سلسلة الصديق وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ثم أما بعد:

فمع الحلقة السادسة من حلقات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كنا في الحلقة السابقة قد استعرضنا جوانب من صفة عظيمة من الله بها على الصديق رضي الله عنه وهي صفة الثبات، قال عز وجل: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].

لا شك أن الصديق رضي الله عنه من هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن هؤلاء الذين عاشوا طويلاً ومروا بأحداث متقلبة ومواقف حرجة، وأزمات طاغية لكنه ما بدل ولا غير رضي الله عنه، بل ظل ثابتاً في كل فترات حياته رضي الله عنه وأرضاه.

وتعرضنا في الدرس السابق لثباته رضي الله عنه أمام فتنة المال وفتنة الرئاسة وفتنة الأولاد وفتنة الهجرة وفتنة غلبة أهل الباطل، وفتنة الفتور عن الطاعة والعبادة، وفتنة الإيذاء وضياع النفس، بل وفتنة الموت، تعرضنا لكل ذلك ورأينا نموذجاً رائعاً لثبات البشر.

ورغم كل هذه المواقف العظيمة فإنه يبقى موقف للصديق يمثل أروع درجات الثبات وأرقى درجات الإيمان، وأعمق درجات الفهم.

وكل الذي قلناه في الدرس الماضي وثبات الصديق في الموقف الذي سنقوله في هذا الدرس يختلف تماماً، وذلك هو موقفه عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كارثة الكوارث ومصيبة المصائب.

والحقيقة أني لا أعتقد أن رجلاً في التاريخ منذ أن نزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض وإلى يوم القيامة نال أو سينال حباً وتقديراً وإجلالاً مثلما نال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن تفكر في هذه الكلمة البسيطة التي ألفنا سماعها واعتدنا ذكرها فلم نقدر لها قدرها الحقيقي وقيمتها الأصيلة، إنها كلمة رسول، رسول من؟ رسول الله.

نحن دائماً نفكر في الشق الأول من الكلمة، رسول نعظمه؛ لأنه رسول، لكن أحياناً ننسى الشق الثاني، رسول الله عز وجل، الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، الله الذي خلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الله الذي خلق الجبال والبحار والأنهار، الله الذي خلق الإنس والجان والملائكة، الله العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تناهت حكمته، الحي القيوم الذي لا ينام، الله عز وجل الرحيم بخلقه، الكريم الحنان المنان، الله عز وجل في علوه وكبريائه وعظمته أرسل إلى خلقه رسولاً يبلغهم رسالته.

أرسل إلى الخلق الضعيف البسيط القليل رسولاً منهم، فأي تشريف؟ وأي تعظيم؟ وأي تكريم؟

وإذا كان البشر قد كرموا بإرسال الرسول إليهم فكيف بالذي اصطفاه الله من بلايين الخلق كي يرسله إلى الناس برسالته؟ وليست أي رسالة، ولكن الرسالة الأخيرة الخاتمة.

ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صنعه الله على عينه، وخلقه ورباه وعلمه وأدبه وحسن خلقه، وقوى حجته، وزكى سريرته، وطهر قلبه، وجمل صورته، وحببه إلى خلقه، وحبب الخلق جميعاً فيه، فلا يراه أحد إلا وأحبه، ولا يسمع به أحد إلا وأحبه، ولا يقرأ عنه أحد إلا وأحبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر وأفضل الدعاة وسيد المرسلين وخاتم النبيين.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوفى حقه في مجلدات ومجلدات ولا في أعوام وأعوام، فقد وضع الله فيه خلاصة الفضائل البشرية.

وكلما تعرضت لجانب من جوانب حياته صلى الله عليه وسلم حار عقلك كيف كان على هذه الصورة البهية النقية، ولا تملك إلا أن تقول: سبحان الذي صوره فأحسن تصويره، وأدبه فأحسن تأديبه، وعلمه فأحسن تعليمه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدره وسمو منزلته يعيش وسط الصحابة، يخالطهم، وكان يصلي بهم ويعلمهم، وكان يتحمل الأذى معهم، يجوع مع جوعهم أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، ويهاجر كما يهاجرون، ويقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون.

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشرب منه الناس، ويجلس على ما يجلس عليه الناس، لم تزده كفة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، وكان أكثر الناس كرماً، وأقواهم بأساً، وأشدهم حياءً، وكان يمنع الناس من القيام له، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، وتسير به الأمة في شوارع المدينة أينما شاءت.

وكان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، وفي العموم كان يكون في مهنة أهله صلى الله عليه وسلم، وكان فوق هذا متصلاً بالسماء، متصلاً برب العالمين، يأتيه الوحي صباح مساء، يخبر الناس بما يريده ربهم منهم، يعدل لهم المسار، ويقوم لهم المناهج، ويفسر لهم ما أشكل عليهم، ويوضح لهم ما خفي عنهم.

اعتاد صحابته على وجوده ومعايشته، فكان لا يعتزلهم أبداً، ولا يبعد عنهم مطلقاً، يرونه في كل صلاة وفي كل لقاء، وفي كل جمع، يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدعو لهم، ويزور الصحابة في بيوتهم، ويزورونه في بيته.

وأحبه الصحابة حباً لا يوصف، حباً لم يحبوه قط أحداً غيره، قدموه على حب الولد والوالد، وعلى حب الزوج والعشيرة، وعلى حب المال والديار، بل قدموه على حب النفس، حتى كان يتمنى الصحابي أن يموت ولا يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه.

ولم يكن الصحابي يصبر على فراقه، فإذا عاد الصحابي إلى بيته أسرع العودة إلى المسجد حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى بكى بعضهم؛ لأنهم سيفارقونه يوم القيامة في الجنة لعلو منزلته، حتى بشرهم أن المرء يحشر مع من أحب، فسري عنهم لذلك.

