خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/985"> د. راغب السرجاني . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/985?sub=8342"> سلسلة الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
سلسلة الصديق نعمة السبق
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا؛ إنك أنت الغفور الرحيم.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس الثالث من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه:
ما زلنا نستمتع بطرف من حياة الصديق رضي الله عنه، فوالله! إننا فعلاً نستمتع، وما زلنا نستمتع بحياة الصديق رضي الله عنه، ودراسة حياة الصديق تريح النفس، فعندما تحس بشيء من الظلم، أو شيء من التعب، أو شيء من اليأس أو شيء من الإحباط اذهب بسرعة واقرأ سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهو رجل من البشر وليس بنبي، ومع هذا يفعل كل هذا الخير، إذاً: هناك أمل كثير، فعندما نسمع عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول: قال الرسول وعمل كذا، لا نقدر أن نصل لفعله، ولكن هذا رجل ليس برسول، ويعمل بعمل الأنبياء رضي الله عنه وأرضاه.
فيبدو أن طاقة البشر أوسع مما نتخيل، ويبدو أن وسع النفس أرحب بكثير من اعتقادنا، ويبدو أيضاً أن الآية الكريمة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ليست آية تخفيفية كما يظن بعضنا، ولكنها آية تكليفية، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا الوسع فقط، ولكن هذا يعني أيضاً من زاوية أخرى أن الله عز وجل يكلف الوسع، والوسع كبير جداً، لكننا أحياناً لا نقدره؛ تخاذلاً منا وإنقاصاً لقدرات البشر.
والدليل على ذلك: أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والدليل على ذلك أيضاً: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين والصالحين في كل زمان، وفي كل مكان.
هؤلاء بشر، تلقوا منهجاً وساروا عليه، فسعدوا وأسعدوا غيرهم، هؤلاء بشر سمعوا كلاماً مثل الذي سمعناه تماماً، لكنهم أخذوه مأخذ الجد، فظهرت طاقات عجيبة أخفاها الله عز وجل في قلوب الناس، هذه الطاقات العجيبة في قلبي وقلبك، وفي قلوب كل الناس، لكن لا تخرج هذه الطاقات إلا بشروط، رأيناها مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إيمان بالله وبرسوله، وحب لله ولرسوله، وعمل بما قال الله ورسوله، إيمان وحب وعمل.
فاكتشف نفسك يا أخي! وفتش في قلبك عن طاقاتك، وفتش في قلبك عن طاقات الصديق ، وفتش في قلبك عن طاقات عمر ، فتش وستلاقي قوة لم ترها من قبل، فالله سبحانه وتعالى الحكيم خلق وصور ثم كلف وأمر.
والله سبحانه وتعالى كلف الخلق أجمعين بتكاليف ثوابت، ومن رحمته وعدله: أن وضع في خلقه ما يعينهم على أداء هذه التكاليف، وقد أمرنا جميعاً بما أمر به الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
والصديق لم يؤمر بعبادة خاصة، أو بتكاليف خاصة، أو بتشريعات خاصة، بل نفس المنهج، ونفس القانون، ونفس التشريع، ونفس الفجر الذي كان يصليه، ونفس الجماعة ونفس الزكاة والصدقة، ونفس الأخلاق الحسنة ونفس صلة الرحم وطاعة الوالدين، ونفس الابتسامة ونفس التواضع، ونفس الحمية للدين، ونفس التشريع بكامله التشريع أمر به الصديق ، وأمرنا به نحن، والصديق قد وفى، فأين نحن منه ومن أمثاله؟
فيا ترى هل وفينا وأدينا المنهج؟ ويا ترى كم عملنا من الذي علينا؟ كم في المائة من التكاليف الذي علينا عملناها؟ وكم في المائة من الوقت يصرف في أمور لم نؤمر بها، وكم في المائة من الوقت يصرف في أشياء نهينا عنها؟ وفي النهاية نحن بشر والصديق بشر، والاقتداء به ممكن، والسير على طريقه مستطاع.
وقد تحدثنا في المحاضرتين السابقتين عن صفتين رئيسيتين من صفاته رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب.
وفي هذا الدرس نتحدث عن سمة ثالثة مميزة جداً للصديق رضي الله عنه، وإن كان جل الصحابة تقريباً يقتربون من الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الصفتين السابقتين، أما هذه الصفة فقد تفرد بها الصديق ، وتفوق بها على سائر الصحابة أجمعين.
هذه الصفة من أهم ما نحتاج في حياتنا اليوم، وما أجمل أن يوجد جيل يتصف بهذه الصفة، ولو وجد لاشك أن النصر سيكون حليفه، وسيكون قريباً جداً إن شاء الله.
هذه الصفة الثالثة هي صفة الحسم والسبق وعدم التسهيل، الحسم في القرارات، والسبق إلى كل خير، وعدم التسهيل في أي قضية مهما صغرت في عين الإنسان، وهذه الصفة سمة واضحة جداً في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الشيطان كثيراً ما يمنع الإنسان من عمل الخير عن طريق التسويف، والتسويف جندي هام جداً من جنود الشيطان، وبالذات مع أهل الإيمان والتقوى، يقول له: افعل الخير، ولكن بعد يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين لا يقول له: لا تفعل الخير، فالشيطان ليس غبياً إلى هذه الدرجة، وعندما يؤجل الإنسان العمل ولو للحظات قليلة يكون معرضاً بشدة لترك هذا العمل، فإما أن ينسى العمل، وإما أن تحصل له ظروف تمنع من العمل، كشغل أو مرض أو تتغير الحماسة في القلب.. أو غير ذلك، بل إن الإنسان قد يموت.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العاقل الحكيم كان يفهم لعبة الشيطان جيداً، وكان يفهم لعبة التسويف، فما سمح للشيطان أبداً أن يلعبها معه.
فكان رضي الله عنه وأرضاه أستاذاً في الحسم، ونبراساً في الفقه، وتشعر أنه يتحرك في حياته بكاملها وقد وضع الآية الكريمة: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أمام عينيه، فهو في سباق دائم مع الزمن، وكأن اللحظة القادمة هي لحظة الموت، فلابد أن يكون جاهزاً، أو هي لحظة الفتنة، فلابد أن يكون ثابتاً.
ومن المؤكد أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال الصالحة فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وكثيراً ما يفصل بين الإيمان والكفر نصف يوم فقط، فيصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً فسبحان الله!
من يرى حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلم أنه كان دائماً يبادر بالأعمال الصالحة اتقاء الفتن التي تظهر فجأة على غير موعد سابق، فتعالوا نستمتع بصفحات من سبق الصديق ومن حسم الصديق رضي الله عنه:
أول ما يلفت الأنظار إلى الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام.
من المعروف أنه أول رجل أسلم، ما تردد وما نظر، وما قال: آخذ يوماً أو يومين أفكر، بل أسرع إليه إسراعاً، وهذا الأمر لافت للنظر جداً، وهو ما سيغير الشغل أو يغير بيته أو حتى يغير بلده، بل سيغير عقيدته التي عاش عليها 38سنة، فـالصديق لما أسلم كان عمره 38سنة.
أحياناً بعض الرجال يعتقدون أن من الحكمة التروي جداً جداً في الأمر وعدم التسرع، وأخذ الوقت الطويل في التفكير قبل الإقدام على أي خطوة من خطوات الحياة، وبالذات لو كانت خطوة مصيرية، هذا قد يكون صواباً في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عندما يكون الحق واضحاً جلياً مضيئاً كالشمس في كبد السماء يصبح التروي حينئذ حماقة، وتصبح الأناة كسلاً، وتصبح كثرة التفكير مذمة، هذا حدث مع قوم نوح، حدثنا ربنا عز وجل في كتابه الكريم عنهم، قال عز وجل على لسان قوم نوح: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ [هود:27] يعني: أولئك الذين يبدون آراءهم لأول وهلة دون تفكير ولا تمحيص هم الذين اتبعوك يعني: يلومونهم أنهم أسرعوا للإيمان مع نوح عليه الصلاة والسلام دون أن يترووا ودون أن يفكروا.
وسبحان الله! هؤلاء كمن يقول للآخر: ما رأيك في الشمس هل طلعت؟ فيسأل عنها فيقول: دعوني أفكر وأتروى، ويقول: يا ترى هل طلع وإلا ما طلع.
وما رأيكم في واحد عطشان وعلى حافة الهلكة ورأى نبعاً صافياً سلسبيلاً في الصحراء، يا ترى لو قعد وقال سآخذ يوماً أو يومين أفكر هل أشرب أو لا أشرب؟ ولو قعد يفكر يوماً أو يومين سيموت قبل أن يشرب، والذي يحصل مع أناس كثير ويحصل معنا أيضاً كثيراً أننا نفكر في الخير، فنظل نفكر في الخير اليوم واليومين والثلاثة والشهر والسنة، وثم نموت قبل أن نفعل هذا الخير.
فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه كان في عطش الجاهلية، فرأى نبع الإسلام فلماذا لا يشرب؟ كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يرى الحق بهذه الصورة تماماً فلماذا التردد والانتظار؟ والتردد ليس من الحكمة في هذه الأمور، وهو الرجل الحكيم العاقل عرض عليه الإسلام غضاً طرياً واضحاً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنار الله قلبه بنور الهداية، فلماذا لا يسلم؟ ولماذا لا يتبع الحق من أول وهلة؟
روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟) قالها مرتين صلى الله عليه وسلم وذلك لما حدث خلاف ذات مرة بين الصديق رضي الله عنه وبين أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلماذا هذه المكانة العالية للصديق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظروا إلى المسوغات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني قلت: أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فقلتم: كذبت، وقال
إذاً: هي فضيلة ولاشك أن أسرع للإسلام هذا الإسراع! ومرت الأيام، وصدق أولئك الذين كذبوا من قبل، لكن كان أبو بكر الصديق هو الفائز في الأجر والسبق.
