شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والعشرون [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

إذا كنا قد ألممنا بمعنى الحديث إجمالاً، فإن في الحديث مواطن تثير السؤال، وتستوجب الإجابة، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نورد ما يسر الله من ذلك:

من تلك المواطن: قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة)، إلى أي حدود تكون الطاعة؟!

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ما نوع هذا الاختلاف؟ وما الفرق بين الاختلاف والمخالفة؟ وما هو موقف كل مسلم من الخلافات الموجودة بين الأئمة الأربعة؟

النقطة الثالثة: ما يوجد من بعض الإخوان من تتبع بعض الشواذ من الأحاديث غير المعمول بها، وإثارة مواضيعها؛ مما يسبب اختلافاً كثيراً بين الناس.

وفي حديث العرباض رضي الله تعالى عنه أن تأثير الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم، هو: أن وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، ويوجد في هذه الآونة بعض الناس إذا سمع موعظة ضعف أمام عاطفته، وأخذ يصرخ ويتواجد، وتأتيه حالات غير عادية، فما حقيقة هذا الموقف؟

هذه النقاط كلها ذات أهمية كبرى، ويتساءل عنها الإخوة من أول يوم تناولنا فيه هذا الحديث بالبيان، وبعد أن انتهى الكلام على مجمل الحديث، نعود إلى تلك النقاط، ونستلهم الله تعالى الرشد، ونستعينه ونستهديه.

أما النقطة الأولى حسب الترتيب الإيرادي في الحديث، فهي نقطة أثر الموعظة في قلب المؤمن.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن التواجد عند سماع الذكر أو الموعظة أمر جبلي، وإذا رق قلب المؤمن عند سماع الموعظة أو ذكر الله فقد تعتريه تلك الحالة، ولكن كان الصحابة يسمعون ما هو أعظم مما يسمعه أهل زماننا -أي: في زمنه في القرن السابع والثامن-، ولم يكن لهم تواجد ولا صراخ، فيقول: كانوا أقوى شخصية، وأثبت قدماً، عندما يسمعوا موعظة أو ذكراً، فهم ضبطوا أنفسهم، واستطاعوا السيطرة على عواطفهم وشعورهم، وكان ما يظهر منهم فوق طاقتهم هو ما وصفه العرباض رضي الله تعالى عنه: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون).

وهكذا يذكر كثير من العلماء -وخاصة المشتغلين بالتربية- أن الشخص الذي يتواجد ضعيف الشخصية، وضعيف التحكم في عواطفه، بحيث تستهويه بعض المواعظ أو بعض الذكر إذا تعرض إلى شيء من هذا القبيل، فالأكمل في الرجال هو القدرة على التحكم في عواطفهم في مثل هذه المواقف، وقد جاء أن من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، وقال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، وقال في الآية العظيمة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

النقطة الثانية في إيراد الحديث، هي قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد)، ويذكر العلماء أن من شروط ولي الأمر: حسن السلوك، والاستقامة، والمعرفة، والاجتهاد في دين الله لمصلحة عباد الله، فإذا كان عند التولية مستوفياً لشروطها، ثم طرأ عليه بعد ذلك ما ينقص هذه الشروط بأن ظهرت معصيته أو فسقه، أو عطل شيئاً مما يجب أن ينفذ، فماذا يكون موقف الأمة منه؟

وما مدى الإلزام في وجوب طاعة من لم يحكم بكتاب الله؟

وهذا السؤال وارد من قديم، ولما أنزل الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].. الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلم السلف في هذا المعنى، أتلك الآيات في اليهود والنصارى؛ لأنها جاءت عقب ذكر التوراة، وجاء بعدها: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، فهل هي في أهل الكتاب خاصة أم في هذه الأمة؟

من أراد الوقوف على النصوص في ذلك، فليرجع إلى أمهات التفسير مثل القرطبي وابن كثير ، وهما أوثق التفاسير، وابن جرير كما قال ابن تيمية : أولى التفاسير في الرواية تفسير ابن جرير، حيث يفسر بالسند وبالرواية عن سلف هذه الأمة، والحقيقة أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه ناقش القضية، وقال كما قال مجاهد: نزلت في أهل الكتاب، (وإنكم لتتبعون سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.

