سلسلة الصديق استخلاف الصديق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم اغفر لنا خطيئتنا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فمع الدرس الثامن من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

في الدرس السابق تحدثنا عما دار في سقيفة بني ساعدة، وكيف رشح الأنصار للخلافة رجلاً منهم هو الصحابي الجليل: سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وذلك اعتقاداً منهم أن الخلافة يجب أن تكون فيهم.

وذكرنا كيف دخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين إلى السقيفة، وكيف عرضوا طرحاً جديداً في هذا الأمر، وهو: ترشيح رجل من المهاجرين، وكانت حجة المهاجرين في ذلك الأمر: أن العرب جميعاً لن تسمع وتطيع إلا لرجل من قريش؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، ولكونهم أوسط العرب داراً ونسباً.

والعرب في المعتاد لا يألفون أن يتأمر عليهم رجل من خارج قبيلتهم، لكنهم قد يقبلون برجل من قريش لمكانتها القديمة في النفوس، والتي زادت ولاشك بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم.

ودارت نقاشات وجدالات طويلة بين المهاجرين والأنصار، وكانت الحجة أقوى وأظهر في صف المهاجرين، ولم ترجح الكفة بكاملها في صف المهاجرين إلا عندما لمس أبو عبيدة بن الجراح أمين الأمة قلوب الأنصار، وذكرهم بتاريخهم المجيد، وأنهم دائماً كان يؤوونه وينصرونه، فلا داعي أن يكونوا أول من يبدلون ويغيرون.

وذكرنا في الدرس السابق الاستجابة العظيمة من الأنصار لنداء أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، وكيف أنهم بدءوا يتسابقون إلى الموافقة على ترشيح رجل من المهاجرين، وقام أكثر من صحابي من الأنصار يؤيد هذا التوجه.

كل هذا الموقف حصل وسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه جالس لا يتكلم، ولاشك أنه كان عنده صراع داخلي عنيف بين رأي الأنصار ورأي المهاجرين، ووجد فجأة أن الأمور تصير في اتجاه ترشيح رجل من المهاجرين، وبرغم هذا لم يعترض ولا بكلمة واحدة إلى هذه اللحظة سعد بن عبادة ، ولم يتكلم كلمة واحدة منذ دخول المهاجرين، ومع ذلك فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الرجل الخبير المحنك كان يرقبه ويشعر بالصراع الذي بداخله، وهو صراع طبيعي جداً، صراع لرجل كان مشرحاً لخلافة الدولة بكاملها منذ ساعة واحدة فقط، فإذا بغيره يرشح.

وهنا أراد الصديق رضي الله عنه أن يلقي بالحجة البينة الظاهرة، والتي لا تبقي شكاً في قلب أحد، والتي تريح في نفس الوقت قلب سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه يخاطب سعد بن عبادة بذاته: لقد علمت يا سعد ! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد، يعني: هناك حديث للرسول عليه الصلاة والسلام قاله في وجود أبي بكر وفي وجود سعد بن عبادة ، وهنا أبو بكر يذكر سعد بن عبادة رضي الله عنهما بالحديث.

وواضح أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه نسي هذا الحديث، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمرض، أو لغيره من الأسباب.

قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لقد علمت يا سعد ! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: (قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم)، وهذا قانون وضعه صلى الله عليه وسلم (قريش ولاة هذا الأمر) قانون صريح جداً، ورغم كل المحادثات والمجادلات والحوارات التي حدثت في السقيفة ومع كل هذا الجدال رد سعد بن عبادة على أبي بكر الصديق بكلمة عجيبة، وفي بساطة غريبة فقال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، هكذا في بساطة، فالكلمة الوحيدة التي قالها سعد بن عبادة منذ دخل المهاجرون إلى السقيفة إلى هذه اللحظة هي: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء هكذا قالها في بساطة، وهكذا سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة قطع بخلافة قريش دون الأنصار.

هذا الحدث لابد أن نقف أمامه وقفة طويلة؛ لأنه حدث فريد، فتعالوا نحلل هذا الموقف العجيب في التاريخ الإسلامي، ونحاول أن نخرج منه بعض الدروس:

أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه وأرضاه هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهذا فارق ضخم جداً بين الشورى وبين الديمقراطية، فنحن نسمع عن الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب، بمعنى: أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعاً يطبق سواء خالف أو لم يخالف كتاب الله عز وجل، خالف أو لم يخالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم!

بينما الشورى في الإسلام لا تكون كذلك، الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها حكم معروف أو حكم ثابت، فلا يجوز -مثلاً- أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟ ولا يجوز -مثلاً- أن يجتمعوا فيتشاورون هل يسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟ أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟ لا يجوز هذا في الإسلام.

هنا في هذا الموقف في السقيفة لا يجوز اختيار رجل من غير قريش، حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار؛ لأن الأمر خارج من أيديهم إلى الله عز وجل، وإلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

وأحياناً يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في بعض المواقف لاعتبارات كثيرة، لكن هذا والله! قصور في الرؤية وضعف في الإيمان، وشك في حكمة التشريع.

وهنا في هذه الآية التي ذكرناها يعقب الله عز وجل بقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

ولاشك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع لكان الضلال المبين بعينه.

لكن الله عز وجل عصمهم من هذا الزلل والحمد لله، ومن عليهم باتباع الشرع واليقين في هذا الشرع، والله أعلم كيف سيكون حال الأمة لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، فقد مرت الأيام ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكيف ثبت الله به الأمة، ووطد أركان الدين، ونشر كلمة التوحيد، وأعلا شأن المؤمنين، وهذا كله ولاشك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم.

والله عز وجل لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل ويطلب أيضاً التسليم القلبي والوجداني له، بمعنى: أن ترضى رضاً حقيقياً بما اختاره الله لك وللأمة، وبما شرعه الله لك وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك.

واستمع إلى قول الله عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

وهذا هو عين ما رأيناه في السقيفة تماماً، فقد رأينا تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باقياً.

ورأينا في السقيفة أيضاً غياب الحظ من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا التسليم الكامل المطلق، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

إذاً: ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين ثبتت في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه في سقيفة بني ساعدة، ولنذكر بعض هذه الأحاديث، ورواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين في السقيفة وقت هذه المشاورة.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان).

وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضراً في السقيفة.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم).

وأيضاً أبو هريرة لم يكن حاضراً في السقيفة.

وروى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين).

وأيضاً لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضراً في السقيفة.

وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذكروا به.

والشاهد الذي لا ينكر: أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده، أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله يدل على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش.

وذكر الإمام النووي في شرح هذه الأحاديث: أن هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم.

ومن خالف كلام الإمام النووي من أهل البدع فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.

قال القاضي عياض رحمه الله: اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة، كما ذكر ذلك في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي .

وذكر أيضاً الإمام ابن حجر في فتح الباري: إن القرشية شرط في خليفة المسلمين.

وذكر القرطبي رحمه الله أن ولاية العقد والإمامة الكبرى لا تكون إلا لقرشي إذا وجد منهم أحد.

لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمراً مطلقاً، بل تقيده بشيء هام، فهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية رضي الله عنه: (ما أقاموا الدين).

وكما جاء أيضاً في رواية عن أبي بكر : (ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره).

وكما جاء في رواية ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً، ولكم عليهم حقاً مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا).

إذاً: هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها ولم يتبعوا شرع الله عز وجل فلا طاعة لهم ولا إمرة.

ولكن هناك مشكلة وهي: القرشيون كانوا معروفين في صدر الإسلام ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية فخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية واستقر كثير منهم في كل بقاع الأرض، فناس استقروا في الشام، وناس في آسيا، وناس في شمال أفريقيا، وناس في الأندلس، وفي غير ذلك من بلاد المسلمين، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض مع مرور الوقت، ونسي هؤلاء نسبهم وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن، وأصبحت هذه مشكلة كبيرة، وصار صعباً أن تعرف القرشيين الآن، ولا تقدر أن تعرف أن هذا قرشي أو غير قرشي إلا في القليل.

أضف إلى ذلك: أن كثيراً من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة، ومع مرور الوقت اختلطت الأنساب، وازدادت المشكلة تعقيداً.

وزاد الموقف صعوبة أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل وإلى آل البيت، وليسوا منهم، وذلك رفعاً لقدرهم وإعلاء لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب، وكثرت هذه الشجرات جداً حتى أصبح من العسير فعلاً التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها.

في هذه القضية المعقدة ترى ما هو موقف الشرع؟ هل تركنا الشرع دون طريق؟ حاشا لله، قال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

فهناك قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله).

فقوله: (ما أقام فيكم كتاب الله) هذا هو الشرط الرئيسي، وهذا الحديث هو ما استند عليه العثمانيون في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، فالعثمانيون ليسوا من قريش، ومع ذلك كانت لهم القوة، وكانت لهم الغلبة، وكان لهم السمع والطاعة، وهو المقصود من الخلافة: ما داموا يحكمون بكتاب الله عز وجل وجمعوا الأمة على ذلك فلماذا لا يكونون هم الخلفاء؟ وبالذات أنه لم يكن لقريش شوكة في زمان العثمانيين، فجمع العثمانيون الأمة تحت راية كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: خلاصة هذه النقطة: أن الصحابة جميعاً انصاعوا تماماً لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه تشريع، وسكنت السقيفة، وذهب الخلاف، واستقر الناس على قريش.

إذاً: هذه كانت نقطة هامة جداً في فهم الأصول الإسلامية في حكم الدولة الإسلامية.

وهنا تعليق آخر هام على الحوار القصير جداً الذي دار بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة رضي الله عنهما:

موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه حق، وهذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعط للموقف حقه، ولم نعط لـسعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، فكيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا فلا يتعلمونه ولا يعلمونه؟ وكيف لا يظهرونه وغيره من المواقف الخالدة جداً جداً في التاريخ الإسلامي؟!

فهذا رجل سيد في قومه كبير في عائلته يقف وحوله الفرسان والجنود والأنصار والعشيرة، ويقف في سقيفته وليس سقيفة الأنصار، بل سقيفته هو شخصيًا، سقيفة بني ساعدة، فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي ، وأين السقيفة؟ في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة والرئاسة والزعامة، وليس على شركة أو مسجد أو نادي أو حزب، بل رشحوه على أمة وعلى دولة، وسعد بن عبادة رضي الله عنه يتمتع بذكاء وفطنة وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده.

يقف هذا الرجل الممكن أمام رجل لاجئ سياسي ولجأ إليه، وإلى بلده، يقف هذا الرجل بعد أن فر من قومه فآواه، هذا الرجل الممكن آواه وأكرمه ونصره وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين مهاجرين من بلده فقط، وهما أيضاً لاجئان إلى هذه البلد، يقف الثلاثة الرجال في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: قريش ولاة هذا الأمر، هكذا بسهولة ينزع الأمر الذي كان قد وكل إليه، ويعطيه إلى غيره!

فماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟! يقول في بساطة شديدة: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، لا جادل، ولا أخذ الحديث على محمل معين أو محمل آخر، بل قال: صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء، فأي نفس طاهرة؟ وأي روح زكية؟ وأي رجل وقاف عند كتاب الله عز وجل وعند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكم من الدماء حقنت ولو شاء هذا الرجل لسالت أنهاراً في شوارع المدينة؟! وكم من الأرواح لو شاء هذا الرجل لقتلت بالآلاف؟! فأي فتنة قمعت؟ وأي وحدة بين المسلمين حدثت؟! إنها آثار مجيدة ونتائج هائلة لموقف واحد وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقفه لله، وكان بيده أن يقف الموقف لنفسه، لكنه ما فعل.

فأين الدنيا في عين الأنصار كما اتهمهم المستشرقون وأذنابهم؟ ولو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد فيصبح في نظرهم مستفيداً من نتائجه؟

والمستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين: إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، يقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث الذي طغت فيه المادية على الناس، والذي كثرت فيه المؤامرات والدس والكيد والغش والنفاق والخداع.

والرجل الآخر هو رجل حاقد موتور، رأى ديناً قيماً ورجالاً أخياراً، وتاريخاً ناصعاً خالداً نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وأغمض عينيه عنه، وعلم الصواب وخالفه، أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].

هؤلاء المستشرقون -جهالاً كانوا أو حاقدين- قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟

أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم والأخلاق والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا أو تاريخ الفراعنة أو تاريخ الحضارة في الصين أو الهند؟

أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبعهم دون سؤال ولا استفسار؟

أتراه صحيحاً أن ينشغل علماء المسلمين عن دراسة تاريخنا وشرحه وتبسيطه للشباب في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟

أليس خيراً لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية وأصولنا الدينية؟

فأي أمة أعظم من أمة الإسلام؟ وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟ والله! لا أجده.

وهنا تعليق ثالث على موقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه:

إذا كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعرف هذا الحديث القاطع: (ولاة الأمر من قريش) وهو في منتهى الوضوح فلماذا لم يذكره في أول المناقشة؟ يعني: لو قاله فإنه سيقطع تماماً باب الجدل من بدايته، هكذا نظن.

والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ومن فطنته، ومن توفيق الله عز وجل له، فلو ذكر هذا الحديث ولم يقدم له بالبراهين الساطعة والأدلة الدامغة والحجة العقلية في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعاً لقريش لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك فقد يرفض الأنصار الانصياع له، وستقع الكارثة والله!

فمن الحكمة ألا تطلب أمراً عسيراً من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسياً، لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، واقدر للأمر قدره، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية.

والأنصار مهيئون نفسياً لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويخشى عليهم ألا ينصاعوا بهدوء لأمر الله ولرسوله.

إذاً: لابد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم عليهم قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، إنه فقه راق وحكمة رائعة، هذا هو الصديق الذي عرفناه رضي الله عنه وأرضاه.

وهنا تعليق رابع على كلام الصديق رضي الله عنه وأرضاه:

هناك شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين وهي: أن هذا الحديث قد يكون من اختلاق الصديق ؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وطبعاً واضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل يفتقرون أيضاً إلى الأدب، وواضح أنهم لا يعلمون شيئاً عن الصديق ولا عن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ألم يرو الحديث من طرق أخرى كثيرة غير طريق الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وعن طريق بعض الأنصار أيضاً، وجاءت في كتب الصحاح والسنن في أكثر من موضع؟

ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟ أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟ أكانوا يتركون ملكاً لحديث مشكوك فيه؟ فماذا قال المستشرقون؟ قالوا: الأنصار استحوا من أبي بكر ، فنقول لهم: ألم تقولوا عنهم منذ قليل: إنهم طلاب دنيا وسلطان، أيستحيي طالب الدنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟ أليس انصياع الأنصار التام دليلاً على نبل أخلاقهم وقيمهم من ناحية، ودليلاً على ارتفاع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟

هذا والله! أراه حقاً لا ريب فيه، لكن فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة وهامة جداً للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة ملأى بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة؟ ثم إن المهاجرين كثيرون، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، وكل رجل من المهاجرين أمة، فمن من هؤلاء سيتولى هذه الخلافة؟ ممكن نتخيل أن الأمر سيكون صعباً جداً، يعني: أن المهاجرين كثر، وكلهم على درجة عظيمة جداً من الفضل، لكن تعالوا ننظر ما الذي حصل في السقيفة؟

قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وقال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ببساطة شديدة: ابسط يدك نبايع لك، الصديق يريد أن يبايع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على الخلافة، فقال عمر : أنت أفضل مني، قال أبو بكر : أنت أقوى مني، قال عمر : فإن قوتي لك مع فضلك. سبحان الله! أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟ نحن نرى والله! إخوة ملتزمين متمسكين بالدين وهم المفروض أن يكونوا فاهمين الدين لكن نراهم يتقاتلون على إمامة مسجد، وعلى إمامة صلاة، فماذا سيعملون لو كانت إمامة أمة؟!

فتقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين رضي الله عنه وأرضاه وقال: لا ينبغي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر ! أنت صاحب الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى، وصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر، وسبحان الله! أبو عبيدة بن الجراح كلامه قليل لكنه رجل موفق إذا تحدث أصاب الهدف بكلمات معدودات.

وهنا عمر أخذ زمام الكلام من أبي عبيدة ورآها فرصة يبعد عن نفسه الخلافة فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا جميعاً: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر ! هذا كما رواه النسائي والحاكم .

وهنا وثب عمر بن الخطاب لما سمع هذه الكلمات من أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، والفاروق واضح جداً أنه فاروق بين أمور كثيرة وأمور أخرى، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور، فماذا حدث؟ قام أسيد بن حصير -أنصاري- وبشير بن سعد رضي الله عنه -أنصاري- قاما يستبقان للبيعة، ووثب - كما يقول الرواة - أهل السقيفة يبتدرون البيعة، فبايع الحباب بن المنذر رضي الله عنه، وبايع ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، وبايع زيد بن ثابت ، وبايع كل الأنصار في السقيفة ما عدا رجل واحد فقط معذور وهو سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه؛ وحتى لا يذهب الذهن بعيداً ليعلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة الموقف، فقد كان في بادئ هذا اليوم مبايعاً للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه كان لا يستطيع حراكاً لمرضه، ويحسب له أنه أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة واحدة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه أي اعتراض على إمارته، بل أنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهداً حيث استشهد هناك.

وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لـأبي بكر الصديق بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا هو تاريخ المسلمين، هذا هو تاريخنا، انظروا الناس الذين حولكم، وانظروا كل بلاد العالم كيف يكون الصراع فيها على السلطة، وآخر ما سمعت أنه سقط نصف مليون قتيل في صراعات السلطة في أنغولا، ونحن نرى الذي يحصل في فنزويلا مثلاً، والذي يحصل في الصومال، والذي يحصل في راوندا، والذي يحصل في معظم بلاد العالم، وانظروا الذي يحصل حتى في البلاد التي يطلقون عليها بلاداً حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:

المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات، وهكذا...

المحور الثاني: محاولة التعريض والسب والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر، حيث يبحث كل مرشح عن عيوب غيره ليبرزها للناس، ويسجل بها نقاطاً لصالحه.

ثم ألا تسمعون يا إخوة! عن تزييف وتزوير ودس ومكيدة؟ ألا تسمعون عن قهر وتعذيب وظلم وبهتان؟!

فقارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة وبين ما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين، ورقي هذا التشريع، ونبل هؤلاء الأخيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد لاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم فقط، كما لم يحضرها عامة الأنصار، بل حضرها رءوس القوم فقط.

ولذلك في اليوم التالي مباشرة لهذا اليوم ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعي عامة الناس وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة، ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وطبعاً الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه اللحظة لم يكن قد دفن صلى الله عليه وسلم، وما دفن إلا في آخر اليوم الثاني من أيام وفاته، فهو صلى الله عليه وسلم مات في يوم الإثنين ودفن في آخر يوم الثلاثاء.

فالناس كلهم بايعوا سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولم يتخلف فقط إلا الذين كانوا يجهزون الرسول عليه الصلاة والسلام للدفن، وهم علي بن أبي طالب ابن عمه وزوج ابنته فاطمة ، والعباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها وعن جميع الصحابة.

وفي هذا اليوم الثاني صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر ويقدمه إليهم، وكلام سيدنا عمر كلام في منتهى الروعة، وفي منتهى الجمال، قال: أيها الناس! قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي، ويقصد المقالة التي قالها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى ، فهنا سيدنا عمر يصحح الخطأ الذي وقع فيه بالأمس، وهذا جميل جداً أن يعتذر الإنسان عن أخطائه، ولا يستحي من الاعتراف بذلك أمام الناس.

وفعلاً والله! هذه هي عظمة الصحابة، فسيدنا عمر يقول: أيها الناس! قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي، وما وجدتها في كتاب الله عز وجل، ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا، يعني: كان يتوقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون آخر واحد يموت في كل هذا الجيل، وبعدما يطمئن على كل الجيل هذا، لكن الله عز وجل شاء له أن يموت حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونوا نبراساً لمن بعدهم.

ثم بعد أن قال سيدنا عمر هذا الكلام قال: وإن الله قد أبقى معكم كتابه الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحكم بينكم بكتاب الله عز وجل وما زال الكتاب باقياً.

يقول سيدنا عمر بن الخطاب : فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، يعني: هداكم الله عز لما كان هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، يعني: ما فيه مشكلة؛ فالكتاب موجود وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام موجودة، ولابد أن يسير المسلمون عليهما حتى يصلوا إلى ما وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم هذا البلاد.

وسيدنا عمر يكمل، ويقدم سيدنا أبا بكر الصديق فيقول: وإن الله قد جمعكم على خيركم؛ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه، فقام الناس جميعاً مهاجرون وأنصار قاموا يبايعون أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على الخلافة في إجماع عجيب عجيب! فعلاً ما وقع في التاريخ إلا في هذا الموقف.

ثم قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه وخطب خطبته المشهورة الرائعة، وإن شاء الله سنذكر في آخر المحاضرات هذه الخطبة.

وبعد الانتهاء من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه وبايع أبا بكر الصديق ، ثم جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كما روى ابن سعد والحاكم والبيهقي بسند صحيح أنه جاء وبايع في هذا اليوم الثاني، وهذا كلام في غاية الأهمية؛ لأن كثيراً من الناس -وبالذات الشيعة- يطعنون في بيعة علي للصديق رضي الله عنهما وأرضاهما، ويصرون على أنها تأخرت ستة شهور كاملة حتى توفت السيدة فاطمة رضي الله عنها، وصلى الله وسلم على أبيها.

وسنأتي -إن شاء الله- إلى تحليل هذا الموقف بالتفصيل في المحاضرة اللاحقة إن شاء الله.

لكن نكمل مع الأحداث التي دارت في هذا الواقع.

وبعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه وبايع الصديق على الخلافة.

إذاً: بهذه البيعة الأخيرة اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستقرت الأوضاع، واجتمع الناس على قلب رجل واحد، كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم مصيبة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا المصاب على عظمه ما عطل شرعاً ولا أذهب عقلاً ولا أوقف حياة.

ولابد للحياة أن تسير وعلى الوجه الذي أراده الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

ونقف وقفة مع بعض التعليقات التي ذكرت بخصوص هذا اليوم:

أولاً: جاءت رواية عجيبة في الطبري أعجب بها المستشرقون أيما إعجاب وأظهروها في تاريخهم، ويرددها وراءهم المعجبون بالمستشرقين، والحق أن الطبري رحمه الله مع أنه كان عالماً جليلاً وإماماً عظيماً ما كان ينظر كثيراً إلى الروايات التي يذكرها في كتابه، وهو بنفسه اعترف بذلك في مقدمته لكتابه المشهور: تاريخ الأمم والملوك. فهمه كان الجمع وليس التحقيق، وعلى علماء الرجال والحديث والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه.

الرواية هذه تقول: إن سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه قال بعد مبايعة الصديق رضي الله عنه وأرضاه: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجماعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم، يعني: في الحج لا يفيض بإفاضتهم.

وطبعاً هذه الرواية باطلة تماماً من الأساس، فابحث عن إسناد هذه الرواية ستجد في إسنادها رجلاً اسمه: لوط بن يحيى، وهو شيعي معروف صاحب هوى كثير الكذب متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله: إخباري تالف لا يوثق به، ولم ينقل عنه أحد إلا الشيعة، لا يؤخذ بقوله ألبتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن.

وهذه الرواية سنداً لا تصح بالمرة، كما أنها متناً أيضاً لا تصح، إذ كيف يمكن أن نتخيل أن سعد بن عبادة الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة كيف نتخيل أنه ممكن أن يقول هذا الكلام؟ كيف يمكن أن نتخيل أن هذا الكلام يقال في المدينة المنورة، ولا يخاطب فيه الصحابة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه الحاكم في ذلك الوقت؟ هذا الكلام في غاية الخطورة، فـسعد بن عبادة ليس رجلاً عادياً في المدينة المنورة، بل سعد بن عبادة سيد الأنصار لو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، وليس ممكناً أن يقول مثل هذا الكلام ويمر الموقف دون تعليق.

لو كان هذا الموقف فعلاً حقيقياً لذكرته كتب السيرة الموثقة، فلم نجد في كتاب سيرة ولا كتاب سنن ولا كتاب صحاح هذا الأمر بالكلية.

إذاً: هذا واضح فيه الاختلاق سواء في السند أو سواء في المتن.

والقضية الثانية هي: مسألة غضب علي والزبير رضي الله عنهما يوم المبايعة، تذكر الرواية أن علياً والزبير رضي الله عنهما غضبا يوم المبايعة، والرواية رواية صحيحة فعلاً، فسيدنا علي وسيدنا الزبير غضبا يوم المبايعة فعلاً لكن لماذا غضبا؟

أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكانا -في ظن هؤلاء الحاقدين- يريان أن غيره أفضل.

وطبعاً المقصود بغيره سيدنا علي بن أبي طالب، هكذا جاء في الرواية.

لكن بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها قد فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية، وتركوا بقيتها.

روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه بسند صحيح -كما صححه ابن كثير رحمه الله- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه قال: قال الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها؛ إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وكبره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.

وهذا كلام في منتهى الوضوح، والغضب لم يكن لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه تولى الخلافة، بل الغضب كان لأن المشورة في اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وطبعاً هذا أمر مفهوم ومقبول؛ لأنهما كانا من أهم الصحابة، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعاً لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولاشك أن كثيراً منهم من أهل الرأي والمشورة، وكان ينبغي لهم أن يكونوا حضوراً في هذا الحدث الهام، حدث اختيار الخليفة، ولا يكتفى بثلاثة فقط من المهاجرين، هذا عذرهم، لكن تعال ننظر إلى الجانب الثاني.

في الجانب الآخر: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة كانوا معذورين في هذا الأمر، كانوا معذورين في أن كل المهاجرين غابوا عن الحدث، فنحن رأينا الأحداث التي تمت، ورأينا كيف أن أبا بكر الصديق وعمر كانا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت اجتماع الأنصار وجاء إليهما رجل فأخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وهما ذاهبان في الطريق رأيا سيدنا أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما على غير اتفاق، وذهبوا جميعاً إلى السقيفة.

وهناك في السقيفة -كما رأينا أيضاً- تسارعت الأحداث بشدة، وكان يخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال والخلاف والتفرق، ونحن رأينا الذي حصل، ويمكن أن يكون القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، لكن الذي حصل سرعة التقاء الأنصار، ونحن ذكرنا ما يبرر هذه السرعة التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة.

ويبدو أن بعض المهاجرين أيضاً غير الزبير وغير علي كانوا يجدون في أنفسهم، يعني: كانوا غاضبين لهذا السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب والزبير بن العوام .

والصديق يقوم ثاني يوم يخطب في المهاجرين، وكلام الصديق رضي الله عنه وأرضاه يطيب خاطر المهاجرين، روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه في المهاجرين فقال: ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمراً عظيماً ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله، يقول عبد الرحمن بن عوف : فقبل المهاجرون مقالته.

والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا لـأبي بكر؛ فهم يعرفون صدق الصديق وزهده ومكانته وقدره وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعاً ما اختاروا غير الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن الصديق رجل يريد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئاً في استثنائهم، بل كان مضطراً.

وبهذا وضح لنا أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهاداً مصيباً منهم، فها هي آثار ورواسب ذلك حدثت في نفوس المهاجرين، مع أن الخليفة أبا بكر منهم فكيف لو كان من غيرهم؟

نعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمور قبلية أو عصبية أو اعتراض على الاختيار، ولكن المهاجرين وجدوا في أنفسهم؛ لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة.

هذا الموقف من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين هو الذي حدا بـعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، ولا يفهم ذلك إلا من اطلع على كل هذه الظروف:

العبارة الأولى: قالها يوم السقيفة، وبعد مبايعة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.

قال رجل من الأنصار لـعمر بن الخطاب : قتلتم سعداً والله! يقصد: قتلتم سعد بن عبادة سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب : قتل الله سعداً ! قتل الله سعداً !

وهذه رواية صحيحة في البخاري ، هذه الكلمة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كما قال ابن حجر هي دعاء على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه.

ولاشك أن هذه الكلمة تعبر تعبيراً واضحاً عما يجيش في صدر عمر بن الخطاب من أسى وحزن وغضب من اجتماع الأنصار بمفردهم؛ ذلك أنه كان يخشى الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيماً ليس على رغبة المهاجرين.

وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه تفسيراً لهذا الموقف فيقول: أما والله! ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون الفساد.

وهذا منتهى الوضوح، وقد يحمل كلام عمر بن الخطاب أيضاً على محمل آخر، وهو: أنه يقول: قتل الله سعداً بأخذ الإمارة منه، لسنا نحن الذين قتلناه، بل إن التشريع الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الولاية هو وحي من الله عز وجل وليس لنا ولا لأحد فيه يد.

فكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يقول للأنصاري: إنك إن كنت تعتبر أن سحب الخلافة من سعد بن عبادة قتلاً فإن الذي فعله هو الله عز وجل.

وسواء كان هذا المعنى أو غيره فليس معنى ذلك أنه كان بين سعد وعمر رضي الله عنهما شقاق أو كراهية أبداً، وإنما عمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة، كما يغضب رجل من رجل أو يختلف رجل مع رجل، وهذا شيء طبيعي جداً، وهذا حتمي أن يحدث بين المؤمنين، لكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا مما لم ينقل عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة أو عن عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم.

وليس من الطبيعي ولا الفطري أن يتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر أجمعين، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم أيضاً: العودة سريعاً إلى الاجتماع بعد الاختلاف.

والعبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جاءت في رواية البخاري ومسلم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال: بلغني أن فلاناً منكم - وليس هناك تبين من هو هذا الشخص- يقول: لو مات عمر بايعت فلاناً، يعني: أنه سيبايع طلحة بن عبيد الله دون مشورة أحد، فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر ، هكذا يقول الرجل.

يقول سيدنا عمر : فلا يغترن امرئ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وتمت، يعني: فجأة، وعمر رضي الله عنه يريد أن يحذر من يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب ومع ذلك تمت ونجحت، وبويع لـأبي بكر ، فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلاً آخر فجأة، ويتم له الأمر؟!

فسيدنا عمر يصحح المفاهيم لهذه الأمة فيقول: ألا وإنها -يعني: بيعة الصديق - قد كانت كذلك -يعني: كانت فلتة- إلا أن الله وقى شرها.

وهذه عبارة في غاية الأهمية.