ومن الناس من صدق بعد أيام من سماع الدعوة، ومنهم من آمن بعد شهور، ومنهم من آمن بعد سنوات، ومنهم من انتظر حتى تم الفتح ثم آمن، الجميع آمن، والجميع صدق، لكن الصديق فاز بها، قال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة:10-12].
فالأيام التي تمر لا تعود أبداً إلى يوم القيامة، ولاشك أن أولئك الذين تأخر إسلامهم أياماً وشهوراً وسنوات كانت الحسرة تأكل قلوبهم على أيام ضاعت في ظلمات الكفر، لكن الحسرة ما أعادت الأيام، ونحن أيضاً نتحسر على الأيام التي ما قدمنا فيها عملاً صالحاً لأنفسنا، والأيام تمر، ولاشك أن الذي سارع إلى الخيرات استمتع بهذه الأيام التي قضاها في الإيمان.
وفي النهاية مرت الأيام على هذا وعلى ذاك.
ونحن لا نقول هذا الكلام للتاريخ، نحن في واقعنا وحياتنا كثيراً ما نتردد في أعمال الخير، ونؤجل يوماً أو يومين، ثم نفعل الخير بعد ذلك، أو لا نفعله، فمرت الأيام وضاع السبق، قال عز وجل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10].
الأعمال لها أجران: أجر العمل ذاته، وأجر السبق فيه.
وقد يكون أجر السبق أعظم من أجر العمل ذاته؛ لأنه يكون بمثابة السنة الحسنة التي تسنها لغيرك فيقلدك فيها.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
وتعالوا نرجع للقرار العجيب الذي أخذه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إنه قرار الإسلام، هناك أناس يتهمون العاملين للإسلام بأنهم يريدون دنيا ويريدون حكماً، والمعاصي أقصر ألف مرة إلى الدنيا والحكم من الطريق الذي صار فيه الصديق ، هذا الطريق ترك فيه الدين الذي اعتاده عامة الناس إلى دين غيره جديد تماماً على الناس، ترك هذا الدين الذي فيه الأمن والأمان في ذلك الزمان إلى دين ستضيع معه الأموال والأولاد، وسيحارب معه مكة والعرب، بل والعالم أجمع، هذا القرار -قرار الإسلام- سوف يتبعه تعب ونصب، بل وجهاد حتى الموت.
إنه قرار يغير فيه المألوف؛ فالناس ألفت شيئاً سنوات وسنوات في أرض الجزيرة ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الصديق ليغير المألوف، وتغيير المألوف يحتاج إلى رجال من طراز خاص.
وهنا أمر آخر: ما معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار الصديق من بين كل الناس حتى يسر له بهذه الدعوة قبل غيره؟ المنطقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب ويدعو أحد أقاربه قبل الصديق ، وبالذات في هذه البيئة القبلية، فلماذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذهب -مثلاً- إلى أبي لهب أو إلى العباس أو إلى أبي طالب أو إلى غيره من العائلة الضخمة الكبيرة عائلة بني هاشم؟
لا يوجد تفسير لذلك إلا أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من أقاربه.
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في الصديق أموراً جعلته متيقناً أنه سيجيب، وأنه سيعين على أمر هذه الدعوة، وأنه سيكون له شأن لا يغفل في هذا الدين.
يا ترى ما هي هذه الأمور التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصديق ؟
نريد أن نقف وقفة ونحلل الموقف العجيب: لماذا كان الصديق أقرب للإسلام من غيره؟ ولماذا اختار الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق حتى يسر له بالرسالة؟ لكن قبل أن نقف ونحلل أود أن أشير إلى ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: نحن لا ندرس هذا التاريخ لمجرد العلم، بل نريد أن نتعلم السبق من الصديق رضي الله عنه، ونريد أن نرى ما هي العوامل التي جعلته سباقاً إلى الإسلام، وسباقاً إلى كل خير، فإن كانت بنا فلنحمد الله عز وجل، فسنكون سباقين، وإن لم تكن فلابد أن نستكملها في أنفسنا.
النقطة الثانية: هي رسالة خاصة إلى كل الدعاة، فأوقات الدعاة مهما عظمت فهي محدودة، ولن يستطيع المرء أبداً أن يدعو الناس جميعاً في وقت واحد، فلابد أن تختار، وكيف تختار؟ وبمن تبدأ؟ وكيف تقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختياره للصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى تدعوه؟
نحن سنرى صفات الصديق ، ونرى الناس الذين حولنا، والذي فيه هذه الصفات سيكون أقرب للدعوة، ولابد أن نعرف أن عملية الدعوة ليست عملية عشوائية، فالدعوة حسن اختيار، والدعوة براعة في التخطيط، والدعوة أصول وقواعد.
