خطب ومحاضرات
سلسلة الصديق شروط الاستخلاف
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين.
اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس التاسع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد تكلمنا في الدرس السابق عن اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفة للمسلمين، وذكرنا في الدرس السابق ما تم من بيعة الصحابة جميعاً بغير استثناء، فبايع المهاجرون وبايع الأنصار وبايع أيضاً علي بن أبي طالب في اليوم الثاني، وبايع الزبير بن العوام أيضاً في اليوم الثاني، وبايع سعد بن عبادة بعد عدة أيام، وهكذا أجمع المسلمون إجماعاً لا شبيه له في تاريخ أمة من الأمم على رجل واحد، أجمعوا على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وذكرنا في الدرس السابق أنه مما يرفع قدر الصديق إلى أعلى الدرجات أنه كان يقارن بمجموعة من العمالقة الأفذاذ يقارن بجيل السابقين، ومع ذلك فمن الواضح أن الصحابة جميعاً كانوا مهيئين نفسياً لقبول أبي بكر زعيماً عليهم، واضح أنه حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الصديق بارزاً في المكانة وسابقاً في الفضل، وكان الناس جميعاً يضعونه في مكان مختلف عن بقية الصحابة، ولذلك سهل عليهم ترشيحه وانتخابه ومبايعته بهذه الصورة غير المتكررة.
وتعالوا بنا نرى تعليقات الصحابة على هذه الشخصية الفريدة في التاريخ الإسلامي.
وتعالوا بنا أيضاً نرى تعليقات الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل.
وبعد أن نرى هذه التعليقات سنعرف أنه كان طبيعياً جداً أن يجتمع الصحابة على اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه هذا الاجتماع الفريد.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير
وفي رواية الطبراني زاد: (فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره).
وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر قال: كنا لا نعدل بـأبي بكر أحداً، ثم عمر ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم.
وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون -يعني: ونحن كثرة- نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت).
وأخرج الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ).
والذهبي رحمه الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا متواتر عن علي رضي الله عنه، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم، والرافضة هم طائفة من الشيعة رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلمة ( أحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ليست استنتاجاً من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بل الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بها من قبل، فقد روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال:
وروى الطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، أي: انتقص من المهاجرين والأنصار.
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت، قال
فهل ترون إحساس أنس رضي الله عنه وأرضاه بـالصديق وبـعمر رضي الله عنهما؟ هذا كان إحساس كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فدخل المسجد و
وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم
وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى
وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر : (أنت صاحبي على الحوض -أي: على الكوثر- وصاحبي في الغار)، وطبعاً الصحبة في الغار فضيلة ولا شك للصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وهذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه على باقي الصحابة، وليست كل ما ورد في حق الصديق رضي الله عنه، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السنة يتفقون على أفضلية الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الدرجة العالية من الفضل ومن الإيمان جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن إلى إيمان الصديق وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، يعني: إذا كان الصديق ليس موجوداً فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يعرف ماذا يختار، وهذه درجة عالية جداً في الفضل، بمعنى: أنه إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عجيباً غريباً قد يشك فيه بعض الناس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق .
وتعالوا بنا نرى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس فقال: بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت -أي: البقرة-: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بهذا أنا و
وهنا ملحوظة: في معظم الأحاديث التي يأتي فيها أبو بكر وعمر أو كل الأحاديث التي يأتي فيها أبو بكر وعمر يقدم أبا بكر على عمر رضي الله عنهما وأرضاهما، فمعنى ذلك: أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مقدم دائماً على عمر رضي الله عنه.
إذاً: ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه للخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأحاديث السابقة وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعاً كانوا يعتبرونه أفضلهم وأقربهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلاهم منزلة في الدنيا وفي الآخرة، هذا كله سهل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل هذا الأمر في التقديم على غيره من الصحابة لم يكن خافياً حتى على المشركين، فقد كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر الصحابة قرباً له.
ونحن رأينا في الهجرة لما اكتشف المشركون خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته وبعدما كانوا يحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شيء فعلوه ذهبوا إلى بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابد أن الصديق يعرف مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها وأرضاه على وجهها حتى أطار قرطها.