عاش الصحابة في سعادة لمصاحبته ورؤيته والسماع منه والانصياع له صلى الله عليه وسلم، عاشوا على ذلك فترة من الزمان، حتى أذن الله عز وجل برحيل الحبيب صلى الله عليه وسلم عن دار الدنيا إلى دار الخلد في جنات النعيم، إلى الرفيق الأعلى، إلى راحة لا تعب فيها ولا نصب ولا وصب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، والبشر يموتون، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

ومع يقين الصحابة بذلك وثقتهم من بشريته صلى الله عليه وسلم إلا أنهم ما تخيلوا أن ذلك الموت سيحدث حقيقة، إنها فتنة عظيمة، ومصيبة كبيرة وبلاء مبين، فلم يصدق الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات حقاً فكيف الحياة بدونه؟ ووراء من يصلون؟ وإلى نصح من ينصتون؟ من يعلمهم؟ ومن يربيهم؟ ومن يبتسم في وجوههم؟ ومن يرفق بهم؟ ومن يأخذ بأيديهم؟ إنها كارثة وأي كارثة؟

وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم كل شيء فيها، ليس الصحابة فقط بل نخيل المدينة وديار المدينة وطرق المدينة ودواب المدينة، فإذا كان جذع النخلة قد حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه ليخطب من فوق المنبر بدلاً منه حتى سمع الصحابة لجذع النخلة أنيناً، وحتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده على الجذع حتى سكن، إذا كان الجذع فعل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم فارقه إلى منبر يبعد عنه خطوات معدودات فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة؟

فالصحابة ماذا يفعلون؟ أتطيب نفوسهم أن يهيلوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد تقطعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم.

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فهذه المصيبة أذهلت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، فاحتاروا جميعاً، حتى وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما أدراك ما عمر بن الخطاب في عقله ورزانته وحكمته وإلهامه وقف وقد أخرجته الكارثة عن وعيه يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.

إذا كان عمر كذلك فكيف بغيره من الصحابة؟

قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المصيبة:

لقد عظمت مصيبتنا وجلت عشية قيل قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا مما عراها تكاد بنا جوانبها تميل

فقدنا الوحي والتنزيل فينا يروج به ويغدو جبرئيل

وذاك أحق ماسالت عليه نفوس الناس أو كادت تسيل

نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه وما يقول

ويهدينا فلا تخشى ضلالاً علينا والرسول لنا دليل

ثم يخاطب السيدة فاطمة رضي الله عنها فيقول:

أفاطم إن جزعت فذاك عذر وإن لم تجزعي ذاك السبيل

فقبر أبيك سيد كل قبر وفيه سيد الناس الرسول

صلى الله عليه وسلم

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

وبينما هم كذلك إذ جاء الجبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجازاه خيراً كثيراً عما قدمه لأمة المسلمين، جاء الصديق من السنح -منطقة خارج المدينة- بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابياً سوف يموت حزناً وهماً وكمداً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أننا جميعاً سنقول: إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أشد الخلق حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل من علامات الغضب والثورة والانهيار والتصدع ما لم يفعل أحد غيره.

لا شك أنه قد يخطر ببال أحد أنه سيفعل أكثر مما فعل عمر بن الخطاب مثلاً، لكن إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، انحدرت ساخنة حارة على وجنتي الصديق رضي الله عنه وأرضاه لفراق حبيب عمره ودرة قلبه وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه يتفطر: (بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)، ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها ويليق بأول من سيدخل الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، وكيف يجزع ويخرج عن المنهج وهو الصديق ؟

خرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس والناس مكتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول.

قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر ! لكن عمر قد أذهلته المصيبة فلم يسمع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس كانوا قد وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر ، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول.

قال الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة: أما بعد:

من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، وهذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، قال: ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريم: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، والصديق رجل عجيب، يعيش مع القرآن في كل حركة وفي كل سكنة، فما أروع الاختيار! وما أبلغ الأثر الذي أحدثته الآية الربانية في قلوب الصحابة!

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله! لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.

أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، وكانت الآية سلوى للمؤمنين وتعزية للصابرين، وجزاءً للشاكرين.

ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر بن الخطاب : والله! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعثرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.

وثبت الله الأمة جميعاً بثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه وأرضاه، وما أكثر حسناته رضي الله عنه وأرضاه!

ومع كون فتنة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراقه إلى يوم القيامة فتنة عظيمة ومصيبة هائلة مع كون هذه الفتنة عظيمة إلا أنها لم تكن الفتنة الوحيدة التي مرت بالمسلمين في هذه الأيام الحزينة، فإلى جوار فتنة الموت والفراق كانت هناك فتن أخرى عظيمة.

كانت هناك فتنة انقطاع الوحي، فقد كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، وانقطاع الوحي من السماء لا شك أنه فتنة عظيمة، وجبريل عليه السلام لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة.

فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ولا شك أن البشر سيخطئون كثيراً ويحتاجون إلى تقويم وإصلاح، فمن سيقوم بذلك؟ عليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم؛ فالمنهج الإسلامي المتكامل أعطى لهم هذه الصلاحيات لإكمال مسيرة الحياة إلى يوم القيامة بدون رسل ولا أنبياء ولا وحي، لكن لا شك أن الفترة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمثل عبئاً ثقيلاً على نفوس الصحابة، وقلقاً بالغاً من أن يفشلوا في حل أمورهم دون وحي، ولا شك أنهم سيختلفون، وسيختلفون كثيراً، فمن يكون على صواب؟ ومن يكون على خطأ؟ عليهم أن يحكموا بالمنهج المتروك في أيديهم القرآن والسنة.

ولكن ستظل طوائف من المؤمنين تخطئ وهي تظن أنها على صواب، فالوحي كان يفصل في هذه الأمور فصلاً لا يدع مكاناً للريبة، والآن انقطع الوحي.

والرجل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير على الأرض، وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويوقن بذلك إذا بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقينه بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتخيل معي كيف يطيق رجل صبراً أن يسير على الأرض وهو يعلم أنه من أهل الجنة.

هذا الذي جعل عمير بن الحمام في غزوة بدر يلقي بالتمرات لما بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ويقول: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة.

و بلال بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإذا به على فراش موته سعيداً؛ لأنه سيموت وغداً يلقي الأحبة محمداً وصحبه.

وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، وهكذا عبد الله بن مسعود وهكذا خديجة وعائشة وسائر أمهات المؤمنين، وهكذا غيرهم ممن بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما الآن بعد أن انقطع الوحي فلا أحد يدري أهو من أهل الجنة أم من أهل النار؟ وعجبت لمن يضحك كيف يضحك وهو على يقين من ورود النار، قال عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] ثم هو لا يعلم أيجوز الصراط إلى الجنة أم يسقط في النار.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عن كثير من أمور الغيب بالوحي، فبشرهم بنصر بدر، وبشرهم بالفتح، وبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن، وكان يخبرهم عما كان وعما هو كائن وعما سيكون إلى يوم القيامة، أما الآن بعد انقطاع الوحي فأغلب باب المستقبل لا نعرف منه إلا ما أنبأنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، لكن كم من الأمور سيحدث كنا نتمنى أن نعرف عاقبتها، أترانا سنفوز أم سنخسر، وأحداث العالم كيف ستئول في النهاية.