النقطة الثالثة الهامة: أن الهداية من عند الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو إلى الإسلام أبا طالب عمه، وحاول معه عشر سنوات كاملة، وأبت نفس أبي طالب إلا الكفر.
ثم ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الصديق فيستجيب له في لحظة، قال عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
والحقيقة أن عندي قناعة شخصية أن الله عز وجل كما اصطفى أنبياءه من بين خلقه فإنه أيضاً اصطفى من يساعدهم ويعاونهم، فعندي قناعة فعلاً أن الله عز وجل اصطفى جيل الصحابة فخرج جيلاً على أفضل ما يكون، خرج جيلاً يستطيع أن يحمل الرسالة التي من الواجب أن تصل إلى كل الأرض، والتي من الواجب أن تستمر إلى يوم القيامة، الرسالة التي تعبر حاجز الزمان والمكان، روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...) إلى آخر الحديث.
وأيضاً: أنا عندي قناعة والله! أن الله عز وجل اصطفى من الصحابة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ليكون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول، وليكون ساعده الأيمن في هذه الدعوة، وليكون خليفته بعد أن يموت.
إذاً: يجب ألا تغيب هذه الحقيقة أبداً عن أذهاننا، وهي قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
أول ما يلفت الأنظار في قصة الصديق رضي الله عنه أنه كان صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، بل كانا صديقين حميمين، وحقاً الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
فتعارفت روحا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه، وأحب كل منهما الآخر حباً لا يوصف، وإنه لفضل عظيم للصديق أن يختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقاً وحبيباً.
لاشك أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أهلاً لذلك، هذا الحب المتبادل بين الطرفين يفتح القلب، وينور العقل، ويرفع كثيراً من الحواجز التي توجد عادة بين عموم الناس، ويمهد الطريق لكل خير.
فرسالة لطيفة لكل الدعاة: لن تصل دعوتك إلى الناس إلا إذا أحببتهم وأحبوك حباً متبادلاً، ولابد أن يكون من نوع الحب الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصديق ؛ فإنه حب لم يبن على علاقة رحم، أو على مصالح مادية، أو على أغراض دنيوية، إنه الحب الذي يسميه الرسول صلى الله عليه وسلم الحب في الله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله.
فلا يمكن أن يكون إيمان من غير حب يصدق هذا الإيمان.
قد يقول قائل: أهل مكة جميعاً كانوا يحبون محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا صحيح، فلماذا لم يصل أحدهم إلى قلبه كما وصل الصديق رضي الله عنه؟
والجواب: أنه كان هناك توافق عجيب بين الشخصيتين العظيمتين: شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية الصديق رضي الله عنه.
ومن أجل أن نعرف قدر الصديق رضي الله عنه نعرف أنه كانت صفات الصديق تتوافق مع صفات خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
وإذا توافقت بعض صفات الفرد مع فرد ينشأ نوع من التجاذب بين الفردين.
فمثلاً: الكريم يحب الكريم الذي مثله، وينفر من البخيل، والأمين يحب الأمين الذي مثله، وينفر من الخائن.. وهكذا، وكلما ازدادت صفات التوافق بين الفردين ازداد التجاذب بينهما حتى يصل إلى حد يكون فيهما الفردان روحاً واحدة في جسدين، يفرح أحدهما فرحاً حقيقياً لفرح الآخر ويحزن أحدهما حزناً حقيقياً لحزن الآخر، ويألم أحدهما ألماً حقيقياً لألم الآخر، وكثيراً ما يقتنع رجل برأي رجل آخر، بل ويدافع عنه إلى نهاية المطاف، مع كون هذا الرأي محارباً من عامة الناس؛ ذلك أنه أصبح دون تكلف ولا افتعال كرأيه تماماً، والله لا أحسب أن رجلاً في أمة الإسلام كان شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
والمقصود: هو الشبه في الأخلاق والأفعال، وليس في الصور والأجساد.
الاشتراك في صفة الصدق والأمانة
ما الصفة الرئيسية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتهر بها في مكة قبل البعثة وبعدها؟
إنها صفة الصدق والأمانة، فعرف بالصادق الأمين، وتعالوا ننظر ما هي الصفة التي اشتهر بها الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ عرف بـالصديق، يعني: من كل صفات الرسول صلى الله عليه وسلم النبيلة عرف بالصادق الأمين، ومن كل صفات أبي بكر النبيلة عرف بـالصديق ، وهذه ملحوظة في غاية الأهمية.
