شرح العقيدة التدمرية [29]


الحلقة مفرغة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ فصل:

وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره بقضائه وشرعه ].

قوله: (بخلق الله) يقصد بها: القدر كله، والذي هو متعلق بربوبية الله سبحانه، فكل معاني الربوبية تجتمع في معنى الخلق؛ لأن الخلق هو مبدأ الربوبية من حيث المخلوقات لا من حيث الخالق، فالله عز وجل ربوبيته وخلقه متصف بها قبل وجود المربوبات والمخلوقات، لكن من حيث نشأة الربوبية ومن حيث وجود المربوبات فإنه يتعلق ذلك بربوبية الله وقدره.

وقوله: (وأمره) يشمل الأمر القدري والشرعي، ثم قال: (بقضائه وشرعه) فالقضاء جزء من الخلق، والشرع جزء من الأمر، فقوله: (بخلق الله وأمره) أعم، فالخلق يشمل القضاء وغير القضاء، والأمر يشمل الشرع وغير الشرع، فهو قد خصص بعد تعميمه.

والشيخ هنا سيذكر بعد هذا الكلام تقسيم أهل الضلال في القدر إلى ثلاثة أقسام، وعلى هذا نقول: إن مذاهب الناس في القدر أربعة: الأول: مذهب أهل الحق، وهو الإيمان بقدر الله عز وجل إيماناً كاملاً، فيؤمنون بالقدر خيره وشره من الله عز وجل.

ثم المذاهب الثلاثة التي سيذكرها، وكلها مذاهب ضالة وباطلة.

قال رحمه الله تعالى: [ وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية ].

يقصد هنا: المناهج لا جزئيات المقالات، فكلمة (مجوسية) و(مشركية) يدخل فيها مئات المذاهب، لكن هو ذكر جماع مذاهب الباطل، يعني: أصول مذهب أهل الباطل في الديانات والفرق والأفراد، قديماً وحديثاً، وهذه المناهج هي: المنهج المجوسي، والمنهج المشركي، والمنهج الإبليسي، وسيشرح الشيخ كل واحد على حده.

منهج فرقة المجوسية في القدر

قال رحمه الله تعالى: [ فالمجوسية الذين كذبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم ].

سمي هؤلاء بالمجوسية؛ لأن أشهر من عُرف من الأمم بالتكذيب بالقدر هم المجوس، وهذا تسبب في أنهم عبدوا إلهين، وزعموا أن الشيطان هو خالق الشر، فعبدوه من دون الله، ويسمونه: إله الشر، وهم أكثر من تعمّق في هذه المسألة إلى حد أنهم ألّهوا الشيطان وعبدوه من دون الله، ولا يزال إلى الآن توجد فرقة في العراق هم من عبدة الشيطان، وهي نزعة أو فصيل من فصائل الاتجاه المجوسي، وإن كانوا ينتسبون إلى ديانة أخرى، والمهم أن هذه النزعة أصلها في المجوس، ويوجد مثلها أو ما هو أقل منها عند جميع الأمم، ونظراً لأن الله عز وجل قد كتب الافتراق على جميع الأمم، فإنه ما من فرقة من فرق الديانات الكتابية إلا وفيها فرقة مجوسية قدرية، وكذلك هذه الأمة حين كتب الله عز وجل أنها ستفترق، وأنها ستتبع سَنن من كان قبلها من الأمم، فقد تأثرت بسنن المجوس، فدخلت الفلسفة المجوسية إلى المسلمين من خلال مذهب القدرية الأولى، والتي أنكرت جميع مراتب القدر، بمعنى: أنها أنكرت علم الله عز وجل بالشر، وكتابته للشر، ومشيئته وخلقه، ثم نشأ عنها مذهب المعتزلة -لما رأوا قوة مواجهة السلف لهذا المذهب، وأن السلف كفّروا من يُنكر العلم والكتابة بقطعية النصوص- الذين تأولوا لأنفسهم وقالوا: بنفي قدر الله عز وجل فيما يتعلق بالمشيئة والخلق، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل لا يشاء الشر ولا يخلقه، ولذلك أُلزموا بأن يقولوا: بأن الإنسان خالق أفعال، وهذا إلزام عقلي حتمي؛ لأنهم إذا كانوا يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر، ولم يشأه، ولم يخلقه، مع أن الله عز وجل قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، إلا أنهم مع ذلك حين قالوا بهذه المقولة قال لهم السلف: إذاً هذه الأفعال التي هي أفعال الشر وتقولون بأنها ليست من خلق الله، لابد أن يكون لها خالق، وبالنسبة للإنسان فلأنه نشأتْ منه أفعال الشر، فإنه يكون خالق أفعال، وعليه فهذا المذهب راجع إلى القدرية المجوسية.

