سلسلة الصديق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فمرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب، وفي هذا الجمع المبارك، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا أجمعين، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

قد تحدثت قبل ذلك كثيراً عن أهمية دراسة التاريخ الإسلامي، وأشرت قبل ذلك كثيراً إلى أنه لا جديد على الأرض، نعم والله لا جديد على الأرض، والتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، فنفس الأحداث نراها رأي العين، ولكن باختلاف في الأسماء والأمكنة.

فمن يدرس التاريخ بعمق يكون كأنه يرى المستقبل ويقرأ ما يجد على وجه الأرض من أمور، ولا يخدع بسهولة مهما تعاظمت المؤامرات ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.

من يدرس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته، ويكون كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض؟ ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وهذا أمر من الله عز وجل.

ولكن قص القصة أو رواية الرواية لا يغني شيئاً إن لم يتبع بتفكر وتدبر، فدراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، بل دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.

وفي دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وستجدون أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة وأمور من الفقه وأمور من الأخلاق وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام، ونعرض لفقه الموازنات والأولويات، ونعرض لفقه الواقع.. وغير ذلك من الأمور، وإن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين، فإن الله عز وجل في كتابه الحكيم يقص القصة فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقائق التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمراً عقائدياً، وقد يعرض فيها حكماً فقهياً، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حي ينبض ولساناً ينطق.

ولا يحدثنا عن رجال ماتوا ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة، بل يحدثنا عن أحداثنا وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.

فالتاريخ ثروة حقيقية، ولكنها مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود وتفريغ وقت وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح، يعني: لن ينفع جهد رجل أو رجلين أو عشرة أو جهد يوم أو يومين أو سنة، بل تحتاج إلى جهود إلى جهود علماء كثر، وتحتاج إليكم جميعاً يا من ترجون للإسلام قياماً.

التاريخ الإسلامي هو أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، ووالله! إني أشعر أن الدنيا قد سعدت بتدوين التاريخ الإسلامي، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة، أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.

التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فهموا دينهم ودنياهم فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة العجيبة، عز في الدنيا وعز في الآخرة، ومجد في الدنيا ومجد في الآخرة، وملك في الدنيا وملك في الآخرة، التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، حضارة جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه، جمعت القوة والإعداد والذكاء والتدبير، جمعت كل ذلك جنباً إلى جنب مع سلامة العقيدة وصحة العبادة وصدق التوجه ونبل الغاية، وصدق الله تعالى إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره، ولا يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوباً بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن أيضاً من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام؛ فالإسلام دين لا ثغرة فيه ولا خطأ ولا عيب، فهو دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه وليس على الإسلام، وكثيراً ما يخالف الناس فتحدث هنات وسقطات، لكنه في تاريخ المسلمين ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثاب المسلمون إلى رشدهم وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.

هذا هو التاريخ الإسلامي، ومع كل هذا القدر لهذا التاريخ العظيم هنا وقفة وسؤال:

هذه الثروة الثمينة وهذا الكنز العظيم ثروة التاريخ الإسلامي الطويل من من البشر في زماننا أمناه على هذه الثروة؟

من من البشر أعطيناه مفاتح الكنوز التاريخية لينقب فيها ويستخرج كنوزها؟

من من البشر سلمناه آذاننا وعقولنا وأفئدتنا ليلقي عليها ما استنبطه من أحكام وما عقله من أحداث؟

عجباً لأمتنا لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار، أعطت ذلك لطائفة من المستشرقين وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين، فهؤلاء تسلموا كنز التاريخ؛ تسلموه لينهبوا أجمل ما فيه، ثم يغيرون ويبدلون ويزورون، فيخرج التاريخ إلينا مسخاً مشوهاً عجيباً، فتقطع حلقة المجد، وينفصل المسلمون في حاضرهم عن ماضيهم كما تنفصل الروح عن الجسد تماماً بتمام.

وقد انتبه بعض شباب المسلمين فوجدوا بين أيديهم سجلاً حافلاً من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات، وجدوا صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود، واحتار الشباب في تاريخهم أيمسكون على هون أم يدسونه في التراب؟ فويل ثم ويل لمن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، وويل ثم ويل لأبناء المسلمين الذين فتنوا بمناهج العلمانية فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة، فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين، وويل ثم ويل لمن يقدر على التصحيح والتعديل فلم يفعل، ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل، ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل.

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

سبحان الله! إلى هذه الدرجة، من سمع طعناً في الصحابة أو في الصالحين من الأمة ثم لم يرد كان كمن كتم ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نعم، لأنه كيف وصل إلينا ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يصل إلينا إلا عن طريق الصحابة والتابعين وتابعي التابعين؟

فإذا طعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة لم يقبل ما يأتي عن طريقهم أبداً، وهذا هدم للدين بالكلية.

إذاً: تزوير التاريخ أمر خطير مروع، يحتاج إلى وقفات ووقفات ووقفات، ولا ينفي هذا أن هناك جهوداً مشكورة ومشكورة جداً قام بها رجال مخلصون وعلماء أجلاء من علماء المسلمين، ونحن في هذه المحاضرات ننقب سوياً عن هذه الجهود، ونحلل ونفسر ونوضح على ضوء ما فعله علماؤنا المخلصون.

ولقد اخترت حدثاً هاماً جليلاً عظيماً من أحداث التاريخ الإسلامي، آثرت أن أفرد له مجموعة من المحاضرات حتى ندرسه ونفقهه ونحلله، ثم نتحرك به خطوات -إن شاء الله- إلى الأمام، هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاحظوا أنني أقول: استخلاف أبي بكر الصديق فقط، ولا أقول: إني سأتحدث عن خلافة أبي بكر الصديق ؛ فهذا حديث يطول ويتشعب.

لكني فقط في هذه المجموعة أتحدث عن قصة الاستخلاف، وكيف تم اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للمسلمين؟ وما هي الخطوات؟ وما هي التبعات؟ وماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟ وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟

والحق أني أذكر لكم أن كثيراً من الإخوة المتابعين لهذه المحاضرات قد تعجبوا من إفراد مجموعة كاملة من المحاضرات لهذا الحدث، فهم يعدونه حدثاً قصيراً بسيطاً في التاريخ؛ لأن هذا الحدث تم في أقل من يوم واحد، فيقولون: لماذا نحن سنأخذ عشرة أيام أو عشرين يوماً في شرح حدث تم في يوم واحد أو في ساعة واحدة وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرناً من الزمان؟ يعني: على هذا نحن محتاجون إلى حوالي ألف سنة أو ألفي سنة من أجل أن نذكر التاريخ الإسلامي.

والحقيقة أننا لن نفرد مثل هذا الوقت الطويل لكل الأحداث غير هذا الحدث؛ لأن هذا الحدث في غاية الأهمية، ولماذا هذا الحدث بالذات؟ أجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:

حرص المسلمين على دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين

النقطة الأولى: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة عامة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين- تعتبر من أهم الأمور التي يحرص عليها المسلمون، ويجب أن نحرص على دراستها دراسة وافية مستفيضة شاملة؛ لأنها فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الفترة تعتبر جزءاً من التشريع الخاص بالمسلمين، فإن قيل: وهل هناك تشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فيقال: إن كثيراً من الأمور استجدت في حياة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك أمور تحتاج إلى فقه واجتهاد فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار، واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها وسارت معهم الأمة فكانت تشريعاً للمسلمين، فحدثت أمور ما كان لها شبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحدث الذي نحن بصدده، وهو اختيار خليفة للمسلمين.

ومنها: فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور، ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.

إنها فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.

وهنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمه الله وقال عنه: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وصدقت يا رسول الله!

فنحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، حيث تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟ وفي أي الطرق نسير؟ وأي مناهج نتبع؟ وأي الأساليب نختار؟

استمع إلى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس؛ لأنها تمسك بشدة- وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).

فعند تشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالطبع أمر مفهوم، لكن لماذا يضيف صلى الله عليه وسلم: ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين )، ولو كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضحت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل وشرع للأمة إلى يوم الدين.

خلاصة هذه النقطة: أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، ولابد أن يعطي له المسلمون اهتماماً خاصاً، وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك سنتحدث عنها، ثم -إن شاء الله- يليها بعد ذلك أحاديث كثيرة عن تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين بتفصيل كبير.

استخلاص أحكام تفيد في بناء الأمة الإسلامية

النقطة الثانية: التي تهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: أننا سنستخلص أحكاماً وأموراً هامة من هذه الحادثة تفيد جداً في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحاً:

ما هو معنى الشورى؟ وكيف تم تطبيقها في هذا الحدث؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار رجل دون آخر لإمارة ما؟ وهناك أمور أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.

اعتبار هذا الحدث بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم

النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحاً من قصة أم أيمن رضي الله عنها:

روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (قال أبو بكر لـعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) وأم أيمن كانت بمثابة الأم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت الحاضنة له بعد وفاة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).

فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلاناً، الله يبشر فلاناً بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.

وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأياً على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأياً دون انتظار التعديل الإلهي.

نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي.

فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبراً لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.

الأحداث الجسام التي تبعت هذا الحدث في حياة المسلمين

النقطة الرابعة في أهمية دراسة حادث الاستخلاف: أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين، ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل له طابع يختلف كثيراً عن كثير من الصحابة، وسنتعرف عليه -إن شاء الله- في هذه الحلقات، وستشعر كم كان الله رحيماً بالمؤمنين، ومسدداً لخطاهم لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنهما على سبيل المثال: حروب الردة، وسنفرد لها -إن شاء الله- مجموعة خاصة من المحاضرات بعد أن ننتهي من هذه المحاضرات، وسترون فيها أنه لولا أبي بكر الصديق لما ثبت المسلمون في فتنة الردة العظيمة.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الصديق استخلف لما عبد الله في الأرض.

ومنها على سبيل المثال أيضاً: الفتوح الإسلامية العجيبة لدولتي فارس والروم، إنها أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق ، وقد يكون من السهل على من تبعه من خلفائه أن يقوموا بالفتوح من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسن سنة حسنة تبعه فيها الآخرون.

فحادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، ولابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.

كثرة طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذا الحدث

النقطة الخامسة والأخيرة في أهمية دراسة هذا الحدث الخطير: أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة، فلم يتركوا أحداً، وطعنوا في كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، فطعنوا في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وعائشة وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وأبي هريرة والسيدة فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء، وذموه في صورة المدح، وطعنوا في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في معظم -أو قل: في كل- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخلاصة الأمر: أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال وخير القرون، فإن كانوا هم كذلك كما يقولون فأي خير يرتجى فيمن جاء من بعدهم؟

وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟ وكيف نقبل باجتهادهم؟

فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه، ويدمرون الإسلام في أصوله، وهذا الكلام ليس تاريخاً قديماً فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير كذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة التي تدرس التاريخ، سواء في الجامعات المحلية أو في الجامعات الغربية التي تفتح فروعاً في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضاً بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية؛ وذلك لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.

وهنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله؛ فتاريخ المسلمين بحق بحر لا ساحل له.

النقطة الأولى: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة عامة -أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين- تعتبر من أهم الأمور التي يحرص عليها المسلمون، ويجب أن نحرص على دراستها دراسة وافية مستفيضة شاملة؛ لأنها فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الفترة تعتبر جزءاً من التشريع الخاص بالمسلمين، فإن قيل: وهل هناك تشريع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فيقال: إن كثيراً من الأمور استجدت في حياة المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك أمور تحتاج إلى فقه واجتهاد فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار، واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها وسارت معهم الأمة فكانت تشريعاً للمسلمين، فحدثت أمور ما كان لها شبيه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا الحدث الذي نحن بصدده، وهو اختيار خليفة للمسلمين.

ومنها: فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور، ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.

إنها فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.

وهنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي رحمه الله وقال عنه: حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً أبو داود رحمه الله عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) وصدقت يا رسول الله!

فنحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، حيث تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟ وفي أي الطرق نسير؟ وأي مناهج نتبع؟ وأي الأساليب نختار؟

استمع إلى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس؛ لأنها تمسك بشدة- وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).

فعند تشعب الطرق عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالطبع أمر مفهوم، لكن لماذا يضيف صلى الله عليه وسلم: ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين )، ولو كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضحت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولاً فقط، بل وشرع للأمة إلى يوم الدين.

خلاصة هذه النقطة: أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، ولابد أن يعطي له المسلمون اهتماماً خاصاً، وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك سنتحدث عنها، ثم -إن شاء الله- يليها بعد ذلك أحاديث كثيرة عن تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين بتفصيل كبير.

النقطة الثانية: التي تهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: أننا سنستخلص أحكاماً وأموراً هامة من هذه الحادثة تفيد جداً في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحاً:

ما هو معنى الشورى؟ وكيف تم تطبيقها في هذا الحدث؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار رجل دون آخر لإمارة ما؟ وهناك أمور أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.

النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحاً من قصة أم أيمن رضي الله عنها:

روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (قال أبو بكر لـعمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) وأم أيمن كانت بمثابة الأم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت الحاضنة له بعد وفاة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).

فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلاناً، الله يبشر فلاناً بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.

وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأياً على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأياً دون انتظار التعديل الإلهي.

نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي.

فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبراً لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.

النقطة الرابعة في أهمية دراسة حادث الاستخلاف: أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين، ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليكون خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرجل له طابع يختلف كثيراً عن كثير من الصحابة، وسنتعرف عليه -إن شاء الله- في هذه الحلقات، وستشعر كم كان الله رحيماً بالمؤمنين، ومسدداً لخطاهم لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومنهما على سبيل المثال: حروب الردة، وسنفرد لها -إن شاء الله- مجموعة خاصة من المحاضرات بعد أن ننتهي من هذه المحاضرات، وسترون فيها أنه لولا أبي بكر الصديق لما ثبت المسلمون في فتنة الردة العظيمة.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الصديق استخلف لما عبد الله في الأرض.

ومنها على سبيل المثال أيضاً: الفتوح الإسلامية العجيبة لدولتي فارس والروم، إنها أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق ، وقد يكون من السهل على من تبعه من خلفائه أن يقوموا بالفتوح من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسن سنة حسنة تبعه فيها الآخرون.

فحادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، ولابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.


استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة الصديق نعمة السبق 3301 استماع
سلسلة الصديق شبهات حول استخلاف الصديق 3207 استماع
سلسلة الصديق نعمة الثبات 2602 استماع
سلسلة الصديق الاستخلاف بين التصريح والتلميح 2520 استماع
سلسلة الصديق يوم السقيفة 2394 استماع
سلسلة الصديق وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم 2210 استماع
سلسلة الصديق شروط الاستخلاف 2068 استماع
سلسلة الصديق استخلاف الصديق 1620 استماع
سلسلة الصديق إنكار الذات 1512 استماع
سلسلة الصديق رقة القلب 1453 استماع