ثم إن صفة الصدق هذه بالذات صفة في غاية الأهمية بالنسبة للداعية وأيضاً بالنسبة للمدعو؛ لأن الكذاب كثير الكذب والخائن كثير الخيانة وغالباً ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين أو يأتمن الآخرين؛ لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما يتصرف.
و أبو بكر لم يكن صادقاً فقط بل كان صديقاً، وكان يستقبح الكذب، وما أثر عنه كذبة واحدة لا في جاهلية ولا في إسلام، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره أبداً، بل هو يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟ ولن يشتهر بهذا عاماً أو عامين، بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم أموره، بل في كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض فيه الكذب؟ وكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟ وكيف يتوقع أن هذا الرجل الذي ترك الكذب على الناس يكذب على الله عز وجل؟ هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق رضي الله عنه، بل إنه لم يغب عن ذهن أي رجل عاشر محمداً صلى الله عليه وسلم، بل حتى من لم يرها مثل هرقل ملك الروم؛ فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان - وكان ما زال كافراً - : إنه لا يكذب، فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله.. وهكذا.
فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول فكره، وإن كانت جديدة تماماً، وهي رسالة أيضاً إلى الدعاة: كن صادقاً وابحث عن الصادقين.
اتفاق خديجة وابن الدغنة في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر
وأعجب من هذا التوافق في صفة الصدق نوع آخر من التوافق بين الصديقين الحميمين أشرنا إليه من قبل: لما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عاد مذعوراً إلى السيدة خديجة رضي الله عنه يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ثم أخبر خديجة رضي الله عنه بالخبر وقال لها: (لقد خشيت على نفسي، فقالت المرأة المؤمنة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذه هي المبررات التي من أجلها قالت السيدة خديجة : إن الله لن يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وهي جميعاً من صفات المروءة والنخوة والنجدة.
احفظ هذا الموقف وتعال انظر ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجراً إلى الحبشة، قال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر ! لا يخرج.
فما هي المسوغات أيضاً في هذا الموقف؟ استمع إليه وهو يبرر فيقول: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، سبحان الله! إنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن مشهوراً في العرب أن يوصف رجل بهذه الصفات، ولم يوصف بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيراً سرعة تلبية الصديق رضي الله عنه وأرضاه لدعوة الإسلام.
ولا نجد شخصاً فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي بين الصاحبين الجليلين، مما يؤكد أن الله عز وجل كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.
الاشتراك في صفة التواضع
وهناك توافق آخر في غاية الأهمية بين الصاحبين العظيمين: التوافق في صفة التواضع، والداعية المتكبر لا يصل بدعوته إلى الناس أبداً؛ لأن الناس يكرهون المتكبرين ولا يقبلون أفكارهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الخلق تواضعاً، ومع علو قدره ومكانته إلا أنه لم يكن يترفع أبداً على أي إنسان: حراً كان أو عبداً، غنياً كان أو فقيراً، ولذلك كان يصل بدعوته إلى الخلق أجمعين.
لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يؤمن كثير من أهل مكة؟ لماذا لم يؤمن مثلاً الوليد بن المغيرة ، مع أنه في قياسات هذا الزمن كان عاقلاً حكيماً؟ الجواب: لأنه كان متكبراً.
والدعوة وصلته بالفعل، ووصلت إلى قلبه، لكن كما قال عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] فماذا فعل الوليد ؟
قال وقال من معه كما حكى عنهم ربنا في كتابه العزيز: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عظيماً فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق ولا في عقيدة، وإنما تكون في وفرة مال، أو في سعة أملاك، أو في سلطان، لهذا الكبر المقيت صرفوا عن آيات الله عز وجل، قال عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].
و أبو بكر رضي الله عنه لم يكن من هذه الشاكلة، بل على العكس تماماً، كان الصديق متواضعاً شديد التواضع، ولم يكن تواضعه رضي الله عنه مختلقاً أو مصطنعاً، بل كان تواضعاً فطرياً أصيلاً في شخصيته، من أجل هذا عندما تأتي تقول لي: ما هي مواقف التواضع في حياة الصديق ؟
أقول لك: هذا السؤال في منتهى الصعوبة؛ لأن معناه: أنك تحكي حياة الصديق بكاملها، لكن أنا أختار موقفاً واحداً من حياة الصديق ، إنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب.
والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح.
خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال.
و الصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.