ولكن: ما حكم ولي أمر الأمة إذا لم يحكم بما أنزل الله؟

أنصح طالب العلم أن يرجع إلى كتب التفسير، وإلى كتب العقائد كالطحاوية، وهي من أسلم وأصح ما كتب في عقيدة السلف.

يتفق الجميع أن من لم يحكم بما أنزل الله من هذه الأمة له حالات:

الحالة الأولى: إن ترك الحكم بما أنزل الله معتقداً بأنه غير ملزم بذلك، وهو مخير إن شاء حكم به وإن شاء تركه، أو أنه لا يرى فيه المصلحة، ويرى أن ما تعارف عليه الناس أولى وأصلح، أو تركه استخفافاً به؛ فكل ذلك ردة عن الإسلام، وكفر مخرج من الملة.

إذاً: من ترك الحكم بكتاب الله، ويرى أنه مخير وليس ملزماً به، فهو رد لما أمر الله به، وإن ترك الحكم بما أنزل الله ويرى عدم صلاحيته، فهذا استخفاف بكتاب الله، وبأوامر الله؛ فهو كفر مخرج من الملة، وإن كان مستهيناً به لا يبالي به، فالحال كذلك.

الحالة الثانية: إذا ترك الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه حكم الله، وأنه من عند الله، وأنه يجب العمل به في خلق الله، ولكنه إما عجز عن تنفيذه أو غلبته نفسه وهواه وأعرض عن الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه آثم في إعراضه، وهو يعلم أن حكم الله هو الأحق وواجب التنفيذ، ولكن حال دون ذلك حائل، فتركه الحكم بكتاب الله -وهو يعلم أن الواجب تحكيم كتاب الله- كبيرة من الكبائر، أو كفر دون كفر، أو كفر بالنعمة، أو كفر بالتشريع، لكن لا يخرج من الملة، ويتفق أهل السنة أن مثل هذا الذنب داخل تحت المشيئة، لقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

ويقول بعض العلماء: الشخص العادي الذي يعلم أن في كتاب الله الأمر بالقطع والجلد: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]ومع ذلك يقدم على السرقة أو يقدم على الزنا فهل عمل بما حكم الله؟

إنه ارتكب معصية، وهو يعلم النهي عنها في كتاب الله، فيقول أهل السنة: لا نكفر أحداً بكبيرة، ولكن نترك أمره إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.

إذاً: ولي الأمر إذا ظهرت منه المعصية، وظهر منه ما يوجب فسقه، فماذا نفعل؟ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من صفات ولاة الجور تأخير الصلاة، وقال: (تعرفون منهم وتنكرون)، وقال: (فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، أي: رضي ما هم عليه، ووافقهم عليه، فهذا متابع ومشارك لهم، أما إذا لم يرض بذلك، وغاية ما في وسعه إنكاره بقلبه؛ لأنه لا يستطيع أكثر من ذلك فهو معذور، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمراء قالوا: (أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة).

وهذه الناحية خطيرة! ولا تنقضي في لحظات ولا في مجلس، ولكن الذي يهمنا التنبيه عليه: أنه لا يحق لأحد من الأمة أن يخرج على ولي أمرها لمجرد ظهور معصية أو فسق منه، وليس بأعظم من كبيرة في العقيدة دعا إليها الداعي في أوائل الدولة العباسية، حينما قالوا: بخلق القرآن، وامتحنوا العلماء، وسفكت الدماء، وامتحن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، وثبت على ما أصابه فيها، وبقي على ما يعتقده السلف بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومع ذلك فأهل الخير والصلاح ما قاموا على أولئك أصحاب تلك الدعوة، ولا نقضوا عهدهم، ولكن صبروا وصابروا حتى كشف الله تلك الغمة.

إذاً: الطاعة لولاة الأمر واجبة، ما لم يأمروا بما يعارض الإسلام ويعطل أركانه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلهم السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم، ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.

النقطة الثالثة هي قوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، لنعلم -أيها الإخوة- أن الاختلاف والمخالفة شيئان متغايران.