وسيدنا عمر بن الخطاب يقصد أن عملية البيعة الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم، ولابد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور.

وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن ألا تقر من عامة المسلمين، لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولذا سيدنا عمر بن الخطاب خائف، فلو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم بعد وفاة عمر بن الخطاب فاختار بعضهم طلحة مثلاً، واختار بعضهم علياً مثلاً، واختار بعضهم عثمان مثلاً.. وهكذا، كيف يجتمعون؟ فسيدنا عمر سيعقب بوضوح على هذا الكلام، قال: وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر الصديق ، أي: أن السابق فيكم لا يلحق بالفضل ولا يصل إلى منزلة أبي بكر ، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لـأبي بكر من المبايعة.

وأبو بكر الصديق وقعت له مبايعة بالإجماع في الملأ اليسير في السقيفة، ثم وقعت له بعد ذلك في عامة الناس، وقعت له مبايعة من رءوس الناس، ووقعت له مبايعة من عموم الناس، وليس هذا إلا للصديق رضي الله عنه وأرضاه.

لذلك نصيحة عمر للأمة ألا تتسرع في أمر اختيار قائدها؛ إذ ليس فيهم من سيجمع الناس عليه مثلما أجمعوا على أبي بكر ، فعليهم بالشورى المتأنية، وبطرح كل الأسماء المرشحة، وبدراسة كل واحد منهم، ثم اختيار واحد، ومن المؤكد أن هذا الواحد سيكون مقبولاً من بعض الناس، ومرفوضاً من غيرهم، فإذا حدث اختياره بعد شورى حقيقية أمن الشعب الفتنة، وإن أرغم الناس عليه إرغاماً فلا تؤمن الفتنة.

وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا هذا الإجماع العجيب على الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟

يبدو والله! أننا مهما قلنا ومهما شرحنا ومهما ذكرنا من مواقف وأحداث فإننا لن نوفي هذا الرجل حقه، فنحن لو كنا نقارنه بأناس عاديين لكان يسيراً أن نفقه هذا الاجتماع من الصحابة على صعوبة هذا الاجتماع، لكنه رضي الله عنه يقارن برجال أعلام أفذاذ عباقرة لم يوجد في التاريخ جيل مثلهم، فكل رجل منهم أمة، وخذ كتب السيرة والتاريخ واقرأ، اقرأ -مثلاً- حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وما فعله للإسلام والمسلمين منذ أسلم وحتى مات، اقرأ عن علمه وعدله وفقهه وورعه وتقواه.

واقرأ -مثلاً- عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وما قدمه في حياة طويلة، واقرأ عن كرمه وعن زهده وعن أخلاقه.

واقرأ -مثلاً- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وعن تاريخه المجيد، وفضله العظيم، وكلامه الحكيم، واقرأ عن قوته وحكمته وحلمه وشجاعته، وذكائه.

واقرأ عن غيرهم من الصحابة، اقرأ عن الزبير وعن طلحة وعن أبي عبيدة وعن سعيد بن زيد وعن عبد الرحمن بن عوف وعن سعد بن أبي وقاص ، فكل اسم من هؤلاء ستجد له ذكريات كثيرة من الإيمان والجهاد والبذل والمروءة.

واقرأ عن حمزة وعن مصعب وعن سلمان وعن حذيفة وعن صهيب وعن بلال وعن خالد اقرأ عنهم وعن عشرات معهم، وعن مئات معهم، بل وعن آلاف معهم، واقرأ عن عظماء وعلماء المسلمين في كل عصر وفي كل مكان، اقرأ عنهم جميعاً، واعلم أن كل من سبق ذكره لو جمعوا في كفة والصديق في كفة لرجح بهم الصديق ، فأي فضل؟ وأي قدر؟ وأي عظمة؟ وأي مكانة؟

روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهي التي توزنون بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة فوزنت بهم فرجحت، ثم جيء بـأبي بكر فوزن بهم فوزن، ثم جيء بـعمر فوزن فوزن، ثم جيء بـعثمان فوزن بهم، ثم رفعت) أي: رفعت الموازين.

ويبدو أيضاً أننا لا نعطي القدر الكافي لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ولـعثمان رضي الله عنه وأرضاه، ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل لاحقاً إن شاء الله رب العالمين.

لكن نعود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهناك أحاديث كثيرة جداً تذكر فضل الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهي أكثر من أن تحصر في هذه الدقائق القليلة، وحتى لا أبخسه حقه أتحدث عنها في الدرس القادم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.