وسن الثامنة عشرة سن من هم في الثانوية العامة، ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده، إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن، فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه: والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
انظروا التربية الراقية التي على منهج النبوة، إنه يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بنفسه، ويربي كل الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير الشاب، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه، وإخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يمعن في التواضع فيطلب من الأمير الشاب على سبيل الاستئذان طلباً غريباً فيقول: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد جعل عمر بن الخطاب في جيش أسامة تحت إمرة أسامة ، والصديق يريد عمر للوزارة، والصديق هو الخليفة، لكنه لا يريد أن يكسر هيبة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يريد أن يكسر هيبة الأمير الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، فاستأذنه بأدب ولطف وقال: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل، فأذن له أسامة ، وعمر بن الخطاب لما كان يرى أسامة كان يقول له: مرحباً بك أيها الأمير؛ لأنه كان أميراً عليه.
هذا هو الصديق المتواضع، ورجل في هذا التواضع لا يمكن أبداً أن ينكر الحق إذا سمعه، وبالذات لو سمعه من أعظم المتواضعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا التواضع المتبادل بين الداعية والمدعو شرط لا يغفل لنجاح الدعوة.
الاشتراك في صفة البعد عن أماكن اللهو والفساد
وهناك توافق آخر ملحوظ بين الصاحبين الكريمين العفيفين: أنهما كان يبتعدان تماماً عن أماكن الفساد واللهو والشهوات والمعاصي على كثرتها في مكة، وإذا كان ابتعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الموبقات لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم فإنه من العجيب لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد تماماً عن هذه المنكرات حتى قبل إسلامه وما فيه أحد في مكة يحاسب على هذه الأمور، فهذه الأمور كانت منتشرة انتشاراً كبيراً جداً في مكة، ومع ذلك كان يبتعد عنها؛ لأنها ليست من مكارم الأخلاق، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يشرب خمراً في جاهلية ولا في إسلام.
روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة : أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها.
و الصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه.
ولو تخيلنا رجلاً كهذا تعرض عليه دعوة الإسلام ودعوة الأخلاق العظمى في الأرض وعلى لسان أفضل الناس أخلاقاً ماذا يكون رد فعله؟
من الطبيعي جداً: أن يقبلها، بل وأن يستمسك بها، فهي له خلاص من هذا المجتمع المتعفن بالمعاصي والشهوات والرذائل.
إذاً: الحب المتبادل والصدق المتبادل والمروءة المتبادلة والتواضع المتبادل والعفة المتبادلة كانت أموراً واضحة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا التوافق العجيب بين الشخصيتين سهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة كما سهل على الصديق رضي الله عنه وأرضاه قبولها.
ما الصفة الرئيسية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتهر بها في مكة قبل البعثة وبعدها؟
إنها صفة الصدق والأمانة، فعرف بالصادق الأمين، وتعالوا ننظر ما هي الصفة التي اشتهر بها الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ عرف بـالصديق، يعني: من كل صفات الرسول صلى الله عليه وسلم النبيلة عرف بالصادق الأمين، ومن كل صفات أبي بكر النبيلة عرف بـالصديق ، وهذه ملحوظة في غاية الأهمية.
ثم إن صفة الصدق هذه بالذات صفة في غاية الأهمية بالنسبة للداعية وأيضاً بالنسبة للمدعو؛ لأن الكذاب كثير الكذب والخائن كثير الخيانة وغالباً ما يصعب عليه أن يصدق الآخرين أو يأتمن الآخرين؛ لأنه دائم الظن أن الناس يفعلون كما يفعل، ويتصرفون كما يتصرف.
و أبو بكر لم يكن صادقاً فقط بل كان صديقاً، وكان يستقبح الكذب، وما أثر عنه كذبة واحدة لا في جاهلية ولا في إسلام، ورجل بهذه الصفات لا يفترض الكذب في غيره أبداً، بل هو يحسن الظن فيما يقال له، فما بالكم إذا كان الذي يحدثه رجل اشتهر بالصدق والأمانة حتى لقب بالصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟ ولن يشتهر بهذا عاماً أو عامين، بل أربعين سنة، ولم يشتهر بذلك في معظم أموره، بل في كل أموره، فكيف للصديق أن يفترض فيه الكذب؟ وكيف للصديق أن يفترض الكذب في رجل داوم على الصدق أربعين سنة؟ وكيف يتوقع أن هذا الرجل الذي ترك الكذب على الناس يكذب على الله عز وجل؟ هذا استنتاج بسيط لا يغيب عن عقل الصديق رضي الله عنه، بل إنه لم يغب عن ذهن أي رجل عاشر محمداً صلى الله عليه وسلم، بل حتى من لم يرها مثل هرقل ملك الروم؛ فإنه لما سأل أبا سفيان عن صدق النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان - وكان ما زال كافراً - : إنه لا يكذب، فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله.. وهكذا.
فالصدق المتبادل بين الداعية والمدعو من أشد عوامل قبول فكره، وإن كانت جديدة تماماً، وهي رسالة أيضاً إلى الدعاة: كن صادقاً وابحث عن الصادقين.
وأعجب من هذا التوافق في صفة الصدق نوع آخر من التوافق بين الصديقين الحميمين أشرنا إليه من قبل: لما نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عاد مذعوراً إلى السيدة خديجة رضي الله عنه يرجف فؤاده وهو يقول: (زملوني زملوني) ثم أخبر خديجة رضي الله عنه بالخبر وقال لها: (لقد خشيت على نفسي، فقالت المرأة المؤمنة: كلا والله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذه هي المبررات التي من أجلها قالت السيدة خديجة : إن الله لن يخزي الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وهي جميعاً من صفات المروءة والنخوة والنجدة.
احفظ هذا الموقف وتعال انظر ما قاله زيد بن الدغنة سيد قبيلة القارة وهو يسأل أبا بكر عن سبب خروجه من مكة مهاجراً إلى الحبشة، قال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر ! لا يخرج.
فما هي المسوغات أيضاً في هذا الموقف؟ استمع إليه وهو يبرر فيقول: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، سبحان الله! إنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة خديجة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن مشهوراً في العرب أن يوصف رجل بهذه الصفات، ولم يوصف بها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الاتفاق الملحوظ يفسر كثيراً سرعة تلبية الصديق رضي الله عنه وأرضاه لدعوة الإسلام.
ولا نجد شخصاً فيه هذا التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي بين الصاحبين الجليلين، مما يؤكد أن الله عز وجل كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة فقد اختار أبا بكر للصحبة.
وهناك توافق آخر في غاية الأهمية بين الصاحبين العظيمين: التوافق في صفة التواضع، والداعية المتكبر لا يصل بدعوته إلى الناس أبداً؛ لأن الناس يكرهون المتكبرين ولا يقبلون أفكارهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الخلق تواضعاً، ومع علو قدره ومكانته إلا أنه لم يكن يترفع أبداً على أي إنسان: حراً كان أو عبداً، غنياً كان أو فقيراً، ولذلك كان يصل بدعوته إلى الخلق أجمعين.
لكن إذا كان كذلك فلماذا لم يؤمن كثير من أهل مكة؟ لماذا لم يؤمن مثلاً الوليد بن المغيرة ، مع أنه في قياسات هذا الزمن كان عاقلاً حكيماً؟ الجواب: لأنه كان متكبراً.
والدعوة وصلته بالفعل، ووصلت إلى قلبه، لكن كما قال عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] فماذا فعل الوليد ؟
قال وقال من معه كما حكى عنهم ربنا في كتابه العزيز: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن عظيماً فقط، بل هو أعظم الخلق أجمعين، ولكن مقياس العظمة عند هؤلاء مقياس مختل، فالعظمة عندهم لا تكون في خلق ولا في عقيدة، وإنما تكون في وفرة مال، أو في سعة أملاك، أو في سلطان، لهذا الكبر المقيت صرفوا عن آيات الله عز وجل، قال عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].
و أبو بكر رضي الله عنه لم يكن من هذه الشاكلة، بل على العكس تماماً، كان الصديق متواضعاً شديد التواضع، ولم يكن تواضعه رضي الله عنه مختلقاً أو مصطنعاً، بل كان تواضعاً فطرياً أصيلاً في شخصيته، من أجل هذا عندما تأتي تقول لي: ما هي مواقف التواضع في حياة الصديق ؟
أقول لك: هذا السؤال في منتهى الصعوبة؛ لأن معناه: أنك تحكي حياة الصديق بكاملها، لكن أنا أختار موقفاً واحداً من حياة الصديق ، إنه موقف ينطق بتواضعه الفطري رضي الله عنه وأرضاه، هذا الموقف كان بعد أن تولى الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أشق وأصعب.
والإنسان قد يتواضع عندما يفتقر إلى تمكين أو سيادة أو سلطان، لكن أن يتواضع وهو في أعلى مناصب الدولة فهذا هو التواضع الحقيقي الواضح.
خرج الصديق رضي الله عنه يودع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتجه إلى حرب الروم في الشمال.
و الصديق حاكم الدولة، ويبلغ من العمر ستين عاماً، وأسامة بن زيد جندي من جنوده، ولم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.
وسن الثامنة عشرة سن من هم في الثانوية العامة، ومع ذلك الصديق الحاكم المسن يخرج يودع الجيش ماشياً على قدميه، وأسامة بن زيد الذي هو شاب يركب على جواده، إنه موقف في منتهى الغرابة، ولافت - جداً - للنظر، وطبعاً هذا الموقف لفت نظر أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله! لتركبن أو لأنزلن، فقال الصديق المتواضع رضي الله عنه: والله! لا تنزل، ووالله! لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة.