وهكذا الفرس انتصرت على الروم، والرسول صلى الله عليه وسلم يبشر بأن الروم ستنتصر، كما قال عز وجل: ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4].

وأما الآن فلا نعرف شيئاً على وجه اليقين، نعم ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاجاً واضحاً من قرآن وسنة نستقرئ به سنن الله في الأرض، ونستنبط به النتائج قبل أن تحدث، لكن ستظل كثير من الأمور معروفة على وجه الظن لا على وجه اليقين، ويقين الوحي لا عودة له حتى تنتهي حياة الأرض وتقوم القيامة.

ولا شك أن هذه الفتنة أذهلت الصحابة، وسيبدأ طريق مليئ بالأشواك، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في السير بعد فقد القائد العظيم، والدليل الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً كانت هناك فتنة فراق أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وكانت هناك أيضاً فتنة انقطاع الوحي.

وهناك فتنة ثالثة خطيرة: من من الرجال يجلس في كرسي الحكم مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نبياً فقط، ولكن كان أيضاً حاكماً للمسلمين، فإن كانت النبوة قد ختمت به صلى الله عليه وسلم فالحكم لابد أن يستمر، فمن من الصحابة الكرام يكمل المسيرة ويحمل الراية؟ إنه أمر خطير وخطورته ليست في احتمال التكالب على السلطة والتنازع فيها كما يحدث في بلدان العالم المختلفة إذا مات قائد أو زعيم، كلا، ولكن الخطورة لاعتبارات خاصة جداً بهذه الفترة:

أولاً: لا يجوز في الصحابة ولا في أهل الأرض جميعاً من يساوم أو يقترب في الفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي سيوضع في مكانه كحاكم لابد وأنه سيقارن به صلى الله عليه وسلم، وإذا حدثت المقارنة فإنها لا شك ستكون مقارنة ظالمة، فهذا رسول يوحى إليه من ربه وأدبه ربه، وهذا رجل يجتهد، قد يصيب وقد يخطئ.

ثانياً: من من الصحابة ستطيب نفسه أن يجلس في هذا المكان؟ الصحابة على خلاف أهل الأرض في زماننا أو في أي زمان، كانوا لا ينظرون إلى الإمارة على أنها تشريف وتعظيم أبداً، وإنما كانوا يعتبرونها تكليفاً وتبعة، وفضلاً عن أنهم لا تطيب نفوسهم بالحكم بدلاً من نبيهم فهم تعلموا منه صلى الله عليه وسلم أن يزهدوا في الإمارة ولا يطلبونها.

روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! ألا تستعملنى؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر ! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها).

فمن من الصحابة يضمن أن يأخذها بحقها؟ ومن منهم يعرض نفسه لحمل الأمانة؟ ومن يضع نفسه يوم القيامة موضع سؤال عن تبعات عظيمة من أجل الإمامة؟

ثالثاً: إذا كان ولابد أن يُختار رجل من الصحابة لهذا الأمر الجليل فمن يكون هذا الرجل؟ الصحابة جميعاً أعلام يقتدى بهم، وطاقاتهم عظيمة، وإمكانياتهم واسعة، والمؤهل ليكون حاكماً على الناس أو أميراً عليهم كثير، معظم الصحابة.

إذا نظرت إلى المهاجرين مثلاً فهناك الصديق أبو بكر رضي الله عنه وهناك الفاروق عمر ، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة ، وهناك ذو النورين وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، وهناك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته علي ، وهناك العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك سعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك طلحة بن عبيد الله طلحة الخير ، وهناك غيرهم كثير، كـعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن زيد ، وهناك شيوخ مكة الذين أسلموا في الفتح ولهم من الهيبة في قلوب العرب، كـأبي سفيان وسهيل بن عمرو وغيرهم.

وإذا نظرت إلى الأنصار وجدت أيضاً فريقاً كبيراً من العظماء، وإن كانت الأسماء المطروحة للزعامة أقل من المهاجرين؛ لكون الأنصار من قبيلتين فقط: الأوس والخزرج، وكان زعيم الخزرج سعد بن عبادة من أقوى الأسماء المرشحة للخلافة.

أما من الأوس فهناك على سبيل المثال أسيد بن حضير سيد الأوس، وهناك عباد بن بشر من أكبر الأنصار، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد: سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وعباد بن بشر .

و سعد بن معاذ استشهد قبل ذلك بكثير، استشهد بعد أن أقر الله عينه من بني قريظة في سنة (5) من الهجرة، وكل واحد من هذه الأسماء -سواء من المهاجرين أو من الأنصار- لا تنقصه الكفاءة ولا القدرة على القيادة، كذلك لا ينقص أحدهم التقوى، فمن يحمل الراية؟

ومع كل هذه الفتن لم تكن هذه هي الفتن الوحيدة الموجودة في هذه الفترة، بل كان هناك فتن أخرى عظيمة وخطيرة، فالأعداد المهولة التي دخلت في الإسلام حديثاً لم تتلق تربية كافية في محضن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن كثيراً منهم دخل الإسلام طمعاً في المال والثراء، كطائفة المؤلفة قلوبهم، فقد ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال والغنائم حتى يدخلوا في الإسلام.

وتعالوا نراجع بعض الأرقام:

كان فتح مكة سنة ( 8) من الهجرة، فتح مكة (10.000) مؤمن بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعدها بقليل كانت حنين والطائف، وكانت الغنائم وفيرة جداً، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوس القوم، وأعطى عوام الناس، وأعطى وأعطى حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، ذكر ذلك ربنا عز وجل في كتابه الكريم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2].

وبعد فتح مكة بحوالي سنة واحدة فقط كانت غزوة تبوك سنة (9) من الهجرة، وكان جيش المسلمين ( 30.000) مسلم غير المنافقين الذين تخلفوا عن الغزو، فتضاعف الرقم من سنة (8) هـ إلى (9)هـ ثلاث مرات، وهو تضاعف كبير في هذه الفترة الوجيزة.