منهج فرقة المشركية في القدر

قال رحمه الله تعالى: [ والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148]فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة ].

سمي هؤلاء بالمشركية لأن غالب المشركين على هذا المبدأ، إذ إنهم يقرون بأن الله هو الرب سبحانه، وأنه الخالق، وأنه المدبّر، ولذلك جاءت أسئلتهم في القرآن، وبيّن الله عز وجل أنهم أقروا بهذه الأمور، لكن حينما جاءتهم الأوامر الشرعية والنهي، وعندما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وطلب منهم أن يعبدوا الله وحده، وطلب منهم مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبوا الأمر والنهي، وبقوا على مجرد دعوى أنهم موحدون بتوحيد الربوبية، وهذا ما عليه كل من يقع في الشرك من الأمم، وممن ينتسب إلى الإسلام، فيزعمون بأنهم يعظمون الله عز وجل، وبأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويظنون هذا هو التوحيد، لكنهم يخلون بالأمر والنهي، إما بالابتداع في الدين، وإما بالإعراض.

وأما النصارى فمنهم فِرَق، حيث تجتمع فيهم هذه الفرق كلها، فمنهم فرق قدرية، وأغلب النصارى قدرية فيما يظهر لي، والله أعلم.

منهج فرقة الإبليسية في القدر

قال رحمه الله تعالى: [ والفرقة الثالثة: وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونُقل عن أهل الكتاب ].

قال رحمه الله تعالى: [ فالمجوسية الذين كذبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم ].

سمي هؤلاء بالمجوسية؛ لأن أشهر من عُرف من الأمم بالتكذيب بالقدر هم المجوس، وهذا تسبب في أنهم عبدوا إلهين، وزعموا أن الشيطان هو خالق الشر، فعبدوه من دون الله، ويسمونه: إله الشر، وهم أكثر من تعمّق في هذه المسألة إلى حد أنهم ألّهوا الشيطان وعبدوه من دون الله، ولا يزال إلى الآن توجد فرقة في العراق هم من عبدة الشيطان، وهي نزعة أو فصيل من فصائل الاتجاه المجوسي، وإن كانوا ينتسبون إلى ديانة أخرى، والمهم أن هذه النزعة أصلها في المجوس، ويوجد مثلها أو ما هو أقل منها عند جميع الأمم، ونظراً لأن الله عز وجل قد كتب الافتراق على جميع الأمم، فإنه ما من فرقة من فرق الديانات الكتابية إلا وفيها فرقة مجوسية قدرية، وكذلك هذه الأمة حين كتب الله عز وجل أنها ستفترق، وأنها ستتبع سَنن من كان قبلها من الأمم، فقد تأثرت بسنن المجوس، فدخلت الفلسفة المجوسية إلى المسلمين من خلال مذهب القدرية الأولى، والتي أنكرت جميع مراتب القدر، بمعنى: أنها أنكرت علم الله عز وجل بالشر، وكتابته للشر، ومشيئته وخلقه، ثم نشأ عنها مذهب المعتزلة -لما رأوا قوة مواجهة السلف لهذا المذهب، وأن السلف كفّروا من يُنكر العلم والكتابة بقطعية النصوص- الذين تأولوا لأنفسهم وقالوا: بنفي قدر الله عز وجل فيما يتعلق بالمشيئة والخلق، وقالوا أيضاً: إن الله عز وجل لا يشاء الشر ولا يخلقه، ولذلك أُلزموا بأن يقولوا: بأن الإنسان خالق أفعال، وهذا إلزام عقلي حتمي؛ لأنهم إذا كانوا يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر الشر، ولم يشأه، ولم يخلقه، مع أن الله عز وجل قال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وقال: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، إلا أنهم مع ذلك حين قالوا بهذه المقولة قال لهم السلف: إذاً هذه الأفعال التي هي أفعال الشر وتقولون بأنها ليست من خلق الله، لابد أن يكون لها خالق، وبالنسبة للإنسان فلأنه نشأتْ منه أفعال الشر، فإنه يكون خالق أفعال، وعليه فهذا المذهب راجع إلى القدرية المجوسية.

قال رحمه الله تعالى: [ والفرقة الثانية: المشركية، الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148]فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة ].

سمي هؤلاء بالمشركية لأن غالب المشركين على هذا المبدأ، إذ إنهم يقرون بأن الله هو الرب سبحانه، وأنه الخالق، وأنه المدبّر، ولذلك جاءت أسئلتهم في القرآن، وبيّن الله عز وجل أنهم أقروا بهذه الأمور، لكن حينما جاءتهم الأوامر الشرعية والنهي، وعندما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وطلب منهم أن يعبدوا الله وحده، وطلب منهم مقتضى لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبوا الأمر والنهي، وبقوا على مجرد دعوى أنهم موحدون بتوحيد الربوبية، وهذا ما عليه كل من يقع في الشرك من الأمم، وممن ينتسب إلى الإسلام، فيزعمون بأنهم يعظمون الله عز وجل، وبأنهم يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويظنون هذا هو التوحيد، لكنهم يخلون بالأمر والنهي، إما بالابتداع في الدين، وإما بالإعراض.

وأما النصارى فمنهم فِرَق، حيث تجتمع فيهم هذه الفرق كلها، فمنهم فرق قدرية، وأغلب النصارى قدرية فيما يظهر لي، والله أعلم.

قال رحمه الله تعالى: [ والفرقة الثالثة: وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضاً من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله، كما يُذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونُقل عن أهل الكتاب ].

قال رحمه الله تعالى: [ والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال، وأما أهل الهدى والفلاح فيؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، وأحاط بكل شيء علماً، وكل شيء أحصاه في إمام مبين.

ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله، وقدرته، ومشيئته، ووحدانيته، وربوبيته، وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه، مما هو من أصول الإيمان ].

إثبات أهل السنة للأسباب

قال رحمه الله تعالى: [ ومع هذا فلا يُنكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57]، وقال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16]، وقال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة:26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب ].

هنا الأدلة صريحة بأن نسبة كل الأمر إلى الله عز وجل، وكل الأمر يأتي بالأسباب حتى الشر، كقوله عز وجل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] فالضلالة بأسباب، والهداية بأسباب، والأسباب كلها من الله عز وجل، وهذا يتبين بشكل أوضح من خلال الكلام القادم، لكن كيف يقال: بأن ننسب الشر إلى تقدير الله؟ نعم يقال ذلك؛ لأن الله عز وجل ما فعل ذلك ولا قدره إلا لحكمة؛ ليميز الخبيث من الطيب، والهدى من الضلال، وليميّز أيضاً بين أهل الهدى وأهل الضلال في النهاية، ولأن الدنيا دار امتحان، والامتحان لا يمكن أن يُميّز فيه بين الناجح وغير الناجح، بين الهالك والفائز، إلا بمثل هذا التمييز، كما قال الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] فمرد ذلك كله إلى حكمة الله عز وجل.

وهؤلاء غالباً يسمون بـ(أهل الكسب)، أي: كسب الأشياء، فيقولون: إن الله عز وجل يفعل عند الأسباب لا بالأسباب، وهذه فلسفة سيتكلم عنها الشيخ بتفصيل أكثر، لكن يقصدون بها أن الله عز وجل إنما يخلق القدرة للقادرين، فالإنسان الحي الذي يتحرك يخلق الله له القدرة على الحركة أثناء عزمه على الفعل، مع أنه لم توجد عنده قدرة لا قبل ولا بعد، وهذه فلسفة لا طائل تحتها، ولا تعدو أن تكون نوعاً من التحكم، وإساءة الأدب مع الله سبحانه، وكأن الله عاجز عن أن يجعل هذا الإنسان أو الحيوان قادراً على الفعل قبل أن يفعل بعده، ولذلك سموا بـ(أهل الكسب) بمعنى: أن الإنسان يكسب الشيء فجأة وصدفة من غير قصد.

قال رحمه الله تعالى: [ ومع هذا فلا يُنكرون ما خلقه الله من الأسباب، التي يخلق بها المسببات، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:57]، وقال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16]، وقال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة:26]، فأخبر أنه يفعل بالأسباب ].

هنا الأدلة صريحة بأن نسبة كل الأمر إلى الله عز وجل، وكل الأمر يأتي بالأسباب حتى الشر، كقوله عز وجل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [البقرة:26] فالضلالة بأسباب، والهداية بأسباب، والأسباب كلها من الله عز وجل، وهذا يتبين بشكل أوضح من خلال الكلام القادم، لكن كيف يقال: بأن ننسب الشر إلى تقدير الله؟ نعم يقال ذلك؛ لأن الله عز وجل ما فعل ذلك ولا قدره إلا لحكمة؛ ليميز الخبيث من الطيب، والهدى من الضلال، وليميّز أيضاً بين أهل الهدى وأهل الضلال في النهاية، ولأن الدنيا دار امتحان، والامتحان لا يمكن أن يُميّز فيه بين الناجح وغير الناجح، بين الهالك والفائز، إلا بمثل هذا التمييز، كما قال الله عز وجل: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] فمرد ذلك كله إلى حكمة الله عز وجل.

وهؤلاء غالباً يسمون بـ(أهل الكسب)، أي: كسب الأشياء، فيقولون: إن الله عز وجل يفعل عند الأسباب لا بالأسباب، وهذه فلسفة سيتكلم عنها الشيخ بتفصيل أكثر، لكن يقصدون بها أن الله عز وجل إنما يخلق القدرة للقادرين، فالإنسان الحي الذي يتحرك يخلق الله له القدرة على الحركة أثناء عزمه على الفعل، مع أنه لم توجد عنده قدرة لا قبل ولا بعد، وهذه فلسفة لا طائل تحتها، ولا تعدو أن تكون نوعاً من التحكم، وإساءة الأدب مع الله سبحانه، وكأن الله عاجز عن أن يجعل هذا الإنسان أو الحيوان قادراً على الفعل قبل أن يفعل بعده، ولذلك سموا بـ(أهل الكسب) بمعنى: أن الإنسان يكسب الشيء فجأة وصدفة من غير قصد.

قال رحمه الله تعالى: [ ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان، التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد ].

هؤلاء يقولون: إن الإنسان والحيوان لا يفعل بالأسباب، وإنما يفعل عندها، يعني: أن هناك قدرة موازية للعزم على الفعل، وهذه القدرة ليست موجودة عند الفعل، لا عند الإنسان ولا عند الحيوان، فمثلاً: القدرة على المشي لمن أعطاه الله عز وجل قدرة على المشي، أو أعطاه الوسيلة لذلك، لذا يقولون: كونه عنده قدمان سليمتان لا يعني أنه قادر على المشي، لكن إذا عزم على المشي وجدت القدرة، وهذه فلسفة لا تغني شيئاً، وإنما هي تحصيل حاصل، مع أن الله عز وجل قد أوجد عنده القدرة قبل أن يفعل وعندما يفعل وبعدما يفعل، وهذه راجعة إلى مسائل أخرى سيأتي الكلام عنها فيما بعد.

قال رحمه الله تعالى: [ كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله، وأضاف فعله إلى غيره، وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ].

وهذا ليس إلى ما لا نهاية، بل تنتهي الأسباب إلى قدرة الله عز وجل وإرادته، يعني: أن الأسباب ليست متسلسلة إلى ما لا نهاية، لكن القصد أن الأسباب تتسلسل إلى القدرة لله عز وجل حينما خلق بـ(كن) أو خلق بأسباب أخرى سبحانه.

قال رحمه الله تعالى: [ ولابد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه، فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده، قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] أي: فتعلمون أن خالق الأزواج واحد ].

قبل أن نتجاوز هذا، هناك مسألة مهمة في هذا الباب، إذا تصورها الإنسان سلم اعتقاده في هذا الجانب: وهي أن الله عز وجل جعل الأسباب متسلسلة إلى منشأ السبب الأول، وهو قدرة الله سبحانه، والتي أيضاً تكون لله عز وجل على ما يليق بجلاله، هذه الأسباب أحياناً قد تصل إلى مئات الأسباب، سبب وراء سبب .. وهكذا، حتى يرجع الأمر إلى القدرة الأولى والأخيرة، وهي قدرة الله سبحانه، فالله خالق كل شيء ومقدّر لكل شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن، فيكون، لكن إذا كانت مسألة الأسباب ستأتي فعلى سبيل المثال: حياة الإنسان والحيوان من حيث حياة الرطوبة وغيرها راجعة إلى الماء، فالله عز وجل جعل من الماء كل شيء حي، الماء ما سببه؟ المطر، والمطر ما سببه؟ البخار، والبخار ما سببه؟