انظروا التربية الراقية التي على منهج النبوة، إنه يربي نفسه على التواضع، ويربي أسامة بن زيد على الثقة بنفسه، ويربي كل الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير الشاب، ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه، وإخلاص النية ووضوح الرؤية، ثم هو يمعن في التواضع فيطلب من الأمير الشاب على سبيل الاستئذان طلباً غريباً فيقول: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد جعل عمر بن الخطاب في جيش أسامة تحت إمرة أسامة ، والصديق يريد عمر للوزارة، والصديق هو الخليفة، لكنه لا يريد أن يكسر هيبة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يريد أن يكسر هيبة الأمير الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، فاستأذنه بأدب ولطف وقال: إن رأيت أن تعينني بـعمر فافعل، فأذن له أسامة ، وعمر بن الخطاب لما كان يرى أسامة كان يقول له: مرحباً بك أيها الأمير؛ لأنه كان أميراً عليه.
هذا هو الصديق المتواضع، ورجل في هذا التواضع لا يمكن أبداً أن ينكر الحق إذا سمعه، وبالذات لو سمعه من أعظم المتواضعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا التواضع المتبادل بين الداعية والمدعو شرط لا يغفل لنجاح الدعوة.
وهناك توافق آخر ملحوظ بين الصاحبين الكريمين العفيفين: أنهما كان يبتعدان تماماً عن أماكن الفساد واللهو والشهوات والمعاصي على كثرتها في مكة، وإذا كان ابتعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الموبقات لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم فإنه من العجيب لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد تماماً عن هذه المنكرات حتى قبل إسلامه وما فيه أحد في مكة يحاسب على هذه الأمور، فهذه الأمور كانت منتشرة انتشاراً كبيراً جداً في مكة، ومع ذلك كان يبتعد عنها؛ لأنها ليست من مكارم الأخلاق، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يشرب خمراً في جاهلية ولا في إسلام.
روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة : أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها.
و الصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه.
ولو تخيلنا رجلاً كهذا تعرض عليه دعوة الإسلام ودعوة الأخلاق العظمى في الأرض وعلى لسان أفضل الناس أخلاقاً ماذا يكون رد فعله؟
من الطبيعي جداً: أن يقبلها، بل وأن يستمسك بها، فهي له خلاص من هذا المجتمع المتعفن بالمعاصي والشهوات والرذائل.
إذاً: الحب المتبادل والصدق المتبادل والمروءة المتبادلة والتواضع المتبادل والعفة المتبادلة كانت أموراً واضحة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا التوافق العجيب بين الشخصيتين سهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة كما سهل على الصديق رضي الله عنه وأرضاه قبولها.
ثم تعالوا نفكر مع الصديق ، فأي دين سأترك كي أنتقل لهذا الدين الجديد؟ هل سأترك دين قريش؟ وما هو دين قريش؟ وأي شيء يعظمون؟ ولأي إله يسجدون؟ أيترك الصديق دين الإسلام ليعظم اللات أو العزى، أو مناة أو هبلاً؟ مستحيل، فـالصديق كان دائم الازدراء لهذه الأحجار، وكما يحكي هو فيقول: لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب.
يقول الصديق : فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، وطبعاً الصديق يسأله في سخرية منه، فإنه لا ينتظر من هؤلاء إجابة، وكان الناس يعلمون ذلك.
يقول الصديق : فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يجبني، فقلت: إن عار فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه، فمنذ أن بلغ الحلم كان هذا الاعتقاد في داخله أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، فكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلم علم اليقين أن هذه الأوثان ليست آلهة، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان ذكياً حاد الذكاء، ولم يكن يغيب عن ذهنه سفاهة هذه الأصنام، إذ كيف يعقل لصنم أن يخلق وأن يصور، وأن يهدي وأن يرحم، وأن يرزق وأن ينصر؟ كيف يعقل ذلك؟ وكيف يعقل أن بقرة تشرع؟ أو أن شجرة تحكم وتدبر؟
لم تكن هذه الأمور بالتي تغيب عن ذهن العبقري الفذ الصديق رضي الله عنه، فعلم ببساطة أن دين قريش دين منكر، وأن دين الإسلام هو دين الحق.
وعلم ببساطة أن لهذا الكون خالقًا، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول.
لما وضحت هذه الرؤية في عين الصديق رضي الله عنه ورأى حقيقة الإسلام وباطل الجاهلية وعلم الفرق بينهما قرر منذ اللحظة الأولى أن يغير الباطل إلى الحق، وأن يزيل المنكر ويقر المعروف، قرر أن يفعل ذلك مهما كانت التضحيات، فقرر أن يدخل في الإسلام حتى لو حاربته مكة والعرب، بل والعالم أجمع، قرر هذا كله لأنه كان رجلاً إيجابياً، والرجل الإيجابي قلبه يأكله لما يرى منكراً ولا يهدأ له بال، ولا يستريح له قلب، ولا تسكن له جارحة إلا عند تغيير المنكر إلى معروف، وهذه والله! من أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه.