شرح الحموية لابن تيمية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

[ سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن، وهو جواب عظيم النفع جداً ].

يسمى جواب هذا السؤال: الحموية؛ لأن السائل من بلدة حماة الشام.

[ فقال السائل: ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، إلى غير ذلك من الآيات. وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار)، إلى غير ذلك من الأحاديث. وما قالت العلماء؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى ]

قوله: إن شاء الله، من باب الخبر؛ لأن الدعاء لا يستثنى فيه، كما في الحديث: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)، وجاء في الحديث الآخر: (لا بأس طهور إن شاء الله)؛ لأن هذا من باب الخبر.

مقدمة لابن تيمية بين يدي جوابه على السائل

[ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله والى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ].

لأن باب الأسماء والصفات هو أصل الدين.

تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته كل شيء

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة ] أي: حتى أحكام الاستنجاء وكيفية إزالة النجاسة، فكيف يعلمهم ذلك، ولا يعلمهم باب أصل الدين، وباب الأسماء والصفات، وهذا فيه رد على أهل البدع الذين يتأولون بعقولهم وينفون الصفات، ويقولون: إن هذا متروك للعقول: وهذا محال؛ لأن الرسول قد علم أمته كل شيء حتى أحكام الاستنجاء.. حتى الخراءة، قال بعضهم لـسلمان : علمكم نبيكم كل شيء، قال: نعم، علمنا نبينا كل شيء حتى أحكام الاستنجاء، والوضوء. فلا يمكن أن يعلمهم أحكام الاستنجاء، وأحكام غسل النجاسة، ولا يعلمهم أصل الدين! لا يمكن هذا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم).

وقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (قام فينا رسول الله مقاماً فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) رواه البخاري .

محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين ].

قوله: وإن دقت أن يترك تعليمه أي: وإن كان شيئاً صغيراً، أو شيئاً قليلاً.

وقوله: يقولونه بألسنتهم أي: يقولون مثلاً: إن الله استوى على العرش، والله سميع بصير، والله عليم حكيم، ويعتقدون هذا بقلوبهم، فلا يمكن أن يترك هذا الأمر -الذي يقوله إنسان بلسانه ويعتقده بقلبه- إلى العقول.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام ].

أي: باب أصول الدين، ومنه الأسماء والصفات.

استحالة كون أصحاب القرون المفضلة يجهلون تلك الأمور أو يتكلمون فيها بغير الحق

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيهم رسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع ] .

أي: إما كونهم يجهلون باب أصل الدين، أو يتكلمون فيه بغير الحق، وهذا ممتنع، ومن الممتنع أيضاً أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين أصل الدين، وإذا كان ممتنعاً فممتنع كذلك أن تكون خير الأمة وأفضل الأمة، وهم القرون المفضلة بعده صلى الله عليه وسلم لم يحكموا هذا الأصل، أو جهلوه، أو تكلموا فيه بغير الحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، فلابد أن يحكموا هذا الباب، ويتكلموا فيه بالحق.

وعلى هذا تكون أقوال أهل البدع الذين جاءوا بعد تلك القرون المفضلة، كلها أقوال باطلة ومردودة، ومناقضة لما عليه السلف الصالح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته.

وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ].

وهذا الكلام مقدمة عظيمة للمؤلف رحمه الله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي ].

قوله: المقتضي أي: الموجب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟! ].

أي: إن كونهم لا يتكلمون بهذا الدين، ولا يحكمون أصل الدين، ولا يعرفونه، ولا يتكلمون به، هذا مستحيل، والأمر الثاني أنه يستحيل أيضاً أن يتكلموا بغير الحق، إذ يستحيل ألا يفهموا أصل الدين ولا يحكموه ولا يتكلموا به، ولا يتكلم فيه إلا المتأخرون.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم. ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء -ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها-: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم ].

الخالفون: هم الخلف المتأخرون، الذين جاءوا بعد السلف الصالح.

وهذه مقالة معروفة عن أهل البدع، وهي أن طريقة السلف أسلم والخلف أعلم وأحكم، وهذا باطل، فالسلف أسلم وأعلم وأحكم، والخلف ليس عندهم شيء من العلم والحكمة، وإنما هم على جهل واعتماد على العقول والآراء وزبالة الأذهان ومحادثة الأفكار، فطريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم.

ضلال المبتدعة بتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن هؤلاء المبتدعة، الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ].

إذاً: فالسبب أنهم قرروا في أنفسهم أن النصوص لا تدل على الصفات، فقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، لا يدل على صفة الاستواء، وقوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]، لا يدل على صفة العلم والحكمة، هذا هو قصدهم، فلما قرروا هذا الأمر صاروا تجاه نصوص الصفات بين أمرين:

الأمر الأول: أن يصرفوها إلى معان ابتدعوها من عند أنفسهم: يقولون: استوى معناها: استولى.

والأمر الثاني: التصوير، يقولون: نصورها ولا ندري ما معناها، مع أننا نجزم بأنها لا تدل على إثبات الصفات، فهم بين طريقة التصوير وبين طريقة التأويل والتحريف، نسأل الله العافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ].

قوله: بالسمع أي: بالأدلة السمعية، كفروا بالنصوص واعتمدوا على عقولهم الفاسدة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.

فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ].

أي: ظنوا أن السلف قوم سذج، لا يفهمون إلا مجرد التلاوة فقط، وليس عندهم عقول يفهمون بها النصوص ويعرفون بها اللغة، بل يؤمنون بمجرد اللفظ، فلهذا قالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وعندهم أن طريقة السلف هي التفويض، وطريقة الخلف هي التحريف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم:

نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ].

هذا كله من كلام الرازي ، وانظر السير والفتاوى وطبقات الشافعية، وفيه زيادة، ثم قال: وأقول من صميم القلب، من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه.

يقول شيخ الإسلام تعليقاً على عبارته التي جاءت في النص: [ وهو صادق فيما أخبر به، أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفة، سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلاً ولا يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره! ] انتهى من منهاج السنة.

[ ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي ].

هذه مقالة أبي محمد الجويني وهو من الأشاعرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام ].

أشار شيخ الإسلام في موضع إلى أن قائل هذا الكلام هو أبو حمزة الغزالي .

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان.

من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ].

وبه قاموا: أي عملوا بالكتاب وتلوه ونفذوه، وطبع الكتاب بهم، والكتاب قام بهم بمدحهم والثناء عليهم، وبهم نطق أي: بفضلهم، وبه نطقوا أي: تلوه وعملوا به.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.

ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم، أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟! ].

سبب هذه المقدمة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإنما قدمت هذه المقدمة؛ لأن من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحداً معيناً، وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء ].

المقصود وصف النوع، وليس الأشخاص بعينهم.

[ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله والى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟ ].

لأن باب الأسماء والصفات هو أصل الدين.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الحموية لابن تيمية [10] 2877 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [11] 2329 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [8] 2278 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [5] 2265 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [3] 1984 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [6] 1657 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [7] 1627 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [2] 1453 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [12] 1338 استماع
شرح الحموية لابن تيمية [4] 1160 استماع