خطب ومحاضرات
سلسلة الصديق شبهات حول استخلاف الصديق
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس الحادي عشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وما زلنا نتحدث عن الحدث الهام الذي تم في ذات اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو انتخاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين، ذكرنا في الدرس السابق رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه، وإن كان لمح بذلك تلميحاً قوياً، وأعرض عن التصريح المباشر، وذكرنا أسباب ذلك.
وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه جمع كل مقومات الخلافة، وكان أكثر المستحقين لهذا المنصب الخطير في الأمة الإسلامية، فقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق أفضل الصحابة على الإطلاق، وتوافرت فيه كل شروط الخليفة في أعلى درجاتها، وحاز رضا وموافقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان استخلافه بحق رحمة وخيراً لأمة الإسلام، ومع كل هذا فقد كثرت الشبهات التي أثارها بعض الشيعة والمستشرقون حول هذا الاستخلاف، وذكروا أنه قد يكون هناك من هو أحق من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بهذا الأمر.
نحن في هذا الدرس سنخصصه بكامله لعرض الشبهات وللرد عليها، ونبتدئ بسؤال هام:
إذا لم يكن الصديق رضي الله عنه فمن غيره يكون خليفة للمسلمين؟
وهذا السؤال ليس مجرد طرح نظري لأسماء أخرى، بل هذا سؤال لأن هناك طوائف مختلفة من المتشككين في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد طرحت أسماء أخرى للطعن في خلافة الصديق رضي الله عنه، ولتشويه الصورة الجميلة للجيل الأول، ولأهداف أخرى كثيرة.
وكثير من المستشرقين فعل ذلك، وسار على نهجهم بعض المستغربين من أبناء المسلمين، وكثير من طوائف الشيعة أيضاً فعلت ذلك، ولم يطعنوا في خلافة الصديق فقط، بل طعنوا أيضاً في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وتكاد تنحصر الأسماء المرشحة في شخصين: الأول هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، والثاني: هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، وقد يفكر البعض في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيم الخزرج فقد تحدثنا عن تفصيلات موقفه، ولماذا كان مرشحاً للخلافة، وكيف نزل الأنصار عن رأيهم بترشيحه، وعادوا بعد ذلك إلى ترشيح أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكيف بايعوا جميعاً بما فيهم سعد بن عبادة رضي الله عنه.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يطرح اسمه حقيقة من أحد، اللهم إلا من أبي بكر الصديق نفسه يوم السقيفة لما رشحه للخلافة، حيث قال: أنت أقوى مني. فقال عمر : قوتي مع فضلك، والجميع يعلم أن أبا بكر مقدم على عمر ، وعمر نفسه كان يقول: والله! لئن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر .
كما أن الشدة المعروفة عند عمر رضي الله عنه وأرضاه لم تكن مناسبة للأمة وهي خارجة من المصيبة الكبيرة وهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: يبقى اسم واحد هو محل كلام ونقاش وجدال، وهو البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الصحابي الجليل أشاع كثير من الشيعة أنه كان أحق بالخلافة من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والمستشرقون أعجبتهم الفكرة وذكروها في كتبهم على أساس أن الخلافة حق منهوب من علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
و هذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ظهر في أواخر أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه عند اتساع رقعة الإسلام، ودخول الكثير من المغرضين في دين الله، وبدايات الفتنة، ومحاولات هؤلاء المغرضين هدم الإسلام من جذوره وأصوله، حيث دخل في دين الله عز وجل كثير من اليهود والمجوس الذين أرادوا أن يقسموا الدولة الإسلامية إلى طائفتين متناحرتين، ومن الناحية الثانية أرادوا أن يطعنوا في رموز الصحابة جميعاً.
وقد يكون عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من أشاع بين الناس فكرة التشيع لـعلي بن أبي طالب وأنه أولى بالخلافة، وليس من عثمان فقط، بل ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، وكان لـعبد الله بن سبأ أعوان من قبائل شتى كلها كانت تنقم على الإسلام لأسباب مختلفة، وكثير منهم من أرض فارس من الأقوام الذين أكل الحقد قلوبهم لانهيار دولتهم على أيدي المسلمين، وكان يقود المسلمين أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، وما زالت إلى الآن هذه المغالاة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأكثر طوائف الشيعة اعتدالاً ترى شرعية خلافة الصديق وعمر على سبيل جواز إمامة المفضول للفاضل، أي: أنهم يزعمون أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لكن يجوز أن يتولى الخلافة الأقل فضلاً في رأيهم.
هذا الفكر المتشيع لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لا يقتصر على طوائف الشيعة فقط، بل كما ذكرنا أعجبت الفكرة المستشرقون فذكروها في كتبهم، وأفردوا لها البحوث والتحليلات، وانتقل هذا الفكر إلى طائفة من المسلمين المحسوبين على أهل السنة المتعلمين على أيدي هؤلاء الغربيين، وقد قرأت في هذا الموضوع كتابات يقشعر منها البدن، ويكاد المرء يصاب بالغثيان من أولئك الذين يطعنون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، وما زال هذا الفكر يدرس إلى الآن في جامعات إسلامية وغربية كثيرة.
وهنا سؤال يأتي على الذهن: لماذا اختار عبد الله بن سبأ اليهودي أو غيره ممن ابتدع هذه الفكرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ليدعوا أنه كان أحق بالخلافة؟
لماذا لم يختاروا أي صحابي آخر، مثل طلحة أو الزبير أو عثمان أو أي صحابي آخر غير سيدنا علي بن أبي طالب ؟ لماذا سيدنا علي بن أبي طالب بالذات؟
لقد فكر هؤلاء في أنه لكي يقتنع الناس بشخصية أخرى غير الصديق رضي الله عنه وغير عمر وعثمان رضي الله عنهما لابد أن يأتوا باسم تهفوا له نفوس المسلمين بصفة عامة، ويشعرون بعاطفة كبيرة نحوه، والمسلمون تهفوا نفوسهم لكل الصحابة، لكن علي بن أبي طالب يتميز عن غيره من الصحابة بأمرين هامين جعلاه أقرب إلى قلوب المسلمين:
الأمر الأول: قرابته رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن سيدنا علي هو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بني هاشم، وأقرب إلى الرسول من أبي بكر وعمر وعثمان .
الأمر الثاني: أنه زوج ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو أحفاده الحسن والحسين رضي الله عنهما، أولاد السيدة فاطمة رضي الله عنها، وهذا ليس لأحد غيره.
وسيدنا عثمان تزوج ابنتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن له أولاد من السيدة رقية أو السيدة أم كلثوم يحملون نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لهذين السببين اختاروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ كي يستغلوا اسمه في تفريق المسلمين إلى طائفتين: شيعة وسنة، وما زالت هذه التقسيمة إلى الآن موجودة كما تعلمون.
والحقيقة هناك تنبيه هام قبل أن نرد على هذين الأمرين:
وهو أننا لا يجب أن يدفعنا حبنا للصديق رضي الله عنه وأرضاه ورفضنا لفكرة الإشاعة بأن علي بن أبي طالب كان أحق بالخلافة من الصديق لا يجب أن يدفعنا هذا الأمر إلى التقليل من شأن الصحابي الجليل العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلسيدنا علي مناقب كثيرة، فهو أول من أسلم من الصبيان، وله مواقف مشهودة في تاريخ الإسلام وفي الهجرة وفي كل الغزوات تقريباً، وكان مقرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف عظيمة حتى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وفي خلافته هو شخصياً رضي الله عنه.
وبالجملة فهو من أفضل الصحابة على الإطلاق، بل يجعله كثير من علماء المسلمين هو الرابع في الفضل بعد الصديق أبي بكر ، وبعد الفاروق عمر ، وبعد ذي النورين عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
وإذا وضعنا هذه الخلفية في عقولنا فإننا نكون في مأمن من التقليل من حجم شخصية طلباً لرفعة أخرى، وهذا هو عين الصواب في التعاون مع جيل الصحابة بأكمله رضي الله عنه أجمعين.
نعود إلى الأمرين الذي تميز بهما سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهما: قرابته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزواجه من ابنته فاطمة رضي الله عنها.
أما النقطة الأولى فتعالوا بنا نفكر بهدوء وبصدق:
يا ترى هل القرابة فقط تقدم شخصاً على شخص آخر؟!
وهل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير من قريب أو بعيد إلى جعل هذا الأمر في قرابته؟!
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة في قريش) وكان ممكن بسهولة أن يقول: الأئمة في بني هاشم، لكنه لم يرد ذلك صلى الله عليه وسلم، فدعوة الإسلام ليست دعوة قبلية، ولو أخذها علي بن أبي طالب لكان ذلك دليلاً على القبلية، ومتى كانت تنفع القرابة أو تجدي حتى وإن كانت القرابة قرابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته أن يرسخ في أذهان الأمة أن المرء بعمله لا بنسبه، ولو أخذها رجل من بني هاشم مع وجود من هو أعلى منه كفاءة وأعظم فضلاً أكان ذلك يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ليس معقولاً طبعاً، وهذا كله ولا شك لا يقلل من فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ولكن لا شك أيضاً أن الخلفاء الثلاثة الأول قد سبقوه في الفضل بإجماع الأمة وقتها وبعد ذلك، ولم يكن للقرابة أن تغير من هذا الفضل أبداً.
ثم هل كان يتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره إلا بقليل على الأشياخ الكبار أبي بكر وعمر وعثمان ؟ فقد كان عمره عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (31) سنة فقط، بينما كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الواحدة والستين من عمره.
نعم، تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية شباب كثير، لكن قيادة الجيوش شيء وقيادة الأمة شيء آخر؛ إذ لا شك أن الخبرات المتراكمة لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه كانت نفعاً للأمة، والأمة لم تخسر طاقات الشباب، فـالصديق الإمام يوجه وينظم ويخطط والجميع في الأمة من الشباب أو من الشيوخ ينفذ ما أمر به الصديق رضي الله عنهم أجمعين.
الأمر الثاني: هو زواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، أكان ذلك الأمر يؤهله لأمر الخلافة؟ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال هو عن نفسه: لا يغني عن فاطمة نفسها شيئاً، ولا تنجو إلا إذا عملت، أفيغني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زوج ابنته إلا إذا عمل؟!
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فقال: يا معشر قريش! -أو قال كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية ! عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد ! سليني ما شئت من مالي؛ لا أغني عنك من الله شيئاً).
وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح أن العلاقات لا تقدم ولا تؤخر في فضل المؤمنين، وأن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى والعمل الصالح والكفاءة.. وغير ذلك من الأمور المكتسبة، فلا يتفاضل الناس بحسب الأشياء التي لا دخل لهم فيها، كالنسب واللون والجنس والحالة المادية.. وغير ذلك من أمور التفاضل، ويحتمل أن يكون هذا هو السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعش له أولاد ذكور، أو لعله يكون جزءاً من السبب أو جزءاً من الحكمة.
فإذا كان الناس تشيعوا لـعلي بن أبي طالب بهذه الصورة، واستغلوه للتفريق بين المسلمين، فماذا كان سيفعل المسلمون مع ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو عاش؟!
كانت ستظهر له طائفة كبيرة من المتشيعة، وتجد فيه وفي ذريته ذريعة للاتباع، وذريعة لتفريق المسلمين تحت قيادات مختلفة.
وهناك نقطة أخرى خطيرة:
لا شك أن الذين أشاعوا هذه القضية كانوا يعلمون أن حجتهم ليست بالقوية، فهم يطلبون خلافة لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على أساس القبلية والقرابة، وهذه مؤهلات غير مقبولة في الشرع، فماذا يفعلون حتى يثبتوا خلافة في غير موضعها؟
لقد بحثوا عن مصداقية أخرى لهذا الأمر، فوجدوها في فرية أخرى ابتدعوها ابتداعاً، تلك الفرية هي الادعاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالخلافة من بعده، فعملوا موضوع الوصية المشهور، ونشرت طوائف كثيرة من الشيعة هذه الإشاعة، وأعجبت المستشرقون والعلمانيون حتى درسوها في المدارس والجامعات؛ حتى يوهموا الدارسين أن المخالفات الشرعية بين الصحابة كانت مبكرة جداً، فبمجرد أن مات الرسول عليه الصلاة والسلام بدأ الصحابة يخالفون، هكذا أرادوا.
وللأسف وجدت مثل هذه المناهج رواجاً، وما زالت تدرس وبشدة في أكثر من جامعة مسلمة، ووجدت أيضاً كتب كثيرة تتبنى هذا الفكر مع كونه مغايراً للحقيقة تماماً.
وللرد على هذه الإشاعة أو الشبهة (شبهة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصى لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة) نقول:
أولاً: لم يرد بهذه الوصية نقل صحيح، فكل الروايات التي ذكرت هذه الوصية روايات في غاية الضعف، بل هي موضوعة من الأصل، يعني: أنها مؤلفة، ونحن كمسلمين حريصون على ديننا فيجب أن نحرص على أن ننقل الصحيح فقط من الروايات، وبالذات في هذه القضايا الشائكة وهذه الأمور التي يطعن بسببها في صحابي أو أكثر، ومن أراد أن يخرج علينا بفكرة الوصاية فعليه أن يأتي بالدليل الصحيح، وإلا فما أسهل الكلام!
النقطة الثانية: إذا كانت هناك وصية معلومة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، للزم أن نفترض أن الصحابة جميعاً اتفقوا على مخالفتها، وطبعاً مخالفة وصية كهذه ستكون مخالفة واضحة صريحة للشرع، فيلزم هنا مرة ثانية أن نتهم الصحابة جميعاً بالمخالفة الشرعية للإسلام، وهذا أمر خطير لا يعقله عاقل.
وكيف يمكن أن جيلاً بأكمله يتفق على خلافة رجل وإنكار خلافة رجل آخر، مع وجود الوصية بغير ذلك؟
مع العلم أن أبا بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما كلاهما من قريش، يعني: لا مجال لترجيح واحد على الآخر إن كانت هناك وصية بذلك، وكيف يتفق الأنصار مع القرشيين على علي بن أبي طالب ؟
ولماذا الأنصار يختارون سيدنا أبا بكر ولا يختارون سيدنا علياً ويتفقون مع القرشيين على ذلك؟
هذه تساؤلات لا رد عليها عند طوائف الشيعة التي تتبنى فكرة الوصية لـعلي بن أبي طالب ، ولن يستطيعوا أن يخرجوا من هذا المأزق إلا بأمر عجيب.
ففسقوا وأحياناً كفروا كل جيل الصحابة إلا مجموعة تعد على أصابع اليدين، وهذا من المستحيل أن يستساغ عقلاً فضلاً عن غياب النقل الصحيح بذلك.
هذا الموقف في غاية الخطورة، وترتبت عليه نتائج خطيرة، فإن هذه الطوائف الشيعية المتجاوزة قالت: إن كان هؤلاء الصحابة بدلوا وغيروا في أمر خطير كهذا، فكيف يقبل منهم بقية الأمور؟
لذلك قالوا: يجب ألا ينقلوا عنهم حديثاً ولا ديناً ولا تشريعاً ولا فقهاً، فحرموا أنفسهم وأتباعهم من آلاف الأحاديث التي نقلت عن طريق هؤلاء الصحابة.
فقالوا: لا نأخذ عن عائشة ، ولا نأخذ عن أبي هريرة ، ولا نأخذ عن عمر بن الخطاب ، ولا نأخذ عن عبد الله بن عمر ، ولا نأخذ عن عبد الله بن عمرو ، ولا نأخذ عن كل الأنصار.
إذاً: أين الدين؟ وأين الشرع الذي تتبعون؟!
لا يأخذون إلا ما جاء عن طريق علي بن أبي طالب وعدد محدود جداً لا يزيد عن العشرة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقلون عنهم بواسطة طرقهم الخاصة التي هي في غالبها ضعيفة، بينما يعرضون كلية عن كل الطرق التي قبلها علماء السنة المسلمين؛ لأنهم كما يقولون: نقلوا عن الصحابة الذين تآمروا -في زعمهم- على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فهؤلاء لا يعترفون بـالبخاري ولا بـمسلم ولا بسنن أبي داود ، ولا بـالترمذي ، ولا بـالنسائي ، ولا بـابن ماجه ، ولا بالإمام أحمد .. ولا يعترفون بكل أئمة الحديث عند المسلمين.
وهذه كارثة وهاوية سحيقة، وضرب للدين في أصوله.
النقطة الثالثة: إذا كان هناك فعلاً وصية لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلماذا لم يصرح بها علي بن أبي طالب أو حتى يكتفي بالإشارة أو بالتلميح؟
ألا يعد علي بن أبي طالب هنا كاتماً لما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
وإذا كانت هناك وصية لأحد فكتمها فإنه يعد مخالفاً للشرع، أيفعل علي بن أبي طالب ذلك؟!
قالت الشيعة: إنه كتم هذا الأمر تقية، أي: يتقي الصحابة، فكتم الأمر خوفاً على نفسه إلى أن تأتي الظروف ويتمكن من الحكم.
لا حول ولا قوة إلا بالله، أي مجتمع هذا الذي تصفون؟!
ألم يكن علي بن أبي طالب شجاعاً مقداماً، لا يخاف في الله لومة لائم؟!
أيكتم هذا الأمر تقية؟!
ثم ممن يتقي؟ وممن يخاف؟ علي بن أبي طالب الهاشمي وقبيلته هي أعظم قبيلة في قريش، هل يتقي أبا بكر التيمي وقبيلته بني تيم من أضعف بطون قريش؟
لا أعتقد أن أحداً يقبل ذلك عقلاً.
النقطة الرابعة: هل كانت فاطمة بنت محمد رضي الله عنها بعيدة عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
لقد كانت بجواره حتى آخر اللحظات، فهل لم تعلم منه شيئاً خطيراً كهذا، حتى تخبر به بعد ذلك؟!
وهل منع علي بن أبي طالب من زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يخبره بهذا الأمر؟!
بدراسة كل الملابسات يتضح أن هذه الوصية ما هي إلا قصة مختلقة لم يعرف بها أحد إلا بعد أن وضعت وألفت ولفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأعوام كثيرة.
وهذه شبهة جديدة قالوها في هذا المضمار أيضاً، قالوا: لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بصورة براءة، ليقرأها على الناس في الحج، ويقطع بها عهود المسلمين معهم، وفي ذلك -كما زعموا- إشارة إلى استخلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن المعروف أن أمير الحج في هذا الموسم كان أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يكن يقصد أن يستخلف علياً لجعل أبا بكر هو الذي يقطع العهود.
وسبحان الله! ما أسخف هذه الشبهة! وما أتفهها!
أولاً: نزلت سورة براءة بعد خروج أبي بكر بوفد الحج، وكان أبو بكر هو الأمير، فلما نزلت السورة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من رجاله لم يكن في الحج وهو علي بن أبي طالب ، أرسله بالسورة حتى يصل بها إلى الناس المجتمعة في الحج.
ثانياً: من عادة العرب أن الذي ينقض عهد رجل لابد أن يكون من قبيلته، فلكي يقطع عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون القاطع لهذا العهد من قبيلته، وهو علي بن أبي طالب .
والحديث هنا في موسم الحج ليس للمسلمين فقط؛ حتى يكلف الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا ينظر إلى تقاليد العرب في نقض العهود، بل إن الحديث المقصود موجه إلى المشركين في الأساس، ولابد أن يصله إليهم بالصورة التي يقبلونها دون جدال ولا نقاش.
ثالثاً: لقد تعلق المغرضون بإشارة خفية في إرسال علي بن أبي طالب وأغفلوا أمراً جلياً واضحاً في ذات القصة، وهو أن علي بن أبي طالب لما جاء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مكة قال له أبو بكر الصديق : أمير أم مأمور؟ فقال علي بن أبي طالب : بل مأمور.
فكيف يعتقدون في استخلاف المأمور علي بن أبي طالب ويتركون الأمير أبا بكر الذي يعلم الناس أمور حجهم، والذي يقود الجميع بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه؟!!
فمن الواضح أن هذه القصة حجة عليهم لا لهم، ولكن: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
وهنا شبهة أخرى للتأكيد على أحقية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بالخلافة:
قالوا: إنه لم يكن راضياً على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولذلك لم يبايعه لمدة ستة شهور كاملة.
فنقول: أولاً: هل غضب علي بن أبي طالب رضي الله عنه حقاً، وإن كان غضب فلماذا غضب؟!
الحقيقة أن هناك رواية صحيحة في صحيح مسلم تذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها بعد ستة شهور من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وستة شهور من مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ومع ذلك فقد روى ابن حبان وغيره بسند صحيح موصولاً إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن علياً بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه في اليوم الثاني للخلافة.
فما تفسير ذلك؟! وكيف نجمع بين الروايتين؟!
التفسير الذي يرجحه ابن كثير رحمه الله: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد بايع مرتين: المرة الأولى وفي اليوم الثاني من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وذلك بعد ستة شهور من المبايعة الأولى للصديق رضي الله عنه.
أما المبايعة الأولى فهي التي جاءت في رواية الحاكم والبيهقي وابن سعد وابن حبان بسند صحيح كما ذكرنا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيها: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صعد المنبر في اليوم الثاني، وهو اليوم الذي كان يوم بيعة الجمهور، فنظر رضي الله عنه في وجوه القوم فلم ير الزبير بن العوام رضي الله عنه، فدعا بـالزبير فجاء، وكان الزبير في ذلك الوقت في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يجهزه للدفن، فقال أبو بكر له: ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! يعني: أن سيدنا أبا بكر يلوم سيدنا الزبير أنه لم يأت ويبايع سيدنا أبا بكر الصديق كما بايع عامة المسلمين، فقال الزبير بن العوام : لا تثريب -أي: لا لوم- يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقام فبايعه، ثم نظر أبو بكر في وجوه القوم، فلم ير علياً فدعا به فجاء، فقال له: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين؟! ختنه يعني: زوج ابنته.
فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فبايعه.
ففي هذه الرواية التصريح بالمبايعة، فتخلف الزبير وعلي رضي الله عنه عن الحضور في يوم السقيفة وفي اليوم الثاني لأنهما كانا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم للدفن، ولما استراب أبو بكر رضي الله عنه لغيابهما، أرسل إليهما يلومهما، فجاءا يعتذران ويبايعان.
روى الطبري بأسانيده عن حبيب بن ثابت رحمه الله: أن علياً كان في بيته، فأتى إليه الخبر عن جلوس أبي بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار ولا رداء عجلاً كراهية أن يبطئ عنه حتى بايعه، ثم جلس إليه، وبعث فأحضر ثوبه وتجلله، ولزم مجلسه.
فلماذا كان سيدنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام يشعران بشيء من الغضب أو عدم الرضا بخصوص ما تم في سقيفة بني ساعدة؟
الجواب:لم يكن ذلك لعدم اقتناعهما بـأبي بكر الصديق أبداً، ولكن لأنهما أخرا عن المشورة، وهما -كما يعلم الجميع- على درجات عالية من الفضل والسبق والرأي.
روى الحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن علي بن أبي طالب والزبير بن العوام قالا: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة. فهذا تصريح عن سبب الغضب.
قالا: وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حي.
إذاً: كانت هذه هي المبايعة الأولى.
وهناك أمر آخر كان مع هذه المبايعة الأولى، كان هناك حدث آخر صاحب هذه المبايعة، وهو طلب السيدة فاطمة رضي الله عنها ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء علي بن أبي طالب يطلب ميراث السيدة فاطمة من أبيها صلى الله عليه وسلم، رفض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال لها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، فوجدت عليه السيدة فاطمة رضي الله عنها في نفسها.
وسنتكلم على هذا الموقف في آخر الدرس.
لكن المهم هنا أن السيدة فاطمة رضي الله عنها وجدت في نفسها، ثم ما لبثت أن مرضت ولزمت بيتها، يعالجها ويمرضها زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان سيدنا علي بن أبي طالب مراعاة لمشاعرها يقلل من اختلاطه بمجلس أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فلما ماتت السيدة فاطمة بعد ستة شهور من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفنها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحس أن بعض المسلمين يشعرون بهجرته للخليفة أبي بكر الصديق فأراد أن يؤكد على بيعته، وأنه ما انعزل عنه إلا لأمر السيدة فاطمة رضي الله عنها، فذهب وبايع البيعة الثانية له رضي الله عنه، ومما قال علي بن أبي طالب في هذه المبايعة الثانية كما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن علياً قام فعظم حق أبي بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع من هجرة للصديق ومن غضب أصابه للتأخير عن المشورة نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علينا، أي: سار على الاختيار دون أن ينتظر علي ولا أن ينتظر الزبير ولا أن ينتظر العباس رضي الله عنهم أجمعين، فوجدنا في أنفسنا. فسر بذلك المسلمون.
أي: سروا ببيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه الثانية، وقالوا: أصبت.
وقد شرحنا من قبل لماذا أسرع أبو بكر وعمر باختيار الخليفة في سقيفة بني ساعدة؛ وذكرنا أنهم كانوا خائفين من الفتنة الكبيرة التي فصلنا قبل ذلك أنها قد تحدث إن لم يتم اختيار الخليفة بأسرع وقت.
ثم إن علي بن أبي طالب لا يخفى أمره، وليس بالمجهول عند الصحابة، ولو أراد الصحابة في بني ساعدة أن يختاروا علياً لرشحوا اسمه للخلافة حتى في غيابه، ولكن كان من الواضح أنه لا يوجد أحد في المدينة يتقدم على الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: هناك رأي يقول: إن علي بن أبي طالب قد بايع مرتين: المرة الأولى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بيوم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها؛ لطرد الشائعات بأنه لا يرضى عن خلافة الصديق رضي الله عنه.
لكن ما زال هناك موقف يحتاج إلى تفسير، وهو أن رواية مسلم تقول بالتصريح: إن علياً لم يبايع إلا بعد ستة شهور، فما تفسير ذلك؟!
الآن عندنا روايتان: رواية تقول: بايع، ورواية تقول: لم يبايع.
يفسر هذا الموقف بأمرين:
الأمر الأول: أن هذه الرواية وإن كانت في صحيح مسلم إلا أن البيهقي رحمه الله ضعفها، وذلك لأن الزهري أحد رواتها رواها غير متصلة، فالسند منقطع، ولو كان ذلك صحيحاً فلا يبنى عليه هذا النفي للبيعة.
الأمر الثاني: إن صحت هذه الرواية فإنها تحمل على أن الراوي لهذا الحديث لا يعلم أن علياً كان قد بايع المبايعة الأولى.
ونحن الآن عندنا حديث يثبت لـعلي البيعة، وحديث آخر -لو صح- ينفي البيعة الأولى لـعلي بن أبي طالب ، فبأي الحديثين نعمل؟
يقول الفقهاء في ذلك: إن الحديث المثبت يقدم على المنفي؛ لأن الذي نفى نفى أن يكون قد وصل إلى علمه، ولكن قد يكون الأمر قد حدث ولم يعلمه، أما الذي أثبت فقد أثبت؛ لأنه تيقن من الثبوت.
وأضرب مثالاً يقرب الصورة وإن كان هذا المثال خارج الموضوع:
روى البخاري ومسلم وبقية الخمسة إلا أبا داود أن السيدة عائشة قالت: (ما بال الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً قط). هذا نفي قطعي.
لكن على الناحية الأخرى روى أيضاً البخاري ومسلم وبقية الخمسة عن حذيفة بن اليمان قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول قائماً)، هذا إثبات.
فبأي الحديثين نعمل؟
قال العلماء: يقدم المثبت على النافي، فـحذيفة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً، فهذا أمر من المتيقن أنه حدث، أما السيدة عائشة فقالت: إنه لم يبل قائماً قط، هذا علمها، لكن هذا لا يمنع أنه بال قائماً بعيداً عنها ولم تعلمه.
إذاً: خلاصة الأمر في هذا أنه لو صح حديث يثبت لـعلي بن أبي طالب البيعة الأولى فإنه يقدم على الحديث الآخر الذي نفى البيعة الأولى، وإن صح هذا الحديث.
ثم بفرض أن علياً رضي الله عنه لم يبايع فعلاً إلا بعد ستة شهور -وهذا رأي بعض العلماء الآخرين- أيقدح هذا في صحة خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟!
أبداً لا يقدح؛ لأن البيعة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقل، ثم ببيعة الجمهور، وهذه البيعات تمت بالفعل للصديق رضي الله عنه، ولا يضر البيعة أن يرفضها رجل أو رجلان أو عشرة أو أي أقلية، ومع ذلك فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى وإن صح أنه لم يبايع البيعة الأولى فإنه لم يتخلف عن أمر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولم يتردد عن طاعة أوامره، ولم يشق عصا المسلمين أبداً، وهذا هو المطلوب منه، وليس بالضرورة أن يكون في اختلاطه معه كما كان قبل الخلافة، فممكن أن ينعزل قليلاً، لكن من المعروف أن علياً رضي الله عنه لم يكن يتخلف عن الصلوات خلف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن يتخلف عن الشورى معه، ولما خرج الصديق رضي الله عنه لقتال المرتدين بنفسه وقف له علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما روى الدارقطني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بزمام راحلة أبي بكر رضي الله عنه وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله! لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً.
ولما اضطر أبو بكر للخروج بنفسه بعد أن خرجت كل الجيوش في حرب المرتدين ثم هجمت عبس وذبيان على المدينة خرج علي بن أبي طالب إلى ذي القصة يحارب معه المرتدين.
فلم تكن هناك مشكلة، ولم يكن هناك شقاق، ولم يكن هناك خلاف بين الصحابيين الجليلين: أبي بكر وعلي رضي الله عنهما.
وروى البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه وحمل الحسن وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيهاً بـعلي ، وعلي يضحك.
وفي رواية الإمام أحمد أن هذا كان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بليال معدودات، وذلك بعد صلاة العصر.
وهذا ينفي الانقطاع المذموم الذي روج له المغرضون.
إذاً: علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن خارجاً عن الجماعة بأي صورة من الصور، ولم يثبت أبداً أي اعتراض له على خلافة الصديق ، بل بايع مرتين -وهذا هو الأقرب-: مرة في اليوم الثاني بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرة الثانية بعد وفاة السيدة فاطمة بعد ستة شهور من بداية خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
أو قد يكون بايع مرة واحدة بعد وفاة السيدة فاطمة ، وهذا لا يقدح في خلافة الصديق ، ولم يكن لعدم البيعة أي تأثير على طاعة علي بن أبي طالب للصديق رضي الله عنهم أجمعين.
وسبحان الله! مع فداحة الشبهات السابقة إلا أن سهام المغرضين لا تنتهي.
فهذه شبهة جديدة خطيرة أطلقوها بخصوص هذه البيعة للصديق رضي الله عنه، هذا الشبهة الجديدة شنيعة تهدف إلى هدم الإسلام من أساسه، تولى كبرها طائفة من الشيعة، أرادوا الطعن في رموز الإسلام العظيمة بصورة تظهرهم كأسوأ ما يكون الرجال، هذا الشبهة الشنيعة هي: أن الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين قد تآمروا على أمر الخلافة فيما بينهم، وساعدتهم في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها. وحاشا لله من هذه الفرية.
يزعمون أنهم جميعاً قد تآمروا على أن يأخذ الصديق الخلافة في بادئ الأمر، ثم يعطيها بعد ذلك لـعمر بن الخطاب ثم يعطيها عمر لـأبي عبيدة بن الجراح ، لكن أبا عبيدة مات قبل موت عمر ، فلم تكتمل أطراف المؤامرة كما يقولون.
ويقولون: إن هذا التآمر ساعدت فيه السيدة عائشة بأن ادعت -كما يقولون- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالصلاة إلى أبي بكر ، بينما الحقيقة -في زعمهم- أنه أوصى بالصلاة لـعلي بن أبي طالب ، وأخفت ذلك السيدة عائشة ، وبذلك أوصلت الخلافة إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الكلام جاء في كتابات المستشرق هنري لامانس ونقل عنه للأسف بعض المسلمين مثل كتاب غروب الخلافة الإسلامية للأستاذ علي الخربوطلي ، فإنه ذكر هذه الفرية بتفاصيلها.
وهذا تصوير قبيح وشنيع لأعظم أجيال الإسلام، ولأرقى رموز الإسلام، فإذا كان هؤلاء السابقون على هذه الشاكلة فلا أمل فيمن جاء من بعدهم، وهذا هو بيت القصيد في الشبهة، فليست القضية اتهام رجل أو رجلين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير، فهي فعلاً هدم لدين الإسلام من جذوره.
من جديد نقول: إن هؤلاء الطاعنين يقيسون الأحداث بمقاييس هذا العصر الذي نعيش فيه الآن، ويرون السياسة كما يرونها الآن: مؤامرات ودسائس ومكائد وخداع ونفاق وغش وتحايل، هذه هي السياسة التي يشاهدها الناس، وعلى هذا الأساس يقومون سياسة الإسلام في عهد الخلفاء، وما أدركوا أن الإسلام قدم أروع أنظمة السياسة، وأرقى الأمثلة للتطبيق العملي لهذه القواعد السياسية، فهم لا يتخيلون أن رجلاً نقياً مثل أبي بكر أو عمر يكون رجلاً سياسياً ناجحاً، يقولون: إما أنه رجل صالح وسياسي فاشل، وإما أنه سياسي ناجح ولكنه فشل في مجال الأخلاق.
لكن الشواهد تثبت حسن سياستهم، والشواهد أيضاً تثبت قيادتهم الحكيمة ليس لأوطانهم فقط، بل وللأرض جميعاً في زمانهم.
إذاً: في عرف العلمانيين والمستشرقين لابد لهؤلاء الساسة الناجحين أن يكونوا متآمرين، هذا ما شاهدوه في الواقع الآن، ولا يتخيلون أن توجد في هذا الماضي هذه الصورة النقية البهية للساسة المسلمين المهرة في سياستهم والأنقياء في قلوبهم، الذين يديرون الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، قال عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فهذا يعتبر طرازاً أسطورياً بالنسبة للعلمانيين، لكنه حدث في عهد الإسلام، ويتكرر كثيراً في تاريخنا، ليس في عهد الصحابة فقط، ولكن في عصور أخرى كثيرة، وفي أماكن متعددة، ولابد لنا أن نفرغ الأوقات لاستخراج الكنوز الثمينة والرموز العظيمة، وما أكثرها!
المهم أن المستشرقين ساروا وراء طوائف الشيعة المبتدعة لهذه الشبهة الخطيرة، شبهة التآمر بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لتبادل أدوار الخليفة، الواحد تلو الآخر، وذلك في زعمهم بمساعدة السيدة عائشة .
فتعالوا بنا لنرى هذه المؤامرة المزعومة كيف قيلت، وما هو الرد عليها:
الأمر الأول: من هم المتهمون بالمؤامرة؟ ومن هم أعضاء المؤامرة كما يزعمون؟
الأول: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وسبحان الله! أهذا الرجل الذي تحدثنا معه في هذه المحاضرات هو الذي يتآمر على الخلافة؟!
أهذا الرجل الذي تحدثنا عن إيمانه وصدقه وورعه ورقة قلبه وسبقه وإنكاره لذاته وثباته هو الذي يتآمر؟!
أهذا الرجل الذي كان يتورع عن لقمة واحدة حرام لا يتورع عن أكل حقوق أمة كاملة؟!
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـأبي بكر الصديق غلاماً يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه.
والخراج: شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم، وباقي الكسب يكون للعبد، فجاء هذا الغلام يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ قال أبو بكر : وما هو؟ قال: كنت تكهنت في الجاهلية لرجل وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه.
إذاً: هذا مال حرام، أخذ بخديعة وكهانة.
فماذا كان رد فعل الصديق من هذه اللقمة الواحدة التي أكلها ونزلت بالفعل في معدته؟!
أدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
هذا هو الصديق الذي نعرفه.
ثم أليس هناك إشارات في منتهى الخبث في اتهام الصديق رضي الله عنه في صدقه، وفي ادعاء أنه كذب ليستولي على الخلافة؟ أليس الذي سماه بـالصديق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! بل في رواية أن الله عز وجل هو الذي سماه بذلك.
أليس هذا هو الذي سماه الله بالأتقى؟! أيفعل هذا الصديق الأتقى؟!
أيكون أول الداخلين إلى الجنة من أمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة؟ فكيف بمن يدخلون بعده؟!
إذاً: هذا هو الرجل الأول في الاتهام في شبهتهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
الرجل الثاني في ادعائهم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الفاروق رضي الله عنه، ولو بحثت في حياته رضي الله عنه عن أهم صفاته وأبرز خلاله، لكانت صفة العدل، والصدع بالحق دون أن يخشى في الله لومة لائم.
أيفعل هذا الذي وصف بذلك ما يدعيه هؤلاء المغرضون؟ سبحان الله!
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك). يعني: أن بعض الناس يصل ثوبه إلى ثديه، وبعض الناس يبلغ دون ذلك، وبعضهم أكثر من ذلك وبعضهم أقل من ذلك.
قال (ومر
قال (قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟! قال: الدين).
أهذا الذي يغمره الدين إلى هذه الصورة يقوم بمثل هذه المؤامرة؟!
الرجل الثالث في ادعائهم: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، أمين هذه الأمة، الرجل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمين، وهذه صفة مميزة له في حياته كلها.
روى البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ابعث لنا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أمينًا حق أمين، حق أمين) ولا بد أن ننتبه لتأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق أمين، حق أمين).
قال حذيفة : (فاستشرف لها الناس) يعني: كل واحد من الناس يتمنى أن يكون هو هذا الأمين.
قال: (فبعث
فتخيل عندما يختار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من كل الأمة يصفه بالأمانة ويسميه أمين هذه الأمة أي: أشد الناس اتصافاً بهذه الصفة في هذه الأمة، ثم يأتي قوم فيطعنون في أمانته، ماذا وراء ذلك؟!
أليس هذا طعناً في الأمة بأسرها؟ ثم أليس هذا طعناً في الذي سماه بهذا الاسم؟ يقولون: بدلوا وغيروا من بعده.
فأي حجة تافهة؟ أليست منقصة في حقه صلى الله عليه وسلم أن يربي ويعلم وينصح سنوات وسنوات، ثم يأتي النبهاء الفضلاء الأوائل من تلامذته فيفشلون جميعاً في أول اختبار، فيفشل الصديق في صدقه، ويفشل الفاروق في عدله، ويفشل الأمين في أمانته؟
أليس عجيباً حقاً هذا الاتهام؟ لكن فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
المتهمة الرابعة في هذا الادعاء: السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من أعظم نساء العالمين، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم تكمل من النساء غير
وفي رواية أخرى زاد عليهن (فاطمة بنته صلى الله عليه وسلم).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن فضل
فالسيدة عائشة واحدة من أعظم نساء العالمين على الإطلاق، فإذا كانت واحدة بهذا القدر وهذه المكانة تتآمر على الخلافة لصالح أبيها فأي خير يبقى في هذه الأمة؟
إنه طعن خبيث لا شك أن وراءه طعناً في الأمة بأسرها.
إذاً: في الرد على هذه الشبهة ذكرنا أولاً صفات الذين اتهموهم بالمؤامرة، ورأينا كيف أنه يستحيل في حقهم هذا الأمر.
الأمر الثاني: لم يرد أي نص صحيح يصف على وجه اليقين أو حتى على وجه الشك مثل هذه المؤامرة، ونحن لا نأخذ شيئاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من سيرة الصحابة إلا بنقل صحيح ودليل قوي ثابت، لا نقبل برواية موضوعة أو منكرة أو شديدة الضعف، وبالذات في هذه الأمور الخلافية، والأمور التي فيها طعن ولو بسيط في أحد من الصحابة، فكيف بمن يطعن في عمالقة الصحابة، وبشبهة مثل هذه الشبهة؟!
الأمر الثالث: إذا كانوا قد تآمروا على هذا الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعض الناس يقولون: إن هذه المؤامرة فعلت في أيام مرض الرسول صلى الله عليه وسلم، فأين كان الوحي من ذلك؟!
أيعلم الله عز وجل بمثل هذا الأمر الخطير ثم لا يوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، أم يوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ويكتم الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
الأمر الرابع في الرد على هذه الشبهة: أن الأحداث التي دارت قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته لا توحي مطلقاً بوجود هذه المؤامرة.
أليس هم يقولون: إن السيدة عائشة خالفت كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصلت الصلاة إلى أبي بكر الصديق ، بينما أبو بكر الصديق لم يكن قريباً من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديمه للصلاة، ولو كان هناك اتفاق بينه وبين السيدة عائشة لأصبح قريباً من البيت حتى يتولى الإمامة حسب الاتفاق، بل إنه في اليوم الأخير من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه يعلم أن هذا هو مرض الموت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه استأذن في الذهاب إلى السنح، والسنح خارج المدينة، حيث بيت حبيبة بنت خارجة زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولو كان يرغب في الخلافة ويتآمر عليها لبقي في بيته الذي بالمدينة بيت السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنه وأرضاها، لكنه خرج خارج المدينة بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعيداً عن لحظات الموت الأخيرة.
ثم لو كان هناك تآمر أكانت السيدة عائشة رضي الله عنه تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، وتقول له: (إن
وكما ذكرنا من قبل لم تكن فاطمة ولا علي رضي الله عنهما بعيدين عن سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أمر أحداً غير أبي بكر بالصلاة لأخبرهما بذلك الأمر، وهو ما لم يحدث.
الأمر الخامس: هل ظهر في سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند تولي الخلافة ما يشير إلى أنهما طمعا فيها حتى يقوما بهذه المؤامرة الخبيثة.
أعتقد أنه لو كان هناك رجل بهذا الخبث الذي يتحايل فيه على نبي وعلى أمة فإن حياته سوف تشهد بذلك لا محالة، فماذا فعل أبو بكر بالخلافة؟ ألم يكن خليفة المسلمين، ثم كان ينزل ويخدم العجوز في بيتها، ويحلب الشاة للضعفاء؟! وعندما يسأل: من أنت؟ يقول: رجل من المهاجرين.
أهذا هو الرجل المتآمر على الخلافة؟
لقد كانت الرئاسة في حقه وفي حق عمر بعد ذلك عبئاً وتكليفاً، ولم تكن أبداً هدية أو تشريفاً.
الأمر السادس: هل لو في نية هؤلاء الأفاضل الكرام أن يتآمروا أكانوا يذهبون إلى سقيفة بني ساعدة وهم ثلاثة فقط؟ ألم يكن من المناسب أن يدبروا الأمر ويأتوا بالمهاجرين؟ وماذا يحدث لو اجتمعت الشورى على غيرهم؟ ماذا كانوا يفعلون وهم ثلاثة، وفي أرض المدينة؟
التحليل الصادق يقول: إنهم ما أعدوا لهذا الأمر مطلقاً، بل ذهبوا على سجيتهم وطرحوا آراءهم، ووجدت هذه الآراء قبولاً شرعياً وعقلياً عند الأنصار، فقدموا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الأمر السابع والأخير في الرد على هذه المؤامرة: أيتآمر أبو بكر وعمر على الخلافة، وهم من قبيلة بني تيم وقبيلة بني عدي، وهما من أضعف بطون قريش؟!
أيتآمر رجلان من هاتين القبيلتين على سائر قبائل قريش؟
أيتآمران على بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم وغيرها من القبائل العظيمة الكبيرة ذات المنعة؟
لقد كان اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه للخلافة أمراً لافتاً للنظر فعلاً، هذا الأمر تعجب منه الجميع حتى تعجب منه أبو قحافة نفسه والد الصديق رضي الله عنه.
روى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجت مكة -وأبو قحافة كان يعيش في مكة- فسمع أبو قحافة بذلك فقال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أمر جلل، فمن قام بالأمر من بعده؟ قالوا: ابنك. قال: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ ثم قال: لا واضع لما رفعت، ولا رافع لما وضعت. يتعجب.
فالجميع كانوا يتعجبون من هذه النتيجة للانتخاب، وليس لها تفسير إلا أنها حدثت من نفوس طاهرة أخرجت الدنيا تماماً من قلوبها، وحكمت الشرع والدين، ورضيت بقول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
هناك قضية أخرى غير هذه الشبهة أثير حولها كلام كثير من كثير من طوائف الشيعة، وأيضاً من المستشرقين، هذه القضية هي قضية ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم.
القضية لها علاقة وثيقة بقصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فالقضية من أول أعماله رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، ونتج عنها بعض المواقف التي أساء المستشرقون وأحبابهم فهمها، واستغلوها في الطعن في عظماء الصحابة.
الرسول صلى الله عليه وسلم ترك أرضاً كانت له بالمدينة وفدك وهي قرية خارج المدينة المنورة، وما بقي من خمس خيبر، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ذهب العباس وعلي رضي الله عنهما يطلبان نصيب العباس ونصيب فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من إرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الصديق رضي الله عنه لهما كما جاء في صحيح البخاري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة، ثم قال
وقال أيضاً في رواية أخرى للبخاري : لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به.
ثم قال كلمة جميلة، قال: فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
إنها كلمة جميلة جداً من الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كلمة رائعة تلخص فلسفة الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حياته.
اللهم! ارزقنا فهماً كهذا الفهم، وعملاً كهذا العمل، وإخلاصاً كهذا الإخلاص.
إذاً: أبو بكر الصديق عرف علياً والعباس رضي الله عنه بحكم هام وهو أن الأنبياء لا يورثون درهماً ولا ديناراً، وما تركوه فهو صدقة، أي: في بيت مال المسلمين، وقد شاء الله عز وجل ذلك الأمر، حتى لا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، ولذلك فحياة الأنبياء صلوات الله عليهم وتسليماته كانت زهداً وورعاً وبعداً عن الدنيا، وكذلك يكون الحال أيضاً لورثتهم.
ولكن هل كان هذا الحكم خافياً على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أبداً لم يكن خافياً عليه هذا الحكم، بل لم يكن خافياً أيضاً على العباس رضي الله عنه، ولم يكن خافياً عن كثير من الصحابة.
فقد روي نفس الحديث من طريق أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس والسيدة عائشة وأبي هريرة ، كل هؤلاء نقلوا نفس الحديث بنفس الألفاظ.
فما هو تفسير طلب علي والعباس رضي الله عنهما الإرث؟ وما تفسير سؤال السيدة فاطمة رضي الله عنها نصيبها من أبيها صلى الله عليه وسلم؟
ولما رفض أبو بكر الصديق إعطاء العباس وعلي رضي الله عنهما من الإرث تشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمد الله ثم قال: إنا نعرف يا أبا بكر ! فضيلتك، ثم ذكر علي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم، أي: أنه ما زال يطلب الإرث لزوجته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل من قرابتي.
أي: أنه لا يقطع قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقضي بما يراه صواباً، فما تفسير تكرار الطلب من علي رضي الله عنه مع علمه بالحكم؟!
ولما رفض أبو بكر الأمر وجدت السيدة فاطمة رضي الله عنها، أي: حزنت وغضبت في نفسها، كما جاء في رواية البخاري ، وهجرت الصديق رضي الله عنه فلم تكلمه حتى مرضها الأخير التي ماتت فيه بعد ستة شهور كاملة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تفسير غضبها وهجرانها لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟!
وطبعاً المستشرقون والمستغربون والشيعة وجدوا في هذا الموقف مادة ثرية للطعن في كل الصحابة، فمنهم من اتهم أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بالظلم؛ لأنه حرم السيدة فاطمة من نصيبها في الإرث.
ومنهم من اتهم السيدة فاطمة وعلي والعباس بحب الدنيا والسعي وراءها، وبمخالفة الشرع بطلب شيء نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من اتهم علي بن أبي طالب بأنه لم يبايع أبا بكر غضباً لنفسه ولزوجته.
ومنهم من اتهم الصحابة بالخلاف على الدنيا والهجران لذلك.. وغير ذلك من الاتهامات.
فما هو التفسير الحقيقي والمقبول لهذه المواقف المتشابكة؟!
الحق أنه من المستحيل لـعلي والعباس والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين أن يطلبوا الدنيا بهذه الصورة مخالفين الشرع، ومخالفين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذات أن السيدة فاطمة تعلم يقيناً أنها أول من سيلحق بأبيها صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فهي تعلم أنها قد اقتربت جداً من الوفاة، وليس من المعقول أن تتعلق بالدنيا إلى درجة المخالفة بهذه الصورة.
والتفسير المنطقي للموقف يقول: إن علياً والعباس والسيدة فاطمة رضي الله عنهم جميعاً كانوا يريدون الإرث ليقوموا فيه بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، يعني: ينفقون على آل بيته ما يكفيهم من الطعام، ثم يقومون هم بتقسيم الصدقة على من يستحقها في الوجه الذي يرونه هم، وذلك لأنهم قرابته وأحق الناس به كما يقولون.
فهم لا يريدون الإرث لأنفسهم، ولكن فقط يريدون حق تقسيم الإرث على أهل الصدقة.
هذا هو ما يفهم في ضوء سيرة هؤلاء الأخيار، وهم جميعاً من أهل الجنة السابقين، لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه رفض هذا الأمر، وأصر أن يتولى هو بنفسه ذلك الأمر؛ لأنه قال -كما جاء في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد بن حنبل-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها لمن يقوم بالأمر من بعده.
أي: جعل التصرف في هذا الإرث للخليفة بصرف النظر عن كونه الصديق أو غيره، والعلة في ذلك واضحة، وهي نفي أي شبهة قد تقدح في ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وغلق الباب على اتهامهم بإنفاقها في غير وجهها، كما أنه أصلح لتجنب هوى النفس، فإن كان الوارثون الآن على درجة عالية من التقوى وسيتصرفون فيها كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أدراك بالجيل الثاني أو الثالث أو الرابع من الوارثين؟
إذاً: من الأفضل أن تظل في حوزة بيت مال المسلمين، يتصرف فيها خليفة المسلمين والذي يراقب عمله طائفة كبيرة من المؤمنين، لكن السيدة فاطمة رضي الله عنها لم تفقه هذا الفقه الذي رآه الصديق رضي الله عنه، وكذلك علي بن أبي طالب والعباس رضي الله عنهما؛ فإنهم اجتهدوا بأنه من الأصلح والأنسب أن يقوموا هم بهذا الأمر، ولذلك حزنوا لرفض الصديق رضي الله عنه وأرضاه طلبهم.
ولا مانع أبداً أن يجتهد المسلمون فيختلفون في الاجتهاد، ولا مانع أبداً أن يغضب فريق من فريق، أو رجل من رجل، لكن هذا الغضب لم يخرج كلاً من الطرفين عن آداب الإسلام وأخلاقه، كما أنه لم يؤثر على طاعة علي بن أبي طالب للصديق رضي الله عنهما، ولم يؤثر على معاملة الصديق رضي الله عنه لـعلي وللسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، وقد ذكرنا من قبل وجوهاً من هذه المعاملة بينهم، بل إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه زار السيدة فاطمة في بيتها، وأذنت له بالدخول عليها بعد استئذان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وترضاها الصديق رضي الله عنه حتى رضيت، كما جاء في رواية البيهقي ، أي: أنه طيب خاطرها حتى تموت وهي راضية، وهذا من أدب الصديق رضي الله عنه وخلقه وسعة صدره، فإنه هو المصيب في اجتهاده وهو الخليفة وهو الأحق بأن يسترضى، لكن هذا هو الصديق الذي عرفناه.
ولا مجال هنا لادعاء الهوى والدنيا في نفس الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ ففي ضوء سيرته فإن هذا لا يعقل، وفوق ذلك فإن العقل أيضاً ينفي ذلك.
والصديق رضي الله عنه بمنعه لميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوصول لورثته قد منع ابنته عائشة رضي الله عنها، ولم يتجه مع ميل الإنسان الفطري بحب ابنته، كما أنه -كما ذكر ابن تيمية في منهاج السنة- قد أعطى ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أضعاف أضعاف هذا الميراث من بيت مال المسلمين، وذلك بعد أن فتح الله على المسلمين بلاد العرب بعد حروب الردة، وبعد أن فتح عليهم فارس والشام.
ثم إن علي بن أبي طالب نفسه سار على نفس نهج الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما تولى إمارة المؤمنين، فـعلي رضي الله عنه لم يقسم التركة على ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، بل عمل فيها بما كان يعمل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك من قبله عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ولا مجال أيضاً للقول بأن السيدة فاطمة رضي الله عنها قد هجرت أبا بكر الهجران المذموم المنهي عنه.
فأولاً: ليس من المعتاد في شرع الإسلام أن يختلط الرجال بالنساء ويتقابلون يومياً حتى نقول: إن السيدة فاطمة قد هجرت الصديق رضي الله عنه.
ثانياً: السيدة فاطمة كانت تؤدي أمر ربها لها ولآل البيت وللنساء بصفة عامة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].
ثالثاً: السيدة فاطمة كانت مشغولة بمصابها الكبير بوفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وكانت مشغولة أيضاً بمرضها الأخير، فالسيدة فاطمة ما لبثت أن مرضت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم توفيت بعد ذلك.
رابعاً: الصديق نفسه كان مشغولاً جداً عن مثل هذه الأمور، فمن المؤكد أنه قد أخرج القضية من ذهنه تماماً، فقد كان مشغولاً بمصيبة شنيعة هي ردة الجزيرة العربية، وكانت الأحداث متلاحقة بشكل سريع جداً، والجيوش تتحرك في كل مكان، والحرب لا تنتهي، والأخبار لا تنقطع، والصديق لا يجد وقتاً لنوم ولا راحة، فكيف له أن يفكر في قضية كان قد حسمها بالفعل وفق سنة حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم؟
إذاً: بالتفكير المنطقي والعاقل والموزون وبالبحث الجاد على الصحيح من الأحاديث والمواقف وباتباع الشرع اتباعاً حقيقاً نرى أن كل الشبهات التي أثارها المستشرقون والشيعة ما هي إلا فقاعات هواء لا تقوى أمام الحجة والبرهان والدليل الصحيح، فلا يجوز أبداً أن يهتز المسلمون لهذه التفاهات، ولكن عليهم أن يبحثوا عن تاريخهم في مصادرها الصحيحة، ويفقهوها بعقول علمائهم الصادقين المخلصين، لا بعقول المغرضين الطاعنين.
هذه كانت معظم الشبهات التي أثيرت حول قضية الاستخلاف، ومن المؤكد أنكم ستجدون شبهات أخرى هنا وهناك، فيا ليت أنكم تبعثون هذه الشبهات على صورة أسئلة، وإن شاء الله سنحاول أن نرد عليها في المحاضرات القادمة..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الصديق نعمة السبق | 3302 استماع |
سلسلة الصديق نعمة الثبات | 2603 استماع |
سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميح | 2522 استماع |
سلسلة الصديق يوم السقيفة | 2397 استماع |
سلسلة الصديق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم | 2302 استماع |
سلسلة الصديق وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2211 استماع |
سلسلة الصديق شروط الاستخلاف | 2070 استماع |
سلسلة الصديق استخلاف الصديق | 1623 استماع |
سلسلة الصديق إنكار الذات | 1514 استماع |
سلسلة الصديق رقة القلب | 1456 استماع |