وقد ذكرنا القصة قبل، والشاهد منها: أن المشركين كانوا يعلمون أن أبا بكر الصديق هو الرجل الثاني في دولة الإسلام.
وفي يوم أحد لما هزم المسلمون وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، والزعيم الأول هو بلا شك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو سفيان : أفيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فلم يجيبوه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرهم ألا يجيبوه، فلم يجبه الصحابة، فماذا قال أبو سفيان ؟ لقد قال مباشرة: أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه أيضاً.
إذاً: أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فلما لم يجيبوه قال: أفيكم عمر ؟ سبحان الله! أترون الترتيب؟ فلم يجيبوه أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم من الإجابة.
هؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان : أما هؤلاء فقد كفيتموهم، يعني: أن هؤلاء الثلاثة ماتوا؛ لأنهم لا يردون، هنا لم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه نفسه فقال: يا عدو الله! إن الذي ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك، ثم كان بينهما حوار طويل ليس المجال الآن لشرحه.
الشاهد من هذه الأمور: أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غاب أو مات.
وبفضل الله عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون أيضاً بفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين وطائفة من الشيعة وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة؛ ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو قل: إنهم يعرفون وينكرون؛ لأهداف خبيثة في نفوسهم، وللأسف الشديد هذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإلى الطعن في نزاهة الصحابة الذين اختاروه هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة فيها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين.
وأيضاً في ظل الهجمة الصليبية واليهودية الشرسة على دين الإسلام وعلى المسلمين، فالطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة وفي أقسام التاريخ وأقسام السياسة في بلاد المسلمين، فلابد للمسلمين من وقفة، ولابد لعلماء المسلمين من انتباه، ولابد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق وفضل الصحابة، ويعلموه أولادهم وتلامذتهم، فوالله! إن الدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في عمقه فعلاً، وليست القضية طعناً في فرد من الأفراد، بل هو طعن في أساس الدين، وعلى المسلمين أن يحذروا.
وهنا سؤال هام؟ يقول بعض العلمانيين والمتشككين: آمنا بفضل الصديق ومكانته وإيمانه وتقواه لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم وورعهم؛ لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فمثلاً: لم يعط الإمارة لـأبي ذر ، وقال له: (إنك امرؤ ضعيف)، بينما ولى عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل، ولاه لأنه أبصر بالحرب، يعني: يقولون: قد يكون هناك من هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي؛ لأن الأيام أثبتت بعد ذلك كفاءة الصديق كخليفة وكقائد، أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا أننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع -كما يقولون- الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، فنقول لهم: ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟
الإسلام والبلوغ والذكورة
الشرط الأول يتفق فيه كل الصحابة وهو: الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانياً أو يهودياً مثلاً، ولكن للأسف في بعض البلاد الإسلامية التي غالب سكانها من المسلمين يحكمها نصراني، مثل نيجيريا، فإن 90% من السكان مسلمون، ومع ذلك الحاكم نصراني ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الشرط الثاني: البلوغ، وهذا أيضاً متحقق في كل الصحابة المرشحين للخلافة.
الشرط الثالث: الذكورة، فلابد أن يتولى أمور المسلمين -وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها- رجل، وبعض البلدان الإسلامية يُجعل على رئاستها امرأة، فلعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمام.
فشرط الذكورة يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة.
وهذه الشروط والشروط التي ستأتي بعد ذلك ليست من كلامي، بل هذه الشروط جاءت في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي رحمه الله وجاءت في كتاب أحكام القرآن للقرطبي رحمه الله، واتفق عليها عامة علماء المسلمين.
العدالة
إذاً: هذه شروط ثلاثة: الإسلام والبلوغ والذكورة، ولا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد، ثم يأتي شرط هام، شرط العدالة: الصحابة جميعاً عدول باتفاق العلماء، والعلماء يعرفون العدالة فيقولون: العدالة هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، وانتبه لكلمة (ملازمة)، فملازمة التقوى والمروءة يعني: أن يكون في حالة مستديمة من التقوى والمروءة، والتقوى وإن كانت من الأعمال التي تحتاج إلى توافق بين الظاهر والباطن وبين السر والعلن إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، يعني: لا نختار الخليفة على أساس القلب؛ فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطلق فإن تعريف التقوى المطلوب في الخليفة هو: اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة، فلا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولابد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، يعني: لا ينفع أن يكون لا يصلي، ولا ينفع أن يكون لا يدفع الزكاة، ولا ينفع أن يكون لا يصوم رمضان، ولا ينفع أيضاً أن يكون فاعلاً للكبائر الأخرى مثل شرب الخمر أو الزنا أو المجاهرة بفحش القول أو العمل أو القتل بغير حق أو الاستهزاء بالدين.
