جمع المغرب والعشاء في مزدلفة
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
جمع المغرب والعشاء في مزدلفةعن كُرَيْبٌ أَنَّهُ سَأَلَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ،: كَيْفَ صَنَعْتُمْ حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: جِئْنَا الشعْبَ الَذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ للْمَغْرِبِ، فَأَنَاخَ رَسُولَ اللهِ نَاقَتَهُ وَبَالَ ثُمَّ دَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْس بِالْبَالِغِ، فقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللهِ الصَّلاَةَ، فَقَالَ: «الصَّلاَةُ أَمَامَكَ»، فَرَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، (وفي رواية: نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ)، فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ، فَصَلى، ثُمَّ حَلُّوا، قُلْتُ: فَكَيْفَ فَعَلْتُمْ حِينَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: رَدِفَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيَّ، وفي رواية سُئِلَ أُسَامَةُ: كَيْفَ كَانَ يَسِيرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
وفي الصحيحين عن أبي أَيُّوبَ أَنَّهُ صَلى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
وبنحوه من حديث ابْنِ عُمَرَ، زاد مسلم: صَلاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وفي رواية: صلى المغرب ثلاث ركعات والعشاء ركعتين، وعند البخاري: كل واحدةٍ منهما بإِقَامَة ولم يُسَبِّح بَيْنهما، ولا على إثْرِ كُل واحدةٍ منهما.
تخريج الأحاديث:
حديث كريب رضي الله عنه أخرجه مسلم حديث (1280)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج" "باب النزول بين عرفة وجمع"، حديث (1667)، وقبل ذلك أخرجه في "كتاب الوضوء" "باب إسباغ الوضوء" حديث (139)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الحج" "باب الدفع من عرفة" حديث (1925)، وأخرجه النسائي في "كتاب مناسك الحج" "باب النزول بعد الدفع من عرفة" حديث (3024).
وأما الرواية التي تليه، فأخرجها مسلم حديث (1286)، وأخرجها البخاري في "كتاب الحج" باب السير إذا دفع من عرفة" حديث (1666)، وأبو داود في "كتاب المناسك" "باب الدفعة من عرفة" حديث (1923)، والنسائي في "كتاب مناسك الحج" "باب كيف السير من عرفة" حديث (3023)، وابن ماجه في "كتاب المناسك" "باب الدفع من عرفة" حديث (3017).
وأما حديث أبي أيوب رضي الله عنه، فأخرجه مسلم حديث (1287)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج" "باب من جمع بينهما ولم يتطوع" حديث (1674)، وأخرجه النسائي في "كتاب المواقيت" "باب الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة" حديث (604)، وأخرجه ابن ماجه في "كتاب المناسك" "باب الجمع بين الصلاتين بجمع" حديث (3020).
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فأخرجه مسلم حديث (1288)، وأخرجه البخاري في "كتاب الحج" "باب النزول بين عرفة وجمع" حديث (1668)، وفي الكتاب نفسه "باب من جمع بينهما ولم يتطوع" حديث (1673)، وأخرجه أبو داود في "كتاب المناسك" "باب الصلاة بجمع" حديث (1926)، وأخرجه الترمذي في "كتاب الحج" "باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة" حديث (888)، وأخرجه النسائي في "كتاب المواقيت" "باب الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة" حديث (606).
شرح ألفاظ الأحاديث:
((حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللّهِ)): حين كنت رديفًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: ركبت وراءه.
((جِئْنَا الشِّعْبَ)): وفي رواية أخرى لمسلم: ((لَمَّا أتى الشِّعب الذي ينزله الأمراء))، وعند الفاكهي من وجه آخر: ((إذا وازينا الشِّعب الذي يُصلي فيه الخلفاء المغرب)): الشعب هو الطريق الذي يكون في الجبل، و(أل) هنا للعهد، وهو بين عرفة ومزدلفة، كان ينزل فيه خلفاء وأمراء بني أمية، فيصلون فيه المغرب، فعُرف بهم، وهذا خلاف السنة؛ حيث إن السنة هي الجمع بين الصلاتين في المزدلفة، ولذا لم يوافق ابن عمر رضي الله عنهما أمراء خلفاء بني أمية؛ [انظر الفتح "كتاب الحج" "باب النزول بين عرفة وجمع" حديث (1667)].
((فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْس بِالْبَالِغِ)): وفي الرواية الأخرى عند مسلم (فتوضأ وضوءًا خفيفًا)، والمعنى أنه توضأ وضوء الصلاة، وخفَّفه بأن توضأ مرة مرة، أو خفَّف استعمال الماء، وقيل المقصود بالوضوء هنا الوضوء اللغوي لا الشرعي، وغسل بعض الأعضاء، والأظهر أنه الوضوء الشرعي.
((الصَّلاَةُ أَمَامَكَ)): أي: إن صلاة المغرب لا تُصلَّى هنا، وكأن أسامة لا يعرف حكم الجمع، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي الصلاة وخاف خروج الوقت، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرع تأخيرها وجمعها مع العشاء.
((فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ)): أي توضأ الوضوء الكامل.
((ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ)): وفي الرواية الأخرى عند مسلم، (ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله)، والمقصود أنهم بعدما انتهوا من صلاة المغرب أناخ كل إنسان بعيره، فربطه وبرَّكه، وهذا قبل العشاء، ثم رجعوا لصلاة العشاء، وهذا يؤخذ منه أن العمل اليسير بين الصلاتين المجموعة لا يضر.
((ولم يحَلُّوا)): قال القرطبي رحمه الله: "بضم الحاء؛ يعني أنهم لم يحلوا رحالهم، ولا سبيل إلى كسر الحاء كما توهَّم مَن جهل"؛ [انظر المفهم (3/ 391) حديث (1138)].
((وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ قُرَيْشٍ عَلَى رِجْلَيَّ))؛ أي: على قدميَّ إلى منى.
((كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ)): العنق بفتح العين والنون وهو السير بين الإبطاء والإسراع.
((فَجْوَةً)): بفتح الفاء وسكون الجيم، وهي المكان المتسع.
((نَصَّ)): بفتح النون وتشديد الصاد؛ أي: أسرع.
((صَلَّاهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ)): قال النووي رحمه الله: "سبق في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وهذه الرواية مقدَّمة؛ لأن مع جابر رضي الله عنه زيادة علم وزيادة الثقة مقبولة أن كل صلاة لها إقامة، ولا بد من هذا ليجمع بينه وبين الرواية الأولى، وبينه أيضًا وبين رواية جابر رضي الله عنه"؛ [انظر شرحه لمسلم حديث (1288)].
((ولم يُسَبِّح بَيْنهما)): أي لم يتنفل بينهما.
((ولا على إثْرِ كُل واحدةٍ منهما)): أي ولا عقب كل صلاة منهما.
من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى:الأحاديث فيها دلالة على مشروعية تأخير المغرب مع العشاء ليلة المزدلفة، وأنه يشرع الجمع بين الصلاتين، والقصر لصلاة العشاء، وذلك بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، لكل صلاة إقامة كل هذا دلَّت عليه أحاديث الباب، هذا في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الثانية: حديث كريب رحمه الله فيه دلالة على أن الفاصل اليسير بين الصلاتين المجموعتين لا يضر، ففي الحديث أنهم أناخوا إبلهم في منازلهم بين الصلاتين.
الفائدة الثالثة: حديث كريب رحمه الله فيه دلالة على أن المشروع لمن قدم مزدلفة أن يبدأ بالصلاة قبل حل الرحال، فهذه هي السنة خلافًا لما يفعله البعض من الانشغال بما معهم قبل الصلاة.
الفائدة الرابعة: حديث كريب رحمه الله فيه دلالة على مشروعية المبيت بمزدلفة ليلة النحر، واختلف في حكم المبيت بمزدلفة على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المبيت سنة، وهو قول الحنفية، (والواجب عندهم هو الوقوف بعد الفجر)، والقول الثاني بسنية المبيت، هو رواية في مذهب، وقول لبعض الشافعين؛ [انظر المجموع (8 / 134، 150)].
وعللوا: بأنه مبيت كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
والقول الثاني: أن المبيت ركن، وهو قول بعض التابعين وهم علقمة والأسود والشعبي والنخعي رحمهم الله، والحسن البصري قال: كالمبيت بمنى ليلة عرفة.
استدلوا: بحديث عروة بن مضرس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه - يعني بالمزدلفة – فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة.
ووجه الدلالة: قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المبيت شرطًا؛ حيث رتب عليه الجزاء، فقال: (فقد تم حجه).
والقول الثالث: أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم إذا فات، وبه قال جمهور العلماء.
واستدلوا: بحديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه مرفوعًا وفيه: ((الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر، فقد أدرك))، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال وكيع: "هذا الحديث أم المناسك".
ووجه ذلك: أن من جاء ليلة جمع (ليلة مزدلفة) قبل صلاة الصبح، وكان قد وقف بعرفة قبل ذلك، يكون فاته المبيت بمزدلفة، ومع ذلك قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد أدرك)؛ يعني الحج، وهذا الحديث مع حديث عروة رحمه الله يفيد وجوب المبيت بمزدلفة، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم، ومما يقوي القول بالوجوب وعدم ركنيته قول الإمام أحمد رحمه الله: "ليس أمر جَمْع عندي كعرفة، ولا أرى الناس جعلوها كذلك"؛ [انظر شرح العمدة (2/ 607)]، وهذا نقل للاتفاق منه رحمه الله بأن المبيت بمزدلفة ليس ركنًا كعرفة؛ [انظر الفتح "كتاب الحج" "باب من قدم ضعفة أهله بليل" حديث (1679)، وانظر المجموع (8/ 134)].
الفائدة الخامسة: الحديث فيه بيان سنية السير من عرفة إلى مزدلفة، وهو أنه يسير سيرًا بين الإبطاء والإسراع، وتقدم في حديث جابر رضي الله عنه الطويل سير النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع بسكينة، وأيضًا عند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع))؛ أي: ليس بالسير السريع، وحديث الباب يدل على السير الذي بين الإبطاء والإسراع، وهذا لا ينافي السكينة، وإنما إسراع النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود فجوة من أجل إدراك الجمع بين الصلاتين والمبيت في مزدلفة، وأيضًا استغلال عدم وجود الزحام بوجود الفجوة، فيسرع فيها.
الفائدة السادسة: الأحاديث فيها بيان حرص السلف على السؤال عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، كما سأل كريب رحمه الله أسئلة عن حال النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ومبيته بمزدلفة، حرصًا منهم ليقتدوا به صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السابعة: حديث كريب رحمه الله فيه بيان جواز الإرداف؛ حيث أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل رضي الله عنه إلى منى، وتقدم بيان ذلك في حديث جابر رضي الله عنه الطويل.