وأعجب من ذلك في حجة الوداع سنة (10) من الهجرة بعد غزوة تبوك بسنة واحدة حدث تضاعف مهول في عدد المسلمين، حيث حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من (100.000) مسلم، هذا غير عشرات الآلاف من الذين دخلوا الإسلام في قبائلهم البعيدة عن المدينة ولم يسعدوا برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين الذين ارتبطوا بالإسلام فقط منذ شهور ولم يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الكلمات القليلات، وبعضهم لم يره أصلاً، وبعضهم دخل لأجل المال، وبعضهم دخل لأجل الخوف من القوة الإسلامية الناشئة، وكلهم حديث عهد بجاهلية وإشراك.

هذه العوامل جميعاً وغيرها جعلتهم على خطر عظيم وبالذات إذا وصل إليهم نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ترى ماذا سيكون رد فعلهم؟ أتراهم يتشككون في أمر الرسالة؟ أتراهم يعتقدون أن الخروج عن جماعة المسلمين أصبح أمراً ميسوراً؟ أتراهم يرتدون على أعقابهم ويعودون إلى جاهليتهم وشركهم؟

كل هذه الاحتمالات واردة، ولا شك أن الصحابة في المدينة كانوا يفكرون في هؤلاء القوم، ويتسمعون أخبارهم، ويخافون من ردتهم عن الإسلام، هذه المشاعر المتزاحمة من قلق وخوف وتربص وحيرة زادت الأزمة في المدينة تفجراً واضطراباً، ولا شك أن هذا زاد من ظلمة المدينة بعد غياب النور المبين محمد صلى الله عليه وسلم.

إنها فتنة مظلمة أخرى تحيط بالصحابة، فتنة الردة الفعلية لبني حنيفة ولأهل اليمن، وقد جاءت الأنباء قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور من يدعي النبوة في هذه البلاد، فقد ظهر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة شرق الجزيرة، وظهر في اليمن الأسود العنسي ، وتبع هذا وذاك آلاف مؤلفة قبلية وعصبية وجهل وشك وكبر وسفه، تبع مسيلمة وحده ما يزيد على، (40000) مرتد، هؤلاء كانوا مع مسيلمة الكذاب قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مرتدون بالفعل، ومن المؤكد أنهم يتربصون بالمدينة الدوائر، ومن أدرى الصحابة أنهم لا يعدون العدة لغزو المدينة ولاستئصال الإسلام من جذورة، فهذا خطر داهم، لا شك أن الصحابة كانوا يترقبونه.

أضف إلى هذا كثرة المنافقين بالمدينة المنورة، فإنه منذ أقل من عامين كانت هناك أعداد ضخمة من المنافقين يسكنون المدينة أيام تبوك، ولا شك أنهم يتزايدون مع زيادة قوة الإسلام، ولا شك أنهم ينتظرون الفرصة للانقلاب على الإسلام والمسلمين، وقد أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولكنهم فشلوا، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وهذه مصيبة عظيمة، ولا شك أن سعادتهم بهذه المصيبة كبيرة، قال عز وجل: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50].

فيا ترى ماذا سيفعل المنافقون؟ سؤال يتردد في أذهان الصحابة ولا شك.

ثم هل هذا هو كل الشر الذي يتربص بالمدينة؟ أبداً، فكم من الأعداء يتربص؟ وكم من الكارهين يترقب؟ فالفرس دولة عظمى مجاورة، وقد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملكها كسرى مراسلات يعرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، لكن أبى كسرى فارس، بل ومزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضم إلى دولة المسلمين قبل أن يموت منطقة اليمن وكانت تتبع دولة فارس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ذلك أدخل في الإسلام حكام اليمن الفارسيين وانتزع من كسرى فارس هذه المنطقة وأهلها، فيا ترى ماذا سيفعل كسرى فارس بعد هذه المصيبة التي حلت على المسلمين؟ أتراه يعيد الكرة في احتلال اليمن؟ أم يفكر فيما هو أبعد من ذلك ويغزو المدينة ومكة؟ أسئلة بلا إجابة.

وهكذا الروم الدولة العظمى الأخرى على الساحة العالمية في ذلك الزمن كانت تحتل كامل الشام وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى شرق أوروبا بكاملة إنها دولة ضخمة مهولة على رأسها قيصر الروم هرقل ، ودولة الروم العظمى لها تاريخ مع دولة الإسلام الناشئة في المدينة.

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، وهرقل مال قلبه إلى الإسلام لكن منعه قومه ودفعوه إلى الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فقط، بل دفعوه أيضاً إلى تحريض قبائل غسان العربية في الشام على المسلمين ومن ثم قتل بعض رسل المسلمين المبعوث إلى تلك المناطق، وغرق بذلك هرقل في مستنقع الكفر، وهكذا بطانة السوء ومن رضي ببطانة السوء.

ونتيجة هذا الإعراض عن الرسالة وهذا التحرش بالمسلمين نتجت موقعتان بين المسلمين والروم، نتجت معركة مؤتة في سنة (8) من الهجرة، وهذه كانت معركة عجيبة ثبت فيها المسلمون بثلاثة آلاف مقاتل أمام (200.000) من الروم المقاتلين، وقتل من المسلمين زعماؤهم الثلاثة.

ثم استطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بتكتيك رائع أن ينسحب بجيشه دون هزيمة من الروم، بل إن التحليل الصادق للمعركة يثبت فرار الروم وخشيتهم من الجيش الإسلامي، وما حدث من فرار لبعض المسلمين حتى وصلوا إلى المدينة لم يكن إلا من طائفة محدودة.

لكن بصرف النظر عن أي شيء فقد تراءى للروم ثبات المسلمين وخطورتهم، وعلموا أن بأسهم شديد وقتالهم شرس.

ومرت سنة واحدة على مؤتة وجاء ما هو أعظم، فحشد المسلمون ثلاثين ألفاً من المقاتلين الأشداء في غزوة تبوك العظيمة سنة (9) من الهجرة، ومع قلة إمكانيات المسلمين المادية من سلاح ومؤنة إلا أن معنويات الجيش كانت مرتفعة جداً، وتحركت الجموع الإسلامية إلى مسافات بعيدة جداً عن المدينة دونما وجل ولا خوف، وفر الجيش الروماني وأعوانه من نصارى الشام العرب أمام الجيش الإسلامي.

ولا شك أيضاً أن الرومان قد سمعوا بأنباء بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما والذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل حتى يغزو الشام ويقاتل الروم والقبائل المناصرة لها، ولا شك أنهم يعلمون أن الجيش الإسلامي ما زال رابضاً في المدينة بعد خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا سيكون رد فعل الرومان والقبائل المتحالفة معهم أمام هذا الحدث؟ أتراهم يستغلون الفرصة ويهاجمون المدينة حيث إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟ هل يستغلون انشغال المسلمين بالمصيبة الكبيرة ويحالفون عدداً أكبر من القبائل ويحاصرون الجيش الإسلامي في المدينة قبل خروجه؟ أم تراهم سينقلبون على القبائل المسلمة في شمال الجزيرة العربية؟

لا شك أن الروم سيتربصون بالمسلمين، وجذور العلاقة توحي بأن ذلك سيكون قريباً، فكيف يتعامل المسلمون مع هذا التوقع؟ سؤال يحتاج إلى إجابة.

واليهود ماذا سيكون رد فعلهم بعد أن يعلموا بخبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن جذور العداء تاريخية مع اليهود، ومن أول يوم سمعوا فيه بأمر الرسالة وهم يكيدون لها، وحاولوا من قبل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم تغلي بالحقد على المسلمين، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ثابتة في كتاب الله، وستظل الكراهية موجودة بين الفريقين إلى يوم القيامة، قال عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82].

واليهود منذ (10) سنوات قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم تجار الجزيرة العربية، كانوا يتاجرون بكل البضائع وبالذات السلاح والخمور والربا، وكان لهم سطوة وبأس، وكانت لهم حصون وقلاع، وكانت لهم قبائل وأعوان، وكانت لهم مكانة علمية ودينية؛ لكونهم من أهل الكتاب.

ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسحب البساط من تحتهم، وانتقلت الزعامة الدينية في الأرض إلى المسلمين، وليس هذا فقط، بل دارت حروب ومعارك لا تنسى بينهم وبين المسلمين، كانت الغلبة فيها كلها للمسلمين، في بني قينقاع، وبني النظير، وبني قريضة وخيبر، وتشتت قوة اليهود وتفرقت وتحطمت.

وهاهي السيدة صفية بنت حيي تصبح الآن زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأماً للمؤمنين وهي التي كانت بنت زعيم اليهود حيي بن أخطب ، هاهي الأحقاد تتزايد على المسلمين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا سيفعل اليهود الآن؟

لقد تم قتل يهود بني قريظة من قبل، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير من المدينة، لكن مازال هناك يهود خيبر -وهم ليسوا بالقليلين- يعيشون في حصونهم في شمال المدينة، أتراهم يدبرون مؤامرة لحرب المسلمين وينقضون عهدهم المبرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا أمر وارد جداً، وقد اشتهر اليهود على مدار تاريخهم منذ أيام أنبيائهم الكرام مروراً بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى عهدنا الآن وإلى يوم القيامة اشتهروا بنقض العهود وبالتعامل بالخيانة والدس والكيد والتآمر، اشتهروا في وقت ضعفهم بالذلة والمسكنة والخنوع والنفاق، واشتهروا في وقت قوتهم بالإفساد في الأرض والتدمير والتخريب.

إذاً: فساد اليهود متوقع، وخيانتهم قريبة، لكن كيف ستكون؟ سؤال لا شك أنه كان يجول في خاطر الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فما أصعب الموقف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أعقده! وما أحزنه! وتعالوا نقف وقفة نلتقط فيها الأنفاس ونعيد ترتيب الأوراق، ونفكر مع الصحابة.

مجموعة من الفتن الخطيرة تتناوش المدينة فجأة:

أولاً: مات أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وفراقه مصيبة.

ثانياً: انقطع الوحي بالكلية إلى يوم القيامة.

ثالثاً: ليس هناك من يقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضل حتى يستبدله الناس به.

رابعاً: الأسماء المطروحة لخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة وكلها عظيمة.

خامساً: وجود أعداد كبيرة جداً ما دخلت الإسلام إلا منذ سنوات أو شهور قليلة، وكثير منهم من المؤلفة قلوبهم ضعيفي الإيمان.

سادساً: الردة الخطيرة الموجودة في بني حنيفة واليمن.

سابعاً: كثرة المنافقين بالمدينة وتربصهم الدوائر بالمسلمين.

ثامناً: دولة الفرس المعادية تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشرق وقد تغزوها.

تاسعاً: دولة الروم المعادية أيضاً تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشمال، وجذور العلاقة توحي بلقاء حربي قريب.

عاشراً: اليهود في خيبر تغلي قلوبهم كالمرجن وخيانتهم وشيكة.

إذاً: هذه فتن ضخمة الواحدة منها قد تعصف بأمة.

وبنو إسرائيل لما ظنوا مجرد الظن أن موسى عليه السلام قد مات وذلك عندما ذهب لميقات ربه أربعين ليلة عبدوا العجل، وفي وجود هارون النبي صلى الله عليه وسلم، هذا في أربعين ليلة فقط وليس عندهم يقين في موته، أما الآن فرسول الله صلى الله عليه وسلم ميت بين أظهرهم والكل يعلم أنه مات، فكم من الرجال سيقلدون بني إسرائيل في فعلتهم الشنيعة؟ إنه أمر خطير!

في هذا الموقف المعقد والمتشابك والمدينة المنورة كالسفينة الصغيرة في بحر لجي هائج تتلاطمها الأمواج العاتية وقد مات قبطانها، في هذا الموقف الرهيب الفريد أين النجاة؟ أين النجاة؟

بتحليل الموقف نجد أنه لا نجاة إلا باختيار سريع وسريع جداً لخليفة يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية، وفقدان الخلافة أو ضياع الخلافة كارثة مهولة، فالخلافة والخليفة كالخيط ينتظم حبات العقد في عقد واحد جميل، وبغير هذا الخيط ستضيع الحبات لا محالة، ولا يشفع للحبات هنا كونها جميلة أو براقة، كذلك أمة الإسلام إذا غاب منصب الخلافة فلن يجتمع المسلمون وإن كانوا صالحين، بل سيكونون فرقة هنا وفرقة هناك، وقبيلة هنا وقبيلة هناك، ودولة هنا ودولة هناك، وستظل الفرقة في غياب الخلافة، وهذه هي مصيبتنا العظمى في زماننا الآن، فقد غابت الخلافة وآخرها كانت الخلافة العثمانية، فتفرق المسلمون، حتى وإن كانت الخلافة ضعيفة فهي واجبة؛ فالاجتماع على ضعف خير من التفرق على قوة، وهذا أمر عام في كل حياة المسلمين، فإنهم إذا اجتمعوا على رجل كانت البركة والقوة، وإذا تفرقوا كان الفشل والضعف.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلفت النظر إلى ذلك حتى في أدق الأمور، روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم).

والصحابة الكرام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء وخير القرون في هذه الأمة يفقهون هذه الحقائق بوضوح، ويعلمون مدى الخطورة المنتظرة لأي تأخير في اختيار هذا الخليفة مهما كان اسمه.

لذلك قام الصحابة الكرام بمشروع أحسبه من أرقى وأجل المشاريع الحضارية في التاريخ، إنه مشروع اختيار الخليفة والقائد والربان للسفينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل الأحزان والهموم والآلام، إذ لابد أن تسير الحياة ولا تتوقف لموت بشر أو زعيم وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه فقه واسع وعلم غزير، فماذا حدث في هذا اليوم (12) من ربيع الأول من (11هـ)؟

اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وسقيفة بني ساعدة هي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم الهامة، فرأى الأنصار أن الخليفة لابد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.

هذا الموقف لابد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام.

يبرز من هذه الأسئلة في هذا الموقف سؤالان هامان ركز عليهما المستشرقون وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب أو الشرق أو من أبناء المسلمين، هذان السؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة بأسئلة أخرى للطعن في المهاجرين وبقية الصحابة.

السؤال الأول: كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟

يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، وهذا السؤال أيضاً قد يتردد في أذهان بعض المؤمنين.

السؤال الثاني: لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟

والحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين جداً أود أن أقدم بتعريف للأنصار، فمن هم الأنصار؟

يبدو أن كثيراً من المسلمين لا يدركون قيمة الأنصار، والأنصار طائفة من المؤمنين اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة أنتجت في النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، وفعلاً الأنصار ظاهرة فريدة؛ اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصاراً، ومروا بهذه الصفات بكل مواقفهم، إلى أن انتهى الأنصار من المدينة، فالأنصار نسمة رقيقة حانية أقبلت على دولة الإسلام فأصابت من بركتها وخيرها على الأمة، ثم مضت النسمة ولم تأخذ شيئاً لنفسها، سبحان الله! الأنصار قدموا وقدموا وقدموا ولم يأخذوا شيئاً، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمراً آخر فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط ولا ضجر وكأن الله عز وجل أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئاً في دنياهم، إنهم الأنصار وما أدراك ما الأنصار؟

روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)، هذا حديث يلخص كل المسألة.

فلابد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، فالقضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).

وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قالها ثلاثاً.

وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: (موعدكم الحوض)، وغير ذلك كثير من الأحاديث، وسيأتي -إن شاء الله- في أثناء المحاضرات أحاديث أخرى في حقهم.

هذا الحب العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعاً يجلون الأنصار ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني، وجرير بن عبد الله من أشراف قبيلة بجيلة ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة قبل وبعد الإسلام، وفوق هذا فهو أسن وأكبر كثيراً من أنس بن مالك ، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، ويستغرب، فقال أنس : لا تفعل، أي: كيف تخدمني؟ فقال جرير : إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته.

و أنس من الأنصار، فإذاً: يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هكذا هو وضع الأنصار وهذه هي قيمة الأنصار وسط الصحابة.

هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة من الأنصار وأعمال متواصلة وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى تاريخ الأنصار وإلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، فكل أنصاري فيه هذه الصفة، تلك هي صفة الإيثار، قال عز وجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، يعني: شدة الفقر أو الحاجة، فمحور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، وهذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وصف الله عز وجل الذي خلقهم ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، فأثبت الله لهم في الآيات الإيمان ومحبة المهاجرين وسلامة الصدر والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح.

فأي فضل؟ وأي قدر؟ وأي درجة؟ وأي مكانة؟ لابد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لابد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم ولهذه الطائفة الفريدة من البشر، فاقرءوا تاريخ الأنصار، واقرءوا عن بيعة العقبة الثانية وما قدموه من تضحيات ثمينة وجهاد عظيم، والثمن الجنة.

اقرءوا قصة الهجرة وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين وإكرام المهاجرين وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل) وهذا في أول الهجرة، يريدون أن يقسموا نخيلهم وأرضهم بينهم وبين المهاجرين، (فقال: لا) فرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه استغرب من هذا العطاء الكبير، ورفض أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم؟ أبداً، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياءً أو سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة ولا خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن فعلوا ذلك لأنهم وجدوا في قلوبهم حباً حقيقيًا للمهاجرين، وجدوا في أنفسهم إيثاراً على أنفسهم، إنه شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم.

فذهب الأنصار من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئاً لا يمتلكه إخوانهم، فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، يعني: يعمل المهاجرون في الأرض بدلاً من الأنصار ثم يقسمون الناتج من الثمرة بينهم، يعني: مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم لكنه نوع من المساعدة دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل وهذا أجره، فقيل المهاجرون، وسعد الفريقان بذلك.

ومشاعر الأنصار والله! مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين أو يوم أو يومين، بل هذا ديدنهم طيلة حياتهم، فقد جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.

بل حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلاً أروع من هذه الأمثلة، وذلك في أعقاب غزوة حنين في سنة (8) من الهجرة، يعني: قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قصة بني ساعدة.

روى ابن إسحاق مفصلاً والبخاري مختصراً: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة) يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين كثرت الأموال جداً في يده صلى الله عليه وسلم فأعطى كل القبائل التي دخلت في الإسلام في هذه الآونة، أعطى في قريش وأعطى في ثقيف وأعطى في هوازن وفي غيرها.

لكن لم يعط الأنصار، الأنصار فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم يعني: غضبوا في أنفسهم، قال: (حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله! رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه) سبحان الله! إن الأمر خطير.

وغزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جداً في تاريخ المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ الأمر فروا، وذلك عندما اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أفراد معدودون، وهنا صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! فلبو جميعاً) ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله عز وجل نصره لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي والإبل والأغنام والذهب والفضة والسلاح.. وغير ذلك، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم في الغنائم؟

لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعداداً كبيرة من زعماء قريش وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من السيف وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام وإن لم يعطهم فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم ولكن فيمن وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة ولم يتمكن في الجزيرة بعد، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم ويحتويهم في هذا الدين فأعطاهم عطاءً كريماً سخياً.

ثم بعد ذلك لم يبق في يده شيء للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا ودافعوا، ولم يفعلوا ذلك لأجل المال ولا الغنائم، ولكن لابد وأن يتساءل الإنسان لماذا هذا التباين في العطاء؟

خاف الأنصار أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه حتى يتألفهم، ومن ثم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فذلك أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمراً يحزنهم لفراقه صلى الله عليه وسلم ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أنهم أيضاً خشوا أن يكون ذلك استقلالاً لشأنهم وتهميشاً لدورهم، فلماذا هم لا يأخذون والآخرون يأخذون ولا يستنكر أيضاً أن يكون لهم رغبة في المال الحلال، وهذه حصتهم في الغنيمة، والمال حصد أمام أعينهم وبالذات أنهم شاركوا في جمعه والوصول إليه، فاستثناؤهم منه أمر قد يغري ويوغل الصدور.

وهنا تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه في سرعة وفي حكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك ليحتوي الموقف قبل أن تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد.

فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء)، إنها صراحة رائعة ووضوح جميل من سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأين أنت من ذلك يا سعد ؟! فقال -في صراحة أكثر-: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي؟) يعني: أنا أيضاً أجد في نفسي، فقال الرسول الحكيم محمد صلى الله عليه وسلم: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم) وواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد أن الفتنة تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجالاً للقيل والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه، فلما اجتمع الأنصار جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: (لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثني عليه ثم قال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فرد الأنصار في أدب جم: الله ورسوله أمن) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بماضيهم منذ (10) سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال والفرقة والفقر، ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا واغتنوا بالإسلام، فكما رفعهم الله بالإسلام ووجدوا حلاوته فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع أقواماً آخرين بحلاوة الإيمان.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟! فقال الأنصار في تواضع عجيب: بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ولرسوله المن والفضل) ولم يذكر الأنصار مناصرتهم الدعوة، ولم يذكروا أنهم وإن كانوا آمنوا واهتدوا واغتنوا فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وأموالهم وديارهم وأرضهم، وقدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر ما يحبون.

أما هؤلاء القرشيون الذين امتلأت جيوبهم الآن فلم يقدموا إلا كفراً وجحوداً وحرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثمان سنوات في المدينة وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛ لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها ونصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: (لله ولرسوله المن والفضل) لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم وفضلهم، ويقوم الآشياء فيحسن التقويم صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: (أما والله! لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك) وسبحان الله! لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم وفضلهم وإيثارهم وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب قلوب الأنصار في مقالة حكيمة رقيقة حانية قال: (أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم في لعاعة من الدنيا؟) اللعاعة: نبات صغير رقيق، أي: أن كل ما أعطيته لهم لا يساوي شيئاً، (أوجدتم يا معشر الأنصار! في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا).

بهذه الكلمات القليلات وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية انتهت الفتنة في دقائق معدودة، فهاهم الأنصار ينصرفون باكين بهذه الكلمات، ونفوسهم راضية، وأفئدتهم مطمئنة وفي لحظات تجد أن (100) بعير أو (200) بعير أو (300) بعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئاً، هكذا في منتهى البساطة، تركوا دنيا واسعة عريضة استجابة لكمات معدودات طاهرات من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأين حظ نفوسهم؟ وأين الدنيا في قلوبهم؟ وأين الأثرة أو حب الذات؟ لا شيء، قال عز وجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولابد أن ندرس قصة سقيفة بني ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.

ونعود إلى السؤالين اللذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم.

السؤال الأول: كيف أسرعوا إلى ذلك ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزناً كافياً، ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.

وللرد على هذه الشبهة نقول:

أولاً: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها ويتجاهلونها عن قصد وعمد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نزههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم بقرآن باقٍ إلى يوم القيامة، فإذا تغير منهم رجل أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعاً أو أن يجتمعوا على حب الدنيا.

ثانياً: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل، فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:5]، الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى.

روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).

فصبر الأنصار رضي الله عنهم كان صبراً جميلاً صبراً عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

ثالثاً: هل يمنع هذا من كون قلوبهم تتفطر حزناً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل؟ لا تعارض أبداً، فالمسلم الإيجابي مهما حزن فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، فالحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن غير مرغوب فيه.

وتعالوا نفكر قليلاً مع الأنصار، ترى لو انتظر الأنصار يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين حتى تهدأ عواطف الحزن وتعود الحياة إلى طبيعتها ماذا ستكون النتيجة؟ ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟ من سيتخذ قرار الحرب من عدمه؟ من سيجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟ ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟ وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة.

وماذا يحدث لو هجم مسيلمة الكذاب بجحافلة المرتدة على المدينة؟ من سيتخذ قرار الحرب ضدهم؟ وماذا لو نقض اليهود عهدهم! أيحاربون أم يوادعون؟ أتكون لهم شروط جديدة؟ أيكون لهم عهد جديد؟

ثم ماذا سيحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟ ماذا سيكون رد فعل الصحابة؟ أينكرون بيعته ويحاربونه وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى، أم يتركون منافقاً يترأسهم؟ وماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة التي تكون دولة الإسلام الآن زعيماً لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزاباً وشيعا؟ من يجمع؟ ومن يوحد؟

بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي نجد أن إسراع الإنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فضيلة تحسب للأنصار وليس نقصاً أو عيباً، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.

لكن السؤال الأصعب والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم وليس من المهاجرين؟ تعالوا نفكر مع الأنصار.

أولاً: حتى نفهم موقف الأنصار تعالوا نسمي الأشياء بالمصطلحات الحديثة من أجل أن ندرك أبعاد الموقف بكاملة، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون، فقد كانت المدينة كأنها دولة مستقلة يعيش فيها الأوس والخزرج، وذلك قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة وهي أيضاً دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة، وضيق على المهاجرين فاضطروا إلى ترك مكة واللجوء إلى المدينة المنورة، أي: أن التعريف الحديث للمهاجرين هو أنهم مجموعة من اللاجئين السياسيين في دولة المدينة المنورة، والمدينة كدولة كريمة سخية عادلة استقبلت اللاجئين أو المهاجرين خير استقبال وأكرمتهم وأعطت لهم ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض عليهم أبداً قيوداً تعوق من حياتهم، بل على العكس، كثيراً ما آثرتهم على أهل البلاد الأصليين.