أيضاً لابد أن يجتنب البدعة، فضلاً عن أن يدعو إليها، فلابد أن يتصف بالتقوى والمروءة.
والمروءة يعرفها العلماء: أنها التنزه عن الخسائس والنقائص التي قد تكون مباحة، يعني: ممكن أن تكون حلالاً لكن لا تصح في حق الخليفة، هذه أيضاً ترتبط بالشرع وترتبط بالعرف، فمثلاً: كثرة المزاح وضياع الهيبة هذه أشياء تسقط مروءة الرجل وإن كان صادقاً في مزاحه، وطبعاً الموضوع فيه تفصيل كبير ليس المجال الآن لشرح هذا التفصيل.
فشرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقياً صاحب مروءة، وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو أكثرهم عدالة وأعظهم تقوى وأشدهم مروءة؛ لما سبق من الأحاديث، ولشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة.
ثم تأتي بعد هذا الشرط شروط في غاية الأهمية، هذه الشروط تحتاج منا إلى بعض البحث في أحوال الصحابة؛ لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، والشروط المتبقية ثلاثة:
الشرط الأول: الشجاعة والقوة والنجدة.
الشرط الثاني: العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة.
الشرط الثالث: حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور.
وهناك شرط رابع تكلمنا عليه قبل، وهو شرط أن يكون من قريش، وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا وفصلنا فيه في الدرس السابق.
تعالوا بنا نتعرف على هذه الشروط الثلاثة وأين موقع الصديق منها:
الشجاعة
أولاً: شرط الشجاعة والقوة والنجدة؛ لابد لخليفة المسلمين أن يكون شجاعاً قوياً وإلا ضاعت هيبة البلاد، فقرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت، بل يطلبه، فإذا تردد الخليفة في نفسه ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين فقد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن، فأين الصديق رضي الله عنه وأرضاه في صفة الشجاعة؟
روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟
هذا الموقف العصيب فيه محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة ودافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول وعلى حياة الصديق نفسه، فإذا انتهكت حرمة الدين أو حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الصديق لا ينظر لنفسه أبداً.
وتعالوا بنا نرى هذه الرواية اللطيفة التي رواها البزار في مسنده، وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عند شرحه للحديث السابق، هذه الرواية: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ وفي ذلك الوقت كان علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، قالوا: أنت؟ قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني من أشجع الناس؟ يعني: أنا شجاع لكن هناك من هو أكثر شجاعة مني، فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال علي : أبو بكر ، شيء غريب جداً، من كل الصحابة اختار أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون أكثر الناس شجاعة في رأي علي بن أبي طالب ، فبدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسر لهم قال: إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ يقول سيدنا علي : فوالله! ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟ ثم رفع علي رضي الله عنه وأرضاه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون.
يعني: لأن ذاك رجل يكتم إيمانه، أي: مؤمن آل فرعون، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ [غافر:28]، والصديق أعلن إيمانه.
فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل المشاهد والغزوات بما في ذلك أحد وحنين، حيث فر معظم القوم، ولم يبق معه إلا القليل، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هؤلاء القليل.
وهنا شيء مهم: شرط الشجاعة في الخليفة يقصد به الشجاعة في القلب والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال أو هو أقواهم جسداً، ولكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف حتى وإن كان على حساب حياته، ولا يشترط في الخليفة أن يقاتل بنفسه حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسداً، وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحياناً رضي الله عنه وأرضاه وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك، ففي حروب الردة خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غزوا المدينة المنورة، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان رجلاً نحيلاً ضعيفاً في بنيته إلا أنه كان أشجع الصحابة، كما في قرار حروب الردة وقرار فتح فارس والروم.