أما المخالفة فهي عن قصد وعمد، وأما الاختلاف فهو عن وجهة نظر بين اثنين فأكثر، واختلاف وجهات النظر لم تخل منها الأمة، بل ولا الأمم السابقة، وقد أورد علينا القرآن الكريم ما وقع من اختلاف في قضية واحدة، والله سبحانه وتعالى أعطى كلاً حقه، ولم يعتب ولم يؤاخذ أحد الطرفين، وذلك في القضية المشهورة بين نبي الله داود وابنه سليمان عليهما السلام في قضية الغنم التي نفشت في الحرث، وجاءوا إلى نبي الله داود فحكم بأن يعطى أصحاب الحرث من الغنم ما يعادل تلف حرثهم، وهذا إذا جئنا إلى قانون القضاء وجدناه حكماً عادلاً؛ لأن من أتلف شيئاً عليه تعويضه، وهؤلاء غنمهم أتلفت حرث القوم، فقال داود عليه السلام: يؤخذ من أغنامهم بقدر ما أتلفوا، ولما مروا على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، سأل: ماذا قضي لكم؟ قالوا: قضي بكذا.. قال: لو كنت أنا الذي أقضي ما قضيت بذلك، وأقضي بأن تسلم الغنم بكاملها إلى أصحاب الحرث، لينتفعوا بألبانها وأصوافها، ويسلم الحرث لأصحاب الغنم ليصلحوه حتى يعود كما كان، فتعود الغنم إلى أصحابها، ويتسلم أهل الحرث حرثهم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى كلا الحكمين: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]، يعني: أقر داود أنه قضى بحكم وعلم، وليس عن جهل، وكذلك سليمان شرك داود في الحكم والعلم، ولكن فهمناها سليمان، والقضاء يحتاج إلى الفهم أكثر منه إلى الحفظ؛ لأن فهم ظروف القضية هو صلب القضاء، وكما قالوا: معرفة المدعي من المدعى عليه صلب القضاء، وعلي رضي الله تعالى عنه لما ولاه رسول الله قضاء اليمن، قال: أتبعثني قاضياً وأنا لا أعرف القضاء؟ فقال: (إذا أتاك الخصم فلا تقضي له حتى تسمع من خصمه) إلى آخره، وعمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه في القضاء الذي يعتبر إلى الآن منهج القضاء في العالم كله، حتى إن أوروبا تأخذ بمنهج عمر في هذا القضاء، ويهمنا أنه كتب إليه: (إذا أدلي إليك فالفهم الفهم) أي: إن فهم القضية قبل كل شيء، والقاضي إذا لم يفهم القضية بتوجيهاتها كالسمك في الماء، أما إذا فهمها ورسم الخطة التي يسير الخصوم عليها فإنه يصل إلى نتيجة حتمية، وهكذا ما عاب الله على داود، ولكن أثنى عليهما معاً، ورجح جانب سليمان، وهو حكم في قضية واحدة.

وقد وقع الخلاف في صدر هذه الأمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الخلاف في غيبته وآل الأمر إليه فأفتى فيه، ووقع من بعده في عهد خلفائه الراشدين، ومن بعد الخلفاء وقع الخلاف بين أئمة الأمة رحمهم الله تعالى.

نماذج من الخلاف الذي وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه منه

وقع من الخلاف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور عديدة، ومن أهمها وأعظمها عند العلماء:

نقض اليهود للعهد حال وقعة الخندق، ثم رجع المشركون إلى ديارهم: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25]، وقد نقض اليهود عهدهم، وكانوا من قبل في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كتب صحيفة عهد بين المسلمين وبين اليهود، وكان مما اشترط على اليهود: أن يعاونوا المسلمين إذا دوهموا، وألا يعينوا عليهم عدواً إذا حاربهم، ولما قدر الله سبحانه وتعالى أمره في الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال بجنده، وأرسل عليهم الريح لتطفئ نارهم، وتكفئ قدورهم، وتقتلع خيامهم، قال أبو سفيان : لا مقام لكم، فانصرفوا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها، فإذا بالباب يطرق، ورجل يسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم مسرعاً، فنظرت فإذا دحية الكلبي يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع صلى الله عليه وسلم ونادى في الناس: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فجبريل جاء في صورة دحية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد ساعة العسرة، وكان ذلك قبل أن يؤذن العصر، فخرج الناس، وفي طريقهم إلى بني قريظة، وجب وقت العصر، فانقسموا إلى قسمين:

قال قوم منهم: لا صلاة إلا في بني قريظة، انتقل وقتها، وتعين صلاتها حيث أمر رسول الله في بني قريظة. وقال آخرون: لا، ليست المسألة على حرفيتها، بل على روحها ومعناها، وروحها ومعناها: أن نبادر بالذهاب إلى بني قريظة، وهذا وقت الفريضة، نصلي ونبادر بالمسير. فقسم صلى العصر في وقتها في مكانه، وقسم أخر صلاة العصر حتى جاء إلى بني قريظة، وكانت قد غربت الشمس، فصلوا العصر بعد غروب الشمس في بني قريظة، وهنا وقع الخلاف بينهم، فمن الذين نال موافقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضوا عليه الأمر، فما عاتب أحد الفريقين، ولا أنكر عليه، وهنا يقول العلماء: إذا جاء النص واختلف فيه السامعون، وعمل كل بما أداه إليه اجتهاده بقصد الوصول إلى تحقيق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فحينئذ قد أدى كل منهم ما عليه، فهؤلاء إن كانت الصلاة قد انتقل وقتها ومكانها إلى بني قريظة فالذين صلوا في الطريق صلاتهم في غير وقتها، وإن كانت الصلاة على وقتها كان الذين أخروها قد أخروها حتى خرج وقتها، فيلزم أحد الفريقين الإعادة.

ولكن: لما أقر الفريقين، ولم يعاتب المبادرين بالصلاة، ولم يعاتب المؤخرين، عرفنا أن كلا الفريقين محق ومعذور فيما ذهب إليه؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). هذا خلاف بين يدي رسول الله.

وخلاف آخر وقع قبل ذلك في أسارى بدر، لما جيء بهم وهم سبعون أسيراً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (ماذا نفعل بالأسارى؟).

فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بنو عمنا وإخواننا نقبل منهم الفداء، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فيكونون عوناً للمسلمين، ونستعين بالفداء الذي نأخذه منهم، فسكت، فقال عمر : يا رسول الله! أرى أن تمكن من كل إنسان منا قريبه فيضرب عنقه، حتى يعلم الكفار ألا هوادة بيننا وبينهم، فسكت، وقال آخر: يا رسول الله! أرى أن تجمعهم في وادٍ كثير الحطب، وتؤجج ناراً فتحرقهم، فسكت، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم ثم خرج، وهم يقولون: لا ندري برأي من يأخذ! ومن الغد يقول عمر رضي الله تعالى عنه: جئت فإذا رسول الله وأبو بكر والمسلمون يبكون، فقلت يا رسول الله! أخبروني على ماذا تبكون، فإن وجدت بكاءً بكيت معكم، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزل عذاب ما نجا إلا ابن الخطاب)، ثم قال: (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام حينما قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118])، ثم نزلت الآية: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ... [الأنفال:67] إلى آخره، فعاتب الله رسوله في أمر الفداء، ولكن أباحه لهم فاختلف أبو بكر مع عمر في بادئ الأمر، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى شقاق بينهم، وقضي الأمر من الله سبحانه وتعالى.

ومن الخلاف ما وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، وانتهى الأمر إليه، وذلك أن رجلين كانا في سفر، فلما لم يجدا ماءاً تيمما وصليا في الوقت، ثم وجدا الماء قبل انتهاء الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، ولم يتوضأ الآخر، عملان مختلفان! وهذا اختلاف وليس مخالفة، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا عليه الأمر، فقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين)، وقال للذي اكتفى بالتيمم ولم يتوضأ ولم يعد: (أصبت السنة).

ولسنا بحاجة بعد ذلك أن نقيم النقاش والخلاف في أي الطرفين أولى، هل الذي أصاب السنة أو صاحب الأجرين؟ وهل الذي أخذ الأجر مرتين خالف السنة؟ لو خالفها ما حصل على شيء، المهم أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الرجلين فيما عمل، وكل منهما خالف الآخر في عمله.

نماذج من الخلاف الجائز الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين

ومن الخلاف الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ما قدمنا من قضية أبي بكر رضي الله تعالى عنه في جمع القرآن في صحف، وكذلك ما كان في زمن أبي بكر مع عمر في قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، لما قال أبو بكر: (والله! لو منعوني عناقاً أو عِقالاً -أو عَقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)، فيقف عمر أمامه: يا أبا بكر ! أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟!) فقال أبو بكر : (يا عمر! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها؟) إن الزكاة من حقها، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، فشرح الله صدر عمر إلى ما ذهب إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنهما).

فهذه وجهة نظر خلاف وليست مخالفة. وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه صعد عمر أمير المؤمنين على المنبر، وأراد أن يحدد مهوراً للنساء، على قدر مهور زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته، فقامت امرأة وقالت: يا عمر! لم تحرمنا من شيء أحله الله لنا؟! قال: وما ذاك، قالت: في قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا [النساء:20]، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! ورجع عما كان يريد أن يفعل.

وكذلك في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، كانوا في طريقهم إلى الحج، وجاء المقداد بن الأسود إلى علي رضي الله تعالى عنه وقال: يا علي ! ألا ترى ما قال عثمان ! قال: وما يقول؟ قال: يقول: ليس هناك قران الحج والعمرة، وليس هناك إلا التمتع أو الإفراد، وفي رواية الموطأ: وعلي على يده أثر العجين والخبز، فدخل على عثمان فقال: ما هذا الذي سمعت منك؟! قال: شيء رأيته، فقال: ألم نفعل ذلك مع رسول الله؟! فلم يحر جواباً! قال: شيء رأيته ليكثر الوافدون إلى بيت الله، فقال علي : لبيك -اللهم- حجة وعمرة معاً، فـعلي كان مفردا،ً فأضاف العمرة إلى الحج في ذلك الموقف ليبين بأن السنة التي كانت زمن رسول الله يعمل بها ولا تعطل، فهل عارض عثمان علياً؟ هل تخاصم عثمان مع علي؟ لا، بل بقيا على ما هما عليه من الخير والمودة.

ولما جاء عثمان إلى منى وعرفات أتم الصلاة، فتحدث معه عبد الرحمن بن عوف، فبين له وجهة نظره، فقال: إني اتخذت أهلاً بمكة، ولي مال بالطائف، وإن الأعراب لما قدموا للحج قالوا: إن الرباعية في مكة صارت ركعتين، وأخشى أن يأخذ الأعراب مني ذلك، فأردت أن أتم الصلاة ليعلموا أن الرباعية على ما هي عليه، فقال له ابن عوف : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام يقصر، والأعراب يأتون من كل مكان، وكان أبو بكر كذلك، وكان عمر كذلك، وكنت أنت في أول خلافتك تصلي الركعتين، فلماذا؟

فما أجابه بشيء، ورجع ابن عوف من عنده، ولقي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقال له ابن مسعود : إذا صليت مع قومك فصل ما شئت، وإذا صليت معه فوافقه، وإني لأوافقه في الأربع، فقال ابن عوف : أما أنا فقد كنت أصلي مع قومي ركعتين، والآن أصلي أربعاً، مجانبة للخلاف.

وهكذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه، والخلاف في زمنه أكثر من أن يحصى!

خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى

كان الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم لا يريدون إلا الحق، ولا يقصدون إلا تطبيق كتاب الله وسنة رسوله، وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب، ومن أجود ما كتبه في ذلك كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وذكر فيه عشرة أسباب تؤدي إلى الخلاف بينهم، وكل معذور فيما ذهب إليه، وبين أنه ليس لأحد من الأئمة المعتبرين أن يخالف قصداً وعمداً نصاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله، حاشا وكلا، ولكن: قد يبلغه الحديث بسند لا يثق بصحته، أو يأتي الحديث له عدة معان، أو يظن أن فيه نسخاً أو غير ذلك، فيعمل بحسب ما يغلب على ظنه.

والأئمة الأربعة رحمهم الله متقاربين في الزمن فيما بينهم، فكان أبو حنيفة رحمه الله قبل مالك ، ومالك أدرك عهد أبي حنيفة ، ثم جاء الشافعي فأدرك مالكاً ، وأخذ عنه الموطأ، وقدم محمد بن الحسن صاحب أبي حنفية إلى المدينة فأخذ الموطأ عن مالك، وله موطأ خاص باسمه: موطأ محمد وقد مكث في المدينة ثلاث سنوات، وأحمد رحمه الله لقي الشافعي، وتداولوا وكانوا في الزمن متقاربين، ولكل واحد منهم مبادئ التزمها، وبنى عليها مذهبه، وأصبح لكل بعض الاختلافات التي أدى إليها اجتهاد كل منهم.

ومع ما كان بينهم من خلاف، فما كان يوقع بينهم عداوة ولا شحناء، بل كل يكن للآخر التقدير والتبجيل، ونعلم أن أحمد رحمه الله كان يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فيسئل: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور -وهو لا يرى الوضوء منه- أكنت تصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف سفيان الثوري وأمثاله؟ فالخلاف في وجهة النظر في حكم فرعي لا تؤدي إلى المخالفة بين المسلمين.

وهكذا -أيها الإخوة- كان أحمد يصلي مع الشافعي ، وكان الشافعي كان يصلي مع أحمد، والشافعي يصلي مع مالك مع أنه يرى أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء، ومالك وأحمد لا يريان النقض باللمس، والشافعي يقول: مجرد اللمس ينقض، ومع ذلك ما كان الشافعي يمتنع من الصلاة خلف مالك ، ولا كان يختلف مع أحمد.

وأصحاب الأئمة رحمهم الله فيما بينهم قد يختلفون إذا كانت المسألة موضع بحث أو موضع اجتهاد لا نص صريح فيها، ولقد وجدنا أحمد ينفرد بمسائل، وألفت المؤلفات كـ(مفردات مذهب أحمد)، وكذلك الشافعي انفرد بمسائل، ووجدنا ابن كثير ألف كتاباً (فيما انفرد به الشافعي عن الأئمة الثلاثة)، بل وجدنا الخلاف داخل المذهب الواحد، فهذا الدبوسي من علماء الأحناف يؤلف كتابه: (تأسيس النظر) جمع فيه مسائل خالف فيها أبو حنيفة أصحابه أبا يوسف ومحمد وزفر ، ثم مسائل أخرى خالف فيها أبو يوسف أصحابه: أبا حنفية ومحمد وزفر، ومسائل أخرى خالف فيها محمد أصحابه: أبا حنفية وأبا يوسف، وهكذا كل يخالف أصحابه في عدة مسائل، ولم يقع نزاع ولا خلاف في المذهب.

ورأينا رسالة لا زالت مخطوطة لـابن عبد البر بعنوان: (ما خالف فيه أصحاب مالك مالكاً)، يعني: أصحابه يخالفونه في بعض المسائل، ولم يقع النزاع ولا الخصومة بين المالكية أنفسهم.

وهكذا يوجد الخلاف فيما يقتضيه النظر، بلا نزاع ولا شقاق، ومما سبق يتبين لنا أنهم كانوا يختلفون لا ليخالف بعضهم بعضاً، ولكن ليصلوا إلى الحقيقة المرجوة، وإذا تحقق النص أو ظهرت الحقيقة فسرعان ما يتناولونها ويقفون عندها، وهذه قصة أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة الأول، يأتي مع الرشيد إلى المدينة، ويجالس مالكاً ، ويأتي البحث في مقدار الصاع، فقيل لـمالك: كم مقدار الصاع؟ فقال مالك: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فيقول أبو يوسف: لكنه عندنا ثمانية أرطال، كما قال بذلك إمامنا أبو حنيفة ، فقال مالك رحمه الله للجلساء عنده: من كان عنده صاع -تخرج فيه زكاة الفطر- من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الرجل ويخرج من تحت ردائه الصاع ويقول: حدثتني أمي عن جدتي أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر يقول: حدثني أبي عن جدي، والآخر: عمي عن جدي، والآخر: خالي عن كذا.. واجتمع عند مالك نحواً من خمسين صاعاً، يقول أبو يوسف : ونظرت فيها فإذا هي متقاربة، فأخذت واحداً منها وذهبت إلى السوق، وعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث، يقول أبو يوسف : فرجعت إلى العراق، وقلت لهم: جئتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: الصاع خمسة أرطال وثلث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: أبا حنفية ، فقال: وجدت أمراً لم أستطع له مدفعاً، وإلى الآن عند الأحناف أن مذهب أبي يوسف أن الصاع خمسة أرطال وثلث، والصاع عند محمد وعند أبي حنفية وزفر ثمانية أرطال، فهل اختلف أبو يوسف مع أصحابه وتنازعوا وانشقوا؟ لا والله!

ونذكر موقف مالك رحمه الله من الخلاف الذي لا يمكن أن يرفع، حينما جاء إلى دار الإمارة فطلب منه الرشيد أن يأته بالموطأ، ليقرأه على الأمين والمأمون ، فاعتذر مالك وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فقال: اجعل لنا موعداً، فجعل له موعداً، فجاء الخليفة إلى بيت مالك ! فأبطأ عليه مالك في الخروج، فقال: يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئنا فحبستنا على دارك، لماذا؟!

قال: أما طلبك إياي فقد علمت أنك ما طلبتي لمال ولا لرياسة وإنما للعلم، والعلم يؤتى إليه ولا يأتي، وإن موقف الخلفاء والأمراء على أبواب العلماء ليزيدهم شرفاً، بخلاف موقف العلماء على أبواب الملوك والأمراء، قال: أريد أن تقرأ عليّ كتابك، قال: يا أمير المؤمنين! إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: ما تريد؟ قال: في حلقة الدرس في المسجد مع عامة الناس، فامتثل لذلك، وعلم الخدم فهيئوا كرسياً للخليفة، فجاء مالك وجلس مجلسه وبدأ بحديث: (من تواضع لله رفعه الله) فقال: يعنيني، أخروا هذا الكرسي، وجلس فسمع، وبعد أن سمع من الموطأ قال: إني عزمت على أمر، قال: ما هو؟ قال: أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأبعث نسخاً منه إلى الأمصار، وأمنع أي مذهب سواه، وأحمل عامة المسلمين على ما فيه توحيداً لهم.

انظروا إلى هذا العرض أيها الإخوة! ماذا كان موقف مالك ؟! قال: لا يا أمير المؤمنين! لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وحدث كل بما سمع من رسول الله، واستقر عمل كل مصر على ما بلغهم عن رسول الله، فلا تغير على الناس ما هم عليه.

انظروا -أيها الإخوة- بعد هذا النظر! مع وجود الخلاف وإرادة حمل الناس على كتابه ما فرح بذلك، قال: لا، دع الناس على ما هم عليه.

وقع من الخلاف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور عديدة، ومن أهمها وأعظمها عند العلماء:

نقض اليهود للعهد حال وقعة الخندق، ثم رجع المشركون إلى ديارهم: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [الأحزاب:25]، وقد نقض اليهود عهدهم، وكانوا من قبل في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كتب صحيفة عهد بين المسلمين وبين اليهود، وكان مما اشترط على اليهود: أن يعاونوا المسلمين إذا دوهموا، وألا يعينوا عليهم عدواً إذا حاربهم، ولما قدر الله سبحانه وتعالى أمره في الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال بجنده، وأرسل عليهم الريح لتطفئ نارهم، وتكفئ قدورهم، وتقتلع خيامهم، قال أبو سفيان : لا مقام لكم، فانصرفوا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها، فإذا بالباب يطرق، ورجل يسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم مسرعاً، فنظرت فإذا دحية الكلبي يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع صلى الله عليه وسلم ونادى في الناس: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فجبريل جاء في صورة دحية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد ساعة العسرة، وكان ذلك قبل أن يؤذن العصر، فخرج الناس، وفي طريقهم إلى بني قريظة، وجب وقت العصر، فانقسموا إلى قسمين:

قال قوم منهم: لا صلاة إلا في بني قريظة، انتقل وقتها، وتعين صلاتها حيث أمر رسول الله في بني قريظة. وقال آخرون: لا، ليست المسألة على حرفيتها، بل على روحها ومعناها، وروحها ومعناها: أن نبادر بالذهاب إلى بني قريظة، وهذا وقت الفريضة، نصلي ونبادر بالمسير. فقسم صلى العصر في وقتها في مكانه، وقسم أخر صلاة العصر حتى جاء إلى بني قريظة، وكانت قد غربت الشمس، فصلوا العصر بعد غروب الشمس في بني قريظة، وهنا وقع الخلاف بينهم، فمن الذين نال موافقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضوا عليه الأمر، فما عاتب أحد الفريقين، ولا أنكر عليه، وهنا يقول العلماء: إذا جاء النص واختلف فيه السامعون، وعمل كل بما أداه إليه اجتهاده بقصد الوصول إلى تحقيق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فحينئذ قد أدى كل منهم ما عليه، فهؤلاء إن كانت الصلاة قد انتقل وقتها ومكانها إلى بني قريظة فالذين صلوا في الطريق صلاتهم في غير وقتها، وإن كانت الصلاة على وقتها كان الذين أخروها قد أخروها حتى خرج وقتها، فيلزم أحد الفريقين الإعادة.

ولكن: لما أقر الفريقين، ولم يعاتب المبادرين بالصلاة، ولم يعاتب المؤخرين، عرفنا أن كلا الفريقين محق ومعذور فيما ذهب إليه؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). هذا خلاف بين يدي رسول الله.

وخلاف آخر وقع قبل ذلك في أسارى بدر، لما جيء بهم وهم سبعون أسيراً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (ماذا نفعل بالأسارى؟).

فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بنو عمنا وإخواننا نقبل منهم الفداء، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فيكونون عوناً للمسلمين، ونستعين بالفداء الذي نأخذه منهم، فسكت، فقال عمر : يا رسول الله! أرى أن تمكن من كل إنسان منا قريبه فيضرب عنقه، حتى يعلم الكفار ألا هوادة بيننا وبينهم، فسكت، وقال آخر: يا رسول الله! أرى أن تجمعهم في وادٍ كثير الحطب، وتؤجج ناراً فتحرقهم، فسكت، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم ثم خرج، وهم يقولون: لا ندري برأي من يأخذ! ومن الغد يقول عمر رضي الله تعالى عنه: جئت فإذا رسول الله وأبو بكر والمسلمون يبكون، فقلت يا رسول الله! أخبروني على ماذا تبكون، فإن وجدت بكاءً بكيت معكم، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزل عذاب ما نجا إلا ابن الخطاب)، ثم قال: (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام حينما قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118])، ثم نزلت الآية: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ... [الأنفال:67] إلى آخره، فعاتب الله رسوله في أمر الفداء، ولكن أباحه لهم فاختلف أبو بكر مع عمر في بادئ الأمر، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى شقاق بينهم، وقضي الأمر من الله سبحانه وتعالى.

ومن الخلاف ما وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، وانتهى الأمر إليه، وذلك أن رجلين كانا في سفر، فلما لم يجدا ماءاً تيمما وصليا في الوقت، ثم وجدا الماء قبل انتهاء الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، ولم يتوضأ الآخر، عملان مختلفان! وهذا اختلاف وليس مخالفة، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا عليه الأمر، فقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين)، وقال للذي اكتفى بالتيمم ولم يتوضأ ولم يعد: (أصبت السنة).

ولسنا بحاجة بعد ذلك أن نقيم النقاش والخلاف في أي الطرفين أولى، هل الذي أصاب السنة أو صاحب الأجرين؟ وهل الذي أخذ الأجر مرتين خالف السنة؟ لو خالفها ما حصل على شيء، المهم أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الرجلين فيما عمل، وكل منهما خالف الآخر في عمله.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3185 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3134 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3115 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3067 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2994 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2890 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2876 استماع