ثم مرت أيام أخرى ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، فهل من المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين أم من اللاجئين إليها؟ وهل من المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قدموا كل شيء لأجل من قدم إليهم، أم يقدم الذي جاء طريداً من بلده فاستقبل في بلد آخر؟

لو هاجر مجموعة من الفلسطنيين مثلاً إلى أمريكا أو إنجلترا أو حتى إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن يختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟ فهذا أمر لا يصح ما لم يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك -فيما أعلم- بلد في العالم وضع مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.

هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أصحاب البلد وأكثريتها وملاكها، والأرض أرض آبائهم وأجدادهم فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟

ثانياً: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها؟ واضح أن المدينة هي دار الإسلام الرئيسية ومكة والطائف وغيرها ما هي إلا مدن تابعة، أليس من المنطقي الذي قد يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها وبتاريخها وجذورها؟ أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟ هذا لا شك خطر على أذهان الأنصار فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.

ثالثاً: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دولة بغير الأنصار؟ فالمهاجرون قضوا (13) سنة كاملة في مكة ولم يفلحوا هناك في تحويلها إلى بلد إسلامي، فكان لابد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية ثم العودة مرة أخرى إلى مكة.

وسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد شتى لكي يؤووه وينصروه، فإن قريشاً قد ظهرت على أمر الله، فذهب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فأبوا عليه وطردوه ورجموه بالحجارة، وخاطب معظم قبائل العرب في مواسم الحج فردوه جميعاً، وخاطب بني حنيفة وكندة وبني شيبان وبني عامر بن صعصعة وبني كلب وغيرهم وغيرهم، فردوه جميعاً إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في دين الله أفواجاً، وعرضوا استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بذل المال والجهد والوقت والرأي وكل شيء.

وهاجر فعلاً رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة للإسلام، ولا شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت إلا عندما يظهر فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار رضي الله عنهم، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.

رابعاً: -وهذه نقطة هامة جداً-: الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكة هي البلد الحرام، وهي التي تركوا فيها ديارهم وأرضهم وأموالهم التي صادرها المشركون، والآن قد أسلم المشركون ومن حقهم العودة إلى بلادهم لأخذ ما صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلاد الحرام حيث الصلاة بـ(100.000) صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصيلة في مكة وما حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل.

وفي غزوة حنين كما ذكرنا قالوا: (لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله! قومه)، فكانوا يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم سينتقل إلى مكة بعد فتحها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرين أن يرجعوا إلى بلادهم وقد أمنت.

فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكاً أليس من المنطقي لاستقرار الدولة الإسلامي أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلوا من مهاجريها؟

فإن قيل: إنه في هذه الحالة قد تنقل العاصمة إلى مكة؟ فإنه يرد على ذلك بأنه ليس من الحكمة أبداً أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب؛ فأهل مكة دخلوا الإسلام منذ أقل من ثلاثة أعوام فقط، رغماً عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح، وأخفى ذلك من أخفى، فهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه أهل المدينة ولا علمهم، وردتهم عن الدين الجديد واردة.

بل فعلاً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم الله عز وجل على الإسلام بـسهيل بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة والمدينة سيتركها المهاجرون فمن يحكم؟ سؤال لابد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لابد أن يكون من الأنصار.

خامساً: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين ناصروا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة الحكم والسلطان فقد يستأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا الإحساس في كلامهم -كما سنرى- في سقيفة بني ساعدة، لهذه الأسباب مجتمعة -ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه- اعتقد الأنصار أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم وليس من المهاجرين، وليس تقليلاً لشأن المهاجرين في نظرهم أبداً، ولا إهمالاً لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا ينازعهم فيه أحد.

ومع كل ما سبق فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم؛ حسماً لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضاً يعذرون بأمور، فهناك احتمال أنهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلاً في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل، أو لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر، أو لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.

المهم أن الأنصار أوسهم وخزرجهم ذهبوا بالفعل إلى سقيفة بني ساعدة لتجرى عملية مبايعة الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبيلتين الكبيرتين، فأين المهاجرون من هذه الأحداث؟ كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل والتكفين ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن أين يدفن؟ أفي البقيع أم مع شهداء أحد أم في مكة بلده أم في مكان خاص به؟ حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات صلى الله عليه وسلم، كما أخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت.

لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟ ليس معقولاً طبعاً، فقد رأى أحد الرجال من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة فأسرع إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بداخله آنذاك أبو بكر وعمر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فنادى الرجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: اخرج إلي يا ابن الخطاب ! عمر : إليك عني؛ فإنا عنك مشاغيل؛ لأنهم في مصيبة كبيرة، لكن الرجل أصر على عمر ، فخرج له فقال الرجل: إنه قد حدث أمر لابد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمراً، هنا أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطورة الموقف فأسرع إلى الصديق رضي الله عنه وأخبره بالأمر وقال له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.

وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جداً، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة وفي هذا فساد، فلابد أن يسرعوا قبل أن يكتمل الأمر ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة.

أسرع الصديق وعمر رضي الله عنهما إلى السقيفة، وفي الطريق لقيا رجلين صالحين من الأنصار القدامى ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية وشهدوا كل معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما: عويم بن ساعدة رضي الله عنه ومعن بن عدي رضي الله عنه، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة وليقضوا أمرهم -أي: المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة.

ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه وهو من أعظم المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، فيا ترى ماذا فعل الأنصار في سقيفة بني ساعدة؟ وماذا فعل المهاجرون الثلاثة: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين؟ وكيف تم المشروع الحضاري الرائع اختيار الخليفة على نحو لم يسبق ولم يلحق في التاريخ؟ هذا ما سنعرفه -إن شاء الله- في الدرس القادم.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الصديق نعمة السبق 3303 استماع
سلسلة الصديق شبهات حول استخلاف الصديق 3210 استماع
سلسلة الصديق نعمة الثبات 2604 استماع
سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميح 2523 استماع
سلسلة الصديق يوم السقيفة 2397 استماع
سلسلة الصديق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم 2303 استماع
سلسلة الصديق شروط الاستخلاف 2070 استماع
سلسلة الصديق استخلاف الصديق 1623 استماع
سلسلة الصديق إنكار الذات 1514 استماع
سلسلة الصديق رقة القلب 1456 استماع