إذاً: حسب ما يطلع الله عباده من الأسباب، وأحياناً يصلون إلى نهاية، قد تكون هناك أسباب غيبية أيضاً لا نعلمها، لكن ومع ذلك مرد الأمر في النهاية إلى المسبب الأول وهو الله عز وجل؛ لئلا نقول: إن الأسباب متسلسلة إلى ما لا نهاية فهذا لا يُعقل ويستحيل، لا بد أن تنتهي إلى نهاية وهي قدرة الله عز وجل ومشيئته.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ ولهذا من قال: إن الله لا يصدر عنه إلا واحد، لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، كان جاهلاً، فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء، لا واحد ولا اثنان، إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون، فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها، وبمحل يقبل الاحتراق، فإذا وقعت على السَّمَنّدَل والياقوت .. ونحوهما لم تحرقهما، وقد يُطلى الجسم بما يمنع إحراقه، والشمس التي يكون عنها الشعاع لابد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه، فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنه لابد من الإيمان بالقدر، فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نظام التوحيد. فمن وحّد الله وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ].

في بداية الكلام أشار الشيخ إلى مسألة هي في الحقيقة فلسفة، حيث أراد بها الرد على الذين عندهم النزعات الفلسفية، ومن تأثر بمقولة: إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذه فيها صيغ كثيرة عند طوائف من الفلاسفة، وأشهرها: أنهم يزعمون أن الذي يدير الكون على جهة التفصيل ليس هو الله عز وجل، لأن الله واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فينكرون الأفعال لله عز وجل، ولا يعتقدون أن الله فعّال لما يريد، ولذلك بعضهم وضعوا صنماً وسيطاً يزعمون أنه يدبّر الكون، وسموه بـ ( العقل الفعّال)، وتسميه الصوفية بـ (الغوث) أو (القطب)، فهذا عندهم هو الذي يحكم جزئيات الأفعال في الكون، ويخلق الأسباب ويدير الكون، وهذا ناتج عن نظرتهم التجريدية الإلحادية لله عز وجل، فهم لا يرون لله وجوداً فعلياً ذاتياً، ومن هنا لا يرون أن الله عز وجل يفعل، ويزعمون أن توحيده يقتضي تنزيهه من الفعل، ولذا نجد أثر هذه المقولة عند الفرق الكلامية من الجهمية مثلاً، إذ إنهم ينكرون الأسماء والصفات عموماً؛ لأنهم لا يرون أنه قابل للتسمية ولا الوصف، ومن ذلك ألا يُسمى خالقاً، ولا مدبراً، ولا فعّالاً، ولا يوصف بذلك.

ثم جاءت المعتزلة وخففت هذا الضلال، فأخذت بنصفه وتركت نصفه، فأثبتت الأسماء وأنكرت الصفات، وذلك ناتج عن أنهم لا يرون أن الله عز وجل قابل للوصف؛ لأن ذلك يلزم منه إثبات وجوده الذاتي، وإذا ثبت وجوده الذاتي ثبت علوه واستواؤه على عرشه، وأنه فعّال لما يريد، وهم ينكرون ذلك.

ثم تسلسلت هذه المقولة الخبيثة إلى علماء الكلام من غير المعتزلة، ممن يُنسبون للمتكلمين، وكذلك الذين ينتسبون للأشعري والماتريدي، فأنكروا أيضاً الصفات الفعلية لله عز وجل، ثم بعد ذلك أنكروا الصفات الذاتية، وكل ذلك أيضاً راجع إلى هذه النزعة، أي: أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، مع أنهم لا يصرّحون بها، لكنهم أخذوا بلوازمها، فأنكروا الأفعال لله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ ولابد من الإيمان بالشرع، وهو الإيمان بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، كما بعث الله بذلك رسله، وأنزل كتبه ].

قال رحمه الله تعالى: [ والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا، فإنه لابد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه، والأفعال التي تضره، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن الآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه.

وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم، بل الإنسان المنفرد لابد له من فعل وترك، فإن الإنسان همام حارث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام)وهو معنى قولهم: متحرك بالإرادة، فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها، ولابد أن يعرف ما يريده، هل هو نافع له أو ضار؟ وهل يُصلحه أو يفسده؟

وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم، كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب، وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم، وبعضه يعرفونه بالاستدلال الذي يهتدون به بعقولهم، وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم، وهدايتهم لهم ].

المعارف غير العقيدة، وهذا مما يجب التنبه له، لا سيما بعدما كثر الذين لا يفهمون العقيدة، وبدءوا يشككون في المسلّمات، زعماً منهم أن العقل هو الذي يقرر الثوابت، مع أن هناك فرقاً بين المعرفة والاعتقاد، فالمعرفة قد تتحول إلى اعتقاد وقد لا تتحول، والاعتقاد هو الأمر اللازم شرعاً، سواء كان مما تقتضيه الفطرة والعقل السليم أو لا تقتضيه، بمعنى: سواء كان مما ندركه أو لا ندركه.

ومن هنا فإن مفهوم العقيدة أخص وألزم من المعرفة، وعلى سبيل المثال: فإن العقول السليمة والفطر المستقيمة تُدرك كمال الله عز وجل، لكن هل كل عقل يُدرك ذلك؟ لا، فليس كل عقل يدرك ذلك، فبعض العقول قد يعتريها الخلل، والهوى، والنقص، والخواطر، والوساوس، والأوهام .. إلى غير ذلك، بل غالب العقول وأكاد أجزم أنه يندر أن يوجد العقل السليم الذي يقرر هذه الثوابت العلمية المعرفية، والتي هي ثوابت شرعية بموجب النصوص، ولذا أقول: إن العقول السليمة والفطر المستقيمة تقرر كمال الله عز وجل ووحدانيته، وأنه الخالق وحده، وتقرر وجوب العدل الذي هو من أصول الاعتقاد عندنا، ودفع الظلم عن الخلق، وتقرر حاجة الناس إلى شرع يحكمهم، وهذا الشرع ينبغي ألا يكون منهم، بل ممن هو عليم خبير بالخلق، والعقول السليمة تدرك ذلك.

ثم إن العقول السليمة أيضاً تُدرك ضرورة البعث، لكن ومع ذلك هل ممكن أن هذه المعارف تتحول إلى حقائق يقينية بدون ما يرد بها الشرع على جهة الإلزام؟ أقول: في الأمر شك؛ لأن البشر لا يطيع بعضهم بعضاً في المعارف، فلو أن واحداً من الناس أو مجموعة من الناس قرروا قضية فطرية، فإنهم لا يستطيعون أن يقولوا للناس: إنها لازمة، إلا بتكلف ودلائل وبراهين قد تقنعهم وقد لا تقنعهم، لكن إذا قالوا: هذا هو حكم الله الذي جاء من السماء، هذا الوحي المعصوم، أصبح عقيدة عند من يدين بالوحي، وهذا شيء.

والشيء الآخر: أن الفطر السليمة وافقت الشرع، لكن حينما وافقت الشرع هل جاءت لنا بالتفاصيل؟ هناك تفاصيل تتعلق بجميع القضايا التي تدركها العقول على الإجمال، وهناك تفاصيل لا يمكن أن تُدركها العقول إلا بالوحي، وهي مناط الاختبار والتكليف، فمثلاً: عندما تُدرك العقول كمال الله عز وجل، فهل تستطيع أن تصف الله وتسميه بأسمائه الحسنى كما جاء في الكتاب والسنة؟ لا؛ لأن من أوصاف الله عز وجل ما لا يمكن أن تصل إليها العقول ولو لم يرد في الكتاب والسنة، كإثبات الاستواء على العرش، واليد، والوجه، والنزول، والمجيء، والكلام .. وغير ذلك من الصفات الثابتة، والعقل السليم لا ينكرها ما دام أنها قد ثبتت، لكن قبل أن تثبت لا يستطيع أن يقول فيها بشيء، فمثلاً: البعث، فإن العقل السليم والفطرة يُدرك مجملات البعث، لكن هل يعرف عذاب القبر ونعيمه، والبعث، والحشر، والنشور، والصحف، والميزان، والصراط، وتفاصيل نعيم الجنة، وتفاصيل عذاب النار؟ كل ذلك لا تدركه العقول.

إذاً: المجملات لا تقرر العقيدة، وإنما تقرر المعارف فقط، والعقيدة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل لا تقررها العقلية السليمة استقلالاً، ولا الفطر المستقيمة استقلالاً، كما أن المجملات لا تنفع، فإن من المشركين من عقلاء الكفار الآن من يدرك هذه المجملات، وكتبوا في ذلك كتابات، وهي موجودة الآن، لكن هل تنفعهم؟ هل تدخلهم الإسلام؟ لا.

قال رحمه الله تعالى: [ وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يُعرف حسنها وقبيحها بالعقل، أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه، فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يُعلم بالعقل، وهو أن يكون الفعل سبباً لما يحبه الفاعل ويلتذ به، وسبباً لما يبغضه ويؤذيه.

وهذا القدر يعلم بالعقل تارة، وبالشرع أخرى، وبهما جميعاً أخرى، لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل، ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع، فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر، وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم، كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم، وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك.

وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان، وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50]، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45].

ولكن توهمت طائفة أن للحُسن والقبح معنى غير هذا، وأنه يعلم بالعقل، وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحُسن والقُبح يخرج عن هذا، فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحُسن والقُبح، العقليين أو الشرعيين، وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت ].

يعني: أنه لابد من التفصيل، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وسيأتي بيانه، ولذلك قالت المعتزلة: بأن الحُسن والقُبح عقليان، بينما الأشاعرة والماتريدية وبعض المتكلمين قالوا: الحُسن والقُبح شرعيان، والصحيح: أن الحُسن والقُبح منه ما هو عقلي، ومنه ما هو شرعي، فالعقول بالجملة تحسّن العدل والفضائل، وتحسّن التزام شرع الله، وتحسّن الخير، وتُقبِّح الشر والرذائل والظلم، لكن هذا على جهة الإجمال، أما التفصيل فلا بد أن يأتي به الشرع؛ لأن هناك أموراً لا تُدرك العقول حُسنها وقُبحها إلا بالشرع؛ لأنها غيب بحت خالص.

إذاً: التفصيل هو الصحيح، وكون العقول لها مدخل في التحسين والتقبيح لكن ليس على جهة التفصيل، فعلى هذا أخطأت الفئتان عندما بالغوا في التحسين والتقبيح، وقالوا: كل حسن هو ما حسّنه العقل، وكل قبيح ما قبّحه العقل، لذا فإن الشرع قبّح أشياء لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يقبّحها، والعكس كذلك، أي: أن هناك أشياء حسّنها الشرع لو لم يأت بها الشرع ما استطاع العقل أن يحسّنها.

قال رحمه الله تعالى: [ ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا، والسخط والفرح .. ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية، ودلت عليه الشواهد العقلية، تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح، هل ذلك ممتنع لذاته، وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح، وأنه سبحانه منزّه عن ذلك، لا يفعله لمجرد القُبح العقلي الذي أثبتوه؟على قولين.

والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين، أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال، والطاعة والمعصية، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، والرحمة والعذاب، فلا جعلوه محموداً على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم، ولا ما فعله من الإحسان والنعمة، وما تركه من التعذيب والنقمة، والآخرون نزّهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه، ولا حقيقة له، وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح، وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه ].

على أي حال هذه فلسفة، والوسط والتفصيل في هذه الأمور هو الحق، والظاهر من كلام الفلاسفة، وتبعهم المعتزلة في هذه المسألة بالذات، وبعض طوائف المتكلمين، أنهم قالوا: بأن الله عز وجل كونه لا يفعل القبيح راجع إلى أنه لا يتصور منه ذلك ولا يقدر عليه، ولذلك عبّروا عن الله عز وجل بعبارات منها: أنه لا يقدر ولا يفعل، وهذا من سوء الأدب مع الله عز وجل، والخوض فيما لا طاقة للعقول به، وهو أيضاً نوع من التكلّف الذي نهى الله عنه، ثم إنه يُلزم بإلزامات كلها باطلة، فلذلك الأولى للمسلم ألا يتحدث عن هذه الأمور، فإن الله عز وجل فعّال لما يريد، وهو لا يفعل الشر؛ لأنه ليس مقتضى الحكمة، فالله كما أنه فعّال لما يريد فهو سبحانه عليم خبير حكيم، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فلا يقال: إنه لا يقدر على فعل الشر، وكذلك العكس، والذين قالوا: إن هذا مقتضى ثوابت هي لازمة لله عز وجل، ليس بصحيح؛ لأن الله عز وجل لا يلزمه شيء.