خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [65]
الحلقة مفرغة
من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما أخبر الله ورسوله مما يكون يوم القيامة من طول الموقف فنؤمن بذلك اليوم يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، أخبر الله بعرض الناس على ربهم، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (يحشرون حفاة عراة غرلاً، ودل على ذلك قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94].
وأخبر الله تعالى بالحشر في قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم:85-86]، والحشر: هو الجمع يوم القيامة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتطاير الصحف، وبأنهم: يأخذون صحفهم وكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم من وراء ظهورهم.
وأخبر الله تعالى بالحساب: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض المورود يوم القيامة، ومن يرده، ومن يذاد عنه.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصراط الذي ينصب على متن جهنم، يجتازه الناس على قدر أعمالهم وعلى قدر إيمانهم، سيراً سريعاً أو سيراً بطيئاً.
وأخبر الله تعالى بالميزان فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103].
وأخبر الله تعالى وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه التفاصيل، ومن جملتها:
كون الرب سبحانه وتعالى يبرز لعباده ويسجد له المؤمنون، ولا يستطيع المنافقون السجود كما في قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، أخبر الله بأن نور المؤمنين (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، وبأن نور المنافقين ينطفئ إذا بدءوا في السير، ويقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وتفاصيل يوم القيامة كثيرة، وهذه من جملتها.
والإيمان باليوم الآخر يلزم منه أن يؤمن بكل هذه التفاصيل، ما سمي منها وما لم يسمَّ، ما فصل منها وما أجمل، ومن آمن بذلك اليوم آمن بكل ما فيه، والنهاية قول الله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالأعمال التي تدخل النار، والتي تدخل الجنة.
وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بمن يخرج من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى، ومن لا يخرج منها بل يخلد فيها، فكل هذه من التفاصيل التي وردت عن اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، فمن آمن باليوم الآخر آمن بكل ذلك.
من أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاليوم الآخر هو: ما بعد الموت وما بعد البعث، وما بعد ذلك إلى ما لا نهاية له، هذا كله اليوم الآخر الذي يؤمن به المؤمنون، ويصدقون بتفاصيله، ولا شك أن من صدق به لا يكون تصديقه مجرد قوله: آمنت بذلك وصدقت به، بل يكون من آثار تصديقه العمل الصالح الذي يستعد به لذلك، فيستعد به حتى يكون نوره كالشمس، يستعد بالعمل الصالح الذي يرجح به ميزانه، يستعد بالعمل الصالح الذي يسير به على الصراط كالبرق، يستعد بالعمل الصالح الذي يؤتى به كتابه بيمنه، ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19].
وهكذا بقية الأشياء التي تكون في ذلك اليوم، لابد من عمل صالح يسلم به من طريق أهل الجحيم، ويفوز بطريق أهل النعيم.
اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
[واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت
قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، ظاهره أن كل الناس واردو النار، كلهم لابد أن يردوا النار، ما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم)، والمراد: الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها، والأصل أن الورود: هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية الإبل التي تأتي إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردوها في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها)، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها.
إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً [مريم:71]، حتماً: يعني: أمراً محتوماً لابد منه، مقضياً، ثم قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط.
وقد تقدم أن الصراط: جسر مزلة، منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بأعمالهم، يمرون على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، هو منصوب على متن جهنم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، إذا مر المؤمن انطفأ، ولا يحس بأن تحته ناراً، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، تشاهدون البرق عندما يخطف في السماء من هنا ومن هنا أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح، الريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يمر كأجايود الركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم.
فإذاً: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار ما شعرنا بها؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة)، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً.
وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلالي)، والكلاليب هي جمع الكلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، تخطف من أمرت بخطفه، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها نجا، ولو أصابه خدش، ولو أصابه خطف، ولو أصابه حرارة ؛إذا نجا منها وجاز الصراط -ولو بعد مائة سنة أو نحوها- (التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه)؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار)، فاستشكلت عائشة الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، وقالت: كيف وقد قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ؟ فظاهرها أن الجميع يريدونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، يعني: سلمك منها، أنقذك من دخولها، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار.
وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها.
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:
[واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت
قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، ظاهره أن كل الناس واردو النار، كلهم لابد أن يردوا النار، ما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم)، والمراد: الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها، والأصل أن الورود: هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية الإبل التي تأتي إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردوها في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها)، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها.
إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً [مريم:71]، حتماً: يعني: أمراً محتوماً لابد منه، مقضياً، ثم قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط.
وقد تقدم أن الصراط: جسر مزلة، منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بأعمالهم، يمرون على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، هو منصوب على متن جهنم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، إذا مر المؤمن انطفأ، ولا يحس بأن تحته ناراً، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، تشاهدون البرق عندما يخطف في السماء من هنا ومن هنا أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح، الريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يمر كأجايود الركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم.
فإذاً: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار ما شعرنا بها؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة)، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً.
وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلالي)، والكلاليب هي جمع الكلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، تخطف من أمرت بخطفه، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها نجا، ولو أصابه خدش، ولو أصابه خطف، ولو أصابه حرارة ؛إذا نجا منها وجاز الصراط -ولو بعد مائة سنة أو نحوها- (التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه)؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار)، فاستشكلت عائشة الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، وقالت: كيف وقد قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ؟ فظاهرها أن الجميع يريدونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، يعني: سلمك منها، أنقذك من دخولها، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار.
وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72].
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت
أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً [هود:58]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً [هود:66]، وقال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك.
وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، ثُمَّ ينجي الله الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور: (أن الورود هو المرور على الصراط.
وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي، وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي)].
قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، ظاهره أن كل الناس واردو النار، فما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم)، والمراد الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها.
والأصل أن الورود هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية إتيان الإبل إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردونها في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها)، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها.
إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً [مريم:71]، يعني: أمراً محتوماً لابد منه، ثم قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط.
وقد تقدم أن الصراط: جسر منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، أي: أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم.
فإذاً: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة)، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً.
وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلاليب)، والكلاليب هي جمع كلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها وجاز الصراط ولو بعد مائة سنة أو نحوها التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله!
في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار)، فاستشكلت عائشة الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، وقالت: كيف وقد قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ؟ فظاهرها أن الجميع يردونها ويدخلونها؟
لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار.
وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2712 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2560 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |