خطب ومحاضرات
سلسلة الصديق نعمة الثبات
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فمع الدرس الخامس من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ولا أخفي أنني كلما توغلت في سيرة الصديق رضي الله عنه وكلما تشعبت وقرأت ودرست وحللت شعرت أنني أريد أن أعتذر للصديق ؛ لأنني ولسنوات طوال لم أعطه حقه الكافي من التبجيل والتعظيم والتكريم، نعم كنت أعرف فضله ومكانته وقدمه الراسخة في الإسلام، لكن ليس بالصورة التي يستحقها بالفعل، بل لعلي لا أخفي أنني أحياناً كنت أعطي مساحة من التكريم أكبر لغيره من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب ومثل: علي بن أبي طالب ومثل: حمزة بن عبد المطلب ومثل: أبي عبيدة بن الجراح .
وهذا لاشك خطأ يستحق الاعتذار وقصور يحتاج إلى تفهيم وتوضيح، ولعل هذا القصور في فهم درجة العظمة التي وصل إليها الصديق رضي الله عنه يرجع إلى قصر مدة خلافته رضي الله عنه، لكن على العكس هذه المدة القصيرة التي حكم فيها الصديق تضاف إلى فضائل الصديق رضي الله عنه؛ فإن الأحداث التي تمت في خلافته قد تحتاج إلى عشرات الأعوام لتتم في عهد غيره.
ولعل قصورنا أيضاً عن وضع الصديق رضي الله عنه في مكانته الحقيقية يرجع إلى طبيعته الهادئة الرقيقة اللينة التي تخفيه كثيراً عن الأنظار.
ولعل قصورنا أيضاً في معرفته يرجع إلى قلة الأحاديث التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يرجع بالطبع إلى أنه مات سريعاً بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هناك وقت كاف يحدث به عنه، وإلا فهو أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل طول صمته وكثرة تفكيره وحياءه من الكلام كان سبباً في قلة أقواله وخطبه مع أنه كان من أبلغ الصحابة وأحكم الناس، لعل واحداً من هذه الأمور أو أكثر كان سبباً في جهلي للصديق رضي الله عنه، ومع ذلك فكل هذه أعذار لخطأ واضح؛ فحياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليست مخبأة في أماكن سرية أو صفحات مشفرة، بل حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه مبسوطة في مئات بل آلاف من الكتب، وقد يكون الكثير منها في مكتباتنا وفي بيوتنا، ولكننا تركنا التراب يعلو هذه الكتب ولم نفتش عن أمجادنا ولم ننقب عن كنوزنا، فعذراً يا صديق ! وعذراً يا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم نوفكم معشار حقكم بعد، وعزاؤنا أننا والله! نحبكم في الله، ونسأل الله عز وجل أن يحبنا كما أحببناكم فيه.
في الدروس الأربعة السابقة تحدثنا عن أربع صفات للصديق رضي الله عنه: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق، وإنكار الذات.
وفي هذا الدرس نتحدث عن صفة عجيبة هي أصعب من كل ما سبق حتى أنها أصعب من صفة إنكار الذات والتي ذكرنا في الدرس السابق أنها صفة صعبة وعسيرة، والأصعب في الصفة التي سنتحدث عنها أنها لا تكتسب، بل هي منحة ربانية من الله عز وجل لبعض عباده، ولذلك فإننا لم نضعها في الصفات الأصيلة في شخصية الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فقد ذكرنا أن الصديق تميز بأربع صفات أصيلة فلما تحققت فيه هذه الصفات الأربع منحه الله عز وجل هذه الصفة الخامسة، بمعنى: أن الله عز وجل لما رأى منه حباً جارفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاد إلى تصديق كامل واتباع دقيق، لما اطلع على قلبه فوجده رقيقاً حانياً عطوفاً ووجد طبعه سهلاً محبباً ليناً، ووجد خلقه حسناً رفيعاً عالياً لما علم منه سبقاً إلى الخيرات ومسارعة إلى الحسنات وحسماً وعزماً في كل أمور حياته، لما رأى منه عطاءً ثم عطاءً ثم عطاءً وإنكاراً لذاته في كل خطواته لما رأى منه كل ذلك وغيره أنعم عليه بنعمة عظيمة وهبة جليلة؛ أنعم عليه بنعمة الثبات.
الثبات على كل ما سبق من خير، الثبات على الإسلام، والثبات على الإيمان، والثبات على الطاعة وحسن الخلق، والثبات على العطاء، والثبات أمام الفتن كلها صغيرة كانت أم كبيرة دقيقة كانت أم عظيمة خفية كانت أم معلنة.
والثبات شيء صعب وعسير، فالإنسان قد ينشط في فترة من فترات حياته لكنه سرعان ما يفتر، وقد يقوى في زمان لكنه يضعف في أزمان، روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة -أي: نشاط- ولكل شرة فترة -أي: فتور وكسل- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح -وفي رواية: فقد اهتدى- ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)، وفي رواية: (فقد ضل) لكن العجيب في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن ترى ثباتاً في كل الفضائل وفي كل المواقف منذ أسلم وحتى مات مهما تغيرت الظروف ومهما تغيرت الأحوال.
الثبات فعلاً شيء عسير، والدنيا من طبيعتها التقلب، ومن النادر أن تجد فيها شيئاً ثابتاً، كما قالوا قديماً: دوام الحال من المحال، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، ويقول: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، هكذا الأيام دائماً في التقلب، ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5]، هكذا مراحل مختلفة ومتغيرة ومتقلبة وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5].
هكذا الإنسان دائماً في تقلب، والأرض كذلك دائماً في تقلب، والقلب أيضاً كذلك كثير التقلب، بل قيل: إن القلب سمي قلباً لأنه سريع التقلب، روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، يقول هذا وهو رسول الله، اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا على دينك، يقول أنس بن مالك : (فقلت: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء)، وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك).
يزداد الأمر صعوبة على القلب بتغير الظروف من حولك؛ فقلب قد يثبت على حالة من الغنى فإذا افتقر الإنسان فتن، وقلب قد يثبت على حالة من الفقر فإذا اغتنى الإنسان فتن، وقد يثبت في بلد ويفتن وفي آخر، وقد يثبت في عمل ويفتن في آخر، وقد يثبت في سنن ويفتن في سنن آخر، بل قد يثبت في نهار ويفتن في ليل، بل قد يثبت في لحظة ويفتن في لحظة تالية، والإنسان في هذه الدنيا ليس متروكاً لحاله، فالمشكلة ليست مشكلة قلب فقط، فكثير من الأعداء تناوشه وتهاجمه، فالشيطان -مثلاً- لا يهدأ ولا يستكين: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].
والدنيا نفسها مجموعة متراكبة من الفتن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].
ونفس الإنسان تغير كثيراً من قلبه، قال عز وجل: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، وشياطين الأنس أحياناً يكونون أشد ضراوة من شياطين الجن، وبين كل هذه المقلبات يعيش القلب فكيف لا يتقلب وهو القلب المشهور بالتقلب؟
والقلب إن كان ضعيف الإيمان فتقلبه خطير: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
والنجاة من هذا التقلب عسيرة إلا إذا من الله بها على عبده، والله سبحانه وتعالى لا يمن بالثبات على عبد خامل كسلان، بل لابد أن يقدم شيئاً، قال عز وجل: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، وهي الفتنة التي تقلب القلوب أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
إذاً: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً لصيقاً دقيقاً يقي الإنسان شر الفتن، أو قل: يجعل الإنسان أهلاً أن يمن الله عليه بنعمة الثبات، فجميع الخلق بلا استثناء لا يثبتون بغير تثبيت الله لهم، قال الله عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، بل حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمع إلى كلام الله في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74].
وأكثر المسلمين اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأكثر المسلمين تلقياً لتثبيت الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحياته رضي الله عنه حياة عجيبة، فكم من الفتن عرضت له، وكم من الثبات قدم رضي الله عنه؟
روى الترمذي -وقال: حديث حسن صحيح- حديثاً يفسر لنا هذه الفتن الكثيرة التي عرضت للصديق في حياته عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة).
ولكون الصديق رضي الله عنه هو الأمثل في الإيمان بعد الأنبياء فإن ابتلاءه كان شديداً ومتنوعاً، وتعالوا نبحث في حياة الصديق رضي الله عنه لنتعرف على طرف من ابتلائه ونتعرف على طرف من ثباته رضي الله عنه:
ثبات الصديق أمام فتنة المال
أولاً: ثباته أمام فتنة المال، وبدأت بها لأنها فتنة عظيمة، فكثير من المؤمنين يثبتون أمام فتن شتى فإذا جاءوا إلى فتنة المال وقعوا فيها، يقول أحد الصحابة: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر! هكذا يقول الصحابي الجليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن كعب بن عياض رضي الله عنه-: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال) وإن كان هناك بشر لا يهتز أمام المال غير الأنبياء فهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وقد شاهدنا كثيراً من المتقين، وشاهدنا كثيراً من الزاهدين في الدنيا، وسمعنا عن أمثلة عظيمة وعن مواقف مشهودة، لكننا لم نسمع من قبل عن رجل اعتاد أن ينفق كل ماله في سبيل الله ولا يبقي لنفسه ولا لأهله شيئاً، وليس مرة أو مرتين يفعلها ولكنه اعتاد الثبات على هذا الأمر، وقد تحدثنا من قبل في درس سابق عن إنفاقه رضي الله عنه وأرضاه على الدعوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في فترة مكة أو سواء في فترة المدينة، وذكرنا تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، لكن نذكر هنا طرفاً سريعاً من ثباته أمام فتنة المال بعد أن تولى الخلافة، فها هو الصديق بعد أن أنفق ماله كله يمتلك مقاليد الحكم في المدينة ويضع يده على بيت المال، وها هي القبائل المرتدة تعود إلى الإسلام بعد عام من القتال المستديم، فيأتي خراجها، وخراجها كثير، وتأتي زكاتها، ويمتلئ بيت المال، ثم ها هي فارس تفتح وها هي الشام كذلك تفتح وتأتي الغنائم وفيرة والكنوز عظيمة، فماذا فعل الصديق رضي الله عنه؟ ما تغير قدر أنملة، وما تبدل شعرة، وما فتن بالدنيا لحظة.
وليس الصديق بالذي يتبدل؛ لقد أعطى الدنيا حجمها فزهد فيها، وأعطى الآخرة حجمها كذلك فعمل لها، لقد سمع من حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً وضح فيه حجم الدنيا بالنسبة للآخرة، وسمع الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار
لقد سمع وصية من معلمه ومعلمنا ومرشده ومرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعها نصب عينيه، وكأنها خاصة بـأبي بكر الصديق ، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها)، وها هو الصديق قد استخلف فيها الخلافة الكبرى، يقول صلى الله عليه وسلم: (فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء).
أصبح الصديق ذات يوم بعد أن ولي الخلافة وعلى يده أبراد، والبرد: هو الثوب المخطط. يعني: أخذ أثواباً لبيعها في السوق كعادته حتى بعد أن أصبح خليفة، فلقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر : تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟
سبحان الله! يده على بيت المال بكامله لكنه يقول: فمن أين أطعم أولادي؟ فأشار عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يذهب إلى أبي عبيدة أمين بيت المال ليفرض له قوته وقوت أولاده، فذهب إليه ففرض له، فانظر إلى هذه الشفافية في الضمير والأمانة والنقاء في النفس، فـالصديق رضي الله عنه وأرضاه ينزل إلى السوق وهو خليفة لكي يتاجر حتى يطعم أولاده!
فعف الصديق رضي الله عنه وأرضاه فعفت الرعية في زمانه رضي الله عنه.
وانظروا إلى الصديق وهو على فراش الموت بعد رحلة طويلة من الجهاد المضني انظروا إليه كيف يقول وهو رأس الدولة في ذلك الزمان.. الدولة التي دكت حصون فارس والروم يقول مخاطباً عائشة رضي الله عنها: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا -يعني: الطعام البسيط- ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وهذه القطيفة -كساء- فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن، تقول السيدة عائشة : ففعلت.
فلما وصل الرجل الذي أرسلته السيدة عائشة إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه بكى عمر بن الخطاب حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، قالها ثلاثاً.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو في فراش الموت أيضاً كان يقول: إن عمر لم يدعني حتى أصبت من بيت المال مبلغاً، وإن حائطي الذي في مكان كذا فيها، أي: في بيت المال، يعني: أن عمر بن الخطاب كان قد أرغمه على تقاضي أجر من بيت مال المسلمين، والصديق يرى أنه كان كبيراً مع أنه لم يكن إلا كفافاً، كما ثبت في روايات أخرى.
فما زال الصديق يذكر هذا، وسيتبرع لبيت المال بحائط له في مقابل هذا المال، فلما توفي الصديق ذكر ذلك لـعمر فقال: رحم الله أبا بكر لقد أحب ألا يدع لأحد بعده مقال.
هذا كان مجرد طرف من ثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه أمام فتنة المال.
ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب
وتعالوا نرى ثبات الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب، وفتنة الرئاسة فتنة عظيمة جداً، وابتلاء كبير، فكثير من الناس يعيش حياة التواضع فإذا صعد على منبر الحكم تغير وتبدل وتجبر وتكبر؛ إنها فتنة كبيرة، وهنا كلمة حكيمة جداً للحسن البصري رحمه الله يقول: وآخر ما ينزع من قلوب الصالحين حب الرئاسة.
لكن الصديق نزع من قلبه حب الرئاسة من قديم.
و الصديق رضي الله عنه وأرضاه وإن كان يعيش قدراً معيناً من التواضع قبل الخلافة فإن هذا القدر تضاعف أضعافاً مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن أعظم خلفاء الأرض تواضعاً بعد الأنبياء كان الصديق رضي الله عنه، فوالله! لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟ ومن المؤكد أنه تعلم من صديقه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه مسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، والصديق جاهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأشد ما يكون الجهد والنصح.
ولذلك فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم بل يسبقهم إليها، وكيف يتكبر الصديق وهو الذي كان حريصاً طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر والخيلاء من شخصيته وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره؟ روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) هذه الكلمات وقعت في قلب أبي بكر وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها، فأسرع الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده).
أشعر والله! أنه قال هذه الكلمة وهو يرتجف يخشى من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثلج صدره وطمأنه ووضح له متى يكون الاسترخاء للإزار منهي عنه فقال: (إنك لست ممن يفعله خيلاء)، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: أن الصديق لا يفعل هذا خيلاء، وكان من الممكن أن يقول له: إنك لست متعمداً للإسبال، لكنه يخرج من كل هذا إلى حقيقة تواضع الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وتعالوا نتجول في حياة الصديق كخليفة وكرئيس وكحاكم، ذكرنا بعض المواقف في السابق وذكرنا موقفه مع أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو يودعه إلى حرب الروم في الشمال.
والآن نذكر بعض المواقف الأخرى: موقف عجيب من مواقف الصديق وهو خليفة:
كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقيم بالسنح على مقربة من المدينة، مكان قريب من المدينة، فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرماً منه وذلك أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر الصديق هو الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يحلب للضعفاء أغنامهم، فسمع جارية بعد مبايعته بالخلافة وبعد أن أصبح خليفة تقول: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا، سمعها الصديق رضي الله عنه فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، فكان يحلبها وهو خليفة، وربما سأل صاحبتها: يا جارية! أتحبين أن أرغي لك أو أصرح؟ يعني: أجعل اللبن فيه رغوة وإلا بدون رغوة؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرح، فأي ذلك قالته فعل.
وهذا موقف آخر من مواقف الصديق رضي الله عنه أغرب:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها، يعني: أن سيدنا عمر كان يذهب بنفسه ليدبر أمر هذه العجوز العمياء، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح لها ما أرادت، فجاءها غير مرة لكي لا يسبق إليها فكل مرة يلقى نفسه قد سبق إليها، فرصد عمر هذا الرجل الذي يأتي العجوز العمياء فإذا هو أبو بكر الذي كان يأتيها وهو يومئذ خليفة، فقال عمر : أنت هو لعمري.
وكان أبو بكر من الممكن أن يكلف رجلاً أن يفعل هذه الخدمة، لكنه يشعر بالمسئولية الفردية نحو كل فرد في الأمة، وأيضاً هو يربي نفسه على التواضع لله عز وجل، ويربي نفسه ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء.
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، يعني: أن صدقات الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر الصديق ، فوضعوها في مكان، وسيدخل في اليوم التالي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليقسما هذه الصدقات، فسيدنا أبو بكر يحذر الناس، ويقول لهم: لا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام؛ لعل الله يرزقنا جملاً، يعني: أنها تقول له: خذ هذا وادخل على أبي بكر الصديق لعله يعطيك جملاً فاربطه بهذا الحبل، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، وطبعاً هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة، والمخالفة لخليفة البلاد ومعه الوزير الأول عمر بن الخطاب ، ودخل عليه بغير إذن مع كونه قد نبه على ذلك، فالتفت إليه أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه ضربة بالحبل، فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد. أي: اقتص مني -كما ضربتك اضربني- يقول هذا وهو خليفة البلاد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: والله! لا يستقيد. رفض عمر أن الرجل يضرب أبا بكر فقال: والله! لا يستقيد، لا تجعلها سنة. يعني: كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية يقوم يضرب الأمير، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: فمن لي من الله يوم القيامة؟ يعني: ماذا ستعمل لي يا عمر ! يوم القيامة؟ فقال عمر : أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة وخمسة دنانير فأرضاه بها.
فهذا خليفة البلاد في ذلك الزمن وضرب واحداً سوطاً واحداً فقط، لكنه يريد أن يضرب مكان هذا السوط الذي ضربه حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصاً ليس لأحد عنده شيء.
واستمع إلى وصيته إلى جيوشه وهي تخرج لحرب الروم في بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، ثم بعد ذلك إلى فتح فارس ثم إلى فتح الشام، فقد كان يوصيها بوصايا عجيبة وكأنه يوصي بأصدقاء وليس بأعداء، كان يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم، وكان مما قال لهم: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.
ما هذا؟ أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟ والله! ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام ورقي الإسلام ونور الإسلام، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187] فأين هذا من حروب الشرق والغرب؟ وأين هذا من حروب غير المسلمين؟ فالمسلمون علموا غيرهم الرحمة حتى في حربهم.
ثبات الصديق أمام فتنة الأولاد
نوع آخر من الثبات للصديق رضي الله عنه وأرضاه: ثبات الصديق أما فتنة الأولاد:
الأولاد فتنة كبيرة، والمرء يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة إذا كان الأمر يخصه هو شخصياً، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده فإنه قد يتردد كثيراً، وغالباً ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد ورقتهم واعتمادهم على الأبوين يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، روى الترمذي وقال: حسن صحيح: أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم -يعني: أولادهم؛ لأنهم منعوهم أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، وانظر الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن يقول الله عز وجل فيها:
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الصديق نعمة السبق | 3300 استماع |
سلسلة الصديق شبهات حول استخلاف الصديق | 3207 استماع |
سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميح | 2520 استماع |
سلسلة الصديق يوم السقيفة | 2394 استماع |
سلسلة الصديق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم | 2299 استماع |
سلسلة الصديق وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2210 استماع |
سلسلة الصديق شروط الاستخلاف | 2068 استماع |
سلسلة الصديق استخلاف الصديق | 1620 استماع |
سلسلة الصديق إنكار الذات | 1511 استماع |
سلسلة الصديق رقة القلب | 1453 استماع |