نعم هناك من الصحابة من هو أقوى منه جسداً وهناك من هو أمهر منه حرباً ورمياً لكن هذا لا يشترط في الخليفة، إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال، لذلك ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل؛ لأن عمرو بن العاص في هذه الجزئية يتفوق، لكن في شمول معنى القيادة للخلافة وللدولة لاشك أن الصديق فاق الجميع.
وأضرب مثلاً يوضح هذا الأمر: ذكرنا في درس إنكار الذات موقف الصديق وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نال منه المشركون وتورم وجهه رضي الله عنه وأرضاه وكاد أن يموت، ففي هذا الموقف نجد أن الصديق دفعته شجاعته إلى الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن له طاقة بالمشركين، فضربوه، وهذا لا يطعن أبداً في شجاعته، بل على العكس الرجل الجسيم القوي الضخم قد يخفي في داخله قلباً ضعيفاً يخشى الموت ويطلب الحياة، بينما الرجل النحيل الضعيف إذا أقدم على مهلكة واضحة كان هذا دليلاً على شجاعته وبأسه واستهانته بالموت وطلبه للشهادة ويقينه بالأجل، وهذا كله مما يرجى في خليفة المسلمين.
وتعالوا بنا نرى موقفاً آخر من مواقف الشجاعة للصديق رضي الله عنه وأرضاه:
روى ابن إسحاق في سيرته وابن كثير في تفسيره وغيرهم: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل بيت المدراس على اليهود، وبيت المدراس هو بيت يدرس فيه اليهود التوراة، وكان دخول أبي بكر هذا في أول العهد المدني، يعني: في زمن المعاهدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ممكناً في المدينة بعد، وكان لليهود قوة لا يستهان بها في المدينة من سلاح ورجال وقلاع وأموال، وأبو بكر يدخل على اليهود في عقر دارهم في بيت المدراس وقد اجتمع عدد ضخم من اليهود هناك، وأبو بكر بمفرده، دخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم، وكان يعلم الناس التوراة، فقال أبو بكر لـفنحاص : ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله! إنك تعلم أن محمداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أخذته الحمية للدين لما رأى فنحاص يعلم الناس التوراة المحرفة ويبعدهم عن دين الله عز وجل، ولم يفكر أبو بكر أنه وحيد في جحر الثعالب، بل كل ما فكر فيه هو دين الله عز وجل ودعوة الإسلام، لكن فنحاص كان إنساناً شريراً قاسي القلب سيئ الأدب كعادة اليهود، فقال للصديق رضي الله عنه وأرضاه ما لم يتوقع الصديق أبداً أن يسمعه من إنسان، قال: والله! يا أبا بكر ! ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير!! وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا!! وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، سبحان الله وتعالى عن هذا الكلام الفاحش، ويقصد قول الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245] فـفنحاص يقول: إن الله عز وجل يستقرضنا وسيعطينا مكانه أضعافاً كثيرة، فكأن هذا ربا وهو قد نهى عن الربا، وسبحان الله! إنه أمر عجيب وعقول مختلة وقلوب ميتة، فـفنحاص قال هذا الفحش العجيب، فماذا كان رد فعل الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو يقف وحيداً أمام جموع اليهود وفي بيتهم بيت المدراس؟ هاهو دين الله عز وجل ينتقص أمام وجهه وهو قد جعل لنفسه قانوناً لا ينساه؛ أيتنقص الدين وأنا حي؟ هكذا كان يردد رضي الله عنه وأرضاه، فماذا رد عليه الصديق ؟.
فـالصديق لم يرد بلسانه الصديق ، بل فاجأنا وفاجأ فنحاص وفاجأ اليهود بغضب شديد عظيم لم يشعر بنفسه إلا وهو يرفع يده فيضرب فنحاص في وجهه ضرباً شديداً ليست ضربة واحدة ولكن ضربات متتالية حتى سالت الدماء من وجه فنحاص ، وتورم وجهه، وقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفسي بيده! لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله!
واليهود مع كونهم كثرة إلا أنهم إن رأوا ثباتاً من الذين أمامهم تدب في قلوبهم الرهبة ويملكهم الرعب والهلع، فاليهود لم يستطيعوا فعل شيء, وما تحرك منهم رجل واحد، لكن فنحاص ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! انظر ما صنع بي صاحبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر : (ما حملك على ما صنعت؟)، وطبعاً أتى وهو مليء بالدماء والجروح، فقال أبو بكر : يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال وضربت وجهه، فما هي ردة فعل فنحاص ؟ جحد ذلك فنحاص وقال: والله! يا محمد ما قلت ذلك، وأقسم بالأيمان المغلظة، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه وتصديقاً لـأبي بكر : لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، ونزل أيضاً في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وفيما حصل منه من الغضب قول الله عز وجل: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186] وفي هذا إشارة لـأبي بكر الصديق أن هذا ليس هو وقت المواجهة مع اليهود، بل وقت الصبر، وسيأتي وقت للمواجهة بعد ذلك.
الشاهد من القصة هو: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه لا يخاف في الله لومة لائم، فهو شجاع مقدام لا يتردد عن جهاد، ولا يفر في لقاء، ولا يتحمل أن ينتهك دين الله عز وجل ولا يتحرك، وهذه هي الشجاعة المرجوة في الخليفة، وهذا هو الإقدام المطلوب في قائد الأمة.
العلم
هذا بالنسبة لشرط الشجاعة، وأما بالنسبة لشرط العلم فكيف كان حال الصديق ؟ الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أعلم الصحابة.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبداً) والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذا العبد في الحديث، وقال: (خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله تعالى، فبكى
وكان الصديق لعلمه الغزير يفتي في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: يكون الرسول صلى الله عليه وسلم موجوداً ويفتي الصديق في حضرته، وكانت هذه الخاصية له أساساً وأحياناً لـعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وليس لغيرهما، سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما أعلم غيرهما.
وتعالوا بنا نرى القصة التي حدثت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله عن أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله، يعني: يريد أن يأخذه على غرة، حتى يقتله غدراً، قال: فأسرعت إلى الذي يختله فرفع يده ليضربني فضربت يده فقطعتها، ثم يكمل أبو قتادة الموقف فيقول: ثم أخذني -أي: هذا الرجل المشرك الذي قطعت يده- فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، ويبدو أنه كان رجلاً شديداً وقوياً، قال: فضمني ضماً شديداً حتى تخوفت، يعني: خفت على نفسي أن أموت، قال: ثم ترك ودفعته ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم.
وطبعاً هذا كان في أول يوم حنين، قال: فإذا بـعمر بن الخطاب في الناس رضي الله عنه فقلت له: ما شأن الناس؟ ما الذي حدث؟ لماذا يهربون؟ قال: أمر الله، ثم تراجع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتصروا، يعني: انتصر المسلمون وهزم المشركون، قال: وبعد الموقعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه) يعني: من يأتي بشاهد على أنه قتل قتيلاً يأخذ هذا السلب الذي للقتيل، قال: فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أر أحداً يشهد لي، فجلست، يعني: لم أتكلم، قال: ثم بدا لي، يعني: قلت: وما المانع أن أتكلم، قال: فذكرت أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من جلسائه: صدق، يعني: أنا شاهد على هذا الأمر، وسلبه عندي، فأرضه مني، يعني: هناك رجل آخر من المسلمين اعترف أن السلب معه، لكنه يريد أن يأخذه أو يرضيه أبو قتادة بشيء، يعني: السلب هذا عندما أعيده لك تدفع لي أي شيء.
وهنا قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وطبعاً لم يطلب أحد منه الكلام، لكنه قام, وكل هذا الكلام أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهنا قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال في حمية: كلا لا يعطيه أضيبع من قريش -يعني: طائراً ضعيفاً- ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: يستنكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يأخذ الرجل من السلب شيئاً وإن كان معه ولكن يعطى لـأبي قتادة كاملاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق فأعطه).
فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتوى الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو في حضرته.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: إن أهل السنة اتفقوا على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد.
فلماذا هذا العلم الغزير عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لعل سبب هذا العلم الغزير وتفوقه على الصحابة هو ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره، فقد كان يجتمع به ليلاً ونهاراً وسفراً وحضراً وما أكثر الأحاديث التي ذكر فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج هو وأبو بكر ، أو دخل هو وأبو بكر ، أو جلس هو وأبو بكر .. هكذا.
وأيضاً هناك أدلة أخرى كثيرة على علم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج، والحج يحتاج إلى علم غزير، واستعمله على الصلاة؛ لكونه أعلم الناس، ولم يحفظ للصديق قول يخالف فيه نصاً، ولم يعرف له غلط في الشريعة.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله رضي الله عنه وأرضاه في الحديث الثابت في الصحيحين: والله! لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، واستدل أبو إسحاق بهذا وغيره على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه أعلم الصحابة؛ لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، يعني: كل الصحابة لم يكونوا يريدون أن يقاتلوا الذين منعوا الزكاة، ثم ظهر لهم بعد المباحثة أن قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو الصواب فرجعوا إليه.
وروى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت كأني أعطيت عساً -القدح الكبير- مملوءاً لبناً، فشربت منه حتى تملأت فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت منها فضلة، فأعطيتها
والصحابة الذين كانوا يستمعون للحديث قالوا: (يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله حتى إذا تملأت منه فضلت فضلة فأعطيتها
ثم من هو الذي بين للناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات؟ ومن الذي قرأ عليهم الآيات التي سكنت الجميع وجعلتهم يقبلون بالمصيبة ويصبرون عليها؟ ومن الذي بين للصحابة موضع دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد اختلفوا في ذلك؟ ومن الذي بين للصحابة ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أيضاً قد اختلفوا في ذلك؟ ومن الذي بين للصحابة قتال مانعي الزكاة كما أشرنا من قبل؟ ومن الذي بين لهم أن الخلافة في قريش ولم يذكرها أحد قبله في السقيفة؟
كل هذه الأمور تفرد الصديق بعلمها من بين الصحابة، فرجح كفة على كفة، وأظهر حكماً لم يعلمه الصحابة.
مما يبين مدى غزارة علم الصديق رضي الله عنه وأرضاه وأنه بحق كان أعلم الصحابة.
حسن الرأي
إذا قال أحد الناس: نعم، إنه كان عالماً أو كان أعلمهم، لكن قد يفوقه آخرون في حسن الرأي وفي استغلال العلم الذي يعلمه.
فإننا نرد على ذلك بأن نقول: إن الصديق كان أعظم الصحابة رأياً وأحكمهم في التصرف، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم الاستشارة للصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكان أحياناً يستشيره بمفرده وأحياناً يستشيره مع الصحابة، وكان يميل إلى رأيه دائماً صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك واضحاً في استشارته في أمر قتال المشركين في بدر، وظهر في أمر الأسارى في بدر، وظهر في الحديبية بشكل عجيب لما توافقت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه مع كلمات ورأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أخرج الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم رضي الله عنه والطبراني عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بكر وعمر : (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما).
وظهر من حسن الرأي للصديق رضي الله عنه وأرضاه في أيام خلافته ما يعجز البيان عن وصفه، فهناك تفصيلات كثيرة سنتحدث عنها -إن شاء الله- في حلقات حروب الردة، وفي حلقات فتوح فارس والعراق، وفي حلقات فتوح الشام، ونشرح فيها آراء الصديق السديدة واختياراته الحكيمة، ولا يخفى علينا جميعاً ما في حسن اختياره لـعمر بن الخطاب كخليفة من بعده ما أصلح للأمة أمرها وقوى من شأنها، فالرجل فعلاً يا إخوة مسدد الرأي وعظيم الحكمة، ومن العسير حقاً أن تبحث له عن خطأ في رأي أو في حكم أو في قضية.
روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يسرح
وروى ذلك أيضاً ابن أبي أسامة في مسنده بلفظ: (إن الله يكره في السماء أن يُخطأ
وأخرج ذلك الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يكره أن يُخطأ
واستدل ابن القيم رحمه الله على فضل الصديق بهذا الحديث، وأضاف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطئ أبا بكر أبداً في حياته إلا مرات قليلة، وهذه المرات كانت في تعبير الرؤيا، وليست في حكم من الأحك
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الصديق نعمة السبق | 3302 استماع |
سلسلة الصديق شبهات حول استخلاف الصديق | 3209 استماع |
سلسلة الصديق نعمة الثبات | 2603 استماع |
سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميح | 2522 استماع |
سلسلة الصديق يوم السقيفة | 2397 استماع |
سلسلة الصديق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم | 2302 استماع |
سلسلة الصديق وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2211 استماع |
سلسلة الصديق استخلاف الصديق | 1622 استماع |
سلسلة الصديق إنكار الذات | 1514 استماع |
سلسلة الصديق رقة القلب | 1455 استماع |