فمثلك حين تطلب من غير الله كمثل العبد الذي يطلب من غير سيده فيشنع على السيد بالبخل.

يقول ابن القيم : [ غرس الخلوة يثمر الأنس ].

أي: أنك حين تخلو بالله وحدك تشعر بالأنس، فالثمرة التي تجنيها من الخلوة مع الله الأنس والطمأنينة، وإن وصفك الناس أنك منعزل، أو قالوا: هذا انعزالي: هذا طريقه من البيت إلى الجامع لا عمل له. والحقيقة أن ذلك ليس عيباً.

ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: [ استوحش مما لا يدوم معك واستأنس بمن لا يفارقك ] يريد بقوله: مما لا يدوم معك الدنيا وما فيها، فالدنيا وما فيها ستفارقك قطعاً، فحقها أن تلاقيها بالوحشة لا بالأنس، وقوله: واستأنس بمن لا يفارقك، يريد أن تستأنس بالله وبالعمل الصالح. ثم يبين العزلة المستحبة فيقول: [ عزلة الجاهل فساد وأما عزلة العالم فمعها حذاؤها وسقاؤها ] وذلك لأن الجاهل حين يعتزل من غير أن يتعلم يجهل كيفيات العبادة، وأوقاتها، وماهيات القربات، لكن العالم حين يعتزل الناس قد أخذ عدة عزلته، ثم يستطرد مع العزلة فيقول: [ إذا اجتمع العقل واليقين في بيت العزلة، استحضر الفقه وجرت بينهم مناجاة: أتاك حديث لا يمل سماعه....... ].

أي: إذا اجتمع عقل المؤمن مع يقينه في الله عز وجل في بيت العزلة، حيث يبتعد فيه عن السوء والصحبة، إذ إن الأرواح تحن لأشكالها، فلو أن إحدى الأخوات خرجت من هنا فوجدت بنتاً في الأسفل ترتدي البنطلون وقد وضعت على وجهها مساحيق الزينة، وبجوارها أخرى عليها جلبابها فإنها قطعاً ستجلس إلى الثانية دون الأولى، فهي لا تتنسم نسيم الراحة إلا مع أختها، ولا تأنس وتطمئن إلا إليها، أما الأولى فإنها لا تأنس معها؛ لأن المؤمن إلف ألوف، كما أنه لو دخل مؤمن إلى مجلس فيه مائة منافق، وبينهم مؤمن واحد لجلس بجوار المؤمن وهو لا يعرفه؛ لأن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. والعزلة التي يريدها ابن القيم هي عن السوء والصحبة، وإعمال الفكر في خلق الله عز وجل.

وقوله: (أتاك حديث لا يمل سماعه)، يريد به القرآن، فالقرآن هو الوحيد الذي لا يمل سماعه، فأنت لو شاهدت مسرحية ضاحكة لأول مرة ستضحك من مشاهدها، لكنك لو تشاهدها مرة ثانية لن تضحك كالأولى بل ربما تضجر، وهكذا القصائد والأفلام وغيرها تمل من كثرة التكرار، لكن القرآن لا يمل أبداً، فلو قرأت مثلاً سورة يوسف مائتين مرة فإنك في كل مرة تكتشف معنى جديداً، ولذلك كان من معجزات القرآن أنه لا يخلق على كثرة الرد، ومعنى: لا يخلق: لا يبلى، ومنه الثوب الخلق أي: الثوب القديم، فمعنى قولنا: لا يخلق القرآن على كثرة الرد، أي: لا يصبح القرآن قديماً بالياً من كثرة قراءته، بل يبقى غضاً طرياً كأني أسمعه لأول مرة.

ثم يستطرد ابن القيم -رحمه الله- في وصف القرآن فيقول: [

أتاك حديث لا يمل سماعه شهي إلينا نثره ونظامه ].

فما من مؤمن صادق يحدث له ضيق صدر يقوم فيتوضأ ويقرأ أي صفحة من القرآن إلا ذهب عنه الضيق، أما لو كان لا يزال في أول الطريق فنقول له: اقرأ سورة يوسف؛ لأن سورة يوسف ما قرأها حزين إلا وفرحه الله.

وينبه هنا على أنه لابد أن يكون عنده استعداد لتلقي كلمات الله، ولابد حين يقرأ أن يخلي ذهنه من الشواغل، بل يصب تركيزه على تدبر كلمات الله، فإنه إن فعلها تحصل له أثرها